بقلم الباحث/ مصطفى محمود علي
باحث ماجستير فى التاريخ الحديث والمعاصر كلية الآداب – جامعة القاهرة
يقول الدكتور محمد عفيفي - أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر ورئيس قسم التاريخ سابقا، بكلية الآداب جامعة القاهرة وأمين المجلس الأعلى للثقافة حالياً: "الجمعة الماضية لم أستطع أن استمتع بضحكٍ من القلب – كعادتي - عند مشاهدة حلقات باسم يوسف، لا سيما أنه خصص الجزء الأول من حلقته، للحديث عن نظرة بعض التيارات الدينية للآثار المصرية القديمة، وكم كانت صدمتي بهذه النظرة المتدنية؛ التي ينظر بها بعض هؤلاء إلى آثار أجدادهم، هل هؤلاء هم بالفعل أحفاد الفراعنة؟! هل ينتسبون إلى هذا البلد العريق؟! أم خلعوا على أنفسهم هوية أخرى غير الهوية المصرية؟!".
ويقول أيضاً: "وكم كانت دهشتي من نبرة اليقين التي يتحدث بها الشيخ "ياسر برهامي"، مُشدِدًا على أن الحملة الفرنسية هي التي كشفت الغطاء عن "الأهرامات" و"أبو الهول"، والتي طمستها الرمال ولم يعرفها العرب الأوائل .. وأين حمرة الخجل وهو يقسم بالله أن هذه الآثار لم تُعرف إلا في المائتي سنة الأخيرة، وبعد اكتشاف الحملة الفرنسية لها!.".
لقد جاء هذا الكلام عقب الضجة الكبرى التي حدثت في أوائل مارس من عام 2013م، من الدعوات التي نادى بها أحد دعاة (السلفية) مُطالباً (بتأجير) الأهرام وأبو الهول؛ لأنه يمثل احدي الأصنام الكبيرة! في القرن الحادي والعشرين!
إن أبا الهول الذي ينظر من أعلي منطقة في الجيزة، ليطل برأسه علي القاهرة والجيزة والنيل، يعتبر رمزاً لا يمكن أن يُنجب التاريخ مثله بعد الآن، إذ اتجهت الحضارات إلي المادية، وبعدت كل البعد عن التراث الحضاري، ومما دفع الدكتور محمد عفيفي لأن يرد علي مثل هذا القول، هو حرصه علي أن أثار مصر ثروة عظيمة بكل ما تحمل الكلمة من معان. إذ البلاد تعرف بحضارتها وآثارها، وإني لأشكر له صنيعه هذا، في الرد علي هؤلاء المتطفلون علي التاريخ، إذ لا يمكن أن تباع أو تؤجر - علي حد تعبير هذا الرجل السلفي، ذو الفكر الوهابي الوارد من بلاد نجد - أي من أثار بلادنا التي هي رمز الإنسان المصري، الذي أبهر العالم بإنجازاته المختلفة.
ولا نستطيع أن نذكر هذه الحادثة وهي الأولي من نوعها في التاريخ المصري؛ ولا نذكر "ممتاز نصار" الرجل البرلماني الأول، وزعيم المعارضين، ويكفي أن يرتبط اسمه بقضية "هضبة الأهرام" وبالتالي بمصر، فبقدر ما يمكن أن يقال أن اعتزاز وفخر كل مصري بالأهرام، التي يحلم كل إنسان في العالم برؤيتها، وبقدر حب كل مصري لأمة مصر، يكون اعتزاز وفخر كل إنسان مصري بممتاز نصار، كنموذج للوطنية الصادقة والأمانة.
إذ لا يستطيع أن ينكر عاقل أن ممتاز نصار، كان محامي مصر الذي دافع عن اغلي ما تملك، وهو الأرض، والكرامة، في واحدة من اخطر القضايا (القومية)، التي أقامت الدنيا ولم تقعدها إلا بعد نجاح المحامي الوطني المخلص برعاية الله وعنايته والتفاف الشعب حوله، ثم بثقته واقتداره في انتزاع حكم تاريخي، بمنع بيع ارض مصر الغالية في هضبة الأهرام، بعد أن كاد النصّابون واللصوص من الخارج والمرتشون في الداخل أن يبيعوها لكن عين الله ساهرة .
وهنا لابد أن يذكر التاريخ موقف الدكتورة "نعمات احمد فؤاد" - مدير عام المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة سابقاً- وهي أول من أثار الموضوع علي صفحات جريدة الأهرام ونقابة المحامين، التي تابعته بالندوات والمؤتمرات والجهد الضخم الذي هيأ الرأي العام في مصر والخارج، للوقوف ضد كارثة هضبة الأهرام وكان اختيار الجميع لممتاز نصار نائبا عنهم في مجلس الشعب.
