بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
محمد فتحي مبروك إبراهيم الديب والشهير بإسم فتحي الديب هو أحد أبرز معاوني الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في قضايا الشئون العربية ولذا فهو يعد مهندس حركات التحرر العربية وفي عام 1964م عينه الرئيس عبد الناصر وزيرا مختصا بالشئون العربية ملحقا برئاسة الجمهورية وكان أحد الذين شاركوا في تأسيس إذاعة صوت العرب عام 1953م وفي تأسيس جهاز المخابرات العامة المصرية عام 1954م حيث كان ضمن ثمانية إختارهم عبد الناصر برئاسة عضو مجلس قيادة الثورة زكريا محيي الدين تولوا مهمة إنشاء جهاز المخابرات حيث كان معروفا عنه الإنضباط والدقة كضابط في سلاح المظلات وهى مقومات دفعت عبد الناصر بعد بضعة أشهر فقط على قيام الثورة إلى اختياره ضمن المجموعة التي تم تكليفها بإنشاء أول جهاز مخابرات حقيقي وقوى وحديث لمصر بهدف النهوض بحال الإستخبارات المصرية وأن تكون لدي هذا الجهاز الوليد القدرة على حماية الأمن القومي المصري وعلي الرغم من جهود كل من زكريا محيي الدين وخلفه المباشر علي صبري إلا أن الإنطلاقة الحقيقية للجهاز كانت مع تولي صلاح نصر رئاسته عام 1957م حيث عينه الرئيس الراحل عبدالناصر في هذا المنصب كي يشرف على تطوير أدائه وبالفعل عمل صلاح نصر على تطوير طرق جمع المعلومات ومراعاة سرعة توزيعها على المسؤولين وتحسين المستوى المهني لأفراد المخابرات عبر إبتعاثهم للخارج للحصول على دورات فنية متخصصة وتوسيع نطاق منتسبي المخابرات ليشمل خريجي كليات الإقتصاد والعلوم السياسية والهندسة والآداب والألسن وغيرها من الكليات إلى جانب عناصر الجيش والشرطة كما قام بإنشاء مبنى منفصل للجهاز وإنشاء وحدات منفصلة للراديو والكمبيوتر والتزوير والخداع وأضاف للجهاز أيضا قسما للأبحاث الكيماوية والسموم والأحبار السرية بالتوازي مع العمل على تطوير قدرات الجهاز على تقديم تقديرات موقف سياسية وإقتصادية تساعد صانع القرار وبصفة عامة فقد قام بتأسيس فعلي لجهاز مخابرات قوى وإعتمد على منهجه من جاء بعده ولتغطية نفقات عمل الجهاز الباهظة قام صلاح نصر بإنشاء شركة النصر للإستيراد والتصدير لتكون ستارا لأعمال المخابرات المصرية بالإضافة إلى الإستفادة منها في تمويل عملياته وبمرور الوقت تضخمت الشركة وإستقلت عن الجهاز وأصبحت ذات إدارة منفصلة وجدير بالذكر أن المخابرات العامة المصرية تمتلك شركات أخرى داخل مصر أغلبها للسياحة والطيران والمقاولات هذا وتعود تبعية الجهاز لرئاسة الجمهورية بشكل مباشر .
