بقلم المهندس/ طارق بدراوى
tbadrawy@yahoo.com
مدينة بلجراد هي عاصمة جمهورية صربيا حاليا وأكبر مدنها على الإطلاق وجمهورية صربيا هي دولة تقع في مفترق الطرق بين وسط وجنوب شرق أوروبا وتغطي الجزء الجنوبي من سهل بانونيا والبلقان المركزي وهي دولة غير ساحلية و تحدها المجر من الشمال ورومانيا وبلغاريا من الشرق ومقدونيا من الجنوب وكرواتيا والبوسنة والهرسك والجبل الأسود من الغرب كما أن لها حدود مع البانيا عبر منطقة كوسوفو التي كانت تتمتع بالحكم الذاتي ضمن صربيا حتى يوم 17 فبراير عام 2008م حين أعلن البرلمان الكوسوفوي بالإجماع إستقلالها وإعلان برشتينا عاصمة لها وحاليا تعترف 108 دولة بإستقلالها ومدينة بلجراد عاصمة صربيا الحالية هي من بين أقدم المدن في قارة أوروبا وواحدة من أكبر المدن في جنوب شرقها وكانت عاصمة ما كان يعرف بإتحاد الجمهوريات اليوغوسلافية الشعبية أو إختصارا يوغوسلافيا سابقا وكان هذا الإتحاد يضم كل من جمهوريات صربيا وكرواتيا وسلوفينيا والبوسنة والهرسك والجبل الأسود ومقدونيا والذى كان قد تأسس في عام 1945م بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية وبعد تحرير هذه الجمهوريات من الإحتلال الألماني ومع إعلان قيامه أصبح الزعيم اليوغوسلافي الشهير جوزيف بروز تيتو رئيسا له وقد بقي رئيسا لهذا الإتحاد حتى مماته عام 1980م وكان موته بداية النهاية للإتحاد اليوغوسلافي وقد كانت يوغوسلافيا في الفترة مابين عام 1945م وعام 1948م متحالفة مع الإتحاد السوفيتي السابق إلى حين ظهور خلافات على السطح وإعلان يوغوسلافيا إتباع سياسة محايدة إيجابية دوليا وبدأت تلعب بعد ذلك تحت قيادة تيتو دورا مهما في السياسة الدولية وتشكيل منظمة عدم الإنحياز وتبلور هذا الدور بداية من المؤتمر الذى عقد بمدينة باندونج بإندونيسيا يوم 26 شعبان عام 1374 هجرية الموافق يوم 21 أبريل عام 1955م والذي حضرته وفود 29 دولة أفريقية وآسيوية وإستمر لمدة ستة أيام وكان النواةَ الأولى لنشأة حركة عدم الإنحياز وكان أهم وأشهر من شاركوا فيه الرئيس اليوغوسلافي حينذاك جوزيف بروز تيتو بالإضافة إلي الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ورئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو والرئيس السوداني إسماعيل الأزهري وهو المؤتمر الذى تبني آنذاك مجموعة من القرارات لصالح القضايا العربية والأفريقية والآسيوية ضد الإستعمار .
