بقلم المهندس: طارق بدراوى
ولننتقل الآن إلي السياسة الداخلية للسلطان محمد الفاتح وقد يظن البعض أنه كان مهتما فقط بالفتوحات وتوسيع أملاك الدولة العثمانية ونشر دين الإسلام لكن الحقيقة أنه كان شديد الإهتمام أيضا بالسياسية الداخلية حيث كان محبا للعلم والعلماء لذلك إهتم ببناء المدارس والمعاهد في جميع مدن وقرى دولته وفاق أجداده في هذا المضمار وبذل جهودا كبيرة في نشر العلم وإنشاء دور التعليم وأدخل بعض الإصلاحات في نظام التعليم وأشرف على تهذيب المناهج وتطويرها وأوقف عليها الأوقاف العظيمة وقام بتنظيم هذه المدارس وترتيبها على درجات ومراحل ووضع لها المناهج وحدد العلوم والمواد التي تدرس في كل مرحلة ووضع لها نظام الإمتحانات الدقيقة للإنتقال للمرحلة التي تليها وكان يزور المدارس أحيانا ولا يأنف من سماع الدروس التي يلقيها الأساتذة ويحضر إمتحانات الطلبة ولا يبخل بالعطاء للنابغين منهم ومن أساتذتهم وجعل التعليم في كافة مدارس الدولة بالمجان وكانت المواد العامة التي تدرس في تلك المدارس في المراحل الأولي للتعليم هي التفسير والحديث والفقه والأدب والبلاغة وعلوم اللغة والهندسة وفي المراحل التالية كانت مناهج المدارس تتضمن نظام التخصص فكان للعلوم النظرية قسم خاص وللعلوم التطبيقية قسم خاص أيضا وأنشأ السلطان محمد الفاتح بجانب مسجده الذي بناه بالقسطنطينية ثمان مدارس على كل جانب من جوانب المسجد يتوسطها صحن فسيح وكان فيها يقضي الطالب المرحلة الأخيرة من دراسته وألحقت بهذه المدارس مساكن للطلبة يقيمون فيها ويأكلون طعامهم وخصصت لهم منحة مالية شهرية وأنشأ بجانبها مكتبة خاصة وكان يشترط في الرجل الذي يتولى أمانة هذه المكتبة أن يكون من أهل العلم والتقوى متبحرا في أسماء الكتب والمؤلفين كما قرب السلطان العلماء ورفع قدرهم وشجعهم على العمل والإنتاج وبذل لهم الأموال ووسع لهم في العطايا والمنح والهدايا وكرمهم غاية التكريم وخلال الفتوحات التي فتحها كان حريصا علي ألا يمس علماء البلاد المفتوحة أي ضرر لكي يستفاد بهم وكان من مكانة الشيخ أحمد الكوراني معلمه الأول أنه كان يخاطب السلطان بإسمه ولا ينحني له ولا يقبل يده بل يصافحه مصافحة عادية وكان لا يأتي إلى السلطان إلا إذا أرسل إليه وكان يعظه ويقول له إن مطعمك حرام وملبسك حرام فعليك بالإحتياط وكذلك كان يتعامل مع الشيخ آق شمس الدين الذي درس له العلوم الأساسية في ذلك الزمان وهي القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه والعلوم الإسلامية واللغات العربية والفارسية والتركية وكذلك العلوم العلمية مثل الرياضيات والفلك والتاريخ والحرب حيث أنه كان ضمن العلماء والمدرسين الذين أشرفوا على السلطان محمد عندما تولى إمارة أماسيا ليتدرب على إدارة الولاية وأصول الحكم وإستطاع الشيخ آق شمس الدين أثناء أداءه لمهمته هذه أن يقنع الأمير الصغير ويرسخ في ذهنه حينذاك بأنه هو الأمير المقصود بالحديث النبوي الشريف لتفتحن القسطنطينية ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش وكان هو أول من ألقى خطبة الجمعة في مسجد آيا صوفيا بعد فتح القسطنطينية وكان السلطان محمد الفاتح يحبه حبا عظيما وكانت له مكانة كبيرة في نفسه وقد قال السلطان لمن حوله بعد الفتح إنكم ترونني فرحا فرحي ليس فقط لفتح هذه القلعة إن فرحي يتمثل في وجود شيخ عزيز الجانب في عهدي هو مؤدبي ومعلمي الشيخ آق شمس الدين وعبر السلطان عن توقيره وإحترامه لشيخه في حديث له مع وزيره محمود باشا حيث قال إن إحترامي للشيخ آق شمس الدين إحترام غير إختياري إنني أشعر وأنا بجانبه بالإنفعال والرهبة .
