بقلم الدكتور/ إبراهيم حسن الغزاوي
خبير دولي في إعادة تهيئة المؤسسات وإدارة مراحل الانتقال
محاضر القانون الدولي وحقوق الإنسان
تنتابني ، مثل غيري، من حين لآخر بعض التجليات المستترة ...ويحزنني أنها من حين لآخر....لأننى كلما واتتني تلك التجليات أو حتى بعضها القليل ..أشعر بحجم النعم ..وعظيم العطايا ...وأشعر أيضا بالتقصير في حق نفسي ...لأنني لم أرها إلا لوقتها ...وأنني ظللت طويلا لا أنتبه إليها ....ربما هي أمور المعايش قد أرهقتني ..مثلما أرهقت غيري ...ربما أكثر قليلا أو كثيرا ..وربما أقل قليلا أو كثيرا من الملايين غيري من أبناء جلدتي...لا بأس ....أسميها تجليات لأنها تومض في عقلي برحيق طيب من الإقرار بالنعم ....وهي تجليات لأنها من نعم الله المقترنة بالعقل ...ثم إنها تجليات لأنها ليست مستديمة ..فهي تأتي وتختفي...تومض وتنطفيء...وكأنها قبس من النور بدا في ومضة ثم استدار ...وولى ..كثيرا ما تمنيت أنها لا تولي ..لكنني لا أملك لها قسرا ولا جبرا ...فلا أدري كيف أبقيها ..فلا تتوارى ...ولعل حكمة الله في الخلق أن تكون كذلك ...نعم ..الله يعلم ....ربما لو استدامت لفقدت بريقها الأخاذ في النفس ...فتمسي بلا أثر ...أو تصبح أمرا معتادا ....فلا تكاد تبين منفردة أو مكتسية بما اعتادت أن تأتي به من ثوب الرونق والندرة والبهاء الملتبس في ندرتها وتكرار ظهورها واختبائها...ولذلك أنا أرضى بها ...وأقنع ..لكنني لا أملك لرغبتي في ديمومتها منتهى ...ربما لأنني أدرك أنها من عطايا الرحمن القيمة في أثرها ...وهي لا تتغير في وتيرتها ...لتظهر وتختفي .... وأنا لها مازلت وسأظل ..حامدا وشاكرا ومقرا بفضلها على نفسي...
والصداقة من تلك التجليات القيمة ... أحد المعاني الذاخرة والثرية في وجودنا الإنساني ... ومع كونها كذلك فليس الأغلب منا يقر لها عرفانا أو يعطيها قدرها توقيرا...والصداقة لها في القرآن نصيبا ليس هينا، ومثالا لنتأمل الآية الكريمة : "إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)التوبة، حيث شكلت الصحبة الطيبة لسيدنا أبي بكر نعم الدعم المعنوي والمادي والطمأنينة للنبي صلى الله عليه وسلم ...
ثم إنني لا اغفل مايقوله الحكماء، وهو كثير في شأن الصداقة، وأعجبتني مقولة فريدريش نيتشه ، الفيلسوف والشاعر والمثقف الألماني الأبرز ، عن قيمة الصداقة وأهميتها، حيث ربط بها مآل أهم مواثيق الترابط الإنساني ، وهي الزواج، بقوله :"أنه ليس عدم وجود الحب ولكن عدم وجود الصداقة هي التي تجعل الزواج تعيسا” ، فهو يرى الصداقة مصدرا للسعادة والرضا بين البشر، للحد الذي يجعل فقدها بين الناس سببا للتعاسة، حتى لو كان الآمر يتعلق بزوجين ... وهي قيمة عميقة للصداقة، إذ جعلها حتى في علاقة الزوجية، بما توفره لطرفيها من موجبات السعادة والمتعة والمودة ، تفقد بهجتها، وتتحول للتعاسة ، لو خلت من الصداقة...
والصداقة قيمة إنسانية نفيسة، بمحتواها من المفهوم والمضمون والمسار ....وقد تمعنت فيها ..فوجدتها فيض من النعم السلسة الرقيقة ...تنساب في تلقائية فتجمع الناس سويا ...لأنها معنى رقيقا من معاني التراحم التي أودعها الخالق نفوس الخلائق...نعم ...حتى الحيوان والطير وغيرهم من الخلائق ..تنعم بمفهوم الصداقة..ربما لا تدركه بحواسها العاقلة ..فليس لديها عقل الإدراك الذي منحه الله للإنسان ... لكنها تدركه بعقل فطرة التكوين نفسها، والاحتياج الطبيعي الذي وضعه الله فيها لغيرها، سواء للصحبة او للتزاوج أو للمعايش المشتركة....فنرى الدواب وقطعان الحيوانات في الغابات تميل للعيش وللسير جماعات، ونادرا ما نجدها فرادى...ولكن بالنسبة لبني البشر...الصحبة لها فلسفة معقدة جدا...لأنها مرتبطة بتكوين الشخصية نفسها، وبعقل صاحبها ، وبظروف بيئته، فهي متناسبة مع كل ذلك، تتسع وتضيق، طبقا لكل ذلك مجتمعا...لكنها في النهاية تفرض نفسها بعقل الإنسان عليه، وعلى وجوده الإنساني...
