بقلم الدكتور/ محمود رمضان
لم أقرأ قصيدة يرثي فيها شاعر زوجته مثل قصيدة نزار قباني يرثي بها بلقيس الراوي زوجته، الألم سكين يذبح من الوريد إلى الوريد، القلب ينفطر حزناً وكمداً من لوعة مفرداته، تشتعل ألسنة النيران في الأفئدة بالحسرة على مقتلها في تفجير السفارة العراقية ببيروت.
في القصيدة يتذكر نزار جلستها وضفائرها وقهوتها وجميع أشيائها الصغيرة التي فتنته واستهام بها حباً، حتى دخان سيجارتها كان يعشقه نزار، ثم ينقض على القتلة من من ادعوا العروبة، ويذبحهم بكلماته الماضية في أعناقهم، ويذكر بأن العرب يقتلون العرب، ولا يوجهون أسلحتهم لمن اغتصب أرض فلسطين، ويسخر من مؤامرات العرب ضد بعضهم البعض من المحيط إلى الخليج، ويصف بعض حكامهم المتآمرين باللصوص وأنهم صنيعة أبو لهب في كفرهم بالعروبة الحقة.
ويمضي نزار في رثائه ليذكرنا ببلقيس ملكة سبأ، التي كانت آية في الجمال والحكمة، ويشبه زوجته بهذه الملكة، ويربط طهرها بتشبيه رائع بالمجدلية، ويمجد بلقيس زوجته كشهيدة بكلمات تقطر دما، ويذكرها بأنها لم تكن فقط أما لإبنه عمر وابنته زينب، ولكنها كانت من فرط حنانها أمه، التي تستوعب نزق ابنها وتعامله برقة وعذوبة.
ثم يذكر نضال زوجته بلقيس وانخراطها في صفوف المقاومة الفلسطينية وإتقانها إطلاق النيران من بندقيتها، لدرجة أن ياسر عرفات عدها ابنته التي لم ينجبها، وظل عرفات خمسة عشر يوماً يبحث عنها بين رفات الانفجار، كمأساة فاقت تراجيديا اليونانيين، ورثاها أبو عمار رثاء تقشعر له الأبدان وتدمي القلوب والعيون.
كانت بلقيس لنزار عمره وأجمل لحظات حياته، كانت الربيع بورده وأقحوانه، ولا عجب، فقد ولدت في يوم عيد الربيع 21 مارس 1939 ، واستشهدت في 15 ديسمبر 1981 ، إثنان وأربعون ربيعا عاشتها بلقيس، يقول نزار:
كنت في مكتبي بشارع الحمراء حين سمعت صوت انفجار زلزلني من الوريد إلى الوريد ولا أدري كيف نطقت ساعتها: ياساتر يارب.. بعدها جاء من ينعي إلي الخبر.. السفارة العراقية نسفوها.. قلت بتلقائية بلقيس راحت.. شظايا الكلمات ما زالت داخل جسدي.. أحسست أن بلقيس سوف تحتجب عن الحياة إلى الأبد، وتتركني في بيروت ومن حولي بقاياه، كانت بلقيس واحة حياتي وملاذي وهويتي وأقلامي.
وهاهي القصيدة التي أبكت العيون وأدمت القلوب وذبحت المتآمرين، وأسقطت آخر ورقة توت عن عورة مدعي العروبة:
شكراً لكم .. شكراً لكم
فحبيبتي قتلت .. وصار بوسعكم
أن تشربوا كأساً على قبر الشهيدة
وقصيدتي اغتيلت .. وهل من أمة في الأرض
- إلا نحن – نغتال القصيدة ؟
بلقيس
كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل
بلقيس
كانت أطول النخلات في أرض العراق
كانت إذا تمشي
ترافقها طواويس .. وتتبعها أيائل
بلقيس .. يا وجعي
ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل
هل يا ترى
من بعد شعرك سوف ترتفع السنابل؟
يا نينوى الخضراء
يا غجريتي الشقراء
يا أمواج دجلة
تلبس بالربيع بساقيها … أحلى الخلاخل
قتلوك يا بلقيس
أية أمة عربية … تلك التي
تغتال أصوات البلابل؟
أين السموأل ؟ والمهمل ؟
والغطاريف الأوائل؟
فقبائل أكلت قبائل
وثعالب قتلت ثعالب
وعناكب قتلت عناكب
قسما بعينيك اللتين إليهما
تأوي ملايين الكواكب
سأقول يا قمري عن العرب العجائب ..