وإهتم السلطان محمد الفاتح أيضا بالأدب والشعر وكان هو نفسه شاعرا مجيدا وكان يصاحب الشعراء ويصطفيهم وإستوزر الكثير منهم وكان في بلاطه ثلاثون شاعرا يتناول كل منهم راتبا شهريا قدره ألف درهم وكان مع هذا ينكر على الشعراء التبذل والمجون والدعارة ويعاقب من يخرج منهم عن الآداب بالسجن أو يطرده من بلاده وكان السلطان محمد الفاتح يكتب أشعاره بإسم عوني وبذلك فقد كان يعد أول شاعر سلطاني يتخذ لنفسه إسما مستعارا وكان من مؤلفاته ديوان شعر باللغة التركية معظمه في الغزل ومن شغفه بالشعر عهد إلى الشاعر التركي شهدي أن ينظم ملحمة شعرية تصور التاريخ العثماني على غرار الشاهنامة الفارسية التي نظمها الشاعر الفارسي الشهير الفردوسي كما قام بإستقدام رسامين من إيطاليا إلى القصر السلطاني لإنجاز بعض اللوحات الفنية وتدريب بعض العثمانيين على هذا الفن الرفيع وكما ذكرنا في مقدمة هذا المقال كان السلطان محمد الفاتح يجيد عدد 8 لغات وأدرك منذ سنوات عمره الأولي أهمية الترجمة ومن ثم دعم حركة الترجمة والتأليف لنشر المعارف بين رعاياه بالإكثار من نشر المكاتب العامة وأنشأ له في قصره خزانة خاصة إحتوت على غرائب الكتب والعلوم وكان بها عدد 12 ألف كتاب ومجلد عندما إحترقت كما أمر بنقل كثير من الآثار المكتوبة باليونانية واللاتينية والعربية والفارسية إلى اللغة التركية وقام بنفسه بنقل كتاب التصريف في الطب للزهراوي إلى اللغة التركية وعندما وجد كتاب بطليموس في الجغرافيا وخريطة له طلب من العالم الرومي جورج أميروتزوس وإبنه أن يقوما بترجمته إلى العربية وإعادة رسم الخريطة باللغتين العربية واليونانية وكافأهما على هذا العمل بعطايا واسعة كما قام العلامة القوشجي بتأليف كتاب بالفارسية ونقله للعربية وأهداه للفاتح ومما يذكر أنه كان شديد الإهتمام باللغة العربية أكثر من غيرها ولذا فقد طلب من المدرسين بالمدارس الثمانية المحيطة بمسجده أن يهتموا إهتماما شديدا بعلوم وفقه اللغة العربية ومن جانب آخر كان السلطان محمد الفاتح مغرما ببناء المعاهد والقصور والمستشفيات والخانات والحمامات والأسواق الكبيرة والحدائق العامة وأدخل المياه إلى مدينة إسطنبول العاصمة بواسطة قناطر خاصة وشجع الوزراء وكبار رجال الدولة والأغنياء والأعيان على تشييد المباني وإنشاء الدكاكين والحمامات وغيرها من المباني التي تعطي المدن بهاءا ورونقا وإهتم بالعاصمة إهتماما خاصا وكان حريصا على أن يجعلها أجمل عواصم العالم وحاضرة العلوم والفنون ومن ثم كثر العمران في عهد الفاتح وإنتشر فنجد أنه قد أنشئ في عهده أكثر من ثلاثمائة مسجد منها 192 مسجدا في إسطنبول وحدها بالإضافة إلى 57 مدرسة ومعهدا و59 حماما عاما وعلاوة علي ذلك فقد إهتم بدور الشفاء ووضع لها نظاما مثاليا في غاية الروعة والدقة والجمال فقد كان يعهد بكل دار من هذه الدور إلى طبيب ثم زيد إلى إثنين من أمهر الأطباء من أي جنس كان ويعاونهما كحال وجراح وصيدلي وجماعة من الخدم والبوابين وكان يشترط في جميع المشتغلين بالمستشفى أن يكونوا من ذوي القناعة والشفقة والإنسانية وألزم الأطباء أن يعودوا المرضى مرتين في اليوم وأن لا تصرف الأدوية للمرضى إلا بعد التدقيق في إعدادها وكان يشترط في طباخ المستشفى أن يكون عارفا بطهي الأطعمة والأصناف التي تتوافق مع حالة المرضى كما يحدد الأطباء المعالجين وكان العلاج والأدوية في هذه المستشفيات بالمجان وكان يغشاها جميع الناس بدون تمييز بين أجناسهم وأديانهم وكان من أهم وأبرز الآثار المعمارية للسلطان محمد الفاتح قصر الحكم