كتبت/ الشيماء علي
في كل جولة من جولاتنا تعلق بذاكرتنا ذكرى اما لصاحب المكان او للمكان ولكن ذكرى اليوم فى جولتنا ستجمع بين المكان وصاحبه .. نعم ستكون ذكرى استثنائيه لمكان وشخصيه لما روي عنها ولما تركته عبر تاريخ واجيال.. فمكان اليوم تملكه امراه فريده من نوعها ،أثبتت للعالم أن المرأه المصرية اسثنائيه في كل شئ ولا أحد يستطيع قهرها او هزيمتها.. اثبتت أن المصرية بارعة قوية فى كل الأزمان.. أجابت على كل علامات الاستفهام التي توجه للمرأه ومنها: ما الذى تبحث عنه فى المرأة؟ هل تبحث عن الجمال أو الشكل الخارجى لها ؟ ام عن العقل وطريقة التفكير؟ وما الذي يميز امرأة عن الأخرى؟.. إمرأتنا اليوم استثنائيه كانت تتميز بجمال فائق قالوا ان العيون تغشى عند النظر اليها ، تمتلك عقل مستنير وتفكير صائب حكيم كما شهدوا لها في وجودها وكما قيل عنها بعد ذلك ، فقد استطاعت ان تكون مثل المحاربين ويسجل اسمها في اصعب الحقب التاريخية التي مرت على مصر كلها، وفى وقت لم تكن للنساء فيه اى دور فى الحياة الاجتماعية او السياسية ولم يكن وقتها ما يسمى الآن بـ"المجتمع المدنى" او حرية المراة وحقوقها..فقد استطاعت هذه المرأة إجبار المؤرخين والكتاب مثل نجيب محفوظ وغيره على ذكر دورها الفعال فى صفحات التاريخ، والذى ساعد الناس والبلد بشكل واضح وقتها
لقد وصفت بـ العديد والكثير من المسميات ومنها "ذات الحجاب الرفيع والستر الحصين المنيع او درة القاهرة المخزونة والجوهرة المكنونة كل هذه المسميات والالقاب وغيرها كانت للسيده "نفيسة البيضا" والبيضاء لم يكن لقبا وانما وصفا وصفت به لشدة بياض بشرتها ونضارتها وجمالها . لقبت ب"أم الدرب الأحمر" لانها تركت مجموعة أثرية جميلة عٌرِفَت هذه المجموعة باسم السكرية عبارة عن "سبيل وكتاب نفيسة البيضاء أو سبيل وكتاب نفيسة خاتون " وقد يعلوه وكالة تجارية بها محالٌ تؤجر ويستغل ريعها للصرف على السبيل والكتاب، إضافة إلى حمامين يُستَغلُ ريعهما لأوجه الخير. ويعلو الوكالة والحمامين ربعٌ لإسكان فقراء المسلمين بمبالغ رمزية.
ولدت نفيسة هانم أو نفيسة خاتون أو نفيسة قادين أو الست نفيسة البيضا عام 1750م في شرق تركيا، ونشأت وعاشت بالقاهرة مثل الفتيات العبيد اللاتي اشتراهن القائد المملوكي علي بك الكبير الذي جُلب إلى القاهرة مثلها في سن صغير حيث تعلّم وتقلّد المناصب حتى تمكّن من الانفراد بالسلطة، وأصبحت نفيسة سيده فائقة الجمال فاشتراها علي بك الكبير وحرّرها واتخذها زوجة ثانية له، وفي إحدى المعارك لقي مصرعه تاركاً لها ثروة طائلة، بعد ذلك تزوجت من قائد مملوكي آخر هو مراد بك.. وفي عام 1798م أوقفت ممتلكاتها على عمل الخير ووهبت كل ريع الممتلكات لله تعالى.
