بقلم الدكتور/ عادل عامر
مدير مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية
اللافت للنظر والفكر معًا أن قضايا العولمة وإشكالياتها طُرحت كظاهرة، والظاهرة لا فكاك منها، فهي تتلبس المهتمين بها فتشغلهم؛ خاصة إذا كانت الظاهرة تدور حول قضايا تهم كل الموجودين في المحافل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والإعلامية، فضلاً عن المنتديات الوطنية في الوطن الواحد أو خارجه؛ بحيث لا تنفك عن قضاياه. ومن هنا كان هناك مَنْ يدعو إلى العولمة والأخذ بها، وفريق آخر يحذِّر من خطرها على هويتنا وثقافتنا والبعد عنها.
أولاً: المؤيدون للعولمة
لا شكَّ أن الذين يؤيدون فكرة العولمة، والأخذ بإيجابياتها يستندون إلى أنها أحدثت نقلة نوعية في عالم المعلومات في كل ميادين المعرفة، وقرَّبت المسافات، واختصرت الزمن، وكما يقول الدكتور "حامد عمار": لا مناص من وضع أنفسنا في توجهات العالم الذي نضطرب فيه ومعه، ومن الاشتباك مع القوى الحاشدة التي تشكل حركته؛ وليس من المستغرب -بل إنه من المطلوب- أن يتساءل المرء مع تدفق تيارات العولمة، وما بعد التصنيع، وما بعد الحداثة، هل نحن -واقعًا ووعدًا- بإزاء عالم جديد حقًّا؟ وهل هو عالم - كما يدِّعي أقطابه- مُبشِّر في أحد وجهي عملته بالعيش المشترك وبحقوق الإنسان، وبالعدل الاجتماعي؟ وهل نحن متجهون نحن التلاقح الخصب بين الحضارات؛ من أجل تأسيس ثقافة "التنوع الإنساني المبدع".
إن العولمة بهذا المعنى تشبه القطار، وهو قطار برغماتي قوي يحكم على من يمر به أن يركب فيه، وإلا بقي وحده منفردًا لا يحمله شيء إلى حيث يريد، وكأن ذلك الذي يتخلف عن الركب يتحدى المعايير الدولية في سباق العولمة؛ بل يتحدى ذلك الحلم الرأسمالي الذي يبدو في العقل الأميركي نبوءة إنسانية مقدسة. ويذهب بعضهم إلى أن العولمة أدَّت إلى وحدة القيم الثقافية؛ فمن يقرأ "همنغواي" الأميركي، و"تشيكوف" الروسي، و"طاغور" الهندي، و"غونتر غراس" الألماني، و"برناردشو" الأيرلندي و"نجيب محفوظ" المصري؛ وكلهم أبدعوا في ظل مجتمعات وظروف ثقافية مختلفة يُدرك على الفور على الرغم من اختلاف اللغة والهوية والقومية أنهم اشتركوا في الدفاع عن قيم ثقافية واحدة.
والمؤيدون للعولمة يستندون إلى أنه "ليس بوسع أحد أن يغفل الدور الحاسم للحاسبات الإلكترونية كسمة مميزة لثورة المعلومات الهائلة؛ التي اصطبغ بها النظام الدولي المعاصر في السنوات القليلة الماضية؛ خاصة في مجال الدفاع وبناء القدرات العسكرية للدول، وقد تميزت هذه الثورة بأربع سمات:
1. ساعدت في اختصار المدى الزمني الذي يفصل بين كل ثورة صناعية وأخرى.
2. الاعتماد على نتائج العقل البشري وعلى حصيلة الخبرة والمعرفة التقنية؛ فيحدد ثمن القيمة بالمعرفة والتكنولوجيا المستخدمة وليس على المواد الخام.
3. مواكبة هذا التطور تستلزم استثمارًا في مجالات بعينها؛ خاصة التي تتعلق بأمور التعليم وتطوير المهارات البشرية، وتنمية كوادر وقدرات تستطيع التعامل والتكيف مع هذه الثورة.