الذه سماه قصر الباب العالي الذي أمر بالبدء ببنائه قرابة عقد الستينيات من القرن الخامس عشر الميلادى إضافة إلى مسجده الذي حمل إسمه وآيا صوفيا بطبيعة الحال التي أمر بتحويلها من كنيسة إلى مسجد وأضاف إليها عدد 4 مآذن أسطوانية الشكل ذات قمة مخروطية علي الطراز العثماني والتي اضافت إلى هذا المكان وزادته رونقا وجمالا وقد ظلت أيا صوفيا مسجدا حتى بداية القرن العشرين الماضي حيث قام مصطفي كمال أتاتورك بعد توليه الحكم وإلغاء الخلافة العثمانية عام 1924م بتحويل المبنى إلى متحف ولا يزال هكذا حتي وقتنا الحاضر .
وفي مجال التجارة والصناعة عمل السلطان محمد الفاتح على إنعاشهما بجميع الوسائل والعوامل والأسباب وكان العثمانيون على دراية واسعة بالأسواق العالمية وبالطرق البحرية والبرية وقاموا بتطوير الطرق القديمة وبإنشاء الجسور الجديدة مما سهل حركة التجارة في جميع أجزاء الدولة وإضطرت الدول الأجنبية لمسايسة الدولة العثمانية ليمارس رعاياها حرفة التجارة في الموانئ المهمة العديدة في ظل الراية العثمانية وكان من أثر السياسة العامة للدولة في هذين المجالين أن عم الرخاء وساد اليسر والرفاهية في جميع أرجاء الدولة وأصبحت للدولة عملتها الذهبية المتميزة كما قامت الدولة بإنشاء دور الصناعة ومصانع الذخيرة والأسلحة وأقامت القلاع والحصون في المواقع ذات الأهمية العسكرية في البلاد وفي مجال التنظيمات الإدارية عمل السلطان محمد الفاتح على تطوير دولته فقد كان رجل دولة من طراز رفيع وإستطاع بالتعاون مع الصدر الأعظم قرة مانلي محمد باشا وكاتبه ليث زاده محمد جلبي سن عدد من القوانين حتى يستطيع أن ينظم شؤون الإدارة المحلية في دولته وكانت تلك القوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية ومن ثم شكل السلطان محمد الفاتح لجنة من خيار العلماء لتشرف على وضع قانون نامه المستمد من الشريعة المذكورة وجعله أساسا لحكم دولته وكان هذا القانون مكونا من ثلاثة أبواب تتعلق بمناصب الموظفين وببعض التقاليد وما يجب أن يتخذ من التشريفات والإحتفالات السلطانية وهو يقرر كذلك العقوبات والغرامات ونص صراحة على أن تكون حكومة الدولة حكومة إسلامية قائمة على تفوق العنصر الإسلامي أيا كان أصله وجنسه وقد إستمرت المبادئ الأساسية لهذا القانون سارية المفعول في الدولة العثمانية حتى عام 1255 هجرية الموافق عام 1839م حيث تم تغيير العديد من هذه القوانين في عهد السلطان محمود الثاني ومن بعده السلطان عبد المجيد الأول كما قام أيضا السلطان محمد الفاتح بوضع أول مبادئ القانون المدني وقانون العقوبات فأبدل العقوبات البدنية أي العين بالعين والسن بالسن وجعل عوضها الغرامات النقدية بكيفية واضحة وقد أتمها السلطان العاشر للدولة العثمانية السلطان سليمان القانوني لاحقا في منتصف القرن السادس عشر الميلادى وعلاوة علي ذلك قام أيضا السلطان محمد الفاتح بوضع أنظمة جديدة سار عليها من جاء بعده فأطلق على الحكومة العثمانية إسم الباب العالي وجعل لها أربعة أركان هم الصدر الأعظم وقاضي العسكر والدفتردار والنيشانجي وكان من أهم القوانين التي سنها السلطان محمد الفاتح القوانين التي تنظم علاقة السكان من غير المسلمين بالدولة ومع جيرانهم من المسلمين ومع الدولة التي تحكمهم وترعاهم وأشاع العدل بين رعيته وجد في ملاحقة اللصوص وقطاع الطرق وأجرى عليهم أحكام الإسلام فإستتب الأمن وسادت الطمأنينة في ربوع الدولة العثمانية وعندما كانت الدولة تعلن الجهاد وتدعو أمراء الولايات وأمراء الألوية كان عليهم