بقلم الدكتور/ إبراهيم حسن الغزاوي
eommar@hotmail.com
اليوم كان موعدنا ...وقد آليت على نفسي ألا أدعه وحيدا... فقد أدركت وحشته وآلمتني مرارة يشعر بها ...
وحشة الإهمال ... ومرارة اللاقيمة التي آل إليها في عقر داره ... وهو يتربع على عرش الأهرامات التليد... وقد ألفى نفسه حارسا لحضارة أهملها أهلها ..ورضوا بالتعامل معها كمجرد حجارة ..تخلو من الروح والحسن والعطاء...صحيح... لقد تحولت الأهرام من معلم يجسد حضارة عظمى، كانت عملاق البشرية في سالف العصر والأوان ..إلى مباني حجرية تنطق بالإهمال واللامبالاة..لملمت خطاي..ويممت وجهي نحوه ... وأنا أمني نفسي بلقاء جديد..يعلمني فيه بدفقة من عطايا نفسه التي لا ينهكها الزمان ... ولا يقتلها إهمال المكان ....وسرحت بفكري في حالنا بمصر المحروسة..اقتصاد منهك..وجحافل من البشر..يتوالدوا بسرعة التيرا بايت...ليضيفوا لمشكلات التعداد كل يوم عشرات الآلاف من البؤساء الجدد...بلا عقل يستوعب أعدادهم ومدارسهم ومساكنهم ومطاعمهم وعلاجهم...فرضت عليْ نفسي مقارنة منطقية بين مجتمع مثل المجتمع الكندي، الذي تبلغ نسبة النمو السكاني به نحو 7, % ، بمعدل أقل من ثلاثة أرباع طفل لكل أسرة كندية، بالرغم من كون كندا مجتمع وفرة وسخاء ورخاء ...وبين مجتمعنا المصري ذو الخصوبة التناسلية الفجة بنسبة تتجاوز 2.8% ..وهو معدل عالي للغاية، ولا يتناسب مع مجتمع يعاني من التخمة السكانية المفرطة والفقر الاقتصادي..وبينما أنا غارق في المقارنة ..ويثقلني إحساسي بوطأتها على مصر ، إذا بي أجد نفسي وجها لوجه أمامه ... ولم أنتبه إلا وهو يمد يده ليوقفني قبل أن أصطدم بجسده الحجري النابض بالحياة أكثر من نبض أجسادنا نحن بني البشر بها.
ماذا بك يا بني؟ ....سألني وكأنه ينبهني إلى أنني قد أصبحت في حضرته .
معذرة يا حارس الحضارة..غلبتني الفكرة ولم أنتبه .. طاب يومك وازدانت أوقاتك بكل خير وجميل .
كيف ذلك يا ولدي.. وأنا لم ينالني منكم إلا كل تجريح وإهمال؟ ... أجابني...صدمتني الكلمات ..وأفقت لعلني أدرك لما يقوله معنى...كيف ذلك يا معلم التاريخ الأبدي العظيم؟
يا بني... هل رأيت المنطقة المحيطة بي وبالأهرام العظيمة التي وكلت من الزمان بحراستها لكم كتراث غير مسبوق ولا ملحوق، ورصيد يمتد معكم لكم إلى آخر الزمان؟
ألم تصدمكم مئات الدواب والجمال وإسطبلات الدواب التي تجتهد بلا هوادة في تلويث المكان وتعبئته بأفظع الروائح وأحط المخلفات.... ألم تر جيوش المتسولين الذين نذروا أنفسهم لمضايقة زوارنا من أرجاء المعمورة..حتى أحالوا أوقاتهم معنا إلى مطاردات منفرة ؟.. ألم تقع عيناك على سائقي التاكسي الذين احترفوا النصب والضحك على ركابهم من زوارنا كل يوم، فيتركوا لديهم أسوأ الأثر ..ويضيعون بهاء زيارتنا مقابل بضع مئات من الجنيهات...يبيعون بها سمعة بلدكم..ويعرضون بها للمخاطر أجواء السياحة ومشاعر الطمأنينة لدي السياح؟.. هل لم يصدمكم ما يفعله بنا بعض زورانا من أبناء مصر الحبيبة..الذين لا يحلو لهم إلقاء المخلفات إلا على سفح الأهرام..أو تحت أقدامي؟
لست أدري ماذا أقول لك يا مصباح الزمان الجميل ... ولكن ماذا تريد أن تقول ؟ تساءلت بلا وعي...
يا فتي ..الذي أريد أن أقوله لك اليوم..أنكم لو عدلتم بعض سلوككم..وأحسنتم تخطيطكم..لارتفعتم بنا رفعة ما بعدها رفعة...
كيف يا حكيم الحضارة ؟....
"هل تدرك يا هذا أن دولة مثل أسبانيا يدخلها وحدها سنويا مالا يقل عن 65 مليونا من السياح من كافة أرجاء العالم؟"
أطرقت وبدأت أدرك ما هو مقبل على قوله...