4. في خلال ذلك يتحتم استغلال الطاقات البديلة، والاستفادة من الطاقة الشمسية، واقتحام مجال الهندسة الوراثية وتكنولوجيا إنتاج الطعام الرخيص بكميات وفيرة".
ومن المؤكد أن أبرز المظاهر السياسية للعولمة النزوع إلى الديمقراطية؛ فمما لا شكَّ فيه أن ثمة حالة من التطور الديمقراطي على المستوى العالمي أخذت تجد تطبيقات متعدِّدة لها في الدول المختلفة بما في ذلك بعض دول العالم الثالث.
وبناءً على ما سبق يرى هؤلاء المتفائلون أن العولمة أمر واقع؛ فهي في رأيهم ليست فكرة من الأفكار التي تطرح لمجرد النقاش والحوار والجدل، ثم تنتهي فورتها؛ وهذا الأمر الواقع برأيهم يحتم طريقة واقعية في التفكير؛ لأن العولمة، فيما يذهبون، آخر أبناء الحضارة الغربية، التي يجب على العالم أن يحصد مكاسبها؛ خاصة أن القطار الغربي ورأسه وقاطرته الولايات المتحدة الأميركية يصرُّ على تسيير المسيرة البشرية العالمية.
ثانيًا: المعارضون للعولمة
يبني المعارضون للعولمة رؤاهم على ما تجلبه العولمة من تغيير البنية الأساسية لكل مكونات الحياة على المستوى السياسي والاقتصادي، والاجتماعي، والإعلامي، والثقافي؛ ومن هنا ظهر خطاب معارض للعولمة كاشف لمثالبها، وشارك فيه باحثون ومفكرون من مختلف أنحاء العالم. ولعل أكثر الكِتابات تشاؤمًا من العولمة، كتاب: (فخ العولمة) لـ"بيتر مارتن" و"هارالد شومان"؛ فقد فنَّد العولمة في مختلف أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية والإعلامية، وحاولا التأكيد على أن العولمة في مختلف أبعادها ستزيد معدلات البطالة وانخفاض الأجور، واتساع الهوية بين الفقراء والأغنياء، وتقليص دور الدولة في مجال الخدمات كالصحة والتعليم، ونحو ذلك.
ولا يرون في العولمة إلا الهجمة الجهنمية للرأسمالية لكي تنهي التاريخ لمصلحتها، إنها هجمة لإبعاد الحضارات الأخرى بكل إنجازاتها العلمية والمادية والإنسانية لتفريغ الكون من كل الحضارات إلا حضارة الرأسمالية الأخيرة؛ "وأول مظاهر العولمة هو عولمة السياسة بمعنى إخضاع الجميع لسياسة القوى العظمى والقطب الأوحد في العالم؛ وهو الولايات المتحدة الأميركية".
ويذهب بعضهم إلى أن "العولمة ليست مجرد هيمنة الغرب على بقية العالم، إنها تؤثر في الولايات المتحدة كما تؤثر في البلدان الأخرى"، والعولمة أشد خطورة على الدول الضعيفة، فهي مرتبطة بتهميش الدول المفككة؛ لأنها تستمد هويتها من الاعتراف الدولي الذي تقبض عليه الهيمنة الأميركية، ومن دار في فلكها من الدول الأوروبية؛ فهؤلاء هم الذين يمنحون شهادات ميلاد الدول ووفاتها.
