بقلم دكتورة / نورا عبد المهيمن
مصر الفلاحة ،هبة النيل ، صاحبة أقدم حضارة زراعية عرفتها البشرية ، جعلت المصري يدرك فلسفة الزراعة ويهتم بها لدرجة التقديس ، واهتم بالنيل وقدسه لأنه أدرك أنه هو سر بقاؤه ، لذلك احتفل بعيد الفيضان الذي ضرب لهم مثلا علي الوفاء ، فيلقون إليه بعروس من أجمل الفتيات ، وهي قربان من أغرب القرابين ، لكنه يفيض شعرا غنيا بالدلالة ، رغم قسوة الفعل في حد ذاته " إلقاء فتاة في النهر " ، ودلالة الحدث اعتقاد المصريين في ذكورة النيل ، والذكورة رمز للخصوبة فلولا أنه يلقح الأرض بطمية الخصيب ما أنتجت زرعا . إذا فنحن شعب ذو حضارة زراعية استقرت حول النيل الخصيب وكان نتيجة استقراره أنه لم يسع إلي غزو أو إحتلال الآخرين ، بل كان دائماً مطمعاً للغزاة من أجل خصوبة هذه الأرض وخيراتها وعذوبة نيلها وطيب زرعها ، ونظر إليها العالم القديم بعيون متنمره ، الإ أنها كانت تصهرهم في بوتقتها ، وبقيت هي تنعم بمحاصيلها الوفيرة فيسعد شعبها وتعطي الفائض عنها للشعوب المجاورة وخاصة تلك الشعوب الصحراوية غير الزراعية . والواقع أن قصة الخلق المصرية المتجسدة في أسطورة الألهه أوزوريس وإيزيس وست ، ما هي إلا قصة رمزيه فأوزوريس كان ملكاً عظيماً علم الناس الزراعة وفتح لهم طريقاً للتقدم ، واصطدم به أخوه ست الذي يرمز إلي الشر والتصحر والجدب ، وانتهي هذا الصراع بموت أوزوريس غرقاً لتبدأ رحلة الآلام بحثاً عن جسده ، وقامت بهذه المهمة الصعبه أخته وزوجته إيزيس ، فأوزوريس ما هو إلا خيرات مصر وزراعتها من نباتات ومحاصيل وبقية الكائنات ،وإن موته يعني الفناء والجدب والتصحر ست ، فالقصة قصة للصراع بين النماء والفناء ، أما إيزيس فهي أرض مصر نفسها التي تسعي دائماً في محاولات جادة لإنقاذ زراعتها من التصحر والجدب من أجل توفير الطعام لأبنائها ، فمصر تزوجت الزراعة وعاشت كمجتمع مستقر ، ولابد أن تحافظ علي زراعتها . أما حورس فما هو إلا فرعون مصر المحافظ والمدافع عن إرثه الشرعي ، لأنه ابن الألهه ومنفذ لأحكامهم من أجل إسعاد بني أمته في منحهم الزراعة وتوفير المحاصيل ، لذلك ظل الماء والزرع لُب الثقافة المصرية ، فهي ثقافة شمسية زراعية لم يطرأ عليها تغيير واضح إلا مع بداية الدولة العصرية وزحف المباني والمصانع علي الأراضي الزراعية ، بالإضافة الطفرة السكانية التي جعلت المصري ولأول مرة في تاريخه في سبعينات القرن الماضي يترك الأرض من أجل السفر والعمل بالخارج وخاصة في الدول النفطية التي لم تكن تتطلب أي خبرة من أي نوع سوي الصحة البدنية من أجل عمل شاق ومجهد . نعم تركنا الأرض الزراعية التي هي أساس فلسفة وحياة المصريين ، واليوم تعود الدعوة إلي إصلاح الصحراء ولا أعرف أي صحراء تلك التي ستعوضنا عن الأراضي الخصبة ، لقد كان القدماء يخشون مجرد تعرض محاصيلهم للإتلاف أو الضرر فربطوا عقيدتهم بالأرض وما عليها من زرع وتعامل معه علي أنه إله يموت ويبعث من جديد. وظل الفلاح المصري مع وجود العقائد السماوية يعيش بهذا المفهوم ونراه يقول في أغانية الشعبية " الأرض زي العرض " و " غلاوة الطين من غلاوة الوِلد " ، وفي أمثاله " أبيع أرضي وأقعد عريان ؟!! " وكأن الأرض غطائه وستره فالأرض هي الستر والرزق والقوت " يا واخد قوتي .. يا ناوي علي موتي " ، وهي الحماية ولا تحب المشاركة " قيراط ملك ولا فدان شرك " . لذلك ظل الفلاح المصري البسيط لا يثق في الشخص المتعلم الذي يستنكر عليه هذه العقيدة وهذا الإرتباط ، ويتعامل معه باستعلاء ويطلق عليه الأفندي وغني له : " عيني علينا إحنا غلابة من غير قراية ولا كتابة باعونا الأفنديات وسابونا من غير علام من غير بصاره ومن غير إمام وكلنا الأفنديات كلتنا شربتنا عرق وسابتنا خضر سنينها شقانا يادوبك طُلنا غدانا عرايا وأقدامنا حافية وباعونا الأفنديات ياريس السفينة يا دايس ع المدينة ورينا إيه اللي لينا وخُد نن عنينا وسيب صدر الخلايق يفضفض بالمضايق ما راح العمر راح واشتغلنا للبراح وباعونا الأفنديات يا عيني !! فهذا هو موقف المصري البسط " الفلاح" ، لأن الأفندي يمثل تاريخ القهر بالنسبة له ، فهو الإقطاعي والضابط والنيابة ، والقاضي ، وجامع الضرائب ، وهو كل رموز القهر ، كفيف يثق فيه ... فالحقيقة نحن أمام ثقافتين ، ثقافة مصرية يعتنقها البسطاء ، وثقافة غير مصرية يعتنقها غير البسطاء ، وهم من يُعَرِّفهم البسطاء بالأفندية. |