وهل تعلم يا ولدي أن أسبانيا ليس بها من الآثار أو روافد الحضارة الإنسانية ربع ما لديكم بمصر ؟ وأن ما لديها لا يعدوا بكثير آثارا لحضارة الاسلام بالأندلس ؟ وأن السياحة بها أهم موارد الدخل للبلاد..رغم فقر مكونات الجذب السياحي بها؟
وهل تعلم أن سر نبوغ دولة مثل أسبانيا أو فرنسا في الجذب السياحي هو حسن حشد المجتمع والمؤسسات والمواطن الفرد هناك للتعامل الواعي والمستنير مع السائح الأجنبي؟ وأن كل فرد في تلك المجتمعات يعد نفسه سفيرا مسئولا عن راحة السائح منذ أن تطأ قدماه ارض الدولة، وحتى يغادرها عائدا لبلاده؟
أطرقت في الأرض لفترة..وأحسست بغصة في حلقي... فأنا بالفعل أعلم ما يقوله يقينا..وقد زرت أسبانيا وأعلم جيدا أنها تعد أفقر من مصر بعشرات المرات في مكونات رصيدها السياحي، وعلى الرغم من ذلك تحوز من كعكة السياحة العالمية على أكثر مما تحوز عليه مصر بنحو عشرين مرة .والملفت أيضا ليس العدد الهائل للسياح هناك..لكن نوعية السائح أيضا..حيث يزورها أكثر طبقات السياح ثراء في أوروبا وباقي قارات المعمورة...عكس مرفق السياحة في مصر ..الذي قنع بحفنة ملايين من السياح، معظمهم تتواضع إمكاناتهم وتقصر عائدات زيارتهم لنا حتى عن الوفاء بتكاليف إقامتهم .. وهنا فقط أدركت لماذا يشعر أبو الهول بهذا الإحباط...
يا فقيه الدهر ..وكيف السبيل إلى خروج مما ذكرته ؟ سألته على استحياء ...
لم تأتني منه إجابة ...وعندما طال الانتظار ..نظرت إليه..فوجدته ينظر إلى الأفق البعيد في استغراق وتأمل لم أعهده عليه من قبل ..ومرت عدة دقائق خشيت خلالها أن أقطع عليه تأمله أو أكدر صفو فكره ....وفجأة نظر إلى بهدوئه الرائق الشفاف ...
يا بني ...يجب أن تفكروا في أسلوب لإدارة وتخطيط السياحة بمصر يختلف عن ذلك الذي اعتدتم عليه منذ مئات السنين...السائح يا ولدي لا يكفيه أبهة المكان... ولكن يأسره لطف البشر وحس التعامل...السائح يغضبه أن تنظروا إليه كبقرة حلوب تتنافسون على إفراغ جيوبه دون أن تعطوه خدمة حقيقية تستحق ذلك...السائح يحب أن يأمن على نفسه وعلى من معه وهو يتحرك منذ أن تطأ قدميه المطار حتى يغادر..ولكن ما يقابله منكم هو عشرات من المتنمرين للفوز بنقوده دون أي خدمة تقدم له... في سلوك يعكس التسول أكثر مما يعكس التسوق أو دفع مقابل الخدمات التي يتلقاها..ولذلك لا يأتي إليكم إلا طبقة السياح الفقيرة إلا قليلا ....مطلوب منكم يا بني أن تخططوا بلادكم من جديد من الناحية السياحية، فتبعدوا عن أغني أرصدتكم السياحية أفقر سلوكياتكم الإنسانية... حتى يستشعر السائح بنقاء المكان وارتقاء الإنسان في حضرته..فيأسره الأثر وينال احترامه البشر .
يا سيدي ...وكيف ذلك؟
لماذا لا تقوم وزارتكم الميمونة للسياحة بإخضاع كل أصحاب الدواب وسائقي التاكسي ومن يتعامل مع السائح عامة من باعة وأصحاب بازارات لدورات تدريبية تفقههم في كيفية التعامل برقي واحتراف مع السائح؟ فلا ينفر منهم ..أو يشعر بوقوعه ضحية لألاعيبهم التي لا تنفذ حيلهم في إخراجها كل وقت وحين ليستحلبوا زواركم الأجانب ؟.
ولكن يا سيدي .....
هنا أشاح بيه في إشارة أعلمها جيدا ..فهمت منها أنه يريد للحديث نهاية وأنه لم يعد يود الاسترسال...فسحبت نفسي في هدوء المستسلم لقراره ..وأخذت استرجع كلماته رنانة في عقلي ...صحيح لديه كل الحق...إذا أردنا للسياحة أن تزدهر في مصر فعلينا أن نحترم أماكننا الأثرية بشكل حقيقي، و أن ننصب من أنفسنا سفراء مقيمين في كل ربوع مصر..لحسن استقبال السياح وأن نكف عن التعامل معهم على أنهم فريسة للتسول والنصب والفهلوة ....هذا إن أردنا للسياحة أن تكون بالفعل قاطرة لمصر في الفترة القادمة... ونحن اليوم أحوج ما نكون لمثل تلك الخطوات ..فننعش بها اقتصادنا ونوجد ملايين من فرص العمل العمل لشبابنا ، فهل من مجيب؟
|