نفيسـة البيضـاء كما عرفت من أكثر الشخصيات النسائية شهرة خلال عصري المماليك والحملة الفرنسية علي مصر حيث كان لها دورا هاما بالحمله والوقوف امام المحتل فعند ترك مراد بك القاهره اصبحت نفيسه البيضا وحدها تواجه جنود نابليون، ولكنها استطاعت التواصل مع زوجها سرا، حتى اتى للقاهرة، وعندها ارسلت له عدة اشارات من فوق سطح بيتها راها مراد بيك من فوق قمة هرم الجيزة الأكبر "خوفو"، وكان هذا بالاتفاق مع نابليون بونابرت حتى تتوصل الى حل سلمى بينهما.
وعلى الرغم من حالة الحرب التى كانت تشهدها البلاد فى ذلك الوقت، إلا ان هذه المرأة استطاعت مجاراة الامور فى صالحها، فقد عمقت علاقتها الدبلوماسية مع نابليون وأستضافته على مأدبة عشاء فى قصرها، وعلى الرغم من نجاح جهودها الدبلوماسية، الا أن الظروف لم تكن فى صالحها ... فقد توفى زوجها مراد بيك بالطاعون عام 1801 م، وانسحب الفرنسيين من مصر فى نفس الوقت تقريبا...وقد أصدر نابليون أمرا خاصا لوكلائه الفرنسييين فى مصر بحمايتها، وظل معتزا بصداقته لها حتى انه قال عنها: "لم ارى فى مصر أمرأة فى جمال وذكاء نفيسة البيضا".
وبعد خروج الفرنسيين واستعادة العثمانيين حكم مصر مرة أخرى، وكان "محمد على" والى على مصر وقتها، وفى ظل الحكم الجديد الذى كان معاديا بدوره للبكاوات المماليك، واصلت السيدة نفسية البيضا صراعها والتمسك بموقفها بحماية ثروتها وممتلكاتها وممتلكات المماليك، فى مواجهة الحكم العثمانى ... حتى انها سميت فى ذلك الوقت بـ "أم المماليك".
حياتها
كانت علي جانب كبير من الثقافة والغني، وروعة الجمال، والحياء التفت حولها قلوب المصريين بما اشتهرت به من البر والإحسان والتصدق علي الفقراء والمساكين، وحماية الضعفاء ورفع المظالم عنهم، كما أنها كانت تتبرع بإعانات شهرية للعديد من العائلات التي انقلب عليها الزمن، ذلك عظمت مكانتها بين الناس وطبقت شهرتها كافة الأوساط، وبعد موت مراد بك عام 1801 م تزوجت من إسماعيل بك إسماعيل آمين احتساب مصر وأخذ يساعدها في تلك المساعدات للمماليك حتى قضى نحبه بعد زواجها في معركة شهيرة مع بعض المماليك البحرية بعد زواجها بعامين ودفن بقبره في مقابر الغفير.
وحين تولى حكم مصر الوالي العثماني أحمد خورشيد باشا عام 1804، أساء إليها إساءاتٍ بالغة، وطلبها يوماً إلى القلعة مقر حكمه ووجّه إليها بعض التهم الباطلة، بينها اتهام بالتدبير لثورة في مصر، وأنها استعانت بكثير من الجواري يوزعن المنشورات ضده، وضد حكم المماليك والباشوات. وكان رد نفيسة عليه بالقول:إن السلطان وعظماء الدولة رجالاً ونساء يعرفونني، ويعرفون قدري، حتى الفرنسيون، أعدائي وأعداؤك، لم أر منهم إلا التكريم والاحترام، أما أنت فلم يوافق فعلك فعل أهل دولتك ولا غيرهم.
غضب أحمد خورشيد باشا من تلك السيدة، فاقتادها إلى السجن، الأمر الذي أثار غضب من يدينون لها بالفضل وبالمال، إذ كانت غاية في الكرم والشهامة. وقد ظلت هذه السيدة، حتى في أيام محنتها، ترعى بمعروفها وبرها، أسراً كثيرة أصابها العناء والفقر بعد أن كانت كريمة ميسورة. وامتدحها المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي خلقاً وسلوكاً وشجاعة. وعندما اعتُقِلَت في بيت السحيمي حاولت الهرب ليلاً، لكنها لم تفلح، وظلت تنتقل من عذابٍ إلى هوان إلى فقر حتى نسي الناس اسمها ورسمها.
