الخميس, 28 مارس 2024

abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
الرئيسية
بانوراما
فرعونيات
بلاد وشركات
الحدث السياحي
سحر الشرق
سياحة وإستشفاء
أم الدنيا
حج وعمرة
أعمدة ثابتة
درجات الحرارة
اسعار العملات
abou-alhool

مبيض النحاس

مبيض النحاس
عدد : 05-2018
بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com


قبل عدة عقود مضت كانت الأوانى النحاسية هي الأكثر إستخداما وإنتشارا في الحياة اليومية للبيوت المصرية في الريف والحضر علي حد سواء حيث كانت تستخدم الأواني النحاسية في الطهي وتسخين وتخزين المياه والشرب وغسيل الملابس وحتى أوعية تقديم الطعام التي كانت تتكون من الوعاء وغطائه الذي يعمل على حفظ الطعام من التلوث بالإضافة إلى إحتفاظه بدرجة الحرارة أطول وقت ممكن كانت أيضا تصنع من النحاس والحقيقة كانت هذه الأواني رائعة الجمال وكانت الأواني النحاسية التي تستخدم في طهي الطعام توضع خلال عملية الطهي على نار الحطب مما كان يكسب الطعام نكهة خاصة ومذاق متميز حيث كان من مميزات الطهي على نار الحطب في الأواني النحاسية أنها تعمل على توزيع الحرارة على كامل الوعاء وبشكل متساو مما يعطي نكهة خاصة للطعام وكانت هذه الأواني تعد جزءا أساسيا من جهاز العروسين وخاصة في الريف حيث كانت قيمة النحاس تالية مباشرة لقيمة الشبكة الذهب التي يقدمها العريس لعروسه وحين يتقدم شاب للزواج بفتاة فالإتفاق علي النحاس كان يرتبط بالإتفاق علي الذهب فكما يتم تحديد عدد جرامات الذهب التي سيقدمها لعروسه كشبكة تتم مفاوضته أيضا علي كم قنطار من النحاس يمكنه أن يشتريها ويتضمنها الجهاز الذى كان يطلق عليه إسم الشوار وذلك لكي يتمكن أهل العروسين من التباهي بالذهب والنحاس معا أمام المجتمع والأقارب والجيران بأوانى الطهو والأباريق والصواني وطشوت الغسيل وغير ذلك من الآنيات النحاسية كما كان النحاس يمثل مخزونا إستراتيجيا للأزمات فإذا ألمت بالعائلات أزمات مالية فيكون الحل هو بيع جزء مما لديها من النحاس لأنها كانت تمثل وعاءا إستثماريا بلغتنا في أيامنا الحالية وكانت قيمة سعره غالبا ما تزيد وكان من الطرائف المرتبطة بالنحاس أن الريفيين كانوا إذا ضبطوا لصاً لدي أحدهم يقومون بتحميله نحاس البيت ويدورون به في شوارع القرية ليجرسوه ويفضحوه بفعل السرقة ومن هنا جاءت كلمة زفُّوه بالنحاس دلالة علي فضيحة من يضبط بجريمة ويفتضح أمره بين الناس .


وقد ظل النحاس بمكانته إلي أن تطورت الأواني المنزلية وظهرت الأواني المصنوعة من الألومنيوم والإستانلس ستيل وغيرها من المعادن رخيصة الثمن والسهلة الإستخدام والتنظيف بديلا عن الأواني المصنوعة من النحاس كما أصبحت غالبية العائلات العربية تحتفظ بالأواني النحاسية بغرض الديكور والزينة وإنتشرت الأطباق الخزفية والميلامين وتبدلت الأحوال جذريا وإنحصر دور النحاس في الإطار السياحي فقط وباتت تصنع منه تحف فنية وتماثيل ومباخر ذات طابع تراثي يشتريها الأجانب والسياح أو يستخدم ديكورا في بيوت الأثرياء كأواني الزرع اللامعة أو فى الفنادق لإضفاء جو شرقى في شهر رمضان مثل قِدرة الفول النحاسية والكبشة النحاسية وغيرهما .