أن يلبوا الدعوة ويشتركوا في الحرب بفرسان يجهزونهم تجهيزا تاما وذلك حسب نسب مبينة فكانوا يجهزون فارسا كامل السلاح قادرا على القتال عن كل خمسة آلاف آقجه وهي العملة التي كانت متداولة في ذلك الوقت من إيراد إقطاعه فإذا كان إيراد إقطاعه خمسمائة ألف آقجة مثلا كان عليه أن يشترك بمائة فارس كما قام السلطان محمد الفاتح بحركة تطهير واسعة لكل الموظفين القدامي غير الأكفاء وحل محلهم الأكفاء المتميزين حيث كان معيار الكفاءة والتميز وحده هو الأساس في إختيار جميع وزراءه ورجاله ومعاونيه وولاته وقواده .
وفي المجال العسكرى فقد تميز عصر السلطان محمد الفاتح بجانب قوة الجيش البشرية وتفوقه العددي بإنشاءات عسكرية عديدة متنوعة فأقام دور الصناعة العسكرية لسد إحتياجات الجيش من الملابس والسروج والدروع ومصانع الذخيرة والأسلحة وأقام القلاع والحصون في المواقع ذات الأهمية العسكرية وكانت هناك تشكيلات متنوعة في تمام الدقة وحسن التنظيم من فرسان ومشاة ومدفعية وفرق مساعدة تمد القوات المحاربة بما تحتاجه من وقود وغذاء وعلف للحيوان وإعداد صناديق الذخيرة حتى ميدان القتال كما كان هناك صنف من الجنود يسمى اللغمجية وظيفتهم الحفر للألغام وحفر الأنفاق تحت الأرض أثناء محاصرة القلعة المراد الإستيلاء عليها ونوع آخر يسمي السقاؤون كان عليهم تزويد الجنود بالماء أثناء تحركاتهم وأثناء المعارك التي يخوضونها وعلاوة علي ذلك تطورت الجامعة العسكرية في زمن الفاتح وأصبحت تخرج الدفعات المتتالية من المهندسين والأطباء والبيطريين وعلماء الطبيعة والمساحة كما انها كانت تمد الجيش بالفنيين المتخصصين وقد إستحق السلطان محمد الفاتح أن يعده المؤرخون مؤسس الأسطول البحري العثماني حيث إستفاد من خبرات الدول التي وصلت إلى مستوى رفيع في صناعة الأساطيل مثل الجمهوريات الإيطالية وبخاصة البندقية وجنوة أقوى الدول البحرية في ذلك الوقت وفي مجال العدالة فقد كان من واجبات السلاطين العثمانيين بوجه عام في ذلك الوقت إقامة العدل بين الناس ومن ثم كان السلطان محمد الفاتح شأنه في ذلك شأن من سلف من آبائه شديد الحرص على نشر العدالة في أجزاء دولته ولكي يتأكد من هذا الأمر كان يكلف بين الحين والحين بعض رجال الدين من النصارى بالتجوال والطواف في أنحاء الدولة ويمنحهم مرسوما مكتوبا يبين مهمتهم وسلطتهم المطلقة في التنقيب والتحري والإستقصاء لكي يطلعوا كيف تساس أمور الدولة وكيف يجري ميزان العدل بين الناس في المحاكم لا فارق بين مواطن وآخر علي أساس جنسيته أو ديانته وقد أعطى هؤلاء المبعوثين الحرية الكاملة في النقد وتسجيل ما يرون ثم يرفعون ذلك كله إليه مباشرة وكانت تقارير هؤلاء المبعوثين المسيحيين تشيد دائما بحسن سير المحاكم وإجراء العدل بالحق والدقة بين الناس بدون محاباة أو تمييز وكان السلطان الفاتح عند خروجه إلى الغزوات يتوقف في بعض الأقاليم وينصب خيامه ليجلس بنفسه للمظالم ويرفع إليه من شاء من الناس شكواه ومظلمته ومن جانب آخر إعتنى الفاتح بوجه خاص برجال القضاء الذين يتولون الحكم والفصل في أمور الناس فلا يكفي في هؤلاء أن يكونوا من المتميزين والمهرة في مجال الفقه والشريعة إلي جانب الإتصاف بالنزاهة والإستقامة وحسب بل لا بد إلى جانب ذلك أن يكونوا موضع محبة وتقدير بين الناس وأن تتكفل الدولة بحوائجهم المادية حتى تسد طرق الإغراء والرشوة فوسع لهم الفاتح في عيشهم كل التوسعة وأحاط مناصبهم بحالة مهيبة من الحرمة والقداسة والحماية أما القاضي المرتشي فلم يكن له عند الفاتح من جزاء غير القتل .
