بقلم دكتورة/ نورا عبد المهيمن
﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾
[ سورة آل عمران: 96-97 ]
منذ بناء الكعبة علي وجه الأرض وهي موضع إجلال وتقدير, يؤمها الحجيج منذ ما قبل الإسلام ولم تفقد يوماً هذه المعاني في جميع العصور إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أول من حج بالمسلمين في حياة الرسول صلّ الله عليه وسلم عام 9هـ/630م, حيث وكل إليه الرسول الخروج بالحجيج ومنع الكفار من الإشتراك فيه, وفي العام التالي رأس الرسول الحجيج بنفسه وعرفت هذه الحجة بحجة الوداع, ومنذ ذلك الحين اهتم الخلفاء والملوك بالحج, فقد حرص الخلفاء الثلاثة الأول علي أداء فريضة الحج, وكذلك حج من بعدهم خلفاء بني أمية وخلفاء بني العباس في العصر العباسي الأول, أما في العصر العباسي الثاني فقد أثرت ظروف هذا العصر من ترف وإنقسام وثورات في حجب الخلفاء العباسيين عن الحج.
أما في العصر الفاطمي فلم يحج من الخلفاء الفاطميين أحد إلا أنهم عنوا عناية كبيرة بقافلة الحج المصري, وكذلك لم يحج أحد من سلاطين بني أيوب في مصر ولعل السبب في ذلك يرجع إلي إنشغالهم بالجهاد ضد الصليبيين.
ولم يحج أحد بعد من السلاطين إلا في عصر الدولة المملوكية, فكان أول من حج منهم السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقداري عام 667هـ/1268م, وغسل الكعبة بماء الورد ثم كساها, واستمر الحج فيما بعد طوال العصر المملوكي والعثماني بإستثناء سنوات قليلة.
وكان أول من لقب بأمير الحج من هؤلاء الخلفاء والملوك أبو بكر الصديق الذي رأس الحج بنفسه 9هـ, ومنذ ذلك اليوم أصبحت إمارة الحج واجباً منوطاً بالخلفاء, وبسقوط الخلافة العباسية درج أقوي أمراء المسلمين كمماليك مصر وسلاطين آل عثمان علي إقامة أمير للحج يقود الحجاج من مصر كل عام.
وقد إهتم الخلفاء والملوك والسلاطين بمصر منذ أمد بعيد بقافلة الحج, فقد عنيت الدولة المملوكية عناية كبيرة بخروج المحمل كل عام, إذ كانت تقيم له إحتفالاً ضخماً يتم على دورتين في السنة, الدورة الأولي في النصف الثاني من شهر رجب وأطلق عليها الدورة الرجبية, وكان الغرض من دوران المحمل في هذا الوقت المبكر هو إعلام الناس بأن الطريق بين مصر والحجاز آمن, ومن أراد الحج فلا يتأخر.
أما عن الدورة الثانية فكانت تتم في النصف من شوال وتسمي الدورة الشوالية, وكانت مثل الدورة الأولي إلا أنه كان يرجع بالمحمل من تحت القلعة إلي باب النصر ويخرج إلي الـريدانية للسفر ولا يتوجه إلي الفسطاط.
كما عني السلاطين والملوك بصناعة الكسوات والعمل علي إرسالها كل عام إلي الحرمين الشريفين, ففي عهد العزيز بالله الفاطمي 365هـ/975م كسيت الكعبة المعظمة بكسوة بيضاء اللون, وفي عهد الحاكم بأمر 386هـ/996م كسيت الكعبة بالقباطي البيض, وفي عصر الدولة الفاطمية وصل إلى الكعبة المشرفة كسواها من جهات أخرى غير بغداد والقاهرة, مثل صنعاء ومراكش, ففي عام 455هـ/1063م إستولي أبو كامل على بن محمد الصليحي على اليمن وخلع طاعة العباسيين وخطب فيها للخليفة المستنصر بالله الفاطمي 427هـ/1036م بمصر, وقد استطاع الصليحي أن يدخل مكة في ذلك العام وعامل أهلها أحسن معاملة وكسى الكعبة بثياب بيض.
وقد عريت الكعبة المشرفة من كسوتها عام 642هـ/1244م بسبب ريح شديدة فأراد الملك المنصور صاحب اليمن كسوتها, فقال له منصور بن منعه البغدادي شيخ الحرم:"لايكون هذا إلا من جهة الديوان", يعني الخليفة العباسي, ولم يكن عند ابن منعه شيء ليكسي به الكعبة, فاشترى ثياباً بيضاء وصبغها بالسواد وكسى بها الكعبة.
أما في العصر المملوكي فقد حرص سلاطين المماليك منذ أن سيطروا على الجزيرة العربية على إرسال كسوة الكعبة سنوياً, في إطار حرصهم على الواجهه الدينية لحكمهم, والظهور بمظهر حماة الحرمين الشريفين, ويذكر أن الكسوة كانت تتضمن مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام أيضاً لوقوعه بجوار الكعبة, وستر ضريح الرسول صلّ الله عليه وسلم, وكلها مصنوعه من الحرير المذهب النفيس.
وفي العصر المملوكي أصبحت الكسوة عبارة عن ثياب من حرير أطلس, سوداء حالكة شعار العباسيين ومبطنة بالكتان وتكتب فيها آيات الحج مطرزة بكتابة بيضاء في النسيج ذاته, وفي أعلاها مكتوب بالتطريز إسم السلطان, ثم تحولت الكتابات إلي اللون الذهبي منذ عصر السلطان الظاهر فرج بن برقوق حتي الآن.