وكانت مهنة تبييض النحاس مرتبطة بوجود وإنتشار الأواني النحاسية وهي مهنة تعتبر إحدى المهن التقليدية القديمة التي توارثها الآباء عن الأجداد جيلا بعد جيل فحافظت بشكل كامل على نسقها وإلتزامها بأدواتها على الرغم من التطور البسيط الذي طرأ عليها كدخول النار بالدرجة الأولى والمواد المنظفة القوية وقد كثر عدد الأشخاص الذين إمتهنوها في الماضي إلا أنه حاليا تراجع عدد مزاوليها وكادت المهنة أن تنقرض تماما لأنها تعتبر من المهن الخطرة وذات الصعوبة المرتفعة بالإضافة إلى إنخفاض عدد زبائنها وعلي الرغم من ذلك لا تزال هذه المهنة موجودة في بعض البلدان العربية مثل سوريا ولبنان والعراق وغيرها حتى وقتنا الحاضر .

وقد كان مبيض النحاس يتجول في القرى والمدن ويعلن عن قدومه لتأتيه النساء بأوعيتهن المجنزرة التي أصابها الصدأ وإخضر لونها ويحط رحاله في مكان فضاء لعدة أيام ويعمل بحماس في تبييض الأواني بقوة ليزيل عنها الصدا الذى أصابها والذى كان يطلق عليه الجنزارة وفي البداية كانت هذه العملية تتم بأن يحضر مبيض النحاس معه كمية من الرماد الأحمر الناتج عن تصنيع الطوب الأحمر وماء النار ليضعهما داخل الأواني النحاسية ويضع عليها طبقة كبيرة من الخيش ويقوم بالوقوف داخلها ويدعكها بقدميه بحركة دائرية منتظمة إلى أن يلمع النحاس وتُزال من فوقه طبقة الجنزارة الخضراء ولكن تطور الأمر بعد ذلك بحيث يضع مبيض النحاس الأواني النحاسية علي نار حامية ليتمكن من طليها بالقصدير وهي ساخنة فالحرارة الشديدة تساعد علي ذوبان القصدير وإنتشاره علي سطح النحاس والإلتصاق الشديد به مع إستخدام غاز النشادر الذى يساعد علي إكتمال هذه العملية بسهولة فتتكون طبقة مغلفة للنحاس بيضاء اللون وهذا هو سبب تسمية صاحب هذه المهنة بمبيض النحاس حيث كانت طبقة القصدير هذه تمثل طبقة عازلة للنحاس حتي لا يتفاعل النحاس مع الطعام ويتم إفراز عناصر سامة تكون الجنزارة الذى كان يعد بدء ظهورها علي الأواني النحاسية يعد دليلا علي إنتهاء مفعول طبقة القصدير المغلفة للنحاس وإشارة لضرورة إجراء عملية التبييض مرة أخرى ولأن النحاس كان يحتاج إلي جهد كبير في تنظيفه ويلزم لذلك تسخينه بشدة وحيث أن هذه السخونة الشديدة كانت تحتاج إلي قدرة هائلة علي الإحتمال كان مبيض النحاس يقاوم الإحساس بالألم من الحرارة الشديدة بالغناء الشجي فينصرف بذلك عن التأوه حتي لو كان الغناء غير مفهوم فالمهم أن يتناسي الألم بهذا الغناء كما نلاحظ أن مبيض النحاس اثناء عمله كان يقوم بتحريك جسده حركات معينة ويبدو وكأنه يؤدي رقصة التويست وهو يقبض بيديه علي شئ ثابت كشجرة مثلا وإذا أنجز الإناء يقفز قفزتين سريعتين ليعلن إكتمال تبييضه ليبدأ في آنية أخري وهكذا ويقوم بعد ذلك بغسل الأواني جيدا وتسليمها لأصحابها جميلة وبرّاقة ويقوم الأهالي بإعطائه ما يجودون به عليه من خيرات البيت ولا يغادر القرية أو المدينة حتي يكون قد أعفي أهلها وخلص أوانيها النحاسية من مخاطر الجنزارة الخضراء السامة وغالبا ما كانت تشاركه زوجته في هذا العمل كمساعد له حيث كانت تجهز له الأواني المطلوب تبييضها وأيضا تقوم بعملية الغسيل للأواني التي تم تبييضها تمهيدا لتسليمها لأصحابها .
 
 
الصور :