وقبل أن نستعرض مسيرة فارسنا فتحي الديب مع جهاز المخابرات العامة المصرية وصلته بالرئيس الراحل عبد الناصر تعالوا بنا نلقي نظرة علي الوضع قبل قيام ثورة عام 1952م حيث لم يكن هناك قبل قيامها جهاز للإستخبارات في مصر وكان ما حدث أنه عقب إندلاع أحداث ثورة عام 1919م في شهر مارس من العام المذكور بدأ منذ شهر سبتمبر عام 1919م نمط جديد من عمليات الإغتيال السياسي التي إستهدفت أولا رئيس الوزراء محمد سعيد باشا دون إصابته وأيضا رئيس الوزراء يوسف وهبة باشا ثم توالت تلك العمليات ضد الإنجليز والمقربين منهم من المصريين وفي تلك المرحلة عمل الإنجليز على إعادة تقييم أداء أجهزة الأمن السياسي ووضعوا مخططا لتنظيمها فتولى مدير المخابرات بوزارة الحربية المصرية الجنرال كلايتون منصب مستشار وزير الداخلية وأشرف على تأسيس جهاز جديد يتبع إدارة عموم الأمن العام بإسم القسم المخصوص بالتوازي مع إنشاء فروع تابعة له بالمحافظات إشتهرت بإسم القلم المخصوص وكان يعمل في الداخل في الأساس في البداية ثم إمتد نشاطه للعمل خارج مصر بداية من عام 1924م علي يد حسن نشأت باشا وكيل الديوان الملكي في عهد الملك فؤاد الأول وكان عرش الملك فؤاد حينذاك مهددا بمؤامرات الخديوى المخلوع عباس حلمي الثاني الذى كان يحاول العودة إلى مصر وتمكن حسن نشأت باشا من تكوين شبكة واسعة ونشطة من العملاء في دول قارة أوروبا وفي تركيا وكان يتلقى منهم تقارير بصفة دورية عن نشاط الخديوى السابق وتحركاته وإتصالاته وكان من مهام العملاء أيضا تقصى أخبار الطلبة اليساريين والوفديين وفي عام 1941م بدأت سلسلة من عمليات الإغتيال ضد أفراد الجيش البريطاني وواكبت هذه الحوادث ظروف قيام الحرب العالمية الثانية التى ألقت على عاتق أجهزة الأمن في مصر عبء مراقبة رعايا دول المحور وتحرى نشاطهم وإستلزم ذلك تطوير جهاز الأمن السياسى خلال تلك الفترة فعلى المستوى المركزى ظل القسم المخصوص يقوم بدوره فى تحريك أجهزة الأمن السياسى الفرعية والإشراف على نشاطها وعلى المستوى المحلى تولى القلم المخصوص القيام بعمليات إعتقال الألمان ويبدو أن ضغط العمل عليه كان متزايدا فأُنشئ القسم المخصوص فى بوليس القاهرة لزوم إجراء التحريات الخاصة عن الإيطاليين والألمان وبعد حادث 4 فبراير عام 11942م أُطلقت يد البوليس السياسى في أبناء البلد وكانت التهمة المستعملة والمتداولة ضد أي شخص هي الشيوعية أو أن الشخص له ميول نحو دول المحور أو ميول ألمانية أو أنه معاد للحلفاء وكان إكتشاف الأشخاص الذين يمكن أن يطلق عليهم هذا الوصف أو ذاك ليس مهمة البوليس السياسى فقط بل أيضا مهمة المخابرات البريطانية وعلى ضوء إختصاص القسم المخصوص المحلى إختص القلم المخصوص بالمسائل السياسية المحلية ومكافحة الشيوعية والنشاط العمالى وتشابكت خلال هذه الفترة إهتمامات جهاز الأمن السياسى وتعقدت تدريجيا بسبب تعدد الأنشطة والتيارات السياسية فى الشارع المصرى خاصة فى الفترة من عام 1945م وحتي عام 1952م حيث إنتشرت أفكار جماعة الإخوان المسلمين إنتشارا ضخما والتي إعتبرتها أجهزة الأمن آنذاك خطرا على الأمن السياسى بوجودها العنيف وأفكارها الغامضة ولجوءها إلي أعمال الإغتيالات والتفجيرات وتزامن ذلك مع ظهور التنظيمات الشيوعية والصهيونية خاصة بعد إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948م ومن ثم إمتدت الإضرابات والإعتصامات ومع تصاعد أعمال العنف والإغتيالات السياسية أنشئ مكتب جديد فى بوليس القاهرة ضمن تخصصات القسم