بقلم دكتور/ إبراهيم حسن الغزاوي
المهنة: مواطن مصري
eommar@hotmail.com
algh0031@umn.edu
هل تذكرونه يا مصريون؟ أبو الهول ...حارس الأهرامات العملاقة... التي ربضت على مفاصل الوطن ..تربطه سويا ..وتحكمه وتوحده بقوتها الأسطورية أزمانا وأزمان ..قبل الزمان وحتى بعد الزمان بزمان .. سؤال مؤلم..لكنه ليس أقل من آلام أبو الهول ..على مر سنوات مضت..عانى فيها من الوحدة ونفور بني البشر من زيارته....عفوا ...نسيت أن أخبركم ..أني كنت قد التقيته...منذ أيام طوال...وتحاورت معه ... حوارا أثار شجونه وشجوني..فبكى . ويومها كتبت عنه وله وفيه...ليلة بكي أبو الهول...
وقد كان يؤلمه ما آل إليه حالنا ... وسوء حاله.... ونفور السياح من كافة الدول عن وطننا وعنه ..كانت الوحدة تحرقه وهو الذي اعتاد أن يزوره كل يوم عشرات الآلاف من بني البشر..من كل أرجاء المعمورة... وقد أدهشتني وطنيته الخالصة..ومصريته الصميمة..فقد كان يؤلمه بؤس حال البلاد والعباد... ولم يرضه على الإطلاق أن نفرط نحن المصريين في ريادتنا للعالم الإنساني..ونتردى إلى هاوية الفقر والضعف..ونقنع في مذلة الضعفاء لآلام التهميش والنأي عن مسار الحضارة والعلم.... على النحو المخيف الذي رآنا عليه ...
تذكرته اليوم ..وأنا أتابع بحب يكاد يغلبني على نفسي.... مشاهد استعادة مصر لرشدها ... لا أتحدث عن أشخاص ..ولكن أتحدث عن أحداث و إلماحات ..شاهدت منها العشرات صبيحة يوم الأحد الموافق 8/6/2014... يوم تنصيب رئيس مصر... أثناء الكلمات المهيبة بالمحكمة الدستورية العليا ..ثم حلف اليمين...ثم مراسم انتقال السلطة..بين رجلين أولهما رجل انتهت مهمته...ذخرت شخصيته بثروة تحتاجها مصر من المبادئ الراسخة والقيم المضيئة... قاد مصر في عام صعب ملئ بالتوترات ..بحكمة وتؤده ..وآخر قادم ..رئيس اختارته جموع مصرية..وثقت به ..ولمحت آيات الصدق في عينيه ...فصدقته قبل أن يتكلم..وطاوعته للخروج بالملايين عندما طلب منهم بود وحب وإشفاق على الوطن....
ولأنني اليوم أشعر بأن مصر أبعد ما تكون ـ عنها في السنوات السابقة ــ مكانا وعاطفة وبشرا...عن الوقوع في بئر الفتنة ... الذي أراده لنا ولوطننا بعض خربي النفوس من أبناء الوطن وبعض الخبثاء المشوهة ضمائرهم من غير أبنائه.... فقد راودتني لحظات من الهدوء والتمعن ..سرحت فيها ببصيرة عقيدتي الوطنية في مسار مصر الراهن والقادم... ثم انتابتني أطياف من الشعور بالإثم ... لأنني تركته كثيرا وحيدا.... فقد مرت علينا أيام متباعدة منذ التقينا في المرة السابقة..في الليلة التي بكى فيها أبو الهول..وشعرت بالإثم لأنني اشعر بالفرحة الغامرة لأن وطني يتحرك للأمام بالحلم والحدث معا...وأنا بعيد عن حارس الأهرامات ..الذي أراه مستحقا بجداره بزيارة أنا أحوج لها منه ..حتى وهو في رهبة وحدته....
