بقلم الدكتور/. إبراهيم حسن الغزاوي
خبير دولي في إدارة مراحل الانتقال وتهيئة مؤسسات الدولة عقب الاضطرابات والنزاعات
محاضر القانون الدولي وحقوق الإنسان
eommar@hotmail.com
أدهشتني التجربة البريطانية في شأن خروجها المدوي من الاتحاد الاوروبي بشكل لم أجربه منذ زمن...وأخذتني معها في العديد من الاتجاهات..بعضها إيجابي ..بل ورائع..وبعضها غير ذلك .... وأول الإيجابي في هذا الشأن هو أن مسألة الانضمام أو الانسلاخ عن الكيان الاوروبي المتحد ، هو شأن مجتمعي يمس مصلحة الدولة العظمى، قد وسد لأصحاب القرار النهائي فيه، وهو الشعب البريطاني نفسه، في واحدة من الممارسات النموذجية الديموقراطية، لدولة هي الأعرق في الديموقراطية في تاريخنا البشري.... لم يناطح كاميرون أو غيره في استحقاق الأمر لكلمة الشعب ، وهو رئيس الجهاز التنفيذي المنتخب من الشعب نفسه، ليعمل في إدارته لشئون الناس عمل الإصلاح والتنمية والتقدم، ولم يسوغ له أنه منتخب ديموقراطيا، وله أغلبيته في البرلمان البريطاني، أن يفتئت على حق الناس في فرض خيارها على الدولة بكاملها... وزاد من فرط إعجابي ، أني شاهدته مخاطبا حشودا من مؤيديه، ينفعل بحماس واضح يثير الإعجاب وهو يروج لعوائد البقاء الإيجابية في الاتحاد ألأوروبي ويحذر وببلاغة لا تغيب من عواقب النكوص عن التجربة ، التي تجمع 28 كيانا أوروبيا كبيرا، وتعد الأكبر والأعظم في تاريخ التحالفات الاستراتيجية والاقتصادية ... أما الايجابية الثانية، فهي ان كاميرون، وإدارته، لم يحتكروا لأنفسهم وسائل للترويج لوجهة نظرهم حتى وهم يعتقدون بصحتها، وبتلاقيها تماما مع صالح البريطانيين، فوسائل الحملة المساندة هي ذاتها وسائل الحملة المضادة، ولم يتدخل في مسارها اي سلطة، ولم يرفع اي محام عندهم دعوى بعدم دستورية قانون العملية السياسية، ولم ولم ولم....وهو درس في ذاته شديد القسوة لهؤلاء الذين يتصوروا أن سدة الحكم لا تسير بغير السلطان والقوة والتسيد... وثالثا،عندما أتت الرياح بما لا تشتهي سفن كاميرون وحزبه المحافظ، ورأى غالبية الناخبين أن بريطانيا تخرج من الاتحاد الأوروبي، خرج علينا الرجل، ليعطي لنا درسين قاسيين لاذعين حارقين، الدرس الأول، أنه اعلن احترامه لرغبة الناخب البريطاني، وأنه يثق في صحة ومصداقية الصندوق، ويتقبل نتيجة الاستفتاء ... وأنا على يقين أنه حينما كان يعلن ذلك كان قلبه ينفطر ألما وشعورا بقسوة الانهزام ...لكنه امتثل لنموذج بلاده الديمقراطي اليقظ وتجاهل كل ماهو ذاتي وعاطفي ..ونحن نعلم جميعا قدر ما يشعر به المهزوم من احباط وغضب ومهانة... والدرس الثاني، هو تقديمه استقالته، وهو الأكثر قسوة وإذلالاً لهؤلاء اللاهثين وراء كراسي السلطة في منطقة العرب العصماء منذ لحظة وعيهم بالحياة واستعبادهم لها ولغيرهم إن تبوءوها ، في وقت غفلة من زمن الحكمة، واستعدادهم للموت باستماتة في الدفاع عنها وكأنها قد وجدت لهم دون غيرهم، وكأن الخالق قد عناهم عندما قدر في منطقتنا ان يكون هناك سلطة حاكم وخنوع محكومين... نعم...