بقلم الدكتور / عادل عامر
أن ظاهرة التحرّش الجنسي، التي استفحلت في الآونة الأخيرة وصارت ظاهرة مُـقلقة ومُـخجلة، تقِـف خلفها أبعادٌ اقتصادية وأخرى اجتماعية ونفسية، منها الكبْـت الجنسي النّـاتج عن تأخّـر سنّ الزواج والمُـغالاة الممجوجة في المُـهور، إضافة إلى البطالة التي توشك أن تفترِس زهرة شباب العالم العربي، فضلا عن الفقر والجهل والإحساس بانعدام العدالة وحالة اليأس والإحباط وانتشار العشوائيات، والفراغ القاتل، مطالبين كل فئات وشرائح المجتمع بالتكاتف والتعاون للقضاء على الظاهرة، التي تشين الأمة العربية جمعاء.
أن المرأة العربية لديها خصوصية في بعض أشكال التمييز الواقعة عليها في المجتمع ككل وفي ميدان العمل بوجه خاص حيث أن التمييز هنا يرجع إلى عادات ثقافية واجتماعية منذ النشأة حيث أن الأسرة لا تقوم بتعليم وتربية أبنائها كيفية التعامل مع المرأة أو كيفية تعامل المرأة مع الرجل. وهناك أيضا الإعلام العربي الذي يعد من العوامل الهامة لتفشي ظاهرة العنف والتمييز ضد المرأة حيث أنه يستغل جسد المرأة بصورة مثيرة للاشمئزاز.
ظاهرة التحرش يجب أن تدرس ضمن كل أبعادها والحلول التي يجب اتخاذها عليها أن تكون شاملة ولا تتوقف على المبادرات العشوائية، الدولة أول المسؤولين عن فرض الأمن الذي تحتاجه كل امرأة كأي مواطن يحتاج للتنقل والحركة بأمان دون التعرض لأي أذى مهما كان شكله، تماما كما من شأنها تشريع قوانين رادعة وقاسية ضد المتحرشين وضد كل عملية ترهب المرأة عن ممارسة نشاطاتها، من واجب الدولة أن تحافظ على مستوى اقتصادي يوازن بين الطبقات الاجتماعية المتفاوتة،
فالجماعات التي تعيش على هامش الحياة في حارات عشوائية تفتقد إحساسها بالانتماء للمجتمع وتنزع للتخريب لتلفت الانتباه لها، تماما كما أن البطالة يمكن أن تكون من أخطر الأسباب حيث تفصل شعور المواطن عن دولته وتكرس داخله انفعالات الغضب والقهر التي يتم تفريغها بمثل هذه السلوكيات.
إن أحد أهم ما يمكن تشخصيه في ظاهرة التحرش التي انفجرت أخيرا في مجتمعاتنا هو الطبيعة التي نتعامل بها مع هذه الجريمة، فالكثير جدا من الشرائح الاجتماعية والقوانين في البلدان العربية لا تعترف بالاغتصاب كجريمة، والأسوأ أنها في مختلف الحالات يمكن أن تضع اللوم على الضحية لا على الجاني، ولأن الضحايا غالبا هن من النساء سيكون لعقدة الثقافة الذكورية العامل الأهم في تحليل هذه الظاهرة. كثير من الشرائح الاجتماعية العربية لا تعترف بالاغتصاب كجريمة، والأسواء أنها يمكن أن تضع اللوم على الضحية لا على الجاني