وفي فترة الانفتاح الاقتصادي قد وجد هؤلاء النصابون من هم في استقبالهم بالأحضان، وقد سال لعابهم ووقعوا تحت تأثير مخدر خطير اسمه المال، أما الشرفاء وعلي رأسهم ممتاز نصار فقد تصدوا لكارثة كادت تحل بمصر، ممثلة في بيع ارض هضبة الأهرام السابقة الذكر، وقد أرسلت (هيئة اليونسكو) خطاب تقدير لممتاز نصار، عضو مجلس الشعب الذي كان وراء إلغاء المشروع، ومن خلفه د. نعمات احمد فؤاد ونقابة المحامين، وقد اثنت اليونسكو في خطابها علي الأستاذ ممتاز، لأنه أنقذ أثار مصر من الضياع، التي تعد بمثابة ثروة قومية لمصر، وثروة عالمية أيضا يتمتع بها العالم اجمع بمجرد النظر إليها.
مازالت سطور التاريخ المصري شاهدة علي أن مصر كانت ولا تزال، تنجب العديد من أبنائها الأبرار، الذين حافظوا عليها حتى آخر نفس في حياتهم، فكانوا بمثابة القدوة والمثل لكل جيل قادم، ومن أهم تلك الشخصيات شيخ مشايخ القضاة والنائب المستشار ممتاز نصار .. صاحب أكبر عدد من الاستجوابات النارية، في تاريخ البرلمان المصري، وأبرز نوابه في مجلس 1976م، وهذه الاستجوابات التي قدمت للحكومة كان هدفها الكشف عن الفساد والتجاوزات، ووضع إستراتيجية تهدف إلي خدمة هذا الشعب وهذا البلد العظيم، فجعلت هذه الاستجوابات ممتاز نصار يضرب به المثل والقدوة، للنائب المدافع عن حقوق المواطن.
ولد المستشار ممتاز يوم 9 نوفمبر 1912م في مركز البداري بأسيوط، وهو ينتمي لعائلة النواصر، وهي إحدى العائلات الكبيرة في البداري، وقد ذكرها علي مبارك في خططه، فتلقي تعليمه الابتدائي في هذا المركز، وحصل بعد ذلك علي شهادتي (الكفاءة والبكالوريا) في عامي 1927م و 1932م، ثم انتقل إلي القاهرة لدراسة القانون في كلية الحقوق، جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليا)، وبعد أن حصل علي ليسانس الحقوق، اشتغل بالمحاماة في مكتب المرحوم الأستاذ "مكرم عبيد" سكرتير الوفد في ذلك الوقت، وقد آثر الاشتغال بالمحاماة رغم أن ترتيبه عند التخرج كان يسمح له بالعمل في النيابة العامة؛ وظل يعمل بالمحاماة لمدة ست سنوات، ثم تدرج بعد ذلك من النيابة إلي القضاء، ثم إلي التفتيش القضائي، حتى شغل وظيفة مستشار بمحكمة الاستئناف ثم مستشارا بمحكمة النقض، وخلال تلك الفترة كان قد تقدم للترشيح لعضوية مجلس إدارة نادي القضاة، وقد انتخب بالفعل عضوا بمجلس إدارة النادي عام 1947م ثم سكرتيرا للنادي في نفس العام، واستمر حتى عام 1962م حيث تم انتخابه رئيسا لنادي القضاء، وشغل كذلك منصب رئيس الهيئة البرلمانية الوفدية بمجلس الشعب، وزعيم المعارضة بالبرلمان، وبقي في منصبه حتى حدثت مذبحة القضاة 1969م وظل خلال هذه الفترة خير مدافع عن العدالة واستقلال القضاء، وسجل كل ما دار خلال هذه المعارك في كتابه الذي أصدره بعنوان "معركة العدالة في مصر"، وكان مرشحا لرئاسة محكمة النقض طبقا لترتيب دوره، وقد سوي له معاشه بعد إصلاح ما حدث للقضاة، علي انه معاش رئيس محكمة النقض، وهو المنصب الذي كان سيشغله لولا أحداث مذبحة القضاة في1969م. ولم يكد ينتهي عام 1987م حتى رحل عن عالما البرلماني الجسور في مشهد حافل، بكاه كل معرفه وكل من سمع عنه.
لقد كان الرجل صورة رائعة ونادرة من تاريخ مصر، سواء عندما كان في القضاء، أو عندما انتقل للبرلمان، إنه المستشار الجليل والنائب المخضرم ممتاز نصار، أو بمعني أدق عملاق أسيوط والبداري، الغائب الحاضر الذي مات جسده، لكن مازالت مواقفه حية تشهد علي عظمته!!
ولعل الشيخ/ حسن العطار قد أجمل التعبير حين قال:
فقدناه لكن نفعه الدهر دائم وما مات من أبقي علوما لمن وعا
فجوزي بالحسنى وتوج بالرضا وقوبل بالإكرام ممن له دعا
|