بقلم الدكتور/ عادل عامر
أن الدراما تعبر عن الواقع وما يراه الناس سوآءا كان حقيقيًا أو لم تكتمل رؤيتهم له بعد فمثلًا هناك الردح الإعلامي وهو ما لم يكن موجودًا بكثرة والتخوين والاستقطاب وكلها ظواهر وليدة الأعوام القليلة الماضية واستفحلت هذا العام كما أن الأعمال الكوميدية أصبحت نادرة والمرض النفسي والعقلي أصبح هو تيمة النجاح ولا ننتظر أن نجد الدراما أكثر من ذلك طالما ظل الواقع مريرًا ونجاح هذه الأعمال جعل المنتج يفرض شروطه على المؤلف وجميع الكاست حتى يستطيع جلب الإعلانات.
في رمضان هذا العام انتقل العنف - الذى سيطر في آخر 10 سنوات في السينما إلى الدراما وأصبح عنفًا مصرحًا به للتداول على الشاشات التي تطل على الأسرة، والتي تقذف المشاهدين بمشاهد المعارك الطاحنة وتعاطى المخدرات، ولا يكاد يخلو مسلسل في موسم الدراما الرمضانية هذا العام من فئة ضباط الشرطة، مثلت أدوار الشر في السينما والتليفزيون دومًا إغواء للممثل والمشاهد وللمؤلف قبلهما.
هذه الأدوار الشخصيات هي بمثابة مسارات آمنة للتعبير عما هو مكبوت بداخلك من رغبات مظلمة، رغبات لامستنا جميعًا من قبل في مواضع خفية في الروح. ربما أيضًا هي نوع من التطهر. وبالنسبة للممثل بالذات شكلت هذه الشخصيات المسكونة بالظلال والأشباح اختبارًا لقدرته على التعبير والأداء.
يبدو أن الشياطين المصفدة في رمضان تجد دائمًا مهربًا إلى شاشة الدراما التليفزيونية، شياطين على كل لون وصورة. من بينها نختار ثلاث شخصيات تمثل الشر، وجدنا في رسمها لمسة مختلفة على مستوى الكتابة والأداء.
وكأنها تحاول توجيه الجمهور لهذه الحياة الممتلئة بالدم، وحجة بعض المؤلفين والمخرجين «أن الشارع المصري أصبح عنيفًا وهذه ترجمة للواقع". إن مثل هذه الأعمال المليئة بالعنف تنزع من الإنسان الإحساس بالغير وسيأتي يوم يُقتل فيه الناس في الشارع ولا أحد يتحرك لنجدتهم. الدراما المعروضة في رمضان تفتقد للخريطة الإدراكية الكلية في فهم أسباب الظلم والفساد والاستغلال، وتفتح الباب على مصراعيه أمام الأطفال للأفكار الهادمة لكي تأتي وتسد الفراغ وتستعيد المعنى المفقود؛ ففي صحراء ما قبل الوعي، بإمكان شبه إيديولوجيا مشوهة ومشوشة أن تكسب أراضي عميقة وشاسعة في المجتمع المصري؛ فاللامعنى ميال للانجذاب نحو إفراط المعني، ويدور كلاهما في دائرة العنف والعجز، والكم الهائل للشر والفساد الذى تجسده الدراما المصرية الآن، وظهرت هذه الصورة بخاصة بعد ثورة 25 يناير وانهيار صناعة الإنتاج الدرامي وابتعاد الدولة ومؤسساتها الإعلامية والثقافية عن الدور الريادي في هذا المجال".
وهذا النمط غرق في تزاوج ليس غريباً مع الاعلان (بحسب طبيعة التلفزيون). لكن الغرابة كانت في أن قدرة نجم على جذب اعلان صارت تخلق مسلسلاً بأكمله من فكرة قصة يطرحها النجم على كاتب. طارت الاسعار، لكن ذلك لم ينعكس على جودة المحتوى. بدا النص أضعف الحلقات في الانتاج المصري.
بل ربّت نمطاً مسلسلاتنا لم ينعكس ذلك حتى المسلسل المصري الذي لم يعد جديداً انساق في هذه اللعبة ما إن كرّس كمّه فانعكس ذلك جلياً على النوعية. إن الصراع الذي تعيشه مصر والمنطقة العربية من أحداث سياسية انعكس على حياة البسطاء في ربوع الوطن العربي بخلاف أحداث القتل والدم والعنف والترويع التي تتكرر يوميًا في الشارع العربي في أعقاب حدوث حوادث الارهاب وصراع على السلطة وقيام أنظمة لذلك فكر صناع الدراما في انعكاس ما يدور في الشارع المصري
لأن مهمة الفن ليست رصد الإيجابيات وإنما التنويه عنها حتى لا تصبح الصورة سوداء، لكن مهمته الأساسية رصد السلبيات وعمل معالجة درامية من خلال هذا السلاح الناعم الذي يستطيع التغلغل في كل البيوت سواء بيوت البسطاء أم المسئولين ولا يوجد أفضل من الموسم الرمضاني لضمان الحصول على أعلى نسبة مشاهدة وضمان النجاح. لذلك نجد أن الشر لم يعد ينحصر في تجار الممنوعات أو الدجالين والطريقة القديمة للعصابات الشريرة لكنه تطور لعصابة رجال الأعمال والإعلام المزيفين وتجار الأراضي والأعضاء البشرية وكأنها لم تكن موجودة حتى بدايات الألفية الجديدة والمؤلف حينما يشرع في كتابة موضوعه
فإنه لا ينفصل عن الواقع حتى لو وصل خياله إلى أبعد الأماكن إلا أنه يكون مضطرًا للعودة للواقع حتى لا يتهم بالابتذال واعترف أن الجمهور أصبح عاشقا للأكشن والمفاجآت والألغاز لأن واقع حياته يفرض عليه هذه الأشياء بالتالي يتجه صناع الدراما نحو ما يريده الجمهور. فارتبط الفن بالأرض والشعب والمثل العليا والفكر السائد والذي ترجمه الفنان , وعبر عنه أحسن تعبير فجاء فنه التزاما بقيم ومبادئ واعراف جماعته التي انتمى اليها.
