بقلم الأديب/عبد الرازق أحمد الشاعر
Shaer129@me.com
وأخيرا انتصر الشيب على رأس مانديلا، وخسر السرطان معركته الأخيرة مع رجل قرر أن يموت كما يحب. ورغم أن الشمس في جنوب إفريقيا لم تتعثر في طريقها نحو جوهانسبرج، إلا أنها بدت أقل سطوعا في عيون عشاق الساحر الأسود الذي غادر خطوط التماس بين الجلود الملونة وهو مطمئن على وطن أحسن إليه سجينا وزعيما. وإذا كان الرجل لم يستطع أن يحصي أيامه المعدودات على رصيف هذا العالم المشحون بالكراهية والعنصرية، ولم يستطع التحديق في الوجوه الملتفة حول جسده اليابس المتغضن، إلا أن روحه الزكية كانت حتما هناك، تراقب الأيدي المتصافحة فوق عينيه المغمضتين وترفرف في دعة.
رحل مانديلا دون أن يفرض على أبناء شعبه طقسا معينا للذكرى، ولا أغنية شعبية تتلى عند قبره، فقد ترك لهم حرية الطواف في ساحات أعوامه المديدة وهو يعلم جيدا أن تجوالهم سينتهي بزهرة عند قبره ودعوة طيبة من قلوب مخلصة. لكن نيلسون الذي رحل بأعوامه الخمسة والتسعين، نسي أن يأخذ معه جائزة نوبل التي تقاسمها عن جدارة مع زعيم بلاده الأبيض دي كلارك عام 1993. ونسي تحت وسادته الخالية بطاقة عضوية في حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، ليتمكن من الانتساب إليه هناك كما كان يحب، لأن السماء ليست في حاجة إلى أحزاب تحمل السلاح لإقامة العدل، فالعدل هناك والحرية والعدالة الحقة هناك، وإلى هناك سبقنا كعادته مانديلا.
مثّٓل يوم انتصار مانديلا على القضبان وخروجه بعد عشرة آلاف ليلة من زنزانته الحقيرة برزخا عبرت فوقه جنوب إفريقيا إلى حياة أخرى لا تمايز فيها ولا عنصرية. ولم تكن المناسبة ميلادا جديدا لرجل يخطو برشاقة شاب فوق خريفه الواحد والسبعين برفقة زوجته الوفية جيني كما كان يعتقد، بل كانت بعثا جديدا لقيم السماء التي طمرتها الكراهية والبغضاء في قلوب مواطنيه. صحيح أن العنف لم يتوقف بين اللونين في بلاد بلغت عنصريتها عنان التشرذم فور خروج الرجل من محبسه، وصحيح أن آلاف الجنائز قد أقيمت للملونين على مدار أربعة أعوام كاملة، إلا أن طوفان الدماء بدأ في الانحسار بمجرد إعلان انتصار أول أسود على تاريخ الصناديق في بلاد لطالما تحيزت لأقليتها البيضاء عام 1995.
يومها، جلس الأشيب الإفريقي كوبا إلى كوب مع زعيم الأقلية المعزول ليشرب نخب ازدهار قادم نحو الجنوب. ويومها، حمل صغار الأفارقة أشياءهم الصغيرة ليشاركوا رفاق الوطن البيض مدارسهم وملاعبهم وساحاتهم. ويومها أدرك الأفارقة البسطاء أن جدارا من التاريخ المؤلم قد بدأ ينهار فعلا بين قطبي الوطن، وأن السلام الأهلي وحده قادر على إخراج وطن بحجم الجنوب من حمأة التخلف إلى ناصية الخرائط.
لكن مانديلا لم يترك الجنوب معافى من إثم الرجعية كما كان يحلم، فحتى اليوم تتجاوز نسبة البطالة بين السود نسبة الخمسة والعشرين بالمئة، وحتى اليوم لا يزال راتب الجنوب إفريقي الأبيض ستة أضعاف مواطنه ذي البشرة الملونة. وحتى اليوم لا زالت الأقلية البيضاء تحتكر أغلب الموارد وتتحكم في مفاصل اقتصاد وطن يتقدم بقوة نحو الاكتفاء. كما لم يترك مانديلا حزبه الذي سهر على إعداد كوادره وتربية نشئه بخير، فقد عرف الفساد طريقه إلى الجالسين فوق كراسيه العالية، وفي إفريقيا الجنوبية يحتاج المرء إلى الوسطاء والمعارف لنيل حقه المشروع في التوظيف والترقية والكفاف. ولا يزال فقر السود مدقعا وبطونهم خاوية على قرقراتها وجيوبهم تصفر فيها رياح الفقر والحاجة، ولا زالت الأمراض تفتك بالبسطاء وتنتشر بينهم السرطانات والأوبئة. ورغم أن الرجل قاد الوطن نحو الحرية والكرامة، إلا أن التحرر جاء شكليا ومظهريا إلى حد بعيد، فما زال الأفارقة السود يشعرون بعد رحيل مانديلا بأبارتهيد آخر وإن كان من نوع مختلف. وما مذبحة ماريكانا التي ذهب ضحيتها عشرات الضحايا من عمال المناجم عنا ببعيد. لكن الرجل الذي لم يتمكن من تحقيق كامل حلمه أصبح بجدارة شامة فارقة في تاريخ المنطقة المستبدة السوداء والعالم الثالث الذي يغط في بحر فساد وكراهية.
لقد أثقل "ماديبا" على من جاء بعده، فما بالك بخليفة كجاكوب زومبا الذي يتعرض حاليا للتحقيق في تبديد مبلغ عشرين مليون دولار من أموال الدولة على تجديد مقر إقامته الفخم الكائن بمقاطعة كوازولو ناتال، أضف إلى ذلك تهمة الاتجار بالسلاح والتي تمت تبرئته منها عام 2009 ليخوض معترك الانتخابات الرئاسية، ناهيك عن تهمة تحرش تم إخلاء سبيله منها عام 2006؟ وكما أتعب مانديلا زعماء الأحزاب في بلاده، أرهق كل من طلب العلا في القارة السوداء والعالم، فذكراه التي لم ترحل معه ستطارد أجيالا قادمة من الزعماء الصغار الذين يظنون أن أحزابهم أمما ويدقون أوتاد عروشهم بمعاول فرق تسد، ويحسبون أنهم على خير.
|