واحتياجنا للصديق ليس من قبيل الرفاهية، بل هي حاجة تشكل جزء مكمل للوجود الإنساني المتوازن...ولذلك نجد الابتعاد عن الحياة الاجتماعية السوية، وفي قلبها الصداقة، مقدمة للإصابة بأمراض نفسية متنوعة، ليس أقلها شأنا الانعزالية والانطوائية، وهي قد تكون تقدمة لأمراض أخرى كالاكتئاب وخلافه..لأن فراغ النفس الإنسانية من الوجود الإنساني الفطري المصاحب لها يخلق فيها فجوة عميقة، لا تعوضها البدائل المتعارف عليها، مثل المال أو التليفون المحمول والعاب الفيديو جيم أو وسائل التواصل الاجتماعي نفسها، على الرغم من كونها قد احدثت قدرا من الإدمان للجميع ، وخاصة قطاعات الشباب ، فأصبحنا نقضي معظم أوقاتنا ونحن نعبث بالموبايل أو نتبادل التواصل المتنوع مع اصدقاء الفيسبوك او غيره...ولذلك فخطورة وسائل التواصل الحديثة ، كالفيسبوك وغيره، أنها أخذت من الشخصية الإنسانية ميلها الفطري للتواصل الطبيعي، المادي منه والمعنوي، وجعلته ينحاز تدريجيا ، وبشكل غير مدرك بالحواس نسبيا، إلى مرحلة مصادقة الآلة..أو السوفت وير ...وهي نوع من الصداقة الحديثة التي أحدثت عطبا شديدا بالصداقة التقليدية الطبيعية...التي تظل لها التأثير الإيجابي الأهم في وظيفة الصديق، وهي ألفة النفس واطمئنان الصحبة، ويقين الدعم والمؤازرة من الآخرين وقتما نريد...
والصداقة منها الطيب ومنها ماهو غير ذلك، فالطيب من الأصدقاء ، فيه تتجلى نعمة الصداقة مجسمة، فهو أخ قريب لنا، يحس بآلامنا ونحس به كذلك، نجده في الشدة سندا، مثلما نجده في اليسر أيضا، ناصحا وقريبا منا بقلبه وفكره ...والصديق الطيب هو الذي يحرص على صديقه، فلا يورده موارد الهلكة، ولا يلقي به في مواضع الضعة والسقوط، بل يكون معه في الخير، فيرفعه ويرتفع به... وهو أيضا يفرح لنجاحنا ، ولا يحقد على ما نقدمه من نجاحات أو نحققه من إنجازات، بل نجده سعيدا ومبتهجا ... وقد كان المثل عاكسا لذلك عندما قال " رب أخ لك لم تلده أمك" ، فالصديق قد يصل بقربه لنا لمرتبة الأخ والحبيب والخل والرفيق ...فترتفع بيننا الحجب ، وتنساب حياتنا بيسر في وجوده، فلا نشعر منه بغدر، أو نرى في قربه تهديدا لنا أو انتقاصا من سعادتنا، على العكس ..تتكامل في وجوده مشاعر السعادة....ولأنه كذلك...فنحن أيضا يجب أن نكون كذلك معه، فلا نقابل وده بغير الود، ولا رحمته إلا بمثلها أو يزيد..ولو استشعرنا في الصديق شيئا أثار حفيظتنا، فلا ضير أن نصارحه، فيما بيننا، ولكن بالحسنى، وبما لا يضعه موضوع الحرج، فلا نجرحه بنصيحتنا، ولا نحط من قدره أمام الناس بمشورتنا، حتى ولو كانت لمصلحته...حيث يرتقي بنا أن يكون مسار الصداقة بيننا يحمل له تقديرا واحتراما.... فليس هناك ما يبرر التعنت معه، أو تعمد التقليل منه، أو النيل منه ولو بالدعابة أمام الناس، إذا كان في ذلك ما يتسبب له في الحرج..أو يقلل منه أمام الغير...الصديق الطيب نعمة...هي من عطايا الخالق لنا..لتلين بوجوده في حياتنا قسوة الحياة ، أو حتى قدرا منها ...فلا يجب أن نفرط فيه ... حتى وإن أخطا عفويا في حقنا، نغفر له ..ونحن نعلمه، فنلتمس له العذر ..فربما لم يقصد..أو ربما هو في ضيق ولا يتكلم ، فيكون علينا التفهم والتأني، وربما الاقتراب منه اكثر، وليس النأي بجانبنا عنه ...
وبالطبع فكل منا لديه من الأصدقاء الكثير...ولكن الصديق الحق والطيب ، ربما ليس بنفس الكثرة...فإن وجدناه يجب أن نعض عليه بالنواجذ...ومن منا ليس لديه هذا النوع من الأصدقاء فليبحث عنه، فلو وجده فقد أوتي خيرا كثيرا...اللهم ارزقنا الصداقة الطيبة ... |