نعم....احتجت كثيرا أن اسمع منه ..وأراه ..ولم أنس دموعه التي ألهبت ضميري قبل جسدي ..عندما نكأت جراحه وأثرت شجونه في الليلة التي أبكيته فيها بأسئلتي..وأبكاني فيها بدموعه الغالية ... وهو يشكو عشوائيتنا ..ويشكو إهمالنا في ثرواتنا التاريخية..ويشكو قلى حيلتنا فيما حبانا الله به من فضل ونعمة .
أطلقت لقدمي العنان .. فانطلقتا تحملاني إليه .. أو ربما احتجت أن أزف إليه فرحة مصر والعرب...وفي قلبي شوق له ..وفي نفسي وجد عليه ..ولم أنس كم أحرقتني دموعه..وآلمتني وحدته ..وكم تمنيته لو كان معنا ..يوم نصب رئيسنا برغبتنا...رئيسا لكل مصري..بلا تفرقة ولا إقصاء ..إلا بسيف الحق والقانون...... حلمت به بيننا ...يعيش ويحيا..يشاركنا ونشاركه ..يرفعنا معه في سماء المجد ودنيا الحضارة وعلياء الخلود ..ولا يقبل منا أن نجذبه إلينا في أرض البلادة والخنوع والضعف التي عانيناها في السنوات العجاف التي سبقت ... والتي أعقبت ثورة 25 يناير... حتى حدث ما أنار لي يقيني الذي لم يهتز لحظة ..بأن مصر الوطن والدولة والحضارة أبدا لن تنهار ..مثلما انهار ـ وللأسف الشديد ـ غيرها من أوطان العرب الغالية على كل نفوسنا وقلوبنا...
صحيح ..أحسست أنني في حاجة إلى محادثته بشده..ربما لأنني اليوم أذهب إليه ومعي قيد يميني ثمرة غضة ... لفرحة نابتة من فيض رحمة سماء الرحمن الحليم ... على أرض الكنانة المحروسة .... بفضله ونعمائه ..إلى أن تقوم الساعة..ويرث الحقٌ الأرضَ ومن عليها... أو لعلني أردت أن أبلغه أننا في مصر ..مازلنا على عهد الحضارة قابضين..حتى لو أبعدتنا شقوتنا بعض الوقت عن غاياتنا العظام ...ومصائر أجيالنا الغالية...
ومن فرط شوقي له ..قادتني قدماي الواهنتان إليه في ثوانٍ لم أستطع عدها ..لقصرها..ووجدتني مقبلا عليه في نهار يافع ..شمسه حانية على غير عادتها الحارقة في الأيام السابقة... وعندما اقتربت منه ... بهرني بهاؤه ... و أسعدتني طلته .. وابتدرني سناه وهو على البعد ... جاثم في نشوة المنتصر ..رافع رأسه عالية كما لم أعهدها في سنين من "الخنوع" و "الوقوع" في بئر الترنح السياسي والوهن المجتمعي الذي ضرب مصرنا العربية الأفريقية ..الإسلامية المسيحية ..العالمية .... في سنوات مضت ..حملت أحلاماً كثيرة..لكنها أيضا أحدثت فينا آلاماً بلا حدود... وكانت كلمة الحق عالية في أعقابها ..كفاكم يا مصريين ترنحا..قوموا وأفيقوا.. فالزمان لن ينتظركم طويلا... وسيلفظكم التاريخ كما لفظ أقواماً يعجز عنها الحصر.... عندما بغوا وطغوا ..أو عندما وهنوا وتفرقوا ..وتركوا مصائرهم لجهالهم... يسقونهم مرارة الضعف ويسومونهم سوء المآل ....واقرؤوا التاريخ ...
وأربكني قربه... فوقفت طويلا ..على بعد منه ليس بقليل ... أراه جاثما في شموخ أمامي ..وكيف لا أرتبك ..؟ وأنا مقدم على لقاء عظيم ..أحاول فيه أن أقنع حارس الزمان أننا لسنا بسوء ما أخبرني به في لقائنا العاصف السابق ..عندما انسابت دموعه ..وانسابت معها إشفاقي على حال وطني...مصر ...