ومع إنهيار الإتحاد السوفيتي وتزايد الأصوات المنادية بفك الإتحاد اليوغوسلافي أجريت في عام 1990م أول إنتخابات حرة في جمهوريتي كرواتيا وسلوفينيا منذ الحرب العالمية الثانية وأعلنت كل منهما إضافة إلي جمهورية مقدونيا إستقلالها عام 1991م وهنا بدأت الحرب اليوغوسلافية من جانب صربيا لإسترجاع الجمهوريات المنفصلة بين الجيش الإتحادي الصربي وبين هذه الجمهوريات وفي عام 1992م أعلنت جمهورية البوسنة والهرسك إستقلالها أيضا مما أدخلها في حرب أهلية بين البوسنيين الصرب والبوسنيين الكروات وإعترفت آنذاك المجموعة الأوروبية والولايات المتحدة الأميريكية بجمهورية كرواتيا وجمهورية سلوفينيا وجمهورية البوسنة والهرسك وفي تفس العام أعلنت جمهورية يوغسلافيا الإتحادية والتي كانت تضم جمهوريتي صربيا والجبل الأسود وذلك بعد أن أعلنت باقي جمهوريات يوغسلافيا إستقلالها وقد ظل هذا الإتحاد قائما حتي عام 2003م ومن جانب آخر إستمرت الحرب المشار إليها في السطور السابقة حتي عام 1995م وإنتهت هذه الحرب مع توقيع إتفاقية دايتون للسلام عام 1995م وبذلك إنتهى الصراع المسلّح الذي دار في البوسنة والهرسك لمدة 3 سنوات وذلك بعد مفاوضات دارت في قاعدة رايت بيترسن الجوية قرب مدينة دايتون الأميريكية بين يومي 1 نوفمبر و21 نوفمبر عام 1995م كان الغرض منها وضع حد للحرب الدائرة منذ ثلاثة أعوام في منطقة البلقان وقد ترأس الوفود المشاركة في هذه المفاوضات كل من سلوبودان ميلوسيفيتش من الجانب الصربي وفرانيو تودمان من الجانب الكرواتي وعلي عزت بيجوفيتش من الجانب البوسني وبموجب هذه الإتفاقية تم تقسيم البوسنة والهرسك إلى جزئين متساويين نسبيا هما فيدرالية البوسنة والهرسك وجمهورية صرب البوسنة مع إنتشار قوات حفظ السلام الدولية بيتهما وعلي الرغم من أن التوقيع الرسمي للإتفاقية تم في باريس يوم 14 ديسمبر عام 1995م فإن الإتفاقية تعرف بإسم مدينة دايتون حيث وقّع عليها بالأحرف الأولى وفي عام 1996م بدأت سلسلة من الإضطرابات والقلاقل بصربيا حيث تظاهر مئات الآلاف في صربيا ضد نتائج الإنتخابات التي أجريت في هذا العام والتي أُعلن فوز الحزب الإشتراكي الحاكم فيها وبعد ذلك بأقل من سنتين وفي عام 1998م بدأت في إقليم كوسوفو الصربي ذو الأغلبية الألبانية أحداث شغب عنيفة أدت إلى إشعال حرب كوسوفو وفي العام التالي 1999م تدخل حلف الناتو في هذا الصراع وتم قصف صربيا بالطيران حتي تم إعلان وقف إطلاق النار ونشر قوات دولية .
وفي العام التالي عام 2000م وكنتيجة مباشرة لكل هذه الأحداث المتلاحقة بدأ الوضع الداخلي في صربيا في الإهتزاز وخاصة بعد إنتفاضة الشعب وإنتخاب كوشتونيتسا رئيساً للبلاد وسقوط رجل صربيا القوى ميلوسوفيتش والذى تم إلقاء القيض عليه بواسطة السلطات الإتحادية اليوغوسلافية في يوم 31 مارس عام 2001م للإشتباه في فساده وإساءة إستخدام السلطة والإختلاس وقد تعثر التحقيق الأولي بسبب عدم وجود أدلة دامغة تدينه مما دفع رئيس الوزراء الصربي آنذاك زوران جينجيتش إلى تسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في مدينة لاهاى الهولندية ليحاكم بتهمة إرتكاب جرائم حرب وفي بداية المحاكمة أدان ميلوسيفيتش المحكمة بأنها ووصفها بأنها غير قانونية لأنها لم يتم تكوينها بموافقة الجمعية العامة للأمم المتحدة ولذلك رفض تعيين محام للدفاع عنه وتولي هو الدفاع عن نفسه أمام المحكمة وذلك في المحاكمة التي إستمرت خمس سنوات والتي إنتهت دون حكم عندما توفي في زنزانته في لاهاي في يوم 11 مارس عام 2006م حيث كان ميلوسيفيتش يعاني من أمراض القلب وإرتفاع ضغط الدم وتوفي بسبب نوبة قلبية حادة ونفت المحكمة أي مسؤولية عن وفاة ميلوسيفيتش وذكرت أنه رفض تناول الأدوية الموصوفة له وقرر بدلا من ذلك أن يعالج نفسه وفي شهر فبراير عام 2007م أصدرت محكمة العدل الدولية حكما منفصلا في قضية الإبادة الجماعية البوسنية بأنه لا توجد أدلة إدانة دامغة تربط صربيا وميلوسيفيتش بالإبادة الجماعية التي إرتكبها صرب البوسنة في الحرب الصربية البوسنية غير أن المحكمة رأت أن ميلوسيفيتش وآخرين في صربيا خرقوا إتفاقية الإبادة الجماعية بعدم منعهم لحدوثها وعدم تعاونهم مع المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في معاقبة مرتكبي هذه الجريمة ولا سيما الجنرال راتكو ملاديتش كما إنتهكوا إلتزامهم بالإمتثال للتدابير المؤقتة التي أمرت بها المحكمة .
