بقلم دكتورة/ نورا عبد المهيمن
الخليفة الأموي التاسع يزيد بن عبدالملك بن مروان الأموي القرشي أمير المؤمنين والملقب بيزيد الثاني, المولود بدمشق عام 72هـ/691م.
بويع له بالخلافة بعد عمر بن عبد العزيز في شهر رجب عام 101هـ/720م, وهو ابن تسع وعشرين سنة بعهد من أخيه سليمان علي أن يكون الخليفة بعد عمر, وكان قبل استخلافه يكثر من مجالسة العلماء, وحاول أن يسير علي نهج الخليفة عمر بن عبد العزيز إلا أنه لم تتوفر له بطانه صالحة, وكان يزيد من أصحاب المرؤات مع الإفراط في طلب الملذات, فانحرف حتي أن شخصيته مَثَّلت الشخصية الأولي في الخلفاء الضعاف.
وقد أبرزت كتابات المؤرخين شخصية الخليفة يزيد الثاني بصورة عبثية منصرفة إلي مجالس الغناء والجواري أكثر من ارتباطها بقضايا الناس ومشاكل الدولة, وقد ذكرت روايات غير مؤكدة عنه بما لايليق بسبب عشقه للجاريات غير أن بعض المؤرخين يرفضون هذة الروايات ويردونها إلي نقمة العباسيين المتمردين علي الأمويين وخاصة في هذة الفترة من أواخر حكم الأمويين وأنها مدسوسة ومغرضة . وقال عنه ابن كثير" فما كان به بأس, لكن الواضح أن درايته السياسية وكفائته الإدراية لم تكن تؤهله لملء مكانه وقيادة الدولة أو تحقيق العظيم من المنجزات والفريد من السياسات التي تلفت إليها الأنظار, فكان يزيد حاكماً عادياً ليس سياسياً مقتدراً كمعاوية, أو إدارياً ناجحاً كعبد الملك, أو مصلحاً كعمر, كما لم يكن سيئاً كإبنه الوليد بن يزيد, ويمكن القول أن توليه الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز جعل المفارقة بينه وبين عمر واضحة كبيرة, وأدت إلي عتامة صورته لدي جمهرة المسلمين".
كما جاء في مروج الذهب للمسعودي, أن أبو حمزه الخارجي كان إذا ذكر بني مروان وعابهم ذكر يزيد بن عبد الملك فقال: أقعد "حبَّابة" عن يمينه و"سلاَّمه" عن يسارة ثم يشرب إلي أن يسكر ويغنياه فيطرب ثم يقول: أطير أطير, فيقولان : إلي من تترك الخلافة؟ ,فيقول: إليكما, وإني أقول له طر إلي لعنة الله وأليم عذابه.
و"حبَّابة" جارية من جواري المدينة, تعلمت أصول الغناء عن ابن سريج وابن محرز ومعبد وجميلة, فتنت أهل المدينة بغنائها وخلاعتها وعرفت بالدلال, كانت تملك من مواهب الإغراء ما تفتن به العابد, خبيرة بطبائع الرجال ووسائل تملكهم, وكانت تسمي العالية, فلما إشتراها الخليفة يزيد بعد أن فتنته سماها حبَّابة, وكانت حبَّابة أول جارية عربية فتنت خليفة عربياً.
وكان قد اشتراها في زمن أخيه سليمان بأربعة ألاف دينار من عثمان بن سهل بن حنيف, فلما بلغ سليمان ذلك قال: لأحجرن عليه, فبلغ يزيد قول سليمان فباعها ثم إشتراها رجل من أهل أفريقية.
فلما ولي الخلافة، قالت له زوجته سعده يوما: يا أمير المؤمنين هل بقي في نفسك من أمر الدنيا شئ؟ قال: نعم حبَّابة, فسكتت عنه وعلمت أنه لابد طالبها ومشتريها, فأرسلت من إشتراها له بمال عظيم وألبستها وزينتها وأجلستها من وراء ستار, وقالت له: يا أمير المؤمنين هل بقي في نفسك من أمر الدنيا شئ؟ قال: أو ما أخبرتك؟ فأمرتها بالغناء, فلما سمعها إهتز وطرب وقال هذا غناء أجد له في قلبي وقعا فما الخبر؟ فكشفت الستار وأظهرتها له وقالت هذه حبابة وهذا غناؤها وأخلته بها وتركته وإياها, فغلبت علي قلبه وعقله وعظم قدر سعده عنده, ويقال أنها أخذت عليها قبل أن تهبها له أن توطئ لإبنها عنده في ولاية العهد وتحضرها ما تحب إذا حضرت , وقيل أن أم الحجاج أم الوليد بن يزيد هي التي إشترتها له وأخذت عليها ذلك فوفت لها بذلك.