ولعل أشد ألوان العولمة خطرًا وأبعدها أثرًا -كما يراها المعارضون- هي عولمة الثقافة على معنى فرض ثقافة أمة على سائر الأمم، أو ثقافة الأمة القوية الغالبة على الأمم الضعيفة المغلوبة، بعبارة أخرى صريحة: فرض الثقافة الأميركية على العالم كله: شرقيِّه وغربيِّه، مسلمِه ونصرانيِّه، موحِّده ووثنيّه، ملتزمِه وإباحيِّه، ووسيلته إلى هذا الغرض الأدوات والآليات الجبارة عابرة القارات والمحيطات من أجهزة الإعلام والتأثير بالكلمة المقروءة والمسموعة والمرئية بالصوت والصورة والبث المباشر وشبكات المعلومات العالمية (الإنترنت) وغيرها. ويمثل الإعلام إحدى الركائز الأساسية التي قامت عليها العولمة، ويؤكد "فوكوياما" ذلك بقوله: إن العولمة تعتمد على ثلاثة أسس؛ هي:
1. تكنولوجيا المعلومات والإعلام.
2. حرية التجارة الدولية في مرحلة ما بعد الشركات متعددة الجنسيات.
3. اقتصاد السوق وحرية الحركة في الأسواق العالمية.
المبحث الثاني: كيف نواجهه العولمة؟
ليس من الحكمة أن نتعامل مع العولمة بمنطق الرفض المطلق، أو القبول المطلق؛ فالعولمة عملية تاريخية، وبذلك يعد منطقًا متهافتًا ما يدعو إليه بعضهم من ضرورة محاربة العولمة بشكل عام، فهل يمكن مثلاً محاربة شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) من خلال إصدار قرار بالامتناع عن التعامل معها؟ وهل يمكن الامتناع عن التعامل مع منظمة التجارة العالمية على الرغم من سلبياتها المتعددة؟ وغير ذلك من المؤسسات العالمية التي لا يمكن الانغلاق دونها.
إن الرفض المطلق للعولمة لن يُمكِّن الدول والمجتمعات من تجنُّب مخاطرها، كما أن القبول المطلق لها لن يمكِّنها من الاستفادة التامَّة منها، "علينا نحن العرب والمسلمين أن نسأل أنفسنا سؤالاً صريحًا، وأن تكون إجابتنا عنه واضحة: هل نحن في معركة ضد التطورات المصاحبة للتحول نحو "الكوكبة أو العولمة"؟ وهل لدينا بديل نعرفه، ونريد أن نثبت عليه؟ “وهناك وسائل عديدة لمواجهة خطر العولمة في المجالات المتعددة: ففي مجال العقيدة والأخلاق؛ يمكن تعزيز الهوية بأقوى عناصرها، وهي العودة إلى مبادئ الإسلام، وتربية الأمة عليه بعقيدته القائمة على توحيد الله سبحانه وتعالى؛
التي تجعل المسلم في عزة معنوية عالية، وبشريعته السمحة وأخلاقه وقيمه الروحية؛ فالهزيمة الحقيقية هي الهزيمة النفسية من الداخل؛ حيث يتشرب المنهزم كل ما يأتيه من المنتصر، أما إذا عُزِّزت الهوية ولم تستسلم من الداخل؛ فإنها تستعصي ولا تقبل الذوبان، وإبراز إيجابيات الإسلام وعالميته، وعدالته، وحضارته، وثقافته، وتاريخه للمسلمين قبل غيرهم، ليستلهموا أمجادهم ويعتزوا بهويتهم، فقد استيقظت أوروبا في القرن الحادي عشر الميلادي على رؤية النهضة العلمية الإسلامية الباهرة،
وسرعان ما أخذ كثيرون من شبابها يطلبون معرفتها فرحلوا إلى مدن الأندلس؛ يريدون التثقف بعلومها، وتعلموا العربية، وتتلمذوا على علمائها، وانكبوا على ترجمة نفائسها العلمية والفلسفية إلى اللاتينية، وقد أضاءت هذه الترجمات لهم مسالكهم إلى نهضتهم العلمية الحديثة.