ومن جانب آخر ففي يوم 21 مايو عام 2006م عقدت حمهورية الجبل الأسود إستفتاء لتحديد هل يستمر إتحادها مع جمهورية صربيا أم لا وأسفر الإستفتاء عن موافقة 55.4٪ من مجموع الناخبين علي الإستقلال وعليه ففي يوم 5 يونيو عام 2006م أعلنت الجمعية الوطنية لدولة صربيا علي العالم أن جمهورية صربيا ستكون هي الخلف القانوني لإتحاد الدولة السابق وفي شهر أبريل عام 2008م تم توجيه الدعوة لصربيا للإنضمام إلى برنامج الحوار المكثف مع حلف الناتو على الرغم من الخلاف الدبلوماسي حول قضية كوسوفو حيث كان هذا الإقليم قد أعلن الإستقلال من جانب واحد عن صربيا في يوم 17 فبراير عام 2008م وهو الأمر الذى أدانته صربيا على الفور وكان لهذا الإعلان ردود فعل متنوعة من المجتمع الدولي فقد رحبت به بعض الدول علي رأسها الولايات المتحدة الأميريكية ومعظم دول الإتحاد الأوروبي في حين نددت به دول أخرى علي رأسها روسيا وتم عقد محادثات محايدة بين صربيا وسلطات كوسوفو الألبانية في بروكسل بوساطة الإتحاد الأوروبي وقد أسفر ذلك عن إتفاق بروكسل والذى بموجبه تقوم صربيا بتطبيع علاقاتها مع كوسوفو لكنها لم تعترف بإستقلالها بشكل رسمي وقد تقدمت صربيا بطلب للإتحاد الأوروبي للحصول على عضويته في يوم 22 ديسمبر عام 2009م وحصل هذا الطلب على وضع المرشح في يوم 1 مارس عام 2012م ومن ثم بدأت المفاوضات للإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي في شهر يناير عام 2014م وتستغرق مرحلة المفاوضات عادة مدة ما بين 3 إلى 6 سنوات وقد تزيد تقوم خلالها الدولة المرشحة للإنضمام إلي الإتحاد الأوروبي بتحقيق عدد 33 بند يشترطها الإتحاد الأوروبي للحصول علي عضويته منها رفع معايير الدولة في مجالات عدة مثل القضاء وحماية الطبيعة والتعليم إلى المعايير الأوروبية وكانت حكومة صربيا تهدف لإنهاء المفاوضات بحلول عام 2018م إلا أن ذلك لم يتحقق حتي الآن لأسباب عديدة علي رأسها عدم الإعتراف رسميا بكوسوفو حتي الآن إلي جانب وجود إصلاحات في النظام القضائي لابد من تحقيقها وتعديل بعض القوانين لكي تتمشي مع المعايير الأوروبية .
