بقلم الأديب /عبد الرازق أحمد الشاعر
Shaer129@me.com
عام 1958، وفي حلقة مخيفة من حلقات الرعب المقيم التي دأب على تقديمها ألفريد هتشكوك، أقدمت امرأة مخادعة على قتل زوجها الذي أحبها قدر ما يستطيع وأخلص لها فوق ما تتمنى، لكن أداة خيانتها لم تكن سكينا حادا وأكياسا بلاستيكية كأدوات النساء في شرقنا البائس، بل ساق حمل مجمدة. ولم تنته أداة الجريمة النكراء عند رأس الزوج المغدور، بل انتهت في قدر مليء بالمرق قدم هنيئا غير مريء لشرطة الحي التي تنافس رجالها على إخفاء معالم الجريمة في كروشهم الضخمة التي ترهلت دون قصد فوق أحزمة جلدية مشدودة حول خواصرهم.
الغريب في الأمر أن جريمة هتشكوك لم تكن وحي خيال سقيم، فقد استقى الرجل فكرتها من قصة واقعية طعنت فيها امرأة زوجها بقالب من الجبن اليابس ثم عادت فأكلته وحدها حتى لا تضطر إلى توزيع غنيمتها على أفواه رجال الشرطة المفغورة دائما. ويؤثر عن عمر الخطاب رضي الله أنه كان يضحك حتى تظهر نواجذه سخرية من ماض أحمق وطقوس جاهلية غبية كانت تسول للمرء السجود لآلهة التمر التي كانت تنز دبسا في ساحات قريش الحارقة، ثم تسوغ له أكلها بمجرد الانتهاء من الصلاة والسجود.
وفي القصص الثلاث، يحرص المجرمون على دفن أدوات الجريمة بمجرد الانتهاء من مراسم الخطيئة، فمنهم من يأكل أداة جرمه ومنهم من يقدمها قربانا لآلهة تحفظ الأسرار في بطونها الواسعة وملفاتها التي لا يراجعها أحد. لكن رمز هتشكوك من بين تلكم النماذج الثلاثة كان صادما للغاية، حيث استخدم الرجل ساق حمل لم تسع منذ فجر التاريخ إلا فوق مروج النوايا الحسنة في كسر جمجمة رجل أحسن إليه وإلى زوجه حتى بلغ الظلف بها محله. ففي غرائبية هتشكوك، يتحول الحمل المغرر بلحيته اليافعة من ذبيحة إلى خنجر معقوف دامٍ لتتحول القضية من جريمة قتل عادية إلى خطيئة مزدوجة ويقف الحمل وراء قضبان الرعب متهما بالتحول إلى أداة غدر حادة.
لكن رجال الشرطة عند هتشكوك يشبهون رجال الشرطة في أفلامنا العربية القديمة حيث يظهرون بمجرد انتهاء الجرم، بل ويشاركون في إخفاء معالم الجريمة في بطونهم المتهدلة أحيانا. وهكذا يُخرج أصحاب النجوم اللامعة الخائنة من ورطتها مقابل رطل من لحم مسموم تحول ذات خيانة إلى حد مسنون قبل أن يتحول في بطون رجال الشرطة إلى أداة صمت وشراكة.
لا يستحق البكاء على أظلافه الناعمة إذن ذلك الحمل المغدور لأنه ارتكب جريمة الحمق التي أسلمت رأسه اليابسة لراحتي جزار لا يرقب في رقبة حمل ربا ولا شرطة، ولأنه شارك في قتل صاحبه خطأ بعد أن قُتل ومزقت أطرافه، ولأنه اختار بطون الفاسدين مستقرا غير آمن للحمه المفتت وتاريخه الذي لن يمر عليه أحد ولن يعرفه أحد، لأن أولياء الطمس يقفون عند أزقة التاريخ كلها شاهرين أسنانهم وخوذهم.
أما الزوجة، فلها المرق وشرائح الجبن اليابسة، ولها التاريخ والجغرافيا ووسائل الإعلام ومكبرات الصوت، ولها النياشين والخوذات والاستوديوهات المغلقة. وريثما تختفي أداة الجريمة في بطون رجال الشرطة أو بأيديهم، سيكون بمقدورها الخروج إلى مفاصل التاريخ لتعلن وفاة زوجها في حادث سير أو حريق خيمة أو لتدعي أنه انتحر بوابل من الرصاص الكاتم للصوت والقيل والقال. ويمكنها إعلان زفافها على قريب لم يتجهمها أو على بعيد سلمت له أمرها.
أما الجماهير المرصوصة أمام معابد الخوف المقدسة، فليس أمامها إلا التذلل لآلهة التمر التي لا تسمع نجواها ولا تجيب دعاءها. لكنها لن تستطيع أن تأكلها كما كان الجاهليون يفعلون حال انتهائهم من السجود، بل ستتركها أملا في أن تتعفن يوما أو تأكلها أرضة التاريخ. تلك الجماهير لن يكون لها ثمة جرم لتخفيه إلا الشهادة والرضا أو الشهادة والسخط، وهما جرمان لن يغيرا في مسار قضية الخيانة المنظورة في أطباق شرطة التاريخ شيئا.
|