بقلم الدكتورة/ نورا عبدالمهيمن
وبدأ العد التنازلى أيام ويهل علينا شهر الصوم والبركات, وتملى الزينة الشوارع والطرقات, والفوانيس أشكال وألوان, ولمتنا فى إنتظار مدفع الإفطار, والتراويح والقيام وختم القرآن, والكنافة والقطايف وقمر الدين وياميش رمضان, وطبلة المسحراتى واصحى يا نايم وحد الدايم.. وقول نويت بكرة إن حييت.. الشهر صايم والفجر قايم.. اصحى يا نايم وحد الرزاق.. رمضــان كريــــــم السحور ياعباد الله.
عادات وتقاليد كتيرارتبطت بشهر رمضان الكريم وارتبطنا بيها جيل بعد جيل, أهمها وأجملها المسحراتى.
والمسحراتي هو ذلك الشخص الذى يجوب مختلف أنحاء المحروسة سائراً على قدمية وهو يحمل طبلة صغيرة يدق عليها بقطعة من الخشب أو الجلد لتنبيه المسلمين بوقت السحور منادياً على أصحاب البيوت والأطفال أو مردداً لبعض القصص والمعجزات والبطولات الإسلامية مثل رحلة الإسراء والمعراج وألف ليلة وليلة وأبو زيد الهلالى, ويلتزم الصمت عندما يمر على بيت فى حالة حزن لوفاة عزيز, وعادة مايصاحبه طفل صغير يحمل معه مصباح أو فانوس ليضيء لة الطريق.
وقد استهوت هذه الشخصية أحد المستشرقين الإنجليزى "إدوارد وليم لين" الذى زار مصر مرتين خلال القرنين الثامن والتاسع عشر الميلادى وشغف شغفاً كبيراً بعادات المصريين وتقاليدهم ودون ملاحظاته فى كتابه المعروف باسم "المصريون المحدثون .. شمائلهم وعادتهم" وتحدث به عن شخصية المسحراتى.
وقد حرص المسلمون منذ عهد الرسول صل الله عليه وسلم على عادة السحور لما فيه من بركة حض عليها الحديث الشريف "تسحروا فإن فى السحور بركة" ويعد "بلال بن رباح" رضى الله عنه أول مسحراتى فى التاريخ الإسلامى, فقد روى البخارى ومسلم أن رسول الله (ص) كان يقول: "إن بلالاً ينادى بليل فكلوا وإشربوا حتى ينادى بن أم مكتوم" وروى أحمد "لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن ليرجع قائمكم وينبه نائمكم", ومنذ ذلك التاريخ أصبح المسحراتى مهنة رمضانية خالصة مارسها العديد من المسلمين الأوائل أشهرهم "الزمزمي" رئيس المؤذنين بالحرم الشريف, الذى تولى مهمة إيقاظ المسلمين لتناول السحور فى مكة, والذى أشار إليه الرحالة العربي "ابن بطوطة" و"ابن جبير" عند زيارته إلى مكة عام 578هـ, قائلا بأن: "التسحير خلال رمضان كان يتم من المئذنة التى توجد فى الركن الشرقى للمسجد الحرام وذلك بسبب قربها من دار شريف مكة فيقوم المؤذن الزمزمى بأعلاها وقت السحور داعياً ومذكراً ومعه أخوان صغيران يجاوبانه ونظراً لترامى الدور بعيداً عن الحرم المكى حيث يصعب وصول صوت المؤذن كانت تنصب فى أعلى المئذنة خشبة طويلة فى رأسها عمود كالذراع وفى طرفيه بكرتان صغيرتان يرفع عليهما قنديلان من الزجاج كبيران لا يزالان يوقدان مدة التسحير, فإذا قرب تبين خطا الفجر ووقع الإيذان بالقطع مرة بعد مرة حط المؤذن المذكور القنديلين من أعلى الخشبة وبدأ بالأذان, وعندما يرى أهل مكة من سطوح ديارهم المرتفعة أن القنديلين قد أطفئا علما بأن الوقت قد إنقطع".
