بقلم الأديب/ عبد الرازق أحمد الشاعر
Shaer129@me.com
أن تقتل أخاك ولا تجد بالقرب منك إلا غرابا يساعدك في طمس معالم الجريمة، فاعلم أنك تمارس طقوسا غريزية بدأها أبوك قابيل وأنت في رحم الغدر. فاحمل حجارتك الثقيلة أيها السيزيف واصعد بها جبل الحرية وألقها فوق أي رأس تشاء، فكل الرؤوس تحت مطرقة الخيانة هابيل، وكل البلاد حفر غرابية بامتياز. ويمكنك أن تواري سوءة أخيك بعدها في أي شق تشاء، وأن تضعه على أي جنب تريد، فالدفن في بلادنا لا يحتاج إلى تصريح أو تشريح. فقط يحتاج إلى غراب ينقر في جيف التاريخ ليخرج أسوأ ما فيه من عبر.
اقتل على بركة الرب أو باسم الوطن لأن الذبح على النصب يتطلب بعض طقوس. فإن ملت يمينا احتجت إلى فتوى وإن جنحت يسارا اتكأت على مؤتمر. لكنك في النهاية ستقتل، لأن دماء المصريين حلال في كافة شرائع الغربان المقدسة. ستقتل أخاك في الميدان أو عند أبواب المساجد والكنائس والبيع، أو تطاردهم حتى مخادعهم لتقتص من طهر التاريخ بفساد الجغرافيا. وبعد ممارسة طقوسك الفلكلورية القبيحة، يمكنك أن تختبىء خلف مكبرات الصوت وخلف شعاراتك الجوفاء لتندد بالعنف.
صرنا نعبد أفكارنا كما كان الجاهليون يسجدون لأصنام تمرهم ثم يأكلونها بعد الفراغ من طقوسهم الشاذة. فكل من خارج المحراب كفار، وكل من لم يصطف خلفنا عدو. هذا خير ما تعلمناه من سنين القهر ومن حاويات السجون القذرة. اقتل أخاك ظالما أو مظلوما، لأن شريعة الزمن القبيح تنهاك أن تقف قليلا عند رأس الذبيح لتتأمل بطن وطن حملكم تسعة أعصار من الألم. اقتله قبل أن يغدر بك، فالقاتل والمقتول غرابان لا يملكان من حِرَف الحياة إلا الحفر والدفن.
الحرية أن تحاصر مداخل المساجد ومخارجها لتمنع زوار بيوت الله من تدنيسها بلحاهم التي تقطر ماء وطهرا، وأن تُعد في صومعة الفكر زجاجة عطر مفخخة تهديها لرفيق كان عرقه مسكا ذات ميدان. والعدالة أن تقتص ممن خذلوك وسبقوك إلى كرسي ملك لا يبلى، فالعين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص. لا صفح إذن لأن زمن المحسنين قد ولى حتى إشعار آخر. العين بالعين وإن كان في كل العيون خشب وقذى. عين بعين وعور بعور ليصبح كل المواطنين في العمى سواء.
كلنا معجب برأسه، أو برأي صاحبه. والصاحب قد يكون شيخا أو قسيسا أو رئيس حزب أو رفيق ميدان. لكن أحدا منا لا يريد أن يرفع رأسه قليلا لينظر في ملكوت الكراهية الذي صنعته أفكارنا البائسة، وغير مستعد للتراجع خطوة واحدة لتجنيب البلاد آلاف الخطوات في بحر الرمال المتحركة نحو القاع، وغير مستعد لقراءة ما تبقى من وحي وتاريخ يُوثق في حياديته. لا أحد يرفع رأسه عاليا حتى لا يحصده ميراث الكراهية والبغي والعنف المنفلت من ميادين الحرية. كلنا نتقدم اليوم نحو المستقبل بظهورنا ونطأ كل مقدساتنا بفتوانا العدوانية ومؤتمراتنا الاستعلائية. كلنا نعبد ذواتنا في محاريب الأنانية الضيقة ونظن أننا مهتدون.
ذات خوف، أذعن الناس للإسكندر الأكبر، وتقربوا منه اتقاء لبطشه، فأغروه بخوفهم حتى نصب نفسه إلها عليهم، فعبده منهم من طمع ومن خنع ومن ذل، إلا أهل اسبرطة الذين استشعروا في أنفسهم شيئا من كرامة، فمزقوا رسالته وألقوها في وجه مبعوثه المتبجح قائلين: "لو كان الاسكندر إلها، فليثبت لنا ذلك." لكن أنبياء العصر الأخير وقادة المعارضة الفاشلة عاجزون عن إخراج شمس الطهارة من مغاربها لأنهم لا يأتمون إلا بغربان سود لا تأكل إلا جيف الرفاق ولا تسمن إلا من لحومهم، ولا تعرف من فنون الدهر شيئا إلا فنون الحفر والدفن ومراسم التشييع. فليثبتوا أنهم أتقياء مخلصين أو مواطنين صالحين، أو يكفوا عنا أذاهم.
ملطخة بدم التاريخ أياديكم أيها المجاهرون بالقبح، وبريئة من فتاواكم القابيلية كل الكتب المطهرة. وباطل ما تصنعون أيها المحاصرون لأعتاب المساجد، المروعون لكل عابد وساجد. بريئة منكم ميادين الطهر والكرامة أيها المحرضون على سفك الدماء وهتك ما تبقى من عرض. بريئون نحن منكم ومن فتنتكم القادمة. بريئون من إخوة هابيل ومن نفثهم ونفخهم، وندعو الله أن لا يجمعنا بهم ولا يحشرنا معهم. ومتمسكون حتى الرمق الأخير بحبنا، وطهرنا، ووحينا الذي علمنا أن لا نرفع على صديق حديدة لنروعه، ولا على ذمي سلاحا لنفتك به. بريئون نحن من كل القتلة، من قتل ومن رفع سلاحا ليقتل. فالقاتل والمقتول قابيلان دليلهما غراب وطريقهما جيف وخراب.
|