ومدينة بلجراد عاصمة صربيا تقع عند نقطة إلتقاء نهر الدانوب والذى يعد من أهم أنهار أوروبا وأطول أنهار الإتحاد الأوروبي ونهر الساڤا وهو نهر يخترق كلا من سلوفينيا وكرواتيا وصربيا والبوسنة والهرسك ويربط بين عواصم الدول الثلاثة الأولي وهي لوبليانا وزغرب وبلجراد علي الترتيب ويعتبر أحد روافد نهر الدانوب حيث يصب فيه في العاصمة الصربية بلجراد ويبلغ طوله 940 كيلو متر وكان يطلق عليه في العهد الروماني مسمى سافوس وغالبا ما يعتبر هو الحدود الشمالية للبلقان وفي الموقع الذى تحتله بلجراد يلتقي السهل الپانونّي لأوروبا الوسطى بشبه جزيرة البلقان وهي تعد إحدى أكبر المدن في جنوب شرق أوروبا وكانت هذه المدينة ومحيطها هو الموقع الذي نشأت فيه أكبر حضارة أوروبية ألا وهي حضارة الڤينكا التي ظهرت حوالي خلال الألفية السادسة قبل الميلاد وفي العصور القديمة سكنت المنطقة قبيلة تراقية أطلقت على نفسها إسم قبيلة سينكي وهؤلاء التراقيون القدماء كانوا عبارة عن جماعات تعيش في قرى صغيرة حياة بسيطة ويمارسون أعمال الزراعة وبعض الصناعات الأولية ولم تكن لهم دولة تجمعهم فكان رجالهم يعملون جنودا مرتزقة في جيوش جيرانهم وكانت المنطقة التي يعيشون فيها تسمي تراقيا وهي المنطقة التي تضم جنوب شرق البلقان وشمال شرق اليونان وجنوب بلغاريا وتركيا الأوروبية وكانت تطل علي ثلاث بحار هي البحر الأسود ومضيق البوسفور من الشرق وبحر مرمرة ومضيق الدردنيل وبحر إيجة من الجنوب كما كانت تحدها من الغرب جبال منطقة صوفيا ومن الشمال يحدها وادي نهر الدانوب وكان هناك تداخل في حدود تراقيا التاريخية وحدود مقدونيا التاريخية ببلاد اليونان وحاليا فإن هذه المنطقة مقسمة سياسيا بين بلغاريا وتركيا واليونان منذ عام 1923م وقد إستمر هؤلاء الناس يقطنون المنطقة حتى عام 279 قبل الميلاد عندما إستوطنت المدينة إحدى القبائل الكلتية وهي قبائل أوروبية تستخدم اللغة الكلتية التي تعتبر فرعاً من اللغات الهندية الأوروبية وسمتها سينكيدون بمعنى حصن السينكي تيمنا بالقوم الذين سبقوهم إلى السكن والإقامة في المنطقة وخلال العهد الروماني صنّفت بلجراد مدينةً كاملةً الحقوق وبحلول عام 520م كان الصقالبة أو السلاڤيون قد إستوطنوها بشكل دائم وهم مجموعة عرقية لغوية يتحدثون باللغات السلافية وهي مجموعة فرعية من اللغات الهندوأوروبية إستقروا أساساً في أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية ودول البلقان وقد شهدت مدينة بلجراد 115 حربا خاضتها أمم مختلفة لتسيطر على المدينة بفعل موقعها الإستراتيجي وقد تمت تسويتها بالأرض 44 مرة على يد بعض تلك الجيوش كما خضعت بلجراد خلال العصور الوسطى لسيطرة الروم البيزنطيين والفرنجة والبلغار والمجر والصرب وفي عام 1521م فتحها العثمانيون في عهد السلطان سليمان الأول والملقب بالقانوني وتحولت إلى عاصمة لأملاك العثمانيين بالمنطقة وأصبحت أهم المدن في أوروبا العثمانية وإحدى أكبر المدن الأوروبية .