المخصوص في عام 1947م أطلق عليه إسم مكتب الشؤون العربية كان من أهدافه الحفاظ على أرواح الزعماء واللاجئين العرب كما أقيم مكتب تابع للقسم لمكافحة الشيوعية كما أنشئت فروع للقسم المخصوص فىالمحافظات وإنبثق عنه فرع لمراقبة النشاط الصهيونى وصلته باليهود المقيمين فى مصر ومع قيام ثورة يوليو عام 1952م تم حل كل الأجهزة السابقة وتم تأسيس جهاز معلومات وأمن داخلي جديد بإسم المباحث العامة الذى تغير إسمه في عام 1971م إلي مباحث أمن الدولة وبعد ثورة يناير عام 2011م أصبح مسماه الأمن الوطني وبحلول عام 1954م تم البدء في تأسيس جهاز المخابرات العامة المصرية كما ذكرنا في السطور السابقة خاصة مع تزايد النشاط الصهيوني في مصر وقيام جهاز الموساد الإسرائيلي بالبدء في تجنيد شبكات جاسوسية في مصر والدول العربية عموما خاصة في سوريا والأردن ولبنان وتجنيده للعديد من ضعاف النفوس من أجل الحصول علي المعلومات .
وكان مولد فتحي الديب في عام 1923م وبعد إنهاء دراسته الإبتدائية والثانوية إلتحق بالكلية الحربية وبعد تخرجه منها إلتحق بسلاح المظلات وقام الرئيس الراحل عبد الناصر بضمه إلي تنظيم الضباط الأحرار وبعد قيام ثورة يوليو عام 1952م إختاره الرئيس عبد الناصر ليكون معاونا له في ملف الشئون العربية ومسؤولا عن الإتصالات والعلاقات بين مصر والعالم العربي وكان هو صاحب إقتراح إنشاء إذاعة صوت العرب الشهيرة التي إستخدمها عبد الناصر في مخاطبة الرأي العام العربي بشكل موسع وفى تمام الساعة السادسة من مساء يوم الرابع من شهر يوليو عام 1953م وقبل الإحتفال بالعيد الأول لقيام ثورة يوليو عام 1952م بأيام قليلة كان الديب في إنتظار أول بث إذاعي لصوت العرب ويصف هذه اللحظة بأنها كانت رهيبة وأنه قد إنتابه القلق والإضطراب على غير عادته في مواجهة الصعاب ولا شك أن تعليل ذلك كما يقول إنه حاور نفسه فيما بعد وعلل ذلك بأنه راجع إلى أنها تجربة لها خطورتها وأهميتها ويضيف قائلا إنه لما حان وقت البث الإذاعي إستمع إلي دقات قلبه في أذنه عندما بدأت إذاعة صوت العرب ترى النور على الهواء وعن خلفيات تأسيس إذاعة صوت العرب يقول فتحي الديب إن أي ثورة تحتاج الى وسيلة إعلام وكانت الإذاعة المسموعة هي الوسيلة الوحيدة والمثالية آنذاك القادرة على توصيل ما نريده الى الجماهير في أي مكان وكما هو معروف فإن الإذاعة لعبت دورا كبيرا ورئيسيا في الحرب العالمية الثانية وكانت تجارب الإذاعة في الصراعات والحروب العالمية ماثلة أمامي خاصة تلك التي كانت تستخدم كأداة للتعبئة وتشكيل وعي الجماهير وحين طلب مني زكريا محيي الدين إعداد خطة متكاملة لمخاطبة الجماهير العربية في كل مكان كان أول أمر أفكر فيه هو كيفية إيجاد وسيلة تربط بين الثورة في مصر والجماهير العربية في كل مكان ومن هنا جاءت فكرة الإذاعة وأذكر أن الرئيس جمال عبدالناصر حين ناقش معي الخطة توقف طويلا معي في مسألة الإذاعة وناقشني في كيفية عملها والخطوط الرئيسية التي يجب أن تتحرك فيها وأحالني الى صلاح سالم بصفته وزيرا للإرشاد القومي والمسئول عن الإذاعة آنذاك ودارت مناقشات طويلة فيما بيننا حول الأساليب والأهداف وضمت المناقشات في مرحلة لاحقة بعض الفنيين من الإذاعة وقد ترك لي صلاح سالم سلطة العمل في كل شئ من أجل إتمام هذا المشروع وأقول للتاريخ إنه لم يتدخل في أي شئ فيما يتعلق بإتصالاتي من أجل إتمام هذه الخطوة أو في إختياراتي من الإذاعيين والفنيين للعمل معي أو في المادة الإذاعية التي سنقوم ببثها .
