بقلم د.محمود رمضان
هي خولة بنت ثعلبة بن أصرم بن فهر، صحابية أنصارية، عرفت حدود الله وتوقفت عندها، ونزل فيها قرآن يتلى آناء الليل وأطراف النهار إلى يوم القيامة، فقد جادلت النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل الوحي الأمين سيدنا جبريل عليه السلام بالآيات البينات من الله تبارك وتعالى بالرد على هذه الصحابية الجليلة.
كانت سيدتنا خولة فصيحة اللسان بليغة البيان، وتزوجها أوس بن الصامت وأنجبت منه، وأوس هو أخو عبادة بن الصامت رضي الله عنهما، وكانت خولة مثالا ونموذجاً للزوجة الصالحة الوفية المخلصة لزوجها، وفي القرآن الكريم سورة «المجادلة»، التي تتضمن آياتها قصة هذه السيدة العظيمة، وأطلق ذووها على سيدتنا خولة لقب «المجادلة»، فما هي قصتها؟
كان زوجها أوس شيخاً كبيراً، وفي بعض الناس يفعل كبر السن أفعاله من ضيق الصدر، والتسرع وخشونة القول، فدخل عليها زوجها يوماً وراجعته في أشياء كثيرة، فغضب منها وأسرع بالقول: أنت عليّ كظهر أمي، كأنه يشبهها بأمه في حرمتها عليه، وما لبث أن غادر البيت.
قضى أوس وقتاً خارج بيته، وعندما عاد راودها عن نفسها فأبت، وقالت: لا تقربني حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمري، فهذه حدود الله، لقول الحق: (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ).
فذهبت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إن أوسًا تزوجني وأنا شابة مرغوب في، فَلَمَّا كَبِرْتُ وَمَاتَ أَهْلِي، ظَاهَر مِنِّي، جعلني عليه كأمه، يا رسول الله، وإنَّ لي مِنْهُ صِبْيَةً صِغَارًا، إنْ ضَمَمْتُهُمْ إلَيْهِ ضَاعُوا، وَإنْ ضَمَمْتُهُمْ إليَّ جَاعُوا.
فقال لها رسول الله، صلى الله عليه وسلم: يا خولة مَا أرَاكِ إلاَّ وَقَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ تَفْعَلْ؛ فَإنِّي وَحِيدَةٌ لَيْسَ لِي أَهْلٌ سِوَاهُ، وكررت قولها: إنَّ لي مِنْهُ صِبْيَةً صِغَارًا، إنْ ضَمَمْتُهُمْ إلَيْهِ ضَاعُوا، وَإنْ ضَمَمْتُهُمْ إليَّ جَاعُوا، فيرد النبي صلى الله عليه وسلم ذات الرد.
فتوجهت إلى الله تدعو: اللَّهُمَّ إَلَيْكَ أَشْكُو حَالِي وانفرادي وَفَقْرِي إلَيْهِ.
وكأن لسان حالها يقول:
يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقع
يا من يرَجَّى للشدائد كلها يا من إليه المشتكى والمفزع
مالي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أدفع
مالي سوى قرعي لبابك حيلة ولئن رددت فأي باب أقرع
إن كان لا يرجوك إلا محسن فالمذنب العاصي إلى من يرجع
حاشا لجودك أن تقنط عاصياً الفضل أجزَلُ والمواهب أوسع
وأخذت تدعو الله بأحب أسمائه إليه تبارك وتعالى، وهي تبكي بدموع ساخنة غزيرة،
ورق لها وبكى كل من كان حولها، ويأتي سيدنا جبريل عليه السلام بآيات بينات والوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: يا خولة، أبشري، قالت: خيرًا، فقال صلى الله عليه وسلم: قد أنزل الله فيك وفي زوجك قرآنا، فقرأ عليها:
«قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ».
فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: مُريه فليعتق رقبة، فقالت: يا رسول الله، ما عنده ما يعتق، فقال صلى الله عليه وسلم: فليصم شهرين متتابعين، فقالت: والله إنه شيخ كبير، ما به من صيام، فقال صلى الله عليه وسلم: فليطعم ستين مسكينًا وسقًا من تَمر، فقالت: يا رسول الله، ما ذاك عنده، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: فإنا سنعينه بعَرَقٍ من تمر، فقالت: يا رسول الله، وأنا سأعينه بعَرَقٍ آخر، فقال صلى الله عليه وسلم: فقد أصبت وأحسَنْت، فاذهبي فتصدقي به عنه، ثم استوصي بابن عمك خيرًا.
فأعطاها النبي صلى الله عليه وسلم التمر وأخذت من بيتها تمراً آخر، وتصدقت بالتمر على ستين مسكيناً، وعادت حلا لزوجها، رضي الله عنهما.
وتمر السنوات، ويتوفى النبي صلى الله عليه وسلم، ويخلفه أبوبكر الصديق رضي الله عنه، ثم يتوفى أبو بكر رضي الله عنه، ثم يتولى سيدنا عمر بن الخطاب أمر المسلمين، وتصبح سيدتنا خولة عجوزاً، وذات يوم مرت بعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أيام خلافته، وكان خارجاً من المنزل، فاستوقفته طويلاً ووعظته، قائلة له: يا عمر، كنت تدعى عمير، ثم قيل لك عمر، ثم قيل لك: يا أمير المؤمنين، فاتّق الله يا عمر، فإن من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب، وعمر، رضي الله عنه، واقف يسمع كلامها بخشوع، فقيل له: يا أمير المؤمنين، أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف كله؟ فقال عمر: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت، إلا للصلاة المكتوبة، ثم سألهم سيدنا عمر: أتدرون من هذه العجوز؟ قالوا: لا، قال سيدنا عمر رضي الله عنه: هي التي قد سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أفيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر.
رضي الله عن سيدتنا خولة وعن زوجها أوس الذي شهد بدرا وأحد وغزوات كثيرة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم. |