وبقيت بلجراد تحت السيطرة العثمانية 150 سنة ووفدت إليها مجموعات من الأتراك واليونانيين والأرمن بحيث وصل عدد سكانها في مطلع القرن السابع عشر الميلادى إلى مائة ألف نسمة أي أنها أصبحت آنذاك المدينة الثانية من حيث عدد السكان في الإمبراطورية العثمانية بعد إسطنبول وإلى تلك الفترة بالتحديد يعود الطابع الشرقي للمدينة حيث بنيت فيها الكثير من الحمامات العامة والخانات والمساجد والمنازل ذات الطابع التركي والعربي وإعتنق طواعية عدد من سكانها الإسلام دينا وفي عام 1594م قام بالمدينة تمرد كبير على الحكم العثماني فسحقه الجيش وأخمد الثورة وكان بعض المحرضين على الثورة من رجال الدين فقام الصدر الأعظم سنان باشا بالإنتقام منهم عبر حرقه رفات القديس ساڤا على إحدى التلال المحيطة بالمدينة وفي القرن العشرين الماضي شيدت كاتدرائية كبيرة في الموقع إحياءا لهذه الذكرى وقد إستطاعت النمسا إنتزاع بلجراد من الدولة العثمانية ثلاث مرات المرة الأولي بين عام 1688م وعام 1690م والمرة الثانية بين عام 1717م وعام 1739م والمرة الثالثة بين عام 1789م وعام 1791م وكان العثمانيون يعودون لإسترجاع المدينة في كل مرة بعد معارك شديدة مع النمسا كانت تؤدي لتدمير أقسام كبيرة من بلجراد وخلال هذه الفترة تراجع عدد سكانها بفعل هجرتين كبيرتين إتفق المؤرخون على تسميتها بالهجرات الصربية العظيمة حيث إنسحب آلاف الصرب بقيادة بطاركتهم من المدينة إلى داخل أراضي الإمبراطورية النمساوية وخلال القرن التاسع عشر الميلادى حدثت ثورتان صربيتان ضد السلطة العثمانية وخلال الثورة الأولي منهما سيطر الثوار الصرب على المدينة لفترة من الزمن إمتدت من يوم 8 يناير عام 1807م وحتى عام 1813م عندما إستعادها العثمانيون مجددا وبعد قيام الثورة الصربية الثانية في عام 1815م حصلت صربيا على إستقلال شبه ذاتي إعترف به الباب العالي بحلول سنة 1830م حيث إعترف به السلطان محمود الثاني رسميا في هذا العام مما فتح الطريق أمام مسار من التبدلات في الخارطة العمرانية والسكانية لمدينة بلجراد وفي عام 1841م قام الأمير ميهايلو أوبرينوڤيتش الثالث بنقل عاصمة البلاد من كراجوييڤاتش إلى بلجراد وبتاريخ 10 يونيو عام 1868م كان الأمير سالف الذكر يتجول في إحدى المنتزهات الواقعة بالقرب من منزله الريفي في ضواحي بلجراد ترافقه زوجته كاترينا ووالدتها الأميرة أنكا عندما أطلق عليهم النار بعض الأشخاص فجرحت زوجة الأمير بينما قُتل هو ووالدتها .