كان ولم يزل التعامل مع جريمة الاعتداء والتحرش على أنها بسبب من سوء سلوك النساء وابتزازهن للرجال بالحضور السافر، ضعف احتشام المرأة كان يعتبر السبب الرئيس في كل التفسيرات العربية لهذه الجريمة، عدا عن أن التحرش والاعتداء يكاد لا يصبح جريمة بل يصبح حقا طبيعيا للرجل، فالأنثى متاعه على كل حال، الزوجة التي يحرم عليها رفض العلاقة الجنسية في أي وقت تعد هي المذنبة إذا تمنعت عن زوجها وأخذت بالقوة، في شرعنا لا يعد هذا اعتداء، والفتاة التي تنفرد برجل في أي موعد خاص تصبح محل الذنب حتى لو تم اغتصابها وقتلها، لأنها هي التي سمحت بذلك بمجرد قبولها بالتفرد برجل، هذا التطرف هو ما جعل المرأة أي امرأة مباحة لكل رجل أيا كان،
في كل مكان وفي كل زمان، لم يعد فرقا بين المرأة السافرة والمرأة المختفية بالسواد، كلتاهما تتعرض للتحرش، لأن كل النساء هن اليوم مباحات لمجرد خروجهن من البيوت وتواجدهن في الشوارع، إن مجرد ظهور المرأة أصبح سببا كافيا للتحرش بها، لقد أصبح السؤال هل التحرش فعلا جريمة يقع بها الرجل تحت سطوة توهمات نفسية وثقافية اجتماعية ذكورية تسوغ حقه كذكر في التمتع بأي امرأة،
أم أنه أصبح نوعا من العقاب الذي يفرضه الرجال على النساء لمجرد ظهورهن في الفضاءات العامة، هل التحرش نزعة نفسية شاذة أم هو سلاح جريمة؟ في الحقيقة يمكن اعتبار ظاهرة التحرش في العالم العربي اليوم نتيجة تدهور أخلاقي وقيمي في ثقافة المجتمع وفي دول محكومة باستبداد سياسي عاجزة عن توفير أبسط حقوق الإنسان لمواطنيها، ظاهرة التحرش ليست تصرفا فرديا لا يتحمل الجميع مسؤوليته بل هو نتيجة لتخلف الجميع عن مسؤولياتهم بدءا من المتحرش وانتهاء بالضحية التي تستسلم لقدرها وتتكتم عن المجرم بدلا من الثأر لنفسها منه. للأسف ظاهرة أصبحت منتشرة بشكل غير طبيعي عند الشباب في البلاد العربية. وفي تصوري الأوضاع الاقتصادية الصعبة والبطالة وارتفاع تكاليف الزواج والبعد عن الدين والملابس غير المحتشمة لبعض البنات، كلها أسباب أدت إلى انتشار هذه الظاهرة.
وأكثر أشكال المضايقات الجنسية انتشارا هو التحرش بالجنس الآخر، مثل تحرش الرجال بالنساء، وهذا يشمل التعليقات الشفهية غير المرغوب فيها، والطلبات غير المناسبة والمتكررة لتحديد موعد غرامي، والملاحظات حول الشكل، والسلوك غير اللفظي، مثل التحديق، والصفير أحيانا، والإيماءات التي غالبا ما تأتي من أشخاص متساوين في المركز والقوة مع الضحية (وهي أمور تبلغ نسبتها حوالي 55 في المئة من حالات التحرش الجنسي).
إلا أن الاعتماد على البلاغات الرسمية عن التحرش الجنسي لا يكشف عن المدى الحقيقي لانتشار هذه الظاهرة. فإذا ما أخذنا في الاعتبار استمرارية هذه السلوكيات، سنجد أنه من المرجح أنها تمارس بشكل أكبر، لكن الاعتراف بها على أنها تحرش جنسي يكون أقل ترجيحا. واندفعت وراء فكرة التحرش مثلما يحدث في الميادين و أمام دور السينما وهو ما يتكرر في الأعياد وفى الأماكن العامة في وضح النهار وتحت أعين المجتمع. والتحرش ليس مجرد تحرشات لفظية أو حركية ولكنه يتعدى هذا إلى طرح الأفكار والآراء المريضة استنادا الى أفكار أجمع العلماء أنها بعيدة كل البعد عن روح ومضمون الشريعة الاسلامية والقيم والاخلاق التي تحافظ على نقاء النفس وصحه العقل وسلام الروح.
