بقلم الدكتور/ عادل عامر
مدير مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية
أن مصر دولة محدودة الموارد وتواجه حاليا نقص مياه الري في جميع الترع، دائما مفهوم الأمن المائي يرتبط بمفهوم الميزان المائي فالأمن المائي هو الوضعية المستقرة لموارد المياه والتي يمكن الاطمئنان إليها، حيث يستجيب فيها عرض المياه مع الطلب عليها، غير أنه عندما لا يستطيع عرض المياه أن يلبي الطلب عليها فإن مستوي الأمن المائي ينخفض وبالعكس عندما يكون المتاح من موارد المياه أكثر من الطلب عليها عندئذ يكون مستوى الأمن المائي مرتفعاً، لان مشكلات مياه الشرب الموجودة في معظم أحياء القاهرة الكبرى كالهرم والقاهرة الجديدة من عدم توافرها سواء الصالحة للشرب أو الاستخدام الآدمي أو الري، لان هناك نقص شديد في مياه الشرب بالساحل الشمالي".
لذلك فإننا نجد هنا أن مفهوم الأمن المائي يعتبر مفهوم نسبي من مكان لآخر. ويعتمد مفهوم الأمن المائي كمفهوم مطلق على أساس جوهري هو الكفاية والضمان عبر الزمان والمكان أي أنه يعني تلبية الاحتياجات المائية المختلفة كما ونوعا مع ضمان استمرار هذه الكفاية دون تأثير من خلال حماية وحسن استخدام المتاح من مياه، وتطوير أدوات وأساليب هذا الاستخدام، علاوة على تنمية موارد المياه الحالية، ثم يأتي بعد ذلك البحث عن موارد جديدة سواء كانت تقليدية أو غير تقليدية
يعتبر نهر النيل هو النهر الوحيد من أنهار إفريقيا الدولية الذي ينحدر من الجنوب إلى الشمال وصولاً إلي مصر رابطاً إفريقيا شمالها بجنوبها. كما يعتبر مهداً لأقدم الحضارات الإنسانية، كالحضارة الفرعونية. كل هذه الخواص أعطت النيل وحوضه وزناً تاريخياً وبعداً حضارياً خاصاً لأهميته الجيوسياسية الفريدة ، ونظراً للأهمية المطلقة لنهر النيل فقد اهتمت الدولة المركزية في مصر منذ أقدم العصور بمتابعة النهر والبحث عن منابعه ولعل هذا ساعد على تعميق انتماء مصر الأفريقي ونقل حضارتها إلى كل مكان من أرض القارة لاسيما في مروي السودان وأكسوم الحبشة بإثيوبيا. وتخشى مصر من تأثيره على إمداداتها من المياه الأمر الذي قد يؤدي موت جزء من أراضيها الزراعية الخصبة ويضغط على عدد سكانها الكبير، والذي أشارت الإحصاءات مؤخرا إلى أن عددهم وصل إلى 104 ملايين نسمة. فما هو هذا السد الذي يثير تلك المخاوف في مصر؟ سد النهضة ليس سدا واحدا بل سلسلة من السدود لأن مياه النيل الأزرق تحمل 136.5 مليون طن من الطمي سنويا وهي كمية كفيلة بردم السد في 50 عاما وهو زمن قصير للغاية في عمر السدود، لذلك خططت إثيوبيا لإقامة أربعة سدود متتالية خلف النهضة (وهو معلن وليس سرا) ليقوم كل سد بحجز كمية من الطمي بما يخفف من كمية الطمي الواصلة لسد النهضة وتطيل عمره إلى 200 عاما ،، هذه السدود الأربعة ستصل سعتها التخزينية إلى 200 مليار متر مكعب من المياه والتبخير منها فقط سيقارب نصف حصة مصر من المياه!!، بينما كل تدفقات النيل الأزرق كنهر صغير لا تزيد عن 49 مليار متر مكعب سنويا!! فهل يستطيع هذا النهر الصغير ملئ أربعة بحيرات لسدود ضخمة في إثيوبيا وبحيرة كبيرة للسد العالي في مصر!! هذا التخطيط الكاره والكريهة لإثيوبيا لا يعني إلا حتمية حدوث حروب المياه والتي سيتحملها الجيل القادم.