وبحلول عام 1878م حصلت إمارة صربيا على إستقلالها الكامل عن الدولة العثمانية وتحولت إلى مملكة في عام 1882م بإسم مملكة الصرب ومن ثم زادت أهمية بلجراد كمدينة أساسية في البلقان وأخذت في التطور سريعا غير أن صربيا إستمرت بلدا زراعيا وكان أغلب الناس يعيشون من ناتج زراعة أراضيهم ولم يزيدعدد سكان المدينة بشكل يذكر حيث بلغ 70 ألف نسمة بحلول عام 1900م في الوقت الذي كان فيه عدد سكان صربيا يصل إلى 1,5 مليون نسمة غير أنه بحلول عام 1905م حصل إنفجار سكاني هائل في بلجراد فوصل عدد السكان إلى 80 ألف نسمة وإستمر يزداد حتى بلغ 100 ألف نسمة عند إندلاع الحرب العالمية الأولى في عام 1914م وذلك دون إحتساب عدد سكان القسم الشمالي من المدينة الذي كان يتبع الإمبراطورية النمساوية المجرية وخلال هذه الحرب المذكورة وقعت معظم الأعمال العسكرية بالبلقان على مقربة من بلجراد وقصفتها السفن الحربية النمساوية المجرية في يوم 29 يوليو عام 1914م ومن ثم إستولى عليها الجيش النمساوي المجري بقيادة الفريق أول أوسكار پوتيورك في يوم 30 نوفمبر عام 1914م وفي يوم الخامس عشر من شهر ديسمبر عام 1914م إستعادت القوات الصربية المدينة مجددا بقيادة المشير رادومير پوتنيك إلا أنها عادت لتسقط في يد القوات الألمانية والنمساوية المجرية بقيادة المشير أوجست آل ماكنسن بعد معركة طويلة دارت رحاها بين يوم 6 ويوم 9 أكتوبر من عام 1915م وإستمرت المدينة خاضعة لقوات المحور حتى تم تحريرها في يوم 5 نوفمبر من عام 1918م على يد القوات الفرنسية والصربية بقيادة المشير لويس فرانشيه ديسپيريه والأمير الصربي الكسندر الأول وبعد إنتهاء الحرب أصبحت مدينة سوبوتيكا أكبر مدن المملكة الصربية بما أن بلجراد كانت قد تدمرت وإعتبرت من المدن المنكوبة لكنها على الرغم من ذلك قامت من بين الأنقاض بسرعة وإستعادت مركزها السابق بحلول أوائل عقد العشرينيات من القرن العشرين الماضي وذلك حتي تفككت الإمبراطورية النمساوية المجرية عام 1918م وفي عام 1929م أعلنت بلجراد عاصمةً لمملكة يوغوسلاڤيا بعد أن تم تغيير إسم الدولة من مملكة الصرب والكروات والسلوڤانيين وقسمت هذه المملكة إلى عدة مقاطعات وشكلت بلجراد بما فيها قسمها الشمالي القديم والذى سمي زيمون ومدينة پانتشيڤو وحدات إدراية مستقلة بذاتها .
وخلال هذه الفترة أخذت المدينة بالنمو نموا مضطردا وأخذت تظهر فيها ملامح الإزدهار والعصرنة فإرتفع عدد سكانها إلى 239 ألف نسمة بحلول عام 1931م وبحلول عام 1940م وصل عدد السكان إلى 320 ألف نسمة وقد أظهرت الإحصاءات أن نسبة النمو السكاني بين عام 1921م وعام 1948م وصلت إلى 4.08% في السنة وإفتتح أول مطار في بلجراد عام 1927م وفي عام 1929م إفتتحت أوّل محطة إذاعية وفي عام 1935م إفتتح جسر پانتشيڤو القائم فوق نهر الدانوب مما سهل حركة المواصلات من وإلى المدينة . وبعد قيام الحرب العالمية الثانية وفي يوم 25 مارس عام 1941م قامت حكومة وصي عرش مملكة يوغوسلافيا الأمير پول قره دورديڤيتش بالتوقيع على الإتفاق الثلاثي والذى بموجبه إنضمت يوغوسلافيا إلى معسكر دول المحور في محاولة منها لتجنّب الدخول في تلك الحرب وقوبل هذا الأمر بإستنكار شعبي واسع وقامت المظاهرات في شوارع بلجراد وأطاح إنقلاب عسكري بقيادة الفريق أول جوي دوسان سيموڤيتش بالأمير وتم تنصيب الملك بطرس الثاني على عرش الدولة بدلا منه وقد تعرضت المدينة لقصف جوى كثيف من قبل سلاح الجو الألماني في السادس من شهر أبريل من نفس العام ردا على نقض البلاد للإتفاق الثلاثي وقد قُتل في هذا القصف حوالي 24 ألف شخص ثم إجتاحت القوات الألمانية والإيطالية والمجرية والبلغارية يوغوسلاڤيا بعد ذلك ووصلت حتى مشارف منطقة زيمون شمالي بلجراد وحولتها إلى ولاية نازية هي ولاية كرواتيا المستقلة وأصبحت بلجراد مقر حكومة نيديتش الموالية لالمانيا برئاسة الفريق أول ميلان نيديتش كما قام النازيون بذبح العديد من سكان بلجراد خلال صيف وخريف عام 1941م ردا على حرب العصابات التي إنتهجتها قوات المقاومة اليوغوسلافية والتي كلفت الجيش الألماني خسائر فادحة وكان من ضمن الذين تعرضوا للقتل والإضطهاد بشكل أساسي اليهود من السكان حيث كانوا يجمعون ويعدمون رميا بالرصاص بناءا على أمر الفريق أول فرانز بوهمي الحاكم العسكري الألماني في صربيا الذي عرف عنه صرامته وقسوته الشديدة في التعامل مع الثوار فقد أعلن أنه مقابل كل الماني يقتل فسوف يعدم 100 صربي أو يهودي .