فهل البطولة كذبة عربية
أم مثلنا التاريخ كاذب ؟
بلقيس .. لا تتغيبي عني
فإن الشمس بعدك
لا تضيء على السواحل
سأقول في التحقيق:
إن اللص أصبح يرتدي ثوب المقاتل
وأقول في التحقيق:
إن القائد الموهوب أصبح كالمقاول
وأقول:
إن حكاية الإشعاع أسخف نكتة قيلت
فنحن قبيلة بين القبائل
هذا هو التاريخ يا بلقيس
كيف يفرق الإنسان
ما بين الحدائق والمزابل
بلقيس
أيتها الشهيدة .. والقصيدة
والمطهرة النقية
سبأ تفتش عن مليكتها
فردي للجماهير التحية
يا أعظم الملكات
يا امرأة تجسد كل أمجاد العصور السومرية
بلقيس
يا عصفورتي الأحلى
ويا أيقونتي الأغلى
ويا دمعاً تناثر فوق خد المجدلية
أترى ظلمتكِ .. إذا نقلتكِ
ذات يوم من ضفاف الأعظمية
بيروت .. تقتل كلّ يوم واحد فينا
وتبحث كل يوم عن ضحية
والموت في فنجان قهوتنا
وفي مفتاح شقتنا
وفي أزهار شرفتنا
وفي ورق الجرائد
والحروف الأبجدية
ها نحن يا بلقيس
ندخل مرة أخرى لعصر الجاهلية
ها نحن ندخل في التوحش
والتخلف .. والبشاعة … والوضاعة
ندخل مرة أخرى عصور البربرية
حيث الكتابة رحلة
بين الشظية والشظية
حيث اغتيال فراشة في حقلها
صار القضية
هل تعرفون حبيبتي بلقيس؟
فهي أهم ما كتبوه في كتب الغرام
كانت مزيجاً رائعاً
بين القطيفة والرخام ..
كان البنفسج بين عينيها
ينام ولا ينام
بلقيس … يا عطراً بذاكرتي
ويا قبراً يسافر بالغمام
قتلوكِ في بيروت .. مثل أي غزالة
من بعدكِ .. قتلوا الكلام
بلقيس … ليست هذه مرثية
لكن على العرب السلام
بلقيس
مشتاقون … مشتاقون …. مشتاقون
والبيت الصغير
يسأل عن أميرته المعطرة الذيول
نصغي إلى الأخبار .. والأخبار غامضة
ولا تروي فضول
بلقيس .. مذبوحون حتى العظم
والأولاد لا يدرون ما يجري
ولا أدري أنا .. ماذا أقول؟
هل تقرعين الباب بعد دقائق؟
هل تخلعين المعطف الشتوي؟
هل تأتين باسمة
وناضرة
ومشرقة كأزهار الحقول ؟
بلقيس
إن زروعك الخضراء
مازالت على الحيطان باكية
ووجهك لم يزل متنقلاً
بين المرايا والستائر
حتى سجارتكِ التي أشعلتها
لم تنطفئ .. ودخانها
مازال يرفض أن يسافر
بلقيس
مطعونون .. مطعونون في الأعماق
والأحداق يسكنها الذهول
بلقيس
كيف أخذتِ أيامي … وأحلامي
وألغيت الحدائق والفصول
يا زوجتي
وحبيبتي .. وقصيدتي .. وضياء عيني
قد كنتِ عصفوري الجميل
فكيف هربتِ يا بلقيس مني؟
بلقيس
هذا موعد الشاي العراقي المعطر
والمعطر كالسلافة
فمن سيوزع الأقداح .. أيتها الزرافة ؟
ومن الذي نقل الفرات لبيتنا ؟
وورد دجلة والرصافة ؟
بلقيس .. إن الحزن يثقبني
وبيروت التي قتلتكِ .. لا تدري جريمتها
وبيروت التي عشقتكِ
تجهل أنها قتلتْ عشيقتها
وأطفأت القمر
بلقيس …. يا بلقيس … يا بلقيس
كل غمامة تبكي عليكِ
فمن ترى يبكي عليّ ؟
بلقيس … كيف رحلتِ صامتة
ولم تضعي يديكِ على يديّ ؟
بلقيس
كيف تركتنا في الريح
نرجف مثل أوراق الشجر ؟
وتركتنا – نحن الثلاثة – ضائعين
كريشة تحت المطر
أتراكِ ما فكرت بي ؟
وأنا الذي يحتاج حبك .. مثل (زينب) أو (عمر)
بلقيس
يا كنزاً خرافياً