اذن الموقف المصري واضح وثابت ، والاهم من ذلك كله انه موقف قوي ، بقيادة سياسية ترفض اقامة اي سدود ، وقوة عسكرية تستطيع اجهاض اي عمل مماثل ، وقدرة معدومة علي توجيه ضربة مضادة لمصر ، او حتي التصدي لهجمة يشنها المصريين ، فكان لابد منطقيا من اضافة عامل جديد للمعادلة ، يهمه التأثير والضغط علي الدولة المصرية ، ولا يوجد انسب من اسرائيل للقيام بذلك ، فهي العدو الاول لمصر ، وتدرك جيدا ان مصر هي عدوها الاول واخطر تهديد عليها ، وفي العام 1989 تحديدا اعادت اثيوبيا علاقتها بإسرائيل رسميا . مصر تخوض فعليا الان معركة سياسية ، قسمها خبراء الخارجية المصرية الي قسمين الاول معلن ، والثاني في الخفاء ، وتركز مصر في تحركاتها علي الدول الاوروبية والدول المانحة ، في حملة تشنها مصر حاليا ضد بناء سد النهضة الاثيوبي بمواصفاته الحالية لحماية حقوق مصر التاريخية في مياه النيل ، بعد أن أعلنت القاهرة فشل المفاوضات الفنية مع الاثيوبيين ، المعلن هو اجتماعات وزيري الري والخارجية المصريين مع نظرائهم في دول حوض النيل ،
والشق الثاني الذي يدور في الخفاء هو ماي قوم به السفراء المصريين في هذه الدول والدول المانحة للسد ، وتركز مصر علي جزئية ان دعم بناء السد لأنه قد يؤدي الي مزيد من الصراع وعدم الاستقرار في منطقة حوض النيل وهو ما تسعي مصر لتجنب حدوثه . والخطير في الأمر أن النظام الإثيوبي يجعل من بناء هذا السد هدفا قوميا للإثيوبيين، رغم تأكيد أن الاستمرار في بناء السد، بالمواصفات المعلنة، قد يشكل تهديدا لحياة المصريين، وفناء لحضارتهم، على أساس أن نهر النيل المصدر الوحيد لحياتهم. وإذا كانت أزمة سد النهضة قد كشفت عن تراجع الدور المصري في إفريقيا، فإنها في المقابل قد أكدت حتمية العودة للقارة الإفريقية مجددا، ليس فقط لمجرد تأمين مصادر المياه، ولكن بحكم كون إفريقيا امتدادا طبيعيا وتاريخيا لمصر والعرب جميعا. ولكن إفريقيا الآن تغيرت، فقد أصبحت بيئة تنافسية لبعض القوي الكبرى (الولايات المتحدة، والصين)، والقوي الصاعدة (البرازيل، والهند)، والقوي الإقليمية (إيران، وتركيا، وإسرائيل)، وهذا يفرض تحديا أمام صانع القرار.
كما أن إفريقيا قارة واعدة في المجال الاقتصادي، حيث أصبحت من أكثر وأسرع مناطق العالم نموا، وناتجها السنوي تجاوز مبلغ 1.6 تريليون دولار عام 2008، وأصبحت مقصدا لحركة الاستثمارات العالمية. ومن ثم، فإن كل المتغيرات تحتم ضرورة العودة لإفريقيا بإعطائها الأولوية المناسبة في استراتيجية العمل الخارجي. كما أن إعادة صياغة العلاقات المصرية – الإفريقية تحتاج بالضرورة إلى حشد كافة الخبرات المصرية في التعامل مع إفريقيا، واتباع وسائل التفاعل الإيجابي والقدرة على بناء الثقة المتبادلة والمصالح المشتركة مع الأشقاء في إفريقيا، من خلال ما تبقي لمصر من رصيد إيجابي لدي الكثير من الشعوب الإفريقية. كما يجب اتباع المنهج الصحيح في التعامل مع أزمة سد النهضة بما يحقق المصالح المتبادلة بين الدولتين، ويحول دون فرض أمر واقع على مصر، ولا يحرم إثيوبيا من تحقيق خططها التنموية، لأن أدوات وآليات التعامل التي ستتبعها مصر في هذه الأزمة ستؤثر في كل علاقاتها بالدائرة الإفريقية، ويمكن اللجوء للوساطة من قبل بعض حكماء إفريقيا، وسيكون ذلك محل تقدير من مصر لهم. وفي ظل المتغيرات الإقليمية والدولية التي تمت من خلال التطورات المتلاحقة التي شهدها العالم خلال العقدين الماضيين،
فإن مصر تواجه تحديًا حقيقيًا وهو دخول فاعلين جدد إلى منطقة حوض النيل بما قد يعنيه ذلك من نشوء صراع بينهم خلال السنوات المقبلة، إذ يمكن أن تخرج القضية عن النطاق الإقليمي ويصبح للأطراف الخارجية دور تجاهها، ومن ثم ظهور أعباء إضافية على عاتق صانع القرار المصري على الرغم من نفي معظم المسئولين المتخصصين بالمياه في مصر وإثيوبيا والسودان وإسرائيل حول مدى وجود دور إسرائيل في منابع النيل كما ملاحظ في تصريحات المسئولين أنه ليس هناك أيد خفية لإسرائيل وأن مصر متغلغلة في دول حوض النيل بما يكفي, إلا أن أثيوبيا تنفي الدعم الإسرائيل والتعاون في إنشاء السدود وفي مجالات أخرى . إلا أنه في مقابل ذلك فإن هناك وجهة نظر معارضة لذلك وترى أن هناك تغلغل مائيًا لإسرائيل في دول حوض النيل وتدعمه وهكذا يتضح الوجود الإسرائيلي والتغلغل المائي في حوض النيل وأنه ليس مجرد اتهامات معممة بل أن القول بالدور الإسرائيلي في الصراع المائي يستند إلى أدلة وأسانيد عديدة وسوف يتم التعرض لآثار هذا الدور في الصراع في سياق تحليلي للأزمة المائية بين مصر ودول حوض النيل وتقيم هذا الدور |