لم يكن من المنطق ان ينتج الفنان المصري القديم كل تلك الأعمال الفنية الرائعة من دون أن يتمتع بقدر من الحرية يتيح له ان يساهم بشكل جاد في انتاج هذه الاعمال . ليس هناك فن من فراغ أو في فراغ، بل هناك دائما فنان يبدع وجمهور يتلقى هذا الإبداع، أي أن هناك دائما طرفين للمعادلة الفنية، هما العمل الفني، والجمهور، أو الفنان والمجتمع وكلا الطرفين يؤثران في بعضهما البعض، والإنتاج الفني في عصر ما، هو إفرازات مكثفة لهذا المجتمع في تلك الفترة، فالإنسان دائماً مرآة عصره،
بل استطعنا من خلال التراث الفني للحضارات المختلفة التعرف على الكثير من عادات وتقاليد وأفكار وشعوب تلك الحضارات، بل أكثر من هذا فالفن من أهم صور الحياة على الأرض، فبه عرف الإنسان التقدم عندما بدأ يشكل أول أداة، لتعينه على الحياة في الغابة، وبه شكل الإنسان أسلحته الأولى التي استخدمها في الصيد، وبه ازدادت صلته بواقعه الاجتماعي عندما بنى وشيد عمارته، كذلك تعمقت صلته بفكرة البعث والخلود، فكانت الوسيلة التي استعان بها للتغلب على الفناء الذي لابد منه ، وأيضا ارتبط الفن بالدين ارتباطاً وثيقاً بإنشاء المعابد والكنائس والمساجد.
العلاقة بين الفن والعقيدة قديمة وأزلية ويكفي أن نلقي بنظرة عابرة على تاريخ الإنسانية – والتاريخ المصري القديم على وجه الخصوص – لكي نتأكد من تلك العلاقة ومدى صدقها، فهما بالتأكيد مرتبطان ارتباطا لا ينفصل – حتى أننا لنكاد نشك في انه ليس هناك فن عظيم دون ارتباط وثيق بالعقيدة، ويخرج من هذا التعميم بالطبع بعض الأعمال التي أنتجت بعصر النهضة وثورة الفن التي تلتها.
" ولاشك في أن العقيدة هي القوة المسيطرة على مشاعر المصريين، وغيرهم من شعوب العالم القديم، فكان الفرد في بادئ الأمر يتضرع لربه، ليدرأ عن نفسه السوء، ويجزيه الخير، ولكنه في الوقت ذاته يريد أن يحتال على قضاء حوائجه المستعصية عليه فنجد أن الإنسان قد اعترف بأنه في كل الأزمات محاط بقوى خفية خارجة عن نطاق فهمه ولم يكن في استطاعته أن يقاومها بما في متناوله من وسائل ،
وقد حاول أن يستميل هذه القوى بالتضرع تارة وبالفن تارة أخرى، والواقع أن الدين والسحر هما وليدا هذا المجهود الإنساني المزدوج وهنا لا أريد أن أرفع من قيمة الموضوع الاجتماعي أو التجربة الاجتماعية للفنان على حساب القيمة الاجتماعية، أو الشكل بل إن الفن في حقيقته تشكيلا أي أن نعطي الأشياء والموضوعات أشكالاً من خلال قوانين هذا الشكل فهو تجسيد لقدرة الفنان وسيطرته على المادة، واستخدامه للأدوات فالشكل بذلك يصبح وسيلة الفنان للحفاظ على الخبرة البشرية ونقلها للأجيال اللاحقة وكذلك هي نظام ضروري للفن. والشكل يرتبط أوثق الارتباط بالوظيفة التي يؤديها سواء أكان هذا الشكل سكينا يقطع، أو تمثالا يوضع في معبد أو نقش جداري يسجل حدثا، وبعبارة أوضح أن الشكل يعبر بالضرورة عن غرض اجتماعي بل ان درجة حيوية وجمال الأشكال – في اغلبها- ترتبط بقدرتها على أداء هذا الغرض وتلك الوظيفة، فالوظيفة أو الغرض هما المسؤولان بالدرجة الأولى عن الشكل ولقد مر التمثال المصري القديم بتطورات كبيرة قبل أن يصل إلى هذا الشكل النمطي الذي عرفناه من خلال تلك الحضارة قد صنف في المراحل الأولى السابقة من اجل أداء الغرض المطلوب مباشرة سواء ارتبط هذا بالسحر، أو العقيدة ثم أمكنه آخر الأمر الاحتفاظ بشكل ذي مميزات ظاهرة وأصبح بعد ذلك لإنتاج أشكال أفضل، ونستطيع القول أن الشكل هو الخبرة الاجتماعية عندما تتخذ صورة ثابتة. |