ويضيف فتحي الديب إن الهدف الرئيسي من إنشاء إذاعة صوت العرب كان يتطلب إختيار مذيع يتميز بمواصفات معينة تتناسب مع الهدف منها وبعد إستعراض عدد من الأسماء توقفت كثيرا أمام إسم أحمد سعيد ولم أكن أعرفه من قبل وكان يعمل في قسم الأخبار وقدم برنامجا ميدانيا ناجحا صاحب فيه الفدائيين في منطقة قناة السويس فطلبته لمقابلتي وعبر عدة جلسات تناقشنا خلالها في كل شئ وجدته مقتنعا ومتحمسا ومستعدا لتنفيذ دوره وقد كان أحمد سعيد يتميز بصلاحية الصوت والقدرة على التعبير وحماسه في أداء الرسالة وطلب مني الإستعانة بإحدى زميلاته وهي نادية توفيق لكفاءتها في المادة الترفيهية والموسيقية وللعلم فإن صوت العرب لم تبدأ كإذاعة مستقلة وإنما برنامجا مدته نصف ساعة وإنطلق البرنامج تحديدا يوم 4 يوليو عام 1953م وواصل نجاحه يوما بعد يوم ويضيف فتحي الديب قائلا لقد فوجئت بقيام مدير الإذاعة آنذاك اللواء الرحماني بتعيين الشاعر صالح جودت مديرا لبرنامج صوت العرب وحاولت مراجعته في هذا الأمر وكان أستاذا لي في الكلية الحربية لكنه صمم على موقفه مما إضطرني إلى رفع الأمر إلى صلاح سالم الذي أصدر قرارا بإبعاد صالح جودت فإعتبر مدير الإذاعة اللواء الرحماني أن هذا تدخلا في عمله فقدم إستقالته وفي حقيقة الأمر فقد كان المذيع المطلوب والذي بحثت عنه طبقا لمواصفات معينة هو أحمد سعيد حيث كان قادرا على مخاطبة الجماهير بصوت عاصف ثوري يحرك مشاعرهم الوطنية والقومية ويثير فيهم الحماس ويؤهلهم لدورهم النضالي وكان ذلك بالفعل يتم بنجاح من أحمد سعيد عبر التعليق السياسي الذي كان يقدمه يوميا في البرنامج وكان لهذا التعليق فعل السحر لدى الجماهير العربية وكنت أناقشه يوميا وكان هذا التعليق يرتبط بما يستجد من أحداث على الساحة السياسية العربية وكانت الجماهير بعد أن تجاوبت مع صوت أحمد سعيد قد وجدت فجأة صوتا آخر وهو صوت الشاعر صالح جودت يتناوب معه في إلقاء التعليق وكان يلقيه بعذوبة ورقة وهدوء وكأنه يلقي شعرا وأمام هذا التحول تلقينا إحتجاجات من جهات عربية عديدة إتهمت البرنامج بالتراجع عن ثوريته وتطلب الأمر ضرورة التدخل قبل أن نخسر ما حققناه وحين ناقشت اللواء الرحماني نقلت له كل الخسائر التي مني بها البرنامج لكنه ظل مصمما على موقفه وفي مثل هذه الحالات ومع إستنفاد كل الوسائل كان لابد من إتخاذ القرار الصائب فإتخذناه وأما أن يقال بعد ذلك أن هذه ديكتاتورية أو ديموقراطية فالرد عليه ببساطة وإختصار ماذا لو إنتظرنا وتركنا الأمر كما أراد اللواء الرحماني هل كان سيحقق صوت العرب ما حققه فيما بعد في يوم 4 يوليو عام 1954م وفي الإحتفال بمرور عام علي تأسيس إذاعة صوت العرب زادت مدة الإرسال إلي ساعتين ووافق