وفي المجال السياسي؛ يمكن التعامل مع العولمة من خلال:
أولاً: إصلاح الأوضاع الداخلية: فالأوضاع الداخلية في العديد من دول العالم الثالث -ومنها الدول العربية- لا تؤهلها للتعامل بفاعلية مع متطلبات عصر العولمة وتحدياته؛ مما يحتم ضرورة الشروع في عملية الإصلاح الداخلي. إن الإصلاح السياسي القائم على تحقيق تحول ديمقراطي حقيقي بصورة تدريجية وتراكمية، يحقق العدالة الاجتماعية، ويكافح ظواهر الفساد السياسي والإداري، يعتبر هو المدخل الحقيقي لبناء دولة المؤسسات، وتحقيق سيادة القانون، ويرشّد عملية صنع السياسات والقرارات.
ثانيًا: تطوير سياسات التكامل الإقليمي: إن تطوير سياسات التكامل الإقليمي بين دول العالم الثالث، أصبح ضرورة؛ وذلك نظرًا إلى عمق التحديات التي تطرحها العولمة على هذه الدول، ومحدودية قدرتها على التعامل معها فرادى؛ فأغلب دول العالم الثالث -وعلى رأسها الدول العربية- لا تنقصها هياكل التكامل ولا التصورات والأفكار والبرامج؛ ولكن الذي ينقصها هو إرادة التكامل، بما تتضمنه من معاني الحرص والعمل المشترك على تذليل المشكلات والعقبات التي تعيق التكامل.
وفي المجال الاقتصادي: إن لم تقم مجموعة عربية متضامنة، تنسق خططها التنموية وسياستها الاقتصادية، فإن الوطن العربي لن يستطيع مواجهة المنافسة وميول الهيمنة السائدة على الصعيد الدولي؛ "فالمستقبل الذي ينتظر الدول العربية والإسلامية سواء أكان مستقبلاً مشرقًا أم مظلمًا إنما يعتمد في المقام الأول على مدى فعالية الاستراتيجية الاقتصادية التي تتبناها هذه الدول"
وللوصول إلى درجة مناسبة في مواجهة سلبيات العولمة في المجال الاقتصادي يمكن التركيز على ما يلي:
أولاً: تحقيق تنمية عربية نشطة ومتوازنة ومستقلة لا تهدف إلى التقليل من مخاطر تحديات العولمة فحسب؛ بل تعمل على رفع مستوى غالبية الناس أيضًا.
ثانيًا: إنشاء سوق عربية مشتركة: فقضية إقامة هذه السوق تستند إلى تعميق مفهوم الهوية العربية والانتماء القومي، وضرورة دعم الأمن القومي العربي، إلى جانب المصلحة الاقتصادية المشتركة؛ فهذه السوق يجب أن تقام تدريجيًّا بين الأقطار العربية، أو بين بعضها كمرحلة انتقالية؛ لأنها سوف تعمل على توحيد هذه الأقطار، وتعزز الأمن الاقتصادي العربي؛ ومن ثَمَّ تعزز الأمن القومي العربي.
•وعلى المستوى الثقافي: الاتجاه إلى تحديد ثقافتنا، وإغناء هويتنا، والدفاع عن خصوصيتنا، ومقاومة الغزو الثقافي الذي يمارسه المالكون للعلم والتكنولوجيا، وهذا لا يقل عن حاجتنا إلى اكتساب الأسس والأدوات التي لابُدَّ منها لممارسة التحديث ودخول عصر العلم والتكنولوجيا.
نحن في حاجة إلى التحديث؛ أي إلى الانخراط في عصر العلم والتكنولوجيا كفاعلين مساهمين، ولكننا في الوقت نفسه في حاجة إلى مقاومة الاختراق وحماية هويتنا وخصوصيتنا الثقافية من الانحلال والتلاشي تحت تأثير موجات الغزو الذي يمارس علينا وعلى العالم أجمع بوسائل العلم والتكنولوجيا، وليست هاتان الحاجتان الضروريتان متعارضتين بل متكاملتين. |