وفى بغداد عاصمة الخلافة العباسية كان "ابن نقطة" هو الشخص الذى يتولى ايقاظ الخليفة العباسي "الناصر لدين الله" لتناول طعام السحور, وكان ينشد شعراً شعبياً يسمى "بالقوما" من قوله قوما تسحر قوما, ولما مات المسحراتى "ابن نقطة" ذهب ابنه وكان له صوت جميل ووقف تحت قصر الخليفة "الناصر لدين الله" وأنشده قوله: يا سيد السادات .. لك فى الكرم آيات .. أنا ابن نقطة .. تعيش أبويا مات..
وأعجب الخليفة بحسن بيانه وشدة إيجازه فأحضره وخلع عليه الهبات ومنحه راتباً ضعف ما كان يعطيه لأبيه.
وكان نساء الطبقة المتوسطة فى العصر العباسي يضعن قطعة من النقود المعدنية داخل ورقة صغيرة ملفوفة ويشعلن النار بطرفها ثم يلقين بها من المشربية إلى المسحراتى حتى يرى مكانها وما أن يأخذها حتى يرتفع صوته بالدعاء لأصحاب البيت ويقرأ الفاتحة. ولم يكن المسحراتى يتقاضى أجراً طوال شهر رمضان بل ينتظر حتى أول أيام عيد الفطر فيمر بالمنازل ضارباً بطبلته المعهودة فيهب الناس إليه بالمال والهدايا والحلويات ويبادلونه التهنئة بالعيد.
وكان "عتبة بن إسحاق" والى مصر 228هـ أول من طاف شوارع القاهرة ليلاً لإيقاظ أهلها للسحور وكان يتحمل مشقة السير من مدينة العسكر إلى جامع عمرو بن العاص بالفسطاط على قدميه منادياً "عباد الله تسحروا فإن فى السحور بركة".
وفى العصر الفاطمى أصدر الخليفة الفاطمى"الحاكم بأمر الله" أمراً بأن ينام الناس مبكراً بعد صلاة التراويح وكان جنود الحاكم يمرون على البيوت يدقون الأبواب ليوقظوا النائمين للسحور.
أما فى العصر المملوكى فقد كادت مهنة المسحراتى أن تندثر لولا أن الظاهر بيبرس عمل على إحيائها بتعيين صغار علماء الدين فيها, ثم انتشرت بعد ذلك مهنة المسحراتى بطبلته الصغيرة التي كانت تسمى "بازة" وانتقلت هذة المهنة من مصر إلى مختلف بلدان العالم الإسلامى.
ولم تقتصر مهنة المسحراتى على الرجال فقط إذ عملت فى هذه الحرفة الرمضانية بعض النساء وقد أنشاء الشيخ "زين الدين بن الوردى" فى أحد المسُحرات فى ليالى رمضان قائلاً: "عجبت فى رمضان من مسحرة بديعة الحسن إلا أنها ابتدعت قامت تسحرنا ليلاً فقلت لها: كيف السحور وهذى الشمس قد طلعت"
أما فى العصر الحديث فقد أبدع الفنان "سيد مكاوى" والشاعر الكبير "فؤاد حداد" في تحفته الفنية المسحراتى, ولن يتخيل أحد وهو يسمع كلمات المسحراتى لفؤاد حداد أنه مسيحى الديانة أو كان مسيحياً واعتنق الإسلام وهو فى العشرينات من عمره,
مسحراتي.. منقراتي.. منجراتي.. دواليب زمان.. ماتشتكوشي دقة شكوشي.. جت فى الأوان.. يا ناس حبايب.. يا ناس جيران.. أنا قلبي دايب على البيبان..
والمشي طاب لى والدق على طبلي
ناس كانوا قبلي قالوا في الأمثال
الرجل تدب مطرح ماتحب
وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جوال
حبيت ودبيت كما العاشق ليالي طوال
وكل شبر وحته من بلدي حته من كبدي حته من موال
اصحي نايم وحد الدايم
السعي للصوم خير من النوم
اصحى يا نايم يا نايم اصحى
وحد الرزاق
|