والخلاصة أن السلطان محمد الفاتح كان علي الرغم من إنشغاله بالجهاد والغزوات والفتوحات إلا أنه كان يتتبع كل ما يجري في أرجاء دولته بيقظة وإهتمام وأعانه على ذلك ما حباه الله من ذكاء قوي وبصيرة نفاذة وذاكرة حافظة وجسم قوي وكان كثيرا ما ينزل ليلا من قصر الحكم إلى الطرقات والدروب ليتعرف على أحوال الناس بنفسه ويستمع إلى شكاواهم بنفسه كما ساعده على معرفة أحوال الناس جهاز أمن الدولة الذي كان يجمع المعلومات والأخبار التي لها علاقة بالسلطنة والتي كانت ترفع إلى السلطان الذي كان يحرص على دوام المباشرة لأحوال الرعية وتفقد أمورها وإلتماس الإحاطة بجوانب الخلل في أفرادها وجماعاتها وفي عام 1481م قاد السلطان حملة لم يحدد وجهتها لأنه كان شديد الحرص على عدم كشف مخططاته العسكرية حتى لأقرب وأعز قواده وقد قال في هذا الصدد عندما سئل ذات مرة لو عرفته شعرة من لحيتي لقلعتها لكن بعض المؤرخين يخمنون بأنها كانت إلى جزيرة رودس أو إلي إيطاليا والتي كان أهل البندقية قد عرضوا على طبيبه الخاص يعقوب باشا أن يقوم بإغتياله والذى لم يكن مسلما عند الولادة فقد ولد بإيطاليا وقد إدعى الهداية وتظاهر بإعتناق الإسلام وتنفيذا لمؤامرة أهل البندقية بدأ يدس السم تدريجيا للسلطان ولكن عندما علم بأمر الحملة زاد جرعة السم ومن ثم أصيب السلطان بوعكة صحية ومع ذلك فقد غادر السلطان الفاتح إسطنبول ولم يهتم بذلك لشدة حبِه للجهاد وشوقه الدائم للغزو وخرج علي رأس جيشه بنفسه وقد كان من عادته أن يجد في خوض غمار المعارك شفاء لما يلم به من أمراض إلا أن المرض تضاعف عليه هذه المرَة وثقلت وطأته فطلب أطباءه غير أن القضاء عاجله فلم ينفع فيه تطبيب ولا دواء ومات السلطان الفاتح وسط جيشه يوم الخميس 4 من شهر ربيع الأول عام 886 هجرية الموافق يوم 3 من شهر مايو عام 1481م عن عمر يناهز 51 عاما وكانت مدة حكمه 30 عاما قضي معظمها في حروب متواصلة للفتح وتقوية الدولة وتعميرها ونشر دين الإسلام وأتم في خلالها مقاصد أجداده ففتح القسطنطينية وجميع ممالك وأقاليم آسيا الصغرى والصرب والبشناق والبانيا وحقق كثيرا من المنجزات الإدارية الداخلية التي سارت بدولته على درب التقدم والإزدهار ومهدت الطريق أمام السلاطين اللاحقين ليركزوا على توسيع الدولة وفتح أقاليم جديدة ولم يكن أحد يعلم شيئا عن الجهة التي كان سيذهب إليها السلطان الفاتح بجيشه وذهبت ظنون الناس في ذلك مذاهب شتي فهل كان يقصد رودس ليفتح هذه الجزيرة التي إمتنعت على قائده مسيح باشا أم كان يتأهب للحاق بجيشه الظافر في جنوبي إيطاليا ويزحف بنفسه بعد ذلك إلى روما ثم ينطلق إلي شمالي إيطاليا ففرنسا وأسبانيا لقد ظل ذلك سرا طواه الفاتح في صدره ولم يبح به لأحد حيث طواه الموت بعد ذلك .