اللافت في الأمر هو بعد كل هذه الحالات لم تنصف المجتمعات العربية المرأة فيما يخص قضية التحرش الجنسي فلا تزال الكثير من النساء يشعرن بالخزي والعار إذا تحدثن أو أبلغن عن حالات تحرش تحدث لهن ؛ فالمجتمع لا يزال يحملها مسئولية ما يحدث ويتمثل ذلك في القوانين التي تتعلق بجريمة التحرش , حيث تصل العقوبة في المجتمعات المتقدمة إلى عقوبة الإعدام ، أما في العالم العربي أقصى عقوبة هي السجن ، وحتى أن تم تغليظ العقوبات فلا توجد آليات حقيقة لتنفيذ تلك العقوبات وتفعيلها, مع الاهتمام بنشر الوعي الأخلاقي والديني للحد من تكرار مثل هذه الحوادث البشعة.
يعني التحرش الجنسي بشكل عام ذلك السلوك الذي يهين الفرد ويحط من قدره استنادًا لنوع ذلك الفرد، أما التحرش الجنسي بالأنثى فيشير إلى كل فعل أو سلوك يصدر من ذكر ضد أنثى رغمًا عنها، سواءً أكان بالنظر أو اللفظ أو الاحتكاك الجسدي، وقد يترك هذا الفعل أو السلوك أذى نفسيًا أو ماديًا أو اجتماعيًا لدى الأنثى التي تتعرض له. والتحرش بالنسبة للأنثى هو نشاط غير مرغوب فيه unwanted, يتضمن مضايقات جنسية تتمثل في نظرات فاحصة للجسد، وألفاظ ذات مغزى جنسي مضمر أو صريح، وطلبات جنسية قد تكون مصحوبة بتهديدات معينة.
والحق أن التحرش الجنسي لا يقتصر على مجتمع بعينه أو ثقافة بذاتها، وإنما هو ظاهرة اجتماعية منتشرة في كل المجتمعات الإنسانية، وتؤشر على ذلك إحصاءات ودراسات متواترة. لكن أظهرت العديد من الدراسات والإحصاءات العلمية أن ثمة تزايدًا ملحوظًا في ظاهرة التحرش بالنساء في المجتمع العربي وذلك بصورة واضحة خلال العقدين الأخيرين من هذا القرن. فقد أثبتت بعض المسوح العلمية تفشي ظاهرة التحرش الجنسي في أماكن العمل ، والواقع أن هناك العديد من الدراسات والبحوث التي حاولت الكشف عن أسباب انتشار وتزايد معدلات التحرش في مجتمعاتنا العربية،
ورصدت معظم هذه الدراسات الأسباب المعتادة للظاهرة، والتي يمكن أن نسميها الأسباب النمطية للتحرش، والتي تدور عادة حول أزمة عملية التنشئة الاجتماعية في الأسرة العربية المعاصرة، وضعف الضوابط القانونية، وغياب القيم الأخلاقية، وفشل النظام التعليمي وسطوة وسائل الإعلام إسهامها بشكل غير مباشر في زيادة معدلات الظاهرة . . . الخ، ورغم أهمية هذه العوامل وتأثيرها الكبير، إلا أن التحليل الفاحص للظاهرة يكشف عن أن ثمة أسبابًا وعوامل كامنة مسكوت عنها تمثل العوامل الأكثر تأثيرًا في تفاقم الظاهرة واتساعها، نناقش أهمها في هذا السياق.
ينبغي ابتداءً ألا نعزل تلك المشكلة عن كل المشكلات والقضايا المرتبطة بوضعية المرأة في مجتمعنا العربي من ناحية، وعن مجمل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية للمجتمعات العربية المعاصرة من ناحية أخرى. إذ أن ظاهرة التحرش تمثل انعكاسًا مباشرًا لكل تلك الظروف بكل تجلياتها وتعقيداتها.
والحقيقة أن ثمة عوامل مترابطة كامنة في بنية المجتمع العربي تسهم بشكل عميق في حدوث الظاهرة، وفي تمددها في فضاءات عديدة، وتعد تلك العوامل بمثابة المصادر الأولية – أو معامل التفريخ – التي تنبثق منها مختلف العوامل الأخرى التي تساعد في تفشي الظاهرة، |