الرئيس جمال عبد الناصر على إقتراح قدمه له فتحي الديب بتوجيه خطاب إلى الجماهير بهذه المناسبة وتوجه هو وأحمد سعيد إلي مقر الرئيس بجهاز التسجيل وتم تسجيل الخطاب الذي كان الأول مباشرة من القائد إلى الجماهير العربية وجاء هذا الخطاب كالصاعقة على رؤوس المستعمرين وألهب حماس الجماهير العربية بأسلوبه الخطابي الثوري السهل الذي إشتهر به وقال كلاما يوحد الجماهير ولا يفرقها ويدفعها إلى النضال وليس الإحباط حيث قال يومها في هذا الخطاب نحن معكم لأننا عرب مؤمنون بعروبتنا وأن قوتنا في وحدتنا وأن المستقبل لنا رغم كل صور المؤامرات التي تحيكها قوى الإستعمار لتفتيت قوتنا ووحدتنا ورغم عوامل الكبت التي تمارسها علينا قوى الإستعمار وأعوانه .
وبحلول عام 1954م كان فتحي الديب ضمن من إختارهم الرئيس عبد الناصر من أجل تأسيس جهاز المخابرات العامة المصرية حيث كانت مصر طوال فترة العهد الملكي ليس لديها جهاز للإستخبارات وفي ذلك الوقت إزدادت الحاجة إلي تأسيس جهاز مخابرات محترف على نفس النسق العالمى الذى ظهر فى الحرب العالمية الثانية والذى كانت لأجهزة المخابرات الفضل الأول إن لم يكن الوحيد فى إنهائها لصالح جيوش الحلفاء حيث برزت تحديات أمنية خارجية وداخلية من أبرزها أنشطة إسرائيل ضد مصر وكان منها العملية التي إستهدفت تفجير بعض المرافق البريطانية والأميريكية في مصر والمعروفة بإسم عملية سوزانا أو فضيحة لا فون خلال عام 1954م إلي جانب إنخراط النظام الجديد في عمليات سرية بالدول العربية لتغيير بعض الأنظمة الملكية البائدة وعهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلي عضو مجلس قيادة الثورة زكريا محيي الدين بالإشراف علي هذه العملية الشاقة بحيث يتم تأسيس جهاز مخابرات قوي لديه القدرة على حماية الأمن القومي المصري ولكنه ولأنه جهاز ما زال يبحث عن هوية الإحتراف لذا تكلف إنشاؤه من الجهد والوقت والعرق والمال ما يفوق التصور فى وسط أجهزة معادية عملاقة مثل وكالة الإستخبارات المركزية الأميريكية وجهاز المخابرات الإسرائيلي المعروف بإسم الموساد الذى تأسس قبل إعلان دولة إسرائيل أساسا وكان رجاله وضباطه من المحترفين الذين خاضوا غمار الحرب العالمية الثانية وإكتسبوا الخبرة الطاغية في هذا المجال التى إفتقد إليها المصريون وفي البداية لم تتوافر للجهاز الوليد خبرات سابقة عن كيفية إنشائه وتفعيل دوره وجرى تعويض ذلك النقص من خلال الإعتماد على خبرات ضباط الإستخبارات الألمان والأميركيين الذين إستعانت بهم المخابرات الحربية لتأهيل عناصرها بعد الإطاحة بالنظام الملكي خلال مرحلة توليها لملف الأمن في البلاد داخليا وخارجيا ما بين عام 1952م وعام 1954م فضلا عن إنتقاء بعض ضباط