بقلم الآثاري / محمد عبد الرازق
عرفت مصر القديمة نظام الجيش النظامي منذ عصر ما قبل الأسرات – أي قبل توحيد مينا للقطرين – أي منذ عام 3500 ق.م على الأقل وأبرز الأدلة على ذلك هو ما سجله المصريون القدماء أنفسهم على صلاياتهم وبطاقاتهم من صور ورسومات تدل على قيامهم بحملات عسكرية على أعدائهم ومناظر فرق الجيش والأعداء المنهزمين الهاربين أو الأسرى أو المذبوحين ومناظر احتفال الجيش المنتصر بانتظاره، لكن السؤال الذي يرد إلى ذهن الباحث هو : كيف كان نظام ومنهاج عمل الجيش المصري في ذلك الوقت وكيف كانت أخلاقياته؟ بالطبع من الصعب معرفة أخلاقيات الجيش المصري في تلك الحقبة السحيقة من تاريخ مصر القديمة نظرًا لعدم انتشار الكتابة في ذلك الوقت وبالتالي عدم وجود كتابات تذكر بالتفصيل نظام عمل مؤسسة الجيش في ذلك الوقت. لكن بعد انتشار الكتابة في مصر القديمة نجد أحد كبار الموظفين في عصر الأسرة السادسة واسمه "وني" عرفنا من خلاله الكثير من أخلاقيات الجيش المصري في ذلك الوقت. فمن هو وني؟ وكيف عرفنا من خلاله أخلاقيات الجيش المصري في تلك الحقبة الموغلة في القدم؟
1- القائد "وني" :
كان "وني" – كما ذكرنا آنفًا – أحد كبار الموظفين في عصر الأسرة السادسة الفرعونية وتحديدًا عصر الملك "ببي الأول"، وقد ترك لنا هذا الموظف على جدران مقبرته بالصعيد سيرته الذاتية التي تحدث فيها عن نفسه وعن الوظائف التي عمل بها في عصر الأسرة السادسة وعن أهم أعماله التي قام بها من أجل مصر، وكان من ضمن الوظائف التي شغلها – طبقًا لما كتبه في سيرته على جدرانه مقبرته – حاكم مصر العليا "الصعيد" وأمير نخن "مدينة في الصعيد" وعمدة "نخب". في سيرته الذاتية يتحدث "وني" عن حملة قام بها الملك ببي الأول في فلسطين ضد البدو الأسيويين الذين كانوا يحاولون الإغارة على مصر واحتلالها، ومن خلال هذه السيرة عرفنا ما نريد معرفته عن أخلاقيات الجيش المصري في ذلك الوقت، فماذا ورد في تلك السيرة عن الجيش المصري؟
2- نص حملة الجيش المصري في سيرة وني:
هذا هو نص حملة الجيش المصري على أعدائه من البدو الأسيويين في فلسطين كما ورد في سيرة وني المذكورة على جدران مقبرته.
" عندما قام جلالته بحملة ضد الأسيويين سكان الرمال، جعلني جلالته على رأس جيش من عشرات آلاف من كل مصر العليا : من أرض "يبو" في الجنوب إلى أرض "مدينيت" في الشمال؛ ومن مصر السفلى : من كل جانبي البيت ومن أرض "سجر" و"خن سجرو" ، ومن "الإريت" النوبيين و"الميجا" النوبيين و"اليام" النوبيين و"الواوات" النوبيين و"الخاوو" النوبيين، ومن أرض تيجمي.
جلالته أرسلني على رأس جيشه الذي يضم حملة الأختام الملكيين، ومرافقي القصر، ورؤساء وأمراء مدن مصر العليا والسفلى، وكبار كهنة مصر العليا والسفلى، وكبار الموظفين رؤساء فرق مصر العليا والسفلى، من القرى والمدن التي يحكمونها، ومن النوبيين من هذه الأراضي الأجنبية. وقد كنت أميرًا عليهم – بينما كان منصبي مشرفًا على الأعمال الملكية – وذلك بسبب صلاحي واستقامتي لذلك لا أحد هاجم زميله ولا أحد سرق رغيفًا أو نعلاً من مسافر، كذلك لا أحد أخذ رداءًا من أي مدينة، ولا أحد أخذ ماعز من أي شخص.
لقد قدتهم من أرض شمالي إيسلا عند بوابة إييح حوتب "سنفرو" في اتجاه حورس سيد العدالة بينما كنت في هذا المنصب ............وقد قمت بتحديد أو استعراض عدد هذه الفرق العسكرية وهذا لم يحدث أبدًا بواسطة خادم قبلي."
3- أخلاقيات الجيش المصري كما يذكر "وني" :
من خلال ما ذكره وني من وصف مختصر لطريقة تنظيم الجيش في حملته على سكان الرمال عرفنا العديد من قواعد العسكرية في ذلك الوقت وهي :
- أنه كان الجيش المصري يتكون من جنود يتم جلبهم من كل أنحاء مصر العليا والسفلى، وكان ينضم إلى الجيش كبار الكهنة ورؤساء المدن والأقاليم، وكذلك كان يتم تجنيد النوبيين (السودانيين) في الجيش المصري في ذلك الوقت.
- كان الجيش المصري ينقسم إلى فرق عسكرية لكل فرقة ضابط أو قائد يتولى قيادتها وكان لكل هذه الفرق وكل هؤلاء الضباط قائد عام يقوم بإدارة شئونهم نيابة عن الملك. ولم يكن يتم اختيار قائد الجيش حسب مكانته الاجتماعية بل كان يتم اختياره حسب أخلاقه واستقامته حتى ولو كان أدنى مرتبة من بقية ضباط وأمراء الجيش.
- أدى اختيار قائد الجيش حسب أخلاقه إلى تمسك رجال الجيش بالقيم والأخلاق حيث أنه لم يحدث أن اعتدى أحد رجال الجيش على أحد أو سرق متاع.
- عدم تفكير رجال الجيش في نهب أي شيء من متاع البلدان التي مروا بها يدل دلالة واضحة على أن قائد الجيش كان يوفر لرجال الجيش كل احتياجاتهم بحيث لا يحتاجون إلى الاستيلاء على شيء من متاع غيرهم.
- كان القائد يهتم باستعراض فرق الجيش وتحديد أعدادهم ومعرفة أحوالهم ويذكر "وني" أنه أول قائد يقوم بذلك فلم يفعل ذلك قائد قبله.
- كان يوجد طريق حربي يتخذه الجيش أثناء ذهابه للقتال كما كان توجد ثكنات وحاميات عسكرية على الحدود وذلك يتضح من ذكر طريق حورس سيد العدالة وذكر بوابة سنفرو.
من خلال ذلك يتضح لنا أن المصريين القدماء هم أول من أنشأوا جيشًا نظاميًا ومؤسسة عسكرية بكل ما تحمل الكلمة من معنى وأنهم في ذلك سبقوا كل شعوب الأرض في تلك الحقبة السحيقة من تاريخهم.
|