الخميس, 28 مارس 2024

abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
الرئيسية
بانوراما
فرعونيات
بلاد وشركات
الحدث السياحي
سحر الشرق
سياحة وإستشفاء
أم الدنيا
حج وعمرة
أعمدة ثابتة
درجات الحرارة
اسعار العملات
abou-alhool

أنس الوجود

أنس الوجود
عدد : 01-2013
قصة عشق قديمة تربطني بأسوان بوابة مصر الجنوبية ،فقد عايشت بناء السد العالي فخر أمجاد مصر الحديثة ،عايشت العمال في أخلد ملاحم البناء ،وعشت الحلم الذي تحول إلى حقيقة ،وها نحن على مشارف الاحتفال باليوبيل الذهبي للسد العالي.

في أسوان أشعر بكياني وأشعر بمصريتي وأحس بمدى التضحيات التي بذلها عمال مصر بناة السد.. أسوان سونو أو السوق وفى مقابلها جزيرة ألفنتين أو الفيل وبالرغم من أن أسوان ليس بها أفيال إنما ترجع التسمية إلى أن هذه الجزيرة كانت مركز تجارة العاج وسن الفيل الذي كانت الجزيرة مركزا لتجارته. كانت هذه الجزيرة هي مدينة أسوان القديمة وقلعتها كانت مركز مراقبة بلاد النوبة تخوفا من أي اعتداء من الجنوب.

كان القدماء يعتقدون أن النيل ينبع من صخور الشلال الأول وان الإله خنوم الذي كان يمثل برأس كبش كان يشرف على فيضان النيل هناك ويتحكم فيه ثم اعتقد القوم في فترة لاحقة بان النيل ينبع من مكان يدعى اباتون في جزيرة بيجة القريبة من جزيرة فيله.

كانت جزيرة فيلة المستلقية وسط مياه النهر عند الجندل الأول هي النقطة التي كان يعتقد قدماء المصريين أن النيل ينبع منها ومن نقطة البداية هذه انطلقت إيزيس مع زوجها الطيب أوزوريس الذي خرج ينثر الخير والحب بين الناس ويعلمهم كيف يزرعون الأرض ويحترمون قانون السماء
كلمة فيلة جاءت من كلمة فيلاى بمعنى الطرف أو البداية باعتبارها بوابة مصر وكتبها الإغريق فيلا بمعنى المحبوب أو المكان المرغوب،وكان المصريون القدماء يحجون إلى هذا المكان باعتباره منبع الخير وتقديسا للآلهة إيزيس وأوزوريس و إبنهما حورس.

تحكى الأسطورة المسجلة على جدران معبد إيزيس هذا أنه في قديم الزمان كان يحكم هذه البلاد ملك اسمه جب وكان له ولدان من الذكور واثنتين من الإناث وزوج الملك ابنه أوزوريس من أخته إيزيس كما زوج ابنه ست من أخته نفتيس ،ولأن أوزوريس كان طيب القلب عادلاً ملكه أبوه الوديان الخضراء والسهول والأنهار ،أما ست الذي كان شريرا حاقدا فقد ملكه أبوه الأراضي الصحراوية القاحلة والرمال الجفراء. وكان أوزوريس موسيقيا بارعا أحبه الناس فحقد عليه أخوه ست وتأمر مع آخرين فصنعوا له صندوقا من الذهب الخالص بحجم أوزوريس الذي كان طويل القامة وزعم فى حفل أقامة انه يهديه لمن يتسع له.

وعلى ارض جزيرة فيلة كانت الواقعة التي لم يتسع الصندوق فيها لغير أوزوريس وعندما استلقى فيه أسرع رجاله بإغلاق الصندوق وإلقاؤه في النيل وراحت أمواج النهر تتقاذف الصندوق حتى بلغ مصب رشيد فتقاذفته أمواج البحر حتى بلغت به شواطىء ببلوص بلبنان حيث توفى داخل الصندوق.

جدت إيزيس المخلصة الوفية في البحث عن زوجها واستخدمت علوم السحر حتى عرفت مكان الصندوق فركبت سفينة انطلقت بها إلى ببلوص حيث حلمت أن الصندوق داخل شجرة أرز كان الملك قطعها وأقامها عموداً في قصره وتحايلت إيزيس على ملك ببلوص بعد أن كشفت له عن شخصيتها فسمح لها باسترداد الصندوق وعندما حل عليها المساء نامت فوق تابوت زوجها فجاءتها الرؤيا بأنها حملت من روح زوجها أوزوريس وعندما عادت إلى مصر اختفت ومعها الصندوق في جزيرة فيله خوفا عليه من ست الذي قتله من قبل .

وظلت مختفية حتى أنجبت حورس بينما كان ست في هذا الوقت يواصل البحث حتى عثر على جسد أوزوريس وقطعة إلى ست عشرة جزء بعثرها على جميع مقاطعات مصر وعادت إيزيس لتواصل البحث عن هذه الأشلاء حتى عثرت عليها ماعدا جزء واحد هو قدم أوزوريس اليمنى التي استقرت في جزيرة بيجة المقابلة لجزيرة فيلة وكانت المياه تنساب من بين أصابعها محملة بالخصب والطمي لتنمو ربوع مصر من فيض النهر ومنذ تلك اللحظة صار أوزوريس ملكا للموتى يتولى حسابهم في الآخرة.