وقد لعبت حبابة دوراً خطيراً في السياسة والمجتمع وبلغت من المكانة والتأثير على الخليفة أنها كانت تولي وتعزل من تشاء من الولاة, وانقطع يزيد بسببها إلي حياة الشرب والغناء واستمات في غرامها وغنائها, وكانت إذا غنته يطرب ويصيح ويضع بالوسادة علي رأسة ويدور في الدار وهو يرقص ويقول أطير أطير.
وقيل أن أخوه مسلمة دخل عليه يوماً معاتباً إياه علي الإلحاح في الشرب والغناء وقال له: يا أمير المؤمنين إنك وليت بعقب عمر بن عبد العزيز وعدله, وقد تشاغلت بهذه الأَمة عن النظر في الأمور والوفود ببابك, وأصحاب الظلمات يصيحون وأنت غافل عنهم, وتركت الظهور للعامة والجمعة الجامعة, واحتجبت مع هذه الجارية, فقال: صدقت والله وهم بترك الشرب ولم يدخل على حبَّابة جمعة كاملة لا يراها ولا يدعو بها.
فطلبت حبَّابة من الأحوص أن يقول أبياتاً في ذلك وقالت له إن أنت رددته عن رأيه فلك ألف دينار, فقال الأحوص:
ألا لا تلمه اليوم أن تبلدا *** فقد غلب المحزون أن يتجلدا
بكيت الصبا جهدي فمن شاء لامنى *** ومن شاء آسى فى البكاء وأسعدا
وإنى وإن فندت فى طلب الغنى *** لأعلم أنى لست فى الحب أوحدا
إذا أنت لم تعشق ولم تر ما الهوى *** فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا
فما العيش إلا ما تلد وتشتهى *** وإن لام فيه ذو الشنان وفتدا
فلما كان يوم الجمعة قالت لبعض جواريها: إذا خرج أمير المؤمنين للصلاة فأعلمينى, فلما أراد الخروج أعلمتها, فتلقته والعود في يديها فغنت البيت الأول فغطي وجهه وقال مه لا تفعلى, ثم غنت: وما العيش إلا ما تلد وتشتهى ... , فعدل إليها وقال: صدقتى والله, فقبح الله من لامني فيكي , يا غلام مُر مسلمة أن يصلي بالناس, وقام معها يشرب وتغنيه وعاد إليها أشد عشقاً وولعاً.
ثم أراد يزيد أن يخلوا بحبَّابة في قصر كان قد أعده لها خصيصاً وقال: قد زعموا أنه لا تصفو لأحد عيشة يوماً إلي الليل إلا يكدرها شيء عليه وإنى سأكذب ذلك, ثم قال لمن معه إذا كان غداً فلا تخبروني بشيء ولا تأتوني بكتاب ولا تدخلوا علي أحد, ثم خلا بحبَّابة يلهو ويلعب معاها حتى آخر النهار ثم أمر بطبق من العنب وقيل رمان وبينما هما يأكلان إذ رماها بحبة عنب وهي تضحك فشرقت بها وماتت, فجزع عليها يزيد لايصدق أنها ماتت ينوح ويبكي إلتياعاً وصدمة وطاش عقله واختلّ, فمكث أياماً لا يدفنها يقبّلها ويرشفها وهي ميتة حتي أنتنت وجيفت, فاجتمع بنو أميه وعنفوه وعابوا عليه مايصنع, وقالوا: قد صارت جيفة بين يديك! فأذن لهم في غسلها ودفنها, فلما دفنت أقام عند قبرها هائماً يردد :
فإن تسل عنك النفس أو تدع الصبا*** فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد
وكل خليل راءني فهو قائل *** من أجلك: هذا هامة اليوم أو غد
وقيل أنه جزع عليها في بعض أيامة فقال: إنبشوها حتى أنظر إليها, فقالوا له تصير حديثاً!! فرجع ولم ينبشها, وروى المدائني أنه إشتاق إليها بعد ثلاثة أيام من دفنها فقال لابد أن تنبش, فنبشت وكشف له عن وجهها وقد تغير تغيراً قبيحاً, فقيل له يا أمير المؤمنين إتق الله ألا تري كيف قد صارت؟, فقال: ما رأيتها قط أحسن منها اليوم أخرجوها, فجاءه مسلمة ووجوه أهلة فلم يزالوا به حتي أزالوه عن ذلك ودفنوها, وانصرف إلي منزله معتكفاً لا يكلم أحداً وكمد كمداً شديدا وقيل أنه مرض بالسل حتي مات بعدها بسبعة عشر يوماً ودفن إلى جوارها, ولا يُعلم خليفة مات عشقاً غيره وكانت خلافته أربع سنين وشهراً علي المشهور وقيل أقل من ذلك.
صدق الإمام علي بن أبي طالب عندما قال أن العشق مرض ليس فيه أجر ولا عوض.
|