أصلحت هندامي ...ولملمت أفكاري وتوكلت على خالقي ..وتقدمت إليه..أتصنع الثقة ..وإن كنت في نفسي مرتجف من رهبة مواجهته .... خشيتي ألا يكون ما أتيته به من أخبار ..كافيا لكي أنسيه دموعه الغالية..وحبذا لو استطعت أن أرسم بسمة على وجهه الصبوح..بدلا من عبوسه القاتل .وتجهمه المؤلم ...الذي كسا وجهه في السنوات العجاف السابقة.. وأنا أعلم أنني أتيته بما سوف يسري عنه ..وكيف لا وأنا أرى البلاد تسير للأمام ..في ثقة واطمئنان..
نعم ..لقد أصبح لمصر رئيسا ... صدقته الجموع ... وتعلقت برقبته الطموحات ..ورأيت ذلك مدخلا طيبا للتسرية عن أبو الهول ..وجعله ينسى ولو لبعض الوقت ..وحدته ..ويستبشر بقادم أيامه....
وعندما أصبح مني قاب قوسين أو أدنى ..تسمرت قدماي أمامه .... وأحسست عظمة الزمان تعود لمحياه الرائع..وأحسست بضآلتي أمامه ... وتاهت من ذاكرتي كل كلمات الموضوع الذي أردت أن أسوقه إليه...فوقفت لحظات .. جامد الجسم والفكر... ولم يخرجني من ورطتي إلا كلماته التي جاءتني برفق ..حين ابتدرني بقوله... أقبل يا ولدي... ولا تخف .. أنا في انتظارك منذ وقت وحين.... وأعلم ما يدور بخلدك.. فهات ما عندك..ستجدني إن شاء الله مصغيا ..ومجيبا ..فلا تبتئس ..أنا اليوم أسعد حالا مما كنت عليه عندما زرتني المرة السابقة...
جاءت كلماته بردا على نفسي ..وأحسست أنني أريد أن ارتمي في أحضانه ..وللحظات أدركت أنني لا استطيع ذلك..وكيف أرتمي في هذا الحضن العملاق..حضن الزمان والتاريخ..وأنا الفقير القليل...ولكنني تجرأت بكلماته الحانية..واطمأننت بسكينته الموحية ... التي وجدتها تنطق على وجهه الجميل ..الذي هو وجه مصر على مر الزمان ...
ودققت في ملامحه العظيمة عظمة التاريخ العميق...الحالمة حلم مصر الغالي بالخلود في سماء الحضارة..حضارة لا تنتهي ..تنهي إلى عالم الإنسان..أسرار البقاء والعظمة والشموخ.... ورأيته يبتسم في رقة ولين ووداعة..لم أعهدها تكتسي ملامحه في سنوات وسنوات... وراودتني نفسي أن أحادثه..ورأيتها فرصتي أن أجعله يبوح بمشاعره ..يحدثني وأحدثه ...
وكأنه قد قرأ خواطري..فرفع يده بحنو وقال لي..يا بني..دعني الآن ...أريد أن أجمع فكري ....وأنا أرقب مصر تتحرك..... فبادرته ....يا مليك المكان... أريد أن أحاورك ... وأحدث بني وطني بحكمتك ....فقال لي قاطعا.... ليس الآن... ولكن لك عندي موعدا.... فدعني الآن في رحاب الرضا بما استشعرته منكم يا أبناء مصر الغوالي....
تركته بعدما وعدني بالحوار ...وأنا اعلم صدق وعده.... وأنا أتشوق لكلمات بصيرته ...مضيئة بالحكمة والعطاء الإنساني الخالد ...وهو الذي خبر الزمان ودافع في شموخ وصلابة عن المكان...مصر درة العرب ...ومصباح النور للبشرية.... وكفاني منه الآن أنه لم يعد متجهما.... بل إنه قد تبسم.. نعم لقد تبسم أبو الهول....
|