اكرم احمد طه يكتب
لم يقحم اسم على أثر فى الوجود، قدر ما اقحم أسم "كليوباترا" على المسلة التى تقوم على ضفاف "التيمز" - بلندن - منذ سنة 1878م، شاهداً ناطقاً بما بلغه المصريون القدماء من حضارة وعلم وفن ساهمت فى إبقاء هذه المسلة إلى ما يزيد عن 3500 عام !..
أجل، فان هذه المسلة أقدم عهداً من "كليوباترا" وعصرها .. إذ أنها إحدى مسلتين أقامهما "تحتمس الثالث" حوالى سنة 1500 قبل الميلاد، فى معبد الشمس بهليوبولس مسجلاً عليها شكره للاله لما حياه من نصر فى حروبه، ودعاء لاله الشمس كى يصبغ عليه رعايته ويحفظه من شرور الظلام .. حتى إذا ولى "رمسيس الثانى" عرش مصر القديمة، أضاف إلى النقوش الهيروغليفية السابقة، سجلاً بأعماله ..
وانقضت خمسة عشر قرناً – وفيما بين سنتى 13 و 14 قبل الميلاد، عمد "أوغسطس قيصر" إلى نقل المسلتين إلى الأسكندرية، كى يقيمهما أمام معبده الذى أطلق عليه اسم "قيصرون" !
وتوالت القرون .. عدا الزمن على امبراطورية "روما" .. وإنهار "القيصرون" وهوت المسلتان إلى الأرض، فما لبثت الرمال أن تراكمت فوقهما ودفنتهما .. وراحتا فى طيات النسيان، حتى شاءت المصادفه أن يعثر عليهما بعض الجنود الانجليز الذين هزموا الفرنسيين عند أبى قير فى سنة 1801م، ثم إنحدروا على طول الشاطىء إلى المنطقة التى تشغلها الأن "محطة الرمل" بالاسكندرية، فاختاروها ليقيموا عليها معسكرهم .. وفيما كانوا يحفرون الأرض ليمهدونها لهذا المعسكر، تكشفت لهم الرمال عن المسلتين العريقتين ..
ومضت السنوات .. وطاف ببال بعض الهيئات البريطانية أن تعمل على نقل إحدى المسلتين إلى انجلترا، تخليداً لذكرى الإنتصار الذى أدى إلى تحطيم الإسطول الفرنسى .. وسرعان ما جمعت الأكتتابات "المساهمات" حتى بلغت 7.000 جنيه .. ولكن المشروع وقف عند بناء قاعدة للمسلة، سجلت عليها تاريخ الحملة ووصفها.
وفى سنة 1819، شاء محمد على الكبير، أن يهدى المسلة إلى انجلترا كرمز لوده وصداقته، ولكن الحكومة البريطانية أشفقت من النفقات الباهظة التى يتكلفها نقل أثر كهذا من الجرانيت الوردي – تبلغ زنته 186 طناً، وطوله 20,46م – عبر البر والبحر .. واهمل أمر المسلة من جديد، حتى العقد السابع من القرن الثامن عشر، اذ جدد الخديوى اسماعيل هدية أبيه .. ومرة أخرى إعتذرت الحكومة البريطانية خشية التكاليف الفادحة .. ولكن طبيباً مشهوراً من رعاياها يدعى "السير ارازموس ولسن" عمد إلى إقناعها بقبول الهدية، ورصد 10.000 جنيه للإنفاق على نقلها..
وشجع هذا مهندساً اسكتلندياً يدعى "جون ديكسن" على أن يتطوع للاطلاع بعبء النقل، فصنع حول المسلة إسطوانه من الفولاذ، مقسمه إلى عشرة أقسام منيعة لا يتسرب الماء إلى داخلها ثم أنزل هذه الأسطوانة – التى يبلغ طولها 116 قدماً، وقطرها 15 قدماً إلى الماء، والحقها بسفينة شراعية مسطحة بنيت لهذا الغرض وأطلق عليها اسم "كليوباترا".
وتذكر بعض المراجع التاريخية أن السفينة لم تكد تتوغل فى البحر ساعية بالمسلة إلى انجلترا حتى اصطدمت بصخرة، وغرقت .. وتشاءم الناس .. وسرت فى انجلترا همسات عن "لعنة الفراعنة" .. ولكن السفينة لم تلبث أن انتشلت وأصلحت. (الأ ان هذه المعلومه غير مؤكده على وجه الدقة).
ثم أعقب ذلك أن ربطت بسلسلة فولاذية إلى الباخرة "أولجا"، ثم عهد بأمرها إلى ربان يدعى "هنرى كارتر"، يعاونه ملاحون مالطيون، لقوا الأمرين خلال الرحلة من جراء تقلب الأسطوانة وتأرجحها حتى بلغوا "خليج بسكاى" فهبت عاصفة قوية، عبثت بالسفينة "كليوباترا" فكادت تغرق الباخرة التى تجرها لولا أن فصلت عنها بعد نقل بحارتها وربنها .. ولقى ستة من البحارة فى هذا الحادث حتفهم !..
وعبث بحث المهتمون "بكليوباترا" بعد العاصفة وأوشكت جماعة "اللويدز" للتأمين أن تدفع المبلغ الذى أمن عليها به، وقدره 10.000 جنية .. لولا أن ساقتها المصادفات بعد شهرين إلى طريق باخره تدعى (فيتزموريس)، فقطرتها – أى جرتها – إلى ميناء "فيرول" الأسبانى .. وتقاضت 2000 جنيه ، لقاء هذا العمل .. وما لبثت القاطرة البحرية "انجليا" ، أن قادتها إلى نهر " التيمز" بسلام فكان لتوفيقها وقع عظيم فى النفوس.
ولم تسفر كل هذه الأحداث ، سوى أن نفقات النقل زادت على العشرة آلاف جنيه التى تبرع بها "ويلسن" بخمسة آلاف أخرى !
وفى سبتمبر سنة 1878 أى بعد ثمانية أشهر من وصول المسلة – احتفل بإقامتها على ضفة " التيمز" المعروفة باسم "ضفة فيكتوريا" ، ومازالت هناك حتي اليوم.
ومن غرائب القدر انه لم تمر سنوات قليلة علي وصول الهدية المصرية الي بريطانيا حتي خرج اسطول الامبراطورية متوجها الي الأسكندرية لغزو مصر واحتلالها لمدة جاوزت70 عاما!!
ومن الجدير ذكره ان هناك ثلاث مسلات مصرية شهيرة تحمل اسماً رمزياً هو إبرة كليوبترا وهي موزعة علي كل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة. حيث تقبع احداها والسابق ذكرها بالعاصمة البريطانية لندن وتقبع واحدة بميدان الكونكورد في العاصمة الفرنسية باريس وهي المسلة التي يتردد أن محمد علي باشا قد أهداها إلى ملك فرنسا لويس فيليب في عام1826 والذي قام بدوره بنصبها في باريس عام1833.
وهناك المسلة الموجودة بسنترال بارك بمدينة نيويورك بالولايات المتحدة الامريكية وهي المسلة التي يتردد أن الخديو اسماعيل قد أهداها للولايات المتحدة عقب إفتتاح قناة السويس عام1869 بهدف تعميق العلاقات التجارية بين الدولتين وقد تمت إجراءات الإهداء الرسمية في عهد الخديوى توفيق عام 1879 وتم نصبها في سنترال بارك عام1881. |