ولدينا سجل يبين أن الكسوة كانت تصنع في دار الطراز بالأسكندرية وعند مشهد الإمام الحسين بالقاهرة أيضاً وكان لها إدارة خاصة لصنعها تسمى نظارة الكسوة ويشرف عليها ناظر الكسوة.
وأصبحت الكسوة يرسلها سلاطين دولة المماليك, وأول من كساها من ملوك مصر بعد زوال الدولة العباسية الظاهر بيبرس في عام 661هـ/1262م, فكسا الكعبة وسير القافلة من البر عن طريق سيناء بدلا من صحراء عيذاب, وقد ظل السلاطين من بعده يرسلون الكسوة.
وكان سلاطين المماليك يرون أن هذا شرف لا يجب أن ينازعهم فيه أحد حتى لو وصل الأمر إلي القتال, وكانت ثمة محاولات لنيل شرف كسوة الكعبة من قبل اليمن وفارس والعراق ولكن سلاطين المماليك لم يسمحوا لأحد أن ينازعهم في ذلك, وللمحافظة على هذا الشرف أوقف الملك الصالح إسماعيل بن الملك الناصر محمد بن قلاون في عام 751هـ, وقفاً خاصاً لكسوة الكعبة الخارجية مرة كل سنة وهذا الوقف كان عبارة عن ضيعة تسمي "بيسوس" وهي الآن عبارة عن ثلاث قري "أبيسوس, وسندبيس, وأبوالغيث" بمحافظة القليوبية وكان يتحصل من هذا الوقف على 8900 درهم سنوياً, وإستمر كذلك حتى أضاف السلطان سليمان القانوني فى عهده 7 قري أخرى حتى تفي بإلتزامات كسوة الكعبة المشرفة, واستمر سلاطين دولة المماليك في إرسال الكسوة كل عام بشكل أكثر تنظيماً حتي آخر سلاطينها طومان باى ومعها الهبات والمعونات لأهل مكة والمدينة في عام 922هـ/1516م.
والواقع أن هذا الحرص والإهتمام لم يكن ينطوي على مجرد تكريم البيت الحرام فحسب, بل أن هناك مغزى سياسي عميق إلى جانب المغزى الديني, ويستند هذا المغزى السياسي إلى أن سلاطين اعتبروا أن التفكير في كسوة الكعبة تحد لمصر وسلطانها, وهذا يضفى على الكسوة معني سياسياً ظاهراً, فالذى يكسو الكعبة هو الأقوي في نظر المسلمين فاعتبرت الكسوة على هذا النحو مظهراً من مظاهر السيادة والقوة السياسية.
ومما قد يدلل على وجهة النظر هذه ما فعله السلطان برسباي مع ملك الدولة التيمورية شاه رخ بن تيمور لنك عام 834هـ/1430-1431م, إذ أراد الأخير أن يسمح له السلطان برسباي بكسوة الكعبة فرفض برسباي طلبه بحجة أن إمتياز تقديم الكسوة يعود منذ القدم لحكام مصر الذين أقاموا أوقافاً خاصة لهذا الغرض, وطبيعي أن يرفض المماليك إشراك التيموريين في الإشراف على الأماكن المقدسة بسبب الأهمية السياسية التي يعنيها الأشراف علي تلك الأماكن.
وينطبق الكلام السابق بالمثل على السلاطين العثمانيين, فقد حرصت الدولة العثمانية على إرسال المحمل والكسوة كل عام وكذلك الإهتمام بقافلة الحج كان ينطوى علي المغزي الديني والسياسي .
أما المغزي السياسي فهو يستند إلي أن الدولة العثمانية اعتبرت إنفرادها بإعداد قوافل الحجيج الأربع كل عام مظهراً من مظاهر قوتها السياسية وتأكيداً لزعامة السلطان العثماني, ومما يدلل علي ذلك رفضها في إتفاقية السلام المعقودة مع نادر شاه عام 1159هـ/1746م, الإعتراف بقافلة حج خاصة بالحجاج العجم تنطلق بهم من بلاد فارس إلى الحجاز لأن العثمانيين وجدوا في ذلك انتقاصاً لسيطرتهم وإشرافهم على الأماكن المقدسة.
وعلي ذلك اهتمت الدولة العثمانية اهتماماً بالغاً بإعداد قوافل الحجيج والأشراف عليها لاسيما بقافلة الحج المصري نظراً لأن العلاقة بين مصر والحجاز كانت تمثل وضعاً منفرداً لما كانت تقوم به مصر من رعاية مالية وإقتصادية لسكان الحجاز وأشرافه.
وكانت الدولة العثمانية تشرف على أربعة قوافل حج رئيسية, وكانت هذه القوافل من حيث الأهمية العددية هي قافلة الحج الشامي وتضم حجاج بلاد الشام والجزيرة وكردستان وأذربيجان والقوقاز والقرم والأناضول والبلقان وحجاج استنبول نفسها, وكان عدد أفرادها يتراوح مابين 30000 إلي 35000, ثم قافلة الحج المصري وتضم حجيج مصر وشمالي أفريقية , ثم قافلة الحج العراقي وتضم حجاج العراق وفارس, ثم قافلة الحج اليمني وتضم حجيج اليمن والهند وماليزيا وأندونسيا وغيرها.
وفي عهد محمد على باشا توقفت مصر عن إرسال الكسوة بعد صدام سياسي مع الوهابية في 1222هـ/1807م, ولكن أعادت مصر إرسال الكسوة في 1228هـ, وقد أسست دار لصناعة الكسوة بشارع "الخرنفش" في حي الجمالية بالقاهرة في عام 1233هـ/1812م, ومازالت هذه الدار قائمة حتي الآن, واستمر العمل بها حتي عام 1962م, إذ توقفت مصر عن إرسال كسوة الكعبة لما تولت المملكة العربية السعودية شرف صناعتها.
|