قدم كاميرون درسا لا بعده درس لمنطقتنا العامرة بصنوف التكالب المقيت على السلطة الملتهبة في بلاد كانت ذات يوم بلاد حضارات، واليوم هي بلاد كوارث وأزمات... ولعل المحتوى الأبرز في درس الاستقالة ، ويقيني أنه يغيب عن هؤلاء ، أن الرجل قد قرأ نتيجة الاستفتاء قراءة الغيور على نفسه وكرامته وكرامة الحزب الذي يمثله، وأنه اعتبر رفض البقاء في الاتحاد هو استفتاءا على رشد سياسته وسياسة الحزب...وطالما الشعب لم يتبن بضاعته في الأمر، فالشعب إذن في غير مزاج مؤيد له...وهذا يكفي ... اعتبر كاميرون ان الخروج من الاتحاد الاوروبي هو قرار ضمني من غالبية الشعب ممن أدلوا بأصواتهم، بأنه وحزبه لم يؤديا الدور المنوط بهما في استلهام سياسة يرضى عنها الشعب...علما بأنه كان يمكن اخذ الامر ببساطة على انه استفتاء موضوعي يمس حالة مخصصه وليس استفتاء على شعبية وسياسة حزب ورئيسه...لكنها مسئولية الكرامة والنزاهة والاحترام لصوت الشارع لدى الرجل وحزبه... أما السلبي في الأمر، فهو وللأسف الشديد، ان هذا القرار الشعبي بالانسحاب، يجسد نزعة شقاقية غير مستحبة، في وقت يسعى فيها العالم لاستلهام التجربة الاوروبية في الاتحاد، باعتبار أن الاتحاد قوة والتفرق ضعف ، وهي حقيقة ربما غابت عن الناخب البريطاني الذي انحاز للخروج... نعم.. بهذه الخطوة السلبية أثبتت جموع الشعب البريطانية التى ايدت هذا المسار الانشقاقي أنها لا تأبه لدروس التاريخ المفزعة التى تلى الانشقاق والتي تتلخص في الضعف والتفكك وذهاب السلطان تدريجيا...وربما يفتح هذا الامر الباب لانشقاقات اخرى تلي خروج الكيان الأهم في الاتحاد الاوروبي منه .... وطبعا لابد ألا ندع هذه الفرصة، التي عبر بها الشعب البريطاني الشقيق عن رغبته في الانشقاق، دون ان نعبر لهم عن تقديرنا العميق لمنحاهم ، وأن ندعوهم للانضمام إلينا في منطقة العرب العامرة... ولما لا؟ إذا كان البريطانيون يبغون الشقاق، فلن يجدوا مرتعاً وافراً وحدائق غناء تموج بكل مؤلم ودموي من السلوكيات الشقاقية غير منطقتنا العربية الميمونة.... وحتى لا أضع إخواننا البريطانيون في مشقة الخيارات الصعبة، فأنا من حيث المبدأ أرشحهم وبقوة للانضمام لجامعة الدول العربية حتى يجدوا من يؤنس وحدتهم من باقي الدول العربية التى يجب ان نفتخر جميعا بأنها على قلب ألف رجل وليس رجل واحد...وأنه لا توجد دولتان عربيتان تربط بينهما علاقة سوية منضبطة تجمعها مصالح مشتركة طويلة الأمد... وإذا كان الشعب البريطاني الشقيق طامحاً لبلوغ قامات أخرى من الشقاق ، فأهلا به أيضا ونحن أمة كرم وسخاء ولدينا نماذج تناسبه وما عليه إلا أن يتلمس أقربهم لظروفه، فلدينا العراق وسوريا واليمن وليبيا دول ذات حضارات عميقة، وهي اليوم تضرب المثل في تفتيت ذاتها والانشقاق على عناصر قوتها بكل دأب وهمة ونشاط... نعم....أهلا بالشعب البريطاني الشقيق بين أهله في منطقة العرب العامرة،وأهلا بالدولة البريطانية العظمى بين شقيقاتها الدول العربية الأعظم...
|