بقلم الدكتورة/ نورا عبد المهيمن
تولى "هارون الرشيد" الخلافة (170-193هـ/786-808م) بعد أن تجاوز العشرين من عمره بقليل, وصار يلقب بأمير المؤمنين, وإمتدت خلافته إلي ثلاث وعشرين سنة, بلغت فيها الدولة العباسية أزهي عصورها وأوج قوتها.
توقف المؤرخون طويلا أمام شخصية "هارون الرشيد" أمير المؤمنين, تلك الشخصية المثيرة للجدل, وقالوا الكثير عن تناقضاتها وغرابة أطوارها، قالوا أنه كان عصبي المزاج, سريع الإنفعال, حاد العاطفة، قوي الإندفاع, شديد الشعور بالحياة من جميع جوانبها, عظيم الإقبال عليها.
وكذلك قالوا عنه أنه كان سريع التأثر بكل ما يثير عواطفه الدينية أو يمس أوتاره الروحية, فهو من أغزر الناس دموعاً وقت الموعظة وأشدهم عسفاً في وقت الغضب أو الغلظة.
وإلى جانب ذلك فقد كان يميل إلي حياة القصور وما فيها من لهو برغم ما عرف به من التقوي, حتي إذا قرأنا سيرته, لا نعرف إذا كان هذا الخليفة من الأتـقياء أم هو في عداد أهل الهوي, ولعله كان بين هذا وذاك علي حد قول الشاعر:
ولله مني جانب لا أضيعه وللهوى مني والصبابة جانب
واللافت للنظر أنه كان يقرب إليه الزهاد والنساك ويصغي إليهم, ومما يؤكد ذلك أن أحد الزهاد والنساك واسمه ابن "السماك" قد دخل عليه ذات مرة وأخذ يحدثه عن الموت والآخرة وهو يصغي إليه, إلي أن قال له "يا أمير المؤمنين .. اتق الله وحده لا شريك له, واعلم أنك واقف غداً بين يدي الله ربك, ثم مصروف إلي إحدي منزلتين لاثالث لهما .. جنة أو نار" . فبكى "هارون الرشيد", وسالت دموعه حتي أخضلت لحيته, وأشفق أهل المجلس عليه.
وتجدر الإشارة إلى أنه كان يصب الماء علي يدي "أبي معاوية" الضرير وهو من العلماء, دون أن يعلم أبو معاوية من يكون, وقد سأله هارون الرشيد يوما: أتدري من يصب الماء على يديك؟ فقال أبو معاويه: لا
فقال هارون الرشيد: أنا ...
فقال أبو معاوية: أنت يا أمير المؤمنين؟
قال هارون الرشيد نعم, إجلالا للعلم!
ومن محاسنه "أنه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة إلي أن فارق الدنيا, ولم يكن يمنعه عن ذلك إلا أن يمرض أو يتعرض لعلة, وكان يتصدق من ماله في كل يوم بألف درهم بعد زكاته, وكان يحج عاماً ويغزو عاماً" على حد تعبير المؤرخ "الطبري".
وقد تفرد الخليفة العباسي "هارون الرشيد" بإجماع مؤرخي الشرق والغرب علي أنه كان يحج عاماً ويغزو عاماً, وذكروا له ثلاث عشرة حجة إلي البيت الحرام, والحج في عهد الرشيد ذو عناء وجهد فقد كانت الرحلة تبدأ من أول شهر شوال وتنتهي في نصف المحرم, وقد أراد الرشيد ذات عام أن يقضي الإعتكاف الرمضاني في المسجد النبوي, فسافر في منتصف شهرشعبان, وظل مقيماً بأرض الحـرمين مكة والمدينة حتي انتهت شعائر الحج, ولولا إيمانه القوي بهذه الفريضة ما واظب علي أدائها, وكان إذا حجَّ أحج معه عدد كبير من الفقهاء وأبنائهم قدر عددهم بمائة, وإذا لم يحج بسبب جهاد أو غزوة, أحجَّ في كل سنه ثلاث مائة رجل بالنفقة السابغة والكسوة الظاهرة.
وقد ورد في الأثر أن "هارون الرشيد" حج على قدميه ماشياً, وأن سبب ذلك أن أخاه "الخليفة الهادي" "169-170هـ/785-786هـ" كانت لديه جارية تسمي "غادر" وكانت من أحظي الناس عنده, وعدت من أحسن الناس وجهاً وغناء, وكان "الهادي" يُحِبُّها حُبًّا شديداً, فبينما هي تغنيه يوما عرض له فكر وسهو, فسأله من حضر من خواصه فقال: قد وقع في فكري اني أموت وأن أخي "هارون الرشيد" يتزوج جاريتي بعد أن يلي الخلافة, فقيل له نُعيذك بالله ويُقدِّمُ الكل قبلك, فأمر بإحضار "هارون الرشيد" وعرفه ما خطر له, فأجابه بما يُحب من ذلك, فقال لا أرضي حتي تحلف أني متي مِتُ لا تتزوجها, فحلفه واستوفي عليه من الأيمان من الحج راجلاً, وطلاق الزوجات, وعتق المماليك, وتسبيل ما يملكه, ثم أحلفها بمثل ذلك فحلفت, فلم يمض علي ذلك إلا شهراً ومات "الهادي" وبويع "الرشيد", فبعث إلي "غادر" وخطبها , فقالت: كيف نصنع بالأيمان؟ فقال أُكَفر عن الكل وأحج راجلاً, فأجابت وتزوجها وزاد شغفاً بها حتي أنه صار يضع رأسها في حجره, فتنام فلا يتحرك حتي تنتبه.
فبينما هي نائمة ذات يوم انتبهت فزعه تبكي, فسألها عن حالها فقالت: رأيت أخاك "الهادي" الساعة في النوم وهو يقول :
أخلفت وعدي بعدما جاورتُ سُكان المقابر
وحَلَفتِ لي ....... أيمانكِ الكُذُبَ الفَواجر
ونَكَحتِ غادِرَة أخي صَدَقَ الذي سَمَّاكِ غَادِر
أَمْسَيْتُ في أَهل البِلي وغَدَوْتِ في الحُورِ العَوائِـرْ
لا يَهْــنِكِ الإِلْفُ الجديـــدُ ولا تَدُرْ عنكِ الدوائِرْ
ولحِقْتِ بِي قبْلَ الصَّباحِ وَصِرْتِ حيثُ غدوتُ صائِـر
والله يا أمير المؤمنين وكأني أسمَعُها وكأنما كتبها في قلبي فما نَسيتُ منها كلمة, فقال لها "الرشيد" أضغاثُ أحلام, فقالت: كلاَّ, ثم لم تَزَل تضطربُ وتُرْعَدُ حتي ماتت من بين يديه, وذلك في سنة ثلاث وسبعين ومائة, وقد ذكر هذه الروايه "ابن الساعي" في كتابه نساء الخلفاء, و"ابن كثير" في البداية والنهاية, و"ابن الجوزي" في كتابه المنتظم في تاريخ الأمم.
وهناك رواية أخرى تخالف ما سبق من حيث السبب، وقد أرجعت سبب حجه ماشياً أنه رأى الرسول صلي الله عليه وسلم في المنام, فقال له يا "هارون": "إن هذا الأمر صائر إليك, فحج ماشياً واغزُ, ووسع علي أهل الحرمين" فأنفق فيهم "الرشيد" أموالاً عظيمة, ولم يحج خليفة قبله ولا بعده ماشياً رحمه الله على حد تعبير المؤرخ "ابن تغري بردى" صاحب النجوم الزاهرة.
|