ويا رمحاً عراقياً
وغابة خيزران
يا من تحديتِ النجوم ترفعاً
من أين جئتِ بكل هذا العنفوان ؟
بلقيس
أيتهــا الصديقة والرفيقة
والرقيقة مثل زهرة أقحوان
ضاقت بنا بيروت … ضاق البحر
ضاق بنا المكان
بلقيس ما أنتِ التي تتكررين
فما لبلقس اثنتان
بلقيس
تذبحني التفاصيل الصغيرة في علاقتنا
وتجلدني الدقائق والثواني
فلكل دبوس صغير .. قصة
ولكل عقد من عقودكِ .. قصتانِ
حتى ملاقط شعركِ الذهبي
تغمرني .. كعادتها … بأمطار الحنانِ
ويعرش الصوت العراقي الجميل
على الستائر .. والمقاعد .. والأواني
من المرايا تطلعين
من الخواتم تطلعين
من القصيدة تطلعين
من الشموع .. من الكؤوس
من النبيذ الأرجواني
بلقيس .. يا بلقيس
لو تدرين ما وجع المكان
في كل ركن أنتِ حائمة كعصفور
وعاقبة كغابة بيلسان
فهناك كنتِ تدخنين
هناك كنتِ تطالعين
هناك كنتِ كنخلة تتمشطين
وتدخلين على الضيوف
كأنك السيف اليماني
بلقيس
أيــن زجاجة (الغيرلانِ)؟
والولاعة الزرقاء
أين سجارة الــ (كنت) التي
ما فارقت شفتيكِ
أين (الهاشمي) مغنياً
فوق القوام المهرجانِ
تتذكر الأمشاط ماضيها
فيكرج دمعهــا
هل يا ترى الأمشاط من أشواقها أيضاً تعاني؟
بلقيس .. صعب أن أهاجر من دمي
وأنا المحاصر بين ألسنة اللهيب
وبين ألسنة النيران
بلقيس … أيتها الأميرة
ها أنتِ تحترقين … في حرب العشيرة والعشيرة
ماذا سأكتب عن رحيل مليكتي
إن الكلام فضيحتي
ها نحن نبحث بين أكوام الضحايا
عن نجمة سقطت
وعن جسد تناثر كالمرايا
ها نحن نسأل يا حبيبة
إن هذا القبر قبرك أنتِ
أم قبر العروبة؟
بلقيس
يا صفصافة أرخت ضفائرها عليّ
ويا زرافة كبرياء
بلقيس
إن قضاءنا العربي
أن يغتالنا عرب
ويأكل لحمنا عرب
ويبقر بطننا عرب
ويفتح قبرنا عرب
فكيف نفر من هذا القضاء ؟
فالخنجر العربي .. ليس يقيم فرقاً
بين أعناق الرجال
وبين أعناق النساء
بلقيس .. إن هم فجروكِ .. فعندنا
كل الخناجر تبتدي في كربلاء
وتنتهي في كربلاء
لن أقرأ التاريخ بعد اليوم
إن أصابعي اشتعلت
وأثوابي تغطيها الدماء
ها نحن ندخل عصرنا الحجري
نرجع كل يوم .. ألف عام للوراء
البحر في بيروت
بعد رحيل عينيك استقال
والشعر .. يسأل عن قصيدته
التي لم تكتمل كلماتها
ولا أحد … يجيب على السؤال
الحزن يا بلقيس
يعصر مهجتي كالبرتقالة
الآن … أعرف مأزق الكلمات
أعرف ورطة اللغة المحالة
وأنا الذي اخترع الرسائل
لست أدري كيف أبتدي الرسالة؟
السيف يدخل لحم خاصرتي
وخاصرة العبارة
كل الحضارة أنت يا بلقيس .. والأنثى حضارة
بلقيس .. أنت بشارتي الكبرى
فمن يسرق البشارة؟
أنت الكتابة مثلما كانت كتابة
أنتِ الجزيرة والمنارة
بلقيس
يا قمري الذي طمروه ما بين الحجارة
الآن ترتفع الستارة
الآن ترتفع الستارة
سأقول في التحقيق:
إني أعرف الأسماء .. والأشياء .. والسجناء
والشهداء .. والفقراء … والمستضعفين
وأقول إني أعرف السياف قاتل زوجتي
ووجوه كل المخبرين
وأقول: إن عفافنا عهر
وتقوانا قذارة
وأقول: إن نضالنا كذب
والآن لا فرق
ما بين السياسة والدعارة!