نشأتها
يقال أن نفيسة قد دخلت منزل مراد بك وقد ورثت عن علي بك الكبير ثروة طائلة، وزادت هي ثراء فوق ثراء بعد هذه الزيجة الجديدة، وعاشت معه حياة الترف بما جلبته له من ميراثٍ شمل إلى جانب البيوت والقصور والتجارة جيشاً خاصاً يتألف من 400 مملوك، وأسطولاً من السفن على النيل، و56 جارية واثنين من الخصيان في حاشية نفيسة الخاصة. وحين أعادت نفيسة بناء وكالتها التجارية، أضافت إليها سبيلاً وكُتاباً خلف باب زويلة عام 1796م / 1211 هـ. ونُقِشَت على واجهة السبيل أبياتٌ شعرية تمتدح فضائل تلك السيدة، تقول كلماتها:
سبيلُ سعادةٍ ومرادٌ عزٍ وإقبال لمحسنة رئيسة
يُسرُك منظرٌ وصنع بديع وتَعجبُ من محاسنِه الأنيسة
جري سلساله عذبٌ فرات فكم أحيت به مهجا بئيسة
نؤرخه سبيل هدى وحسُنَ لوجه الله ما صنعت نفيسة.
السبيل والكُتاب
تقع واجهة السبيل والكُتاب على القصبة العظمى للقاهرة، وهي من الواجهات نصف الدائرية، التي تطل على الشارع بثلاثة شبابيك، توجد في دخلات معقودة ترتكز على أربعة أعمدة ملتصقة بالواجهة. وهذه الشبابيك مغشَّاة بأشكال زخرفية نباتية متشابكة كقطعة الدانتيلا. ولعل ما يسترعي الانتباه زخرف الجزء العلوي المعقود من هذه الشبابيك، حيث أنها تشبه نهدَيْ امرأة، وهذا النوع من الزخرفة أراد به الفنان أن يعبر أو يشبه عطاء الأم لطفلها الحنان والحياة من ثديها، لعطاء السبيل لوارديه العطاشى والظامئين للماء الذي هو مصدر الحياة.
وهذا السبيل أحد المكونات المعمارية لمجموعة خيرية أنشأتها نفيسة البيضاء تتكون من سبيل يعلوه كتاب ووكالة تجارية بها محالٌ تؤجر ويستغل ريعها للصرف على السبيل والكتاب، إضافة إلى حمامين يُستَغلُ ريعهما لأوجه الخير. ويعلو الوكالة والحمامين ريعٌ لإسكان فقراء المسلمين بمبالغ رمزية. وقد عٌرِفَت هذه المجموعة باسم السكرية، وهي المنطقة نفسها التي تحدث عنها الأديب نجيب محفوظ في ثلاثيته الروائية.
كان الغرض من السبيل تقديم ماء الشرب المجلوب من النيل للمارة كعملٍ خيري، وكان الكُتّاب مدرسة أولية لأطفال الحي. وحين بُني هذا السبيل كان واحداً من أكثر من 300 مبنى من نوعهبالقاهرة، لم يتبق منها الآن إلا نحو 70 مبنى. ويتميز كل سبيل بنوافذ مغطاة بقضبان مزخرفة جميلة تربط بها أكواب الشرب بسلاسل، وكان العاملون بالسبيل يملؤون الأكواب من أحواض رخامية ويسلمونها للناس في الخارج. وكان الماء يأتي من صهريج تحت الأرض مليء بماء النيل الذي كانت تجلبه الجمال. ويختلف هذا السبيل في أن صهريجه لا يوجد أسفله وإنما أسفل مبني مجاور، ويعتبر هذا السبيل نموذجاً ممتازاً للطراز المعماري العثماني في أواخر عهده بالقاهرة ومن الجلي أن نفيسة اختارت بعنايةٍ موقع السبيل، إذ إنه يقع في الطرف الجنوبي لشارع المعز لدين الله الفاطمي بالقرب من بوابة المدينة، وهو مَعلَمٌ تاريخي يحدد الأسوار الجنوبية للمدينة كما أنها ظلت منطقة تجارية مهمة لمدة تسعة قرون. وأهمية الموقع تنبع أيضاً من أن السبيل والكُتاب اللذين شيدتهما في مبنى من طابقين يلاصق وكالتها، أقيما على شارعٍ رئيسي بالقرب من باب زويلة، حيث كانت ينطلق موكب الحج السنوي إلى بيت الله الحرام
و توجد وثائق في دار الوثائق المصرية بالغة الأهمية تخص تلك السيدة، بينها "كشفٌ يحتوي بيان ثمن المصوغات والمجوهرات المضبوطة لوفاة المرحومة الست نفيسة البيضا معتوقة وحرم المرحوم علي بك رضا الجهادي المتوفية بتاريخ 23 أكتوبر سنة 1894 عن نجلها أحمد بك" (بتاريخ 17 إبريل 1895)، و"دفتر يحتوي حصر وتثمين تركة المرحومة الست نفيسة هانم حرم ومعتوقة المرحوم علي بك رضا المتوفية بتاريخ 23 أكتوبر سنة 1894 عن نجلها أحمد بك علي المعتوه والمعين عليه حسن أفندي رسمي قائماً شرعياً" (بتاريخ 13 مايو 1896).