وكان قائد المقاومة اليوغوسلافية ضد الإحتلال النازي في بلجراد حينذاك الرائد زاركو تودوروڤيتش والتر والذى إعتقل في عام 1943م وأُرسل إلى إحدى مخيمات الإعتقال النازية وتعرضت بلجراد حينذاك للدمار مرتين مثلها في ذلك مثل مدينة روتردام الهولندية فبعد أن قصفها النازيون عاود الحلفاء قصفها في يوم 16 أبريل عام 1944م وقُتل في ذلك الهجوم حوالي 1100 شخص وكان ذلك عشية عيد الفصح وفق التقويم الشرقي وقد إستمرت أنحاء كثير من المدينة خاضعة للنازيين الألمان حتى يوم 20 أكتوبر عام 1944م عندما قام الجيش الأحمر الروسي ومسلحي الحزب الشيوعي اليوغوسلاڤي بتحريرها وفي يوم 29 نوفمبر عام 1945م أعلن الرائد جوزيف بروز تيتو من بلجراد قيام جمهورية يوغوسلاڤيا الإشتراكية الإتحادية والذى حكمها حتي مماته عام 1980م .
وبعد الحرب العالمية الثانية أخذت بلجراد تنمو بإضطراد في ظل الحكم الشيوعي حتى أصبحت مركزا صناعيا مهما في قارة أوروبا والعالم أجمع وفي عام 1958م إفتتحت أول محطة تليقزيونية في المدينة وأخذت تبث برامجها اليومية وفي عام 1961م عقدت دول عدم الإنحياز مؤتمرها في المدينة برئاسة الرئيس اليوغوسلافي حينذاك جوزيف بروز تيتو وفي عام 1968م حدثت عدة مظاهرات طلابية منددة بحكم الأخير فوقع عدد من الإشتباكات بين المتظاهرين والشرطة في الشوارع مما أسفر عن وقوع بعض الضحايا وفي عام 1972م كانت بلجراد مركز المنطقة الموبوءة بآخر موجات الجدري في أوروبا والذي تمكنت السلطات المعنية من إحتوائه بحلول أواخر شهر مايو من ذلك العام بفضل إتباعها إجراءات وقائية صارمة شملت الحجر الصحي القسري والتطعيم الشامل وظلت المدينة عاصمة ليوغوسلافيا حتي عام 2003م ثم عاصمة لإتحاد جمهوريتي صربيا والجبل الأسود من عام 2003م حتي عام 2006م ثم عاصمة لدولة صربيا من عام 2006م وحتي الآن ويقع مقر الجمعية الوطنية الصربية بالإضافة لمقر الحكومة وإدراتها المختلفة داخلها كذلك هناك 64 سفارة أجنبية تتخذ منها مقرا لها وهي تتمتع بحكم ذاتي وحكومة خاصة بها ويعد وضعها الإداري وضعا مميزا وفقا لما ورد في تنظيم مناطق صربيا حيث تنقسم المناطق الحضرية التابعة للمدينة إلى 17 بلدية لكل منها مجلسها الخاص وهي تغطي 3.6% من مساحة دولة صربيا ويقطنها ما نسبته 15% من سكان البلاد التي تعد مركزها الإقتصادي والمالي الرئيسي ولذا فهي تتمتع بإقتصاد منتعش نسبيا حيث تعتبر أكثر المناطق الصربية إزدهارا ونموا من الناحية الإقتصادية وهي مقر المصرف المركزي الصربي كما تتخذ عدة شركات صربية مهمة منها مقرا لها منها شركة طيران جات وشركة صربيا للإتصالات وشركة ديلتا القابضة والشركة الصربية لتأمين الكهرباء ومصرف كوميرسيجيلانا ولكارباص للنقل العام كذلك هناك عدة فروع لشركات دولية بها مثل سوسيتيه جنرال وأسوس وإنتل موتورولا وأطعمة كرافت ومايكروسوفت وينيليڤر وشركة تبغ اليابان وپروكتر وكامبل .