أما حورس الابن فقد غزت فيه أمه روح الانتقام فخاض صراعا مع عمه حتى انتصر عليه واعتلى عرش أبية وتوج بالتاج الأبيض في مقر حكمه بالمدينة الصغيرة على جزيرة فيلة المقدسة،تلك هي معابد فيلة التي نقلت بمعاونة اليونسكو بعد بناء السد العالي إلى جزيرة ايجليكا الأكثر ارتفاعا بعد أن تعاقب عليها الغرق والظهور فقد فقدت المدينة مبانيها المبنية بالطوب اللبن عقب بناء خزان أسوان.

كان أول من بنى معبد لإيزيس هو الملك طهارقة أحد ملوك النوبة السفلى ثم بنى بعده الملك نكتانبو لها معبدا ثم يأتي بعد ذلك الرومان فبنوا المعابد تمجيدا لإيزيس ،وخلال العصر الإسلامي وخلال أيام الدولة العباسية ظهرت قصة انس الوجود المستوحاه من قصص ألف ليلة تقول الحكاية
كان لأحد الوزراء ابنة تدعى زهرة الورد غاية في الجمال والحسن أحبها احد حراس القصر واسمه انس الوجود أحبت فيه الفتاه الأخلاق النبيلة التي لم تجدها في أبناء الملوك والأمراء ووجد أبوها أن العلاقة غير متكافئة فطرد انس الوجود من ارض فيلة وحبس ابنته في القصر وأحاط الجزيرة بمجموعة من التماسيح حتى لا يقترب منها أنس الوجود.

واخذ انس الوجود يجوب البلاد بحثا عن حبيبته زهرة الورد وراحت البلابل تتغنى له والطيور تتراقص فوقه لتكون مظلة تحميه من الشمس واستأنست له الوحوش حتى وصل إلى الجزء الشرقي من شلال جزيرة فيلة وظل الفتى يواصل الغناء ويحكى حكايته حتى آنست له التماسيح وحمله تمساح كبير على ظهره واتى به إلى شاطىء الجزيرة وكان لابد أن يرضخ الوزير في النهاية ويزوج الفتى انس الوجود من ابنته زهرة الورد إذا وجد فيه إنسان يتسم بالأخلاق العالية والنبل والشهامة وهكذا سمي المعبد بقصر انس الوجود.

ولقصر أنس الوجود مع أمير الشعراء احمد شوقي حكاية رواها شاعرنا الكبير فاروق شوشة بجريدة الأهرام يقول:"في الرابع والعشرين من مارس عام‏1910‏ زار الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت مصر ـ وهو جد الرئيس روزفلت الذي كان رئيسا لأمريكا في أثناء الحرب العالمية الثانية0 وخطب في الجامعة المصرية بدعوة من رئيسها الأمير أحمد فؤاد‏,‏ فأساء إلي مصر في حديثه‏,‏ وهاجم الإسلام‏.‏ وكان قد خطب قبل ذلك في السودان‏,‏ فأثني علي الحكم الإنجليزي في مصر‏,‏ مخالفا بذلك تقاليد الحرية التي نادت بها أمريكا بعد تحررها من الاستعمار".‏.‏ فرد عليه الشيخ علي يوسف ،صاحب جريدة المؤيد بمقال تاريخي‏,‏ ثم انتهز أحمد شوقي فرصة زيارة روزفلت لمعابد أنس الوجود التي أطلق عليها معابد فيلة‏,‏ فأراد أن يعطيه درساً في إحترام مصر والكشف عن عظمة تاريخها وآثارها‏,‏ وخاطبه بقصيدة مدوية ـ وهو الشاب صغير السن الذي يعمل موظفا في قصر الخديوي ـ رئيسا لقلم الترجمة ـ ولابد له أن يراعي آداب الوظيفة وألا يشترط في مهاجمة ضيف الخديوي وألا يسمعه ما لا يليق‏,‏ مخالفا نهج الحكومة التي لم ترفع صوتها بالاحتجاج علي ما قاله روزفلت‏.‏ وهي قصيدة كانت بالنسبة لي الوقفة الثانية مع شوقي واهتمامه بالآثار المصرية من ناحية‏,‏ واندفاعه في الإبانة عن وطنيته واعتزازه بهذه الآثار باعتبارها تجسيدا لهذه الوطنية‏,‏ وهو يقول‏:‏ "أيها المنتحي بأسوان دارا‏:‏ كالثريا‏,‏ تريد أن تنقضاـ اخلع النعل‏,‏ واخفض الطرف‏,‏ واخشع‏:‏ لا تحاول من آية الدهر غضا ـ قف بتلك القصور في اليم غرقي‏:‏ ممسكا بعضها من الذعر بعضاـ كعذارى أخفين في الماء بضا‏:‏ سابحات به‏,‏ وأبدين بضا ـ مشرفات علي الزوال وكانت‏:‏ مشرفات علي الكواكب نهضا ـ شاب من حولها الزمان وشابت‏:‏ وشباب الفنون مازال غضا ـ رب نقش كأنما نفض الصانع منه اليدين بالأمس نفضاـ ودهان كلامع الزيت‏,‏ مرت‏:‏ أعصر بالسراج والزيت وضا ـ وخطوط كأنها هدب ريم‏:‏ حسنت صنعة وطولا وعرضا ـ وضحايا تكاد تمشي وترعي‏:‏ لو أصابت من قدرة الله نبضا ـ ومحاريب كالبروج بنتها‏:‏ عزمات من عزمة الجن أمضي ـ شيدت بعضها الفراعين زلفي‏:‏ وبني البعض أجنب يترضي‏".‏