سأقول في التحقيق
إني أعرف القاتلين
وأقول:
إن زماننا العربي مختص بذبح الياسمين
وبقتل كلّ الأنبياء
وقتل كلّ المرسلين
حتى العيون الخضر .. يأكلها العرب
حتى الضفائر والخواتم
والأساور والمرايا .. واللعب
حتى النجوم تخاف من وطني
ولا أدري السبب
حتى الطيور تفر من وطني
ولا أدري السبب
حتى الكواكب والمراكب والسحب
حتى الدفاتر والكتب
وجميع أشياء الجمال
جميعها …. ضد العربْ
لمّا تناثر جسمك الضوئي
يا بلقيس .. لؤلؤة كريمة
فكرت .. هل قتل النساء هواية عربية
أم أننا في الأصل محترفي جريمة
بلقيس
يا فرسي الجميلة .. إنني
من كل تاريخي خجول
هذي بلاد يقتلون بها الخيول
هذي بلاد يقتلون بها الخيول
من يوم أن نحروك
يا بلقيس … يا أحلى وطن
لا يعرف الإنسان كيف يعيش في هذا الوطن
لا يعرف الإنسان كيف يعيش في هذا الوطن
مازلت أدفع من دمي … أغلى جزاء
كي أسعد الدنيا .. ولكن السماء
شاءت بأن أبقى وحيداً
مثل أوراق الشتاءْ
هل يولد الشعراء من رحم الشقاءْ؟
وهل القصيدة طعنة
في القلب ليس لها شفاءْ؟
أم أنني وحدي الذي
عيناه تختصران تاريخ البكــاءْ؟
سأقول في التحقيق:
كيف غزالتي ماتت بسيف أبي لهبْ
كل اللصوص من الخليج إلى المحيط
يدمرون ويحرقون
وينهبون ويرتشون
ويعتدون على النساء
كما يريد أبو لهــبْ
كل الكلاب موظفون
ويأكلون … ويسكرون
على حساب أبي لهب
لا قمحة في الأرض
تنبت دون رأي أبي لهب
لا طفل يولد عندنا
إلا وزارت أمه يوماً
فراش أبي لهب !
لا سجن يفتح … دون رأي أبي لهب
لا رأس يقطع … دون أمر أبي لهب
سأقول في التحقيق:
كيف أميرتي اغتصبت
وكيف تقاسموا فيروز عينيها
وخاتم عرسها
وأقول: كيف تقاسموا الشعر الذي
يجري كأنهار الذهبْ
سأقول في التحقيق:
كيف سطوا على آيات مصحفنا الشريف
وأضرموا فيه اللهبْ
سأقول كيف استنزفوا دمها
وكيف استملكوا فمها
فما تركوا فيه ورداً … ولا تركوا عنبْ
هل موت بلقيس
هو النصر الوحيد
بكل تاريخ العربْ؟
بلقيس
يا معشوقتي حتى الثمالة
الأنبياء الكاذبون … يقرفصون
ويركبون على الشعوب .. ولا رسالة
لو أنهم حملوا إلينا
من فلسطين الحزينة
نجمة أو برتقالة
لو أنهم حملوا إلينا
من شواطئ غزة .. حجراً صغيراً أو محارة
لو أنهم من ربع قرن حرروا .. زيتونة
أو أرجعوا ليمونة
ومحوا عن التاريخ عاره
لشكرت من قتلوكِ يا بلقيس
يا معبودتي حتى الثمالة
لكنهم تركوا فلسطيناً
ليغتالوا غزالة!
ماذا يقول الشعر يا بلقيس
في هذا الزمانِ .. ماذا يقول الشعر؟
في العصر الشعوبي … المجوسي … الجبانِ
والعالم العربي
مسحوق … ومقموع … ومقطوع اللسانِ
نحن الجريمة في تفوقهــا
فما (العقد الفريد) … وما (الأغاني)؟
أخذوكِ أيتها الحبيبة من يدي
أخذوا القصيدة من فمي
أخذوا الكتابة والقراءة
والطفولة … والأماني
بلقيس … يا بلقيس
يا دمعــاً ينقط فوق أهداب الكمانِ
علمت من قتلوك أسرار الهوى
لكنهم … قبل انتهاء الشوط
قد قتلوا حصاني
بلقيس
أسألك السماح ….. فربما
كانت حياتك فدية لحياتي
إني لأعرف جيداً
أن الذين تورطوا في القتل … كان مرادهم
أن يقتلوا كلماتي !
نامي بحفظ الله …. أيتها الجميلة
فالشعر بعدكِ مستحيل
والأنوثة مستحيلة
ستظل أجيال من الأطفال
تسأل عن ضفائركِ الطويلة
وتظل أجيال من العشاق
تقرأ عنكِ … أيتها المعلمة الأصيلة
وسيعرف الأعراب يومــاً
بأنهم قتلوا الرسولة
قتلوا الرسولة
ق .. ت .. ل .. و .. ا
ا .. ل .. ر .. س .. و .. ل .. ة
بيروت 15ديسمبر1981
نزار قباني |