تم دفن السلطان محمد الفاتح في المدفن المخصوص الذي أنشأه في المسجد المسمي بإسمه في مدينة إسطنبول وتولي الحكم من بعده إبنه الأكبر السلطان بايزيد الثاني والذى ظل علي عرش الدولة العثمانية حتي عام 1512م وقد إنفضح أمر الطبيب يعقوب فيما بعد فأعدمه حرس السلطان وكان خبر موت السلطان قد وصل إلى البندقية بعد 16 يوما وجاء الخبر في رسالة البريد السياسي الصادرة من سفارة جمهورية البندقية في مدينة القسطنطينية وإحتوت هذه الرسالة على جملة وحيدة نصها لقد مات العقاب الكبير وبإنتشار الخبر في البندقية إنتشر في باقي دول أوروبا وراحت الكنائس في أوروبا تدق أجراسها إبتهاجا بهذا الخبر لمدة ثلاثة أيام بأمر من بابا روما ولا يفوتنا هنا أن نذكر أنه كما ترك السلطان مراد الثاني لإبنه وخليفته السلطان محمد الفاتح وصية وهو علي فراش الموت أوصي أيضا السلطان محمد الفاتح إبنه وخليفته السلطان بايزيد الثاني وهو علي فراش الموت بوصية تعبر أصدق التعبير عن منهجه في الحياة وقيمه ومبادئه التي آمن بها والتي يتمني من خلفائه من بعده أن يسيروا عليها قال فيها مخاطبا إبنه ها أنا ذا أموت ولكني غير آسف لأني تارك خلفا مثلك كن عادلا صالحا رحيما وإبسط على الرعية حمايتك بدون تمييز وإعمل على نشر الدين الإسلامي فإن هذا هو واجب الملوك على الأرض قدم الإهتمام بأمر الدين على كل شئ ولا تفتر في المواظبة عليه ولا تستخدم الأشخاص الذين لا يهتمون بأمر الدين ولا يجتنبون الكبائر وينغمسون في الفحش وجانِب البدعَ المفسدة وباعِدِ الذين يحرضونك عليها وسع رقعة البلاد بالجهاد وإحرس أموال بيت المال من أن تتبدد وإياك أن تمد يدك إلى مال أحد من رعيتك إلا بحق الإسلام وإضمن للمعوزين قوتهم وإبذل إكرامك للمستحقين وبما أن العلماء هم بمثابة القوة المبثوثة في جسم الدولة فعظم جانبهم وشجِعهم وإذا سمعتَ بأحد منهم في بلد آخر فإستقدمه إليك وأكرمه بالمال وحذار حذار لا يغرنك المال ولا الجند وإياك أن تبعد أهل الشريعة عن بابك وإياك أن تميل إلى أي عمل يخالف أحكام الشريعة فإن الدين غايتنا والهداية منهجنا وبذلك إنتصرنا وكانت هذه آخر كلمات السلطان محمد الفاتح قبل وفاته وفي الحقيقة فقد ترك السلطان محمد الفاتح وراءه سمعة مهيبة وصيت كبير في العالمين الإسلامي والمسيحي علي حد السواء وقد أنشئ جسر معلق بين طرفي مدينة إسطنبول الآسيوى والأوروبي والذى تم إفتتاحه يوم 3 يوليو عام 1988م وأطلق عليه إسم جسر السلطان محمد الفاتح تكريما له وحاليا يعد الجسر الرابع عشر من حيث الطول في العالم كما تم إصدار العديد من الكتب عنه وإنتاج مسلسل تليفزيوني يحمل إسمه وفيلم تم عرضه في عام 2012م تحت إسم فتح 1453 يحكي قصة السلطان محمد الفاتح منذ وصوله إلي الحكم وحتي فتح القسطنطينية كما ظهرت صورته على خلفية العملة الورقية التركية من فئة الألف ليرة والتي تم تداولها بين عام 1986م وحتي عام 1992م .