ولكن وكالمعتاد لم يظل الوضع كثيرا وتبدلت أحوال سبيل الماء وكُتاب نفيسة البيضاء مثلما حدث لهذه المرأة، فقد أصبح السبيل خارج الخدمة في وقت مبكر من القرن العشرين بعد دخول المياه الجارية إلى المنطقة. وفي خمسينيات القرن الماضي حل النظام التعليمي الجديد محل الكتاب ومدارس حفظ وتعليم القرآن، وبالتالي لم يعد المبنى يستخدم كمدرسة، بالرغم من أن الكثير من كبار السن في الحي يتذكرون كيف كانوا يحضرون الدروس هناك... وسرعان ما انتشر الحطام في ذلك المبنى المهجور الذي فقد جزءاً من سقفه، وانهارت درجاته، وتداعت جدرانه، ليصبح على وشك الانهيار.
اكتشافات أثرية
خضع السبيل لعدة محاولات ترميم للحفاظ عليه كأثر تاريخي، وأثناء ترميمه عُثِرَ على لوحة خشبية مزخرفة باشكال نباتية ملونة رائعة الجمال، والغريب انها وجدت فوق سطح المبنى، ووجد ايضا جزء من المشربية التى كانت تزين هذا المبنى الراقى فى تصميمه المعمارى، على الرغم من ندرة الخشب فى ذلك الوقت فى مصر، و هذا يدل على تطور فن المشريبة وقيمته الغالية فى العصر العثمانى.وعثر ايضا على مجموعة من قطع الفخار التي تنتمي إلى فترات تاريخية مختلفة وأتى معظمها من أماكن بعيدة بعضها. ومن ذلك أوان فخارية مملوكية محلية وبعضها واردٌ من الصين ووسط آسيا وأوروبا، وكثير من الخزف الأوروبي عبارة عن فناجين قهوة. كما عُثِرَ على مجموعة غلايين تبغ عثمانية، ومجموعة أحجبة على صيغ دينية وسحرية وجدت ملتصقة بشقوق الحوائط، كان الغرض منها حماية المبنى من الانهيار ودفع الأذى عمن يرتادونه.
وفاتها
لقيت نفيسة أشد المحن والكوارث على يد محمد علي بعد أن تولى حكم مصر عام 1805، فقد صادر ما بقي لها من مال وعقار، وعاشت بقية أيامها في فقر وجهد، لكنها واجهت ذلك كله بصبر وقوة وعزيمة، ولم تفارقها مروءتها ولا علو نفسها ولا إباؤها.
وماتت نفيسة البيضاء عجوزاً فقيرة، بعد أن كانت ملكة على مصر، وذلك في يوم الخميس 19 إبريل عام 1816 في بيتها الذي بناه لها علي بك الكبير. ووريت الثرى إلى جوار قبر زوجها الأول علي بك الكبير في الإمام الشافعي. .وبعد موتها استولى محمد علي باشا على هذا البيت وأسكن فيه بعض أكابر دولته.
|