وأنا استأذن في توجيه الاهتمام إلي جانبين مهمين في هذه القصيدة‏,‏ أولهما‏:‏ امتلاء أبياتها الأولي بأفعال الأمر التي يخاطب بها ضيف البلاد العظيم الشأن‏,‏ عندما يقول له‏:‏ أخلع نعلك حتي لا تطأ هذا المكان المقدس عند المصريين‏,‏ واخفض طرفك وأنت تنظر إليه وتتأمله‏,‏ واخشع في نظرتك تقديرا لعظمته وخلوده‏,‏ وقف وشاهد هذه المعابد التي هي في حقيقتها قصور توشك أن تغرق في اليم‏,‏ واليم هو الاسم الذي أطلقه المصريون علي النيل فهو ليس نهرا عاديا‏,‏ ولكنه يم أي بحر شاسع‏,‏ وهي التسمية التي جاء بها القرآن الكريم في خطابه إلي أم موسي وهو طفل رضيع أن تلقيه في اليم إذا خافت عليه أذي الفرعون حتي ينجو‏.‏

الجانب الثاني هو براعة شوقي التي لا تجاري في تصوير هذه المعابد والآثار وما امتلأت به من فنون بديعة‏:‏ نقشا ودهانا وخطا ورسما ونحتا وبناء وتصويرا‏,‏ وهي لوحة من لوحات شوقي المصور البارع الذي تجلت عبقرية ريشته الشعرية المماثلة لهدب الريم أي رمش الغزال الذي صوره في قصيدته‏.‏

وتمضي القصائد الجميلة بأبياتها المحكمة‏,‏ وكلما تقدمنا فيها خطوة‏,‏ هزتنا كلمات شوقي‏,‏ أمير شعراء العصر الحديث‏,‏ وهو يقول‏:‏"صنعة تدهش العقول وفن‏..‏ كان إتقانه علي القوم فرضا وشوقي يستعمل كلمة الفرض بالمعني الديني‏,‏ مثلما نقول الصلاة فرض والحج فرض والزكاة فرض‏,‏ فالذي أدهش العالم كله‏,‏ والعقول جميعا من إبداع المصريين في تشييد ما شيدوه كان نتيجة لأن تفانيهم في إنجازه كان بمثابة الفرض الديني الذي تنهض به الأرواح قبل الأجسام‏,‏ وتنجزه العزمات قبل الأيادي"‏.‏
ثم يقول شوقي‏,‏ علي عادته في تلخيص المشهد الشعري الذي صوره‏,‏ فأبدع تصويره‏,‏واستخلاص الحكمة الحية والعظة المستلهمة منه‏:‏" يا قصورا نظرتها وهي تقضي‏:‏ فسكبت الدموع والحق يقضي‏/‏ أنت سطر‏,‏ ومجد مصر كتاب‏:‏ كيف سام البلي كتابك فضا‏".

ولابد أن دموع شوقي علي هذه الآثار المصرية العظيمة الغارقة في مياه النيل‏,‏ والتي أوشكت علي السقوط والزوال‏,‏ فبعضها يتماسك ممسكا بالبعض الآخر‏,‏ هذه الدموع وهذا الإعزاز الكبير بمجد مصر ـ في صفحة ناصعة من صفحاته ـ كان وراء الصيحة العالمية التي قامت بها مصر في عهد عظيم وزراء ثقافتها الدكتور ثروت عكاشة وبمساعدة اليونسكو‏,‏ لإنقاذ هذه الآثار‏,‏ ورفعها من الماء‏,‏ وإعادة تشييدها من جديد علي الهضبة بمنحي من مياه النهر‏,‏ ولسان شوقي ينطلق بيته الجميل الذي يجب أن يترنم به كل شاعر مصري ينبض قلبه بمحبة هذا الوطن‏:‏ وأنا المحتفي بتاريخ مصر‏:‏ من يصن مجد قومه صان عرضا‏.‏
 
 
عبدالمنعــــــــــم عبدالعظيـــــــــم
مدير مركز دراسات تراث الصعيد بالاقصر
monemazim@yahoo.com