وجدير بالذكر أن مدينة بلجراد قد حصدت العديد من الأسماء عبر التاريخ معظمها يترجم حرفيا إلى المدينة البيضاء بما فيها الإسم الصربي الحالي باوكرد فهو عبارة عن مزج بين كلمتي باو بمعني أبيض وكرد بمعني بلدة أو مدينة وهذا الإسم به شبه كبير من أسماء مدن عديدة أخرى في الوطن السلاڤي منها بيلجورود في روسيا وبيوجراد في كرواتيا ومن الأسماء الأخرى التي عرفت بها بلجراد عبر التاريخ سينكيدون وهو الإسم الذي أطلقته عليها قبيلة سكورديسكي الكلتية وهو ينقسم إلى قسمين دون بمعنى نزل أو حظيرة أو حصن وسينكي الذى يعني دائرة بالكلتية وبالتالي فإن إسم المدينة يصبح الحصن الدائري وهناك نظرية أخرى مفادها أن هذا الإسم الكلتي معناه المدينة البيضاء أيضا مثله في ذلك مثل الأسماء المعاصرة وبعد أن سيطرت الإمبراطورية الرومانية على كامل أوروبا الجنوبية قام الرومان بتغيير إسم المدينة إلى اليونان البيضاء ولم يظهر الإسم الصربي للمدينة باوكرد الحالي إلا عام 878م وذلك في رسالة أرسلها البابا يوحنا الثامن إلى بوريس ملك بلغاريا تحدث فيها عن المدينة أو الحصن الأبيض وبعد ذلك قام البلغار بإطلاق إسم بلغاريا البيضاء على المدينة طيلة عهد حكمهم للمنطقة وفي القرون الوسطى حملت المدينة أسماء أخرى كانت كلها مترادفة تقريبا فأطلق عليها الألمان إسم المدينة الإغريقية البيضاء والإيطاليون القلعة البيضاء والمجريون سموها القلعة البيضاء المجرية وكان الروم البيزنطيون هم الوحيدون الذين أطلقوا على المدينة إسما مختلفا أثناء العصور الوسطى حيث سموها ڤيليكراديون أو ڤيليكرادا ولما فتحها العثمانيون أطلقوا عليها إسما عربيا هو دار الجهاد كونهم إتخذوها نقطة الإنطلاق والجهاد في قارة أوروبا ومما يذكر أن الألمان كانوا يخططون لتسمية المدينة بمدينة الأمير يوجين بحال إنتصارهم في الحرب العالمية الثانية وتثبيت أقدامهم في المناطق التي غزوها وإحتلوها في البداية وذلك تيمنا بالأمير النمساوي يوجين الساڤويوي الذي إنتزعها من يد العثمانيين عام 1717م قيل أن ينتزعوها منه مرة أخرى عام 1739م .
يمكنكم متابعة الجزء الثانى من المقال عبر الرابط التالى:
http://www.abou-alhool.com/arabic1/details.php?id=40526 |