ويتبقي لنا من تاريخ وسيرة هذا السلطان العظيم أنه كان حنفي المذهب كما كان صوفي المسلك وأولى أتباع الطريقة النقشبندية بالغ إهتمامه حينما كانوا يعيشون بعيدا عن مناطق حكمه وهذه الطريقة كانت من أكبر الطوائف الصوفية وكانت تنتسب إلي محمد بهاء الدين نقشبند وإشتق إسمها منه وقام بدعوة كبار شيوخهم من أمثال نور الدين عبد الرحمن الجامي وعبيد الله أحرار وأمر بحمايتهم وتولى رعايتهم ليعاونوه ضد التهديد الشيعي حينذاك من جانب بلاد فارس المجاورة والحد من نشر عقائدهم بين أبناء ممالكه من أهل السنة وما زالت هذه الطريقة منتشرة في تركيا حتي الآن وتعد من أكبر الطرق الصوفية من حيث عدد المنتسبين إليها هناك وهي تتخذ من جامع إسكندر باشا بحي محمد الفاتح في مدينة إسطنبول المركز الرئيسي لها وختاما لبحثنا هذا فإن الأمانة تقتضي أن نذكر بكل حياد وشفافية حيث أننا نحرص علي ذكر وقائع التاريخ بدون أي تحيز لأشخاص أو عهود أن هناك أمر إختلف عليه المؤرخون وهو أن قانون نامه الذى وضعه السلطان محمد الفاتح والذي وضعه لتسيير نظام الدولة من بعده قد حوى نصا مفاده أنه يمكن لأي من أبناء السلطان الذي سيهبه الله السلطنة والمقصود هنا الإبن الأكبر للسلطان والذى يكون وليا للعهد أن يتخلص من إخوته الذكور لأجل مصلحة الدولة وهو ما أقره أغلبية العلماء ومن هنا كانت بداية مذبحة الإخوة الذكور أو بداية تقنينها حيث قيل إن قيام سلاطين بني عثمان بقتل إخوتهم الذكور سبق عهد السلطان محمد الفاتح فالسلطان بايزيد الأول ثالث السلاطين العثمانيين فور توليه الحكم أمر بقتل أخيه يعقوب المعروف بالشجاعة والقوة فقط لأنه خشي مطالبته بالعرش وذكر بعض المؤرخين في سياق الدفاع عن هذا القانون الدموي أن رأي الفقهاء العثمانيين في المسألة كان أن الفتنة أشد من القتل فنحن نأخذ أهون الضررين وبعد وقوع السلطان بايزيد الأول في أسر تيمورلنك وموته في محبسه ضربت الفوضى الدولة العثمانية حيث تحارب أبناؤه حتى تغلب أحدهم وهو محمد الأول جلبي وقتل إخوته المنافسين بل قيل إن محمد الفاتح نفسه حين تولى السلطنة أمر بخنق أخ له رضيع عمره 6 أشهر وهو الأمير أحمد من زوجة أبيه خديجة خاتون وذلك بعد أن نصحه بذلك بعض رجاله خوفا من أن يقوم البيزنطيون بخطف الأمير الرضيع لتنصيبه سلطانا بعد أن يتخلصوا منه وهي واقعة صحتها محل جدل ففي حين ذكرت في بعض المصادر وذكرها بعض المؤرخين إلا أن مصادر أخرى تكذبها وتذكر أن هذا كلام مدسوس مكذوب دسه المعادون للدولة العثمانية وللسلطان المجاهد محمد الفاتح بغرض تشويه صورته وأنه من غير المعقول أن يقدم السلطان علي قتل طفل صغير يصغره بعشرين عاما مخافة أن ينازعه الملك وأن صحة الواقعة أن الأمير الطفل أحمد قد مات غرقا في حوض الحمام الممتلئ بالماء عندما غفلت عنه مربيته فسقط في الحوض ومات مخنوقا كما تفيد مصادر أخرى أن السلطان محمد الفاتح لم يضمن قانون نامه هذا النص الدموى وأن حوادث قتل بعض السلاطين العثمانيين لأشقائهم أحيانا خوفا علي كرسي السلطنة كان تصرفا شخصيا منهم وليس تنفيذا لنص قانوني وأخيرا فلنترك الحكم للتاريخ .
يمكنك متابعة الجزء الاول من المقال عبر الرابط التالى
http://www.abou-alhool.com/arabic1/details.php?id=44989
الجزء الثانى
http://www.abou-alhool.com/arabic1/details.php?id=44990
الجزء الثالث
http://www.abou-alhool.com/arabic1/details.php?id=44991
|