المباحث العامة وصف الضباط والمخبرين من ذوي الكفاءة وخاصة ممن كان قد سبق لهم العمل في متابعة الأنشطة السياسية للإخوان المسلمين والشيوعيين وإلحاقهم بجهاز المخابرات العامة مع إحتفاظ الجهاز الوليد بنسخة طبق الأصل من أرشيف المباحث العامة الذي يرجع إلى عام 1910م ومن جانب آخر فنظرا لأن المقاتل المصري بطبعه كاره للهزيمة والإستسلام ولا يعرف معنى المستحيل تمكن الرعيل الأول من الضباط الذين كونوا لبنة الجهاز الأولى من جمع الكثير من المراجع وكتابات الخبراء وعكفوا بصبر مدهش على دراستها وإستخلاص ذلك العلم الغزير نحتا فى الصخر وقد شمل هذا الرعيل عدد من ضباط القوات المسلحة الشبان ممن يمتلكون شجاعة وجسارة المقاتلين مع الذكاء الفطرى وكان منهم على سبيل المثال فارسنا فتحى الديب وحسن بلبل وعبد المحسن فائق ومحمد كساب ثم جاء بعدهم الرعيل الثاني من رجال المخابرات العامة المصرية المشهود لهم بالكفاءة ومنهم صلاح نصر وشعراوى جمعة وعبد العزيز الطودى ومحمد نسيم .
ومن خلال عمله بالمخابرات العامة المصرية كلف عبد الناصر فتحي الديب برئاسة دائرة الشئون العربية وأوكل إليه إعداد خطة لتحرير دول الوطن العربي من الإستعمار وقد نجح في هذه المهمة نجاحا باهرا حتي تم تسميته بالداهية وبمهندس حركات التحرر العربية وبأسطورة المخابرات العامة المصرية وقد بدأ الديب نشاطه بإقامة علاقات مع اللاجئين العرب الذين كانوا يفدون بالعشرات إلى العاصمة المصرية حيث كانت له إتصالات وطيدة مع اليمن والجزائر والجامعة العربية وإستغل إذاعة صوت العرب في التأثير علي الجماهير العربية وكانت البداية الهجوم الشرس الذى شنته صوت العرب علي سلطات الإستعمار الفرنسي بالمغرب نتيجة قيامها بخلع العاهل المغربي الملك محمد الخامس والذى كان قد رفض الإصلاحات المزعومة التي باشرتها سلطات الاحتلال الفرنسي بالمغرب وساند نضال الحركة الوطنية المغربية المطالبة بتحقيق الإستقلال عن فرنسا مما دفعه إلى الإصطدام بسلطات الحماية الفرنسية وكانت النتيجة قيام سلطات الحماية في عام 1953م بنفيه إلى جزيرة مدغشقر التي تقع في المحيط الهندي قبالة الساحل الجنوبي الشرقي لقارة أفريقيا وعلى إثر ذلك إندلعت مظاهرات عارمة في بلاده مطالبة بعودته إلى وطنه وأمام إشتداد قوة وحدة المظاهرات قبلت السلطات الفرنسية بعودته إلى عرشه يوم 16 نوفمبر عام 1955م وبعد بضعة شهور وفي يوم 2 مارس عام 1956م تم إلغاء الحماية الفرنسية علي المغرب وإعلان إستقلال البلاد وظل ملكا علي المغرب حتي وفاته في شهر فبراير عام 1961م ليخلفه إبنه الملك الحسن الثاني وقد حققت إذاعة صوت العرب في هذه المعركة نتائج أكثر من المتوقع وحظي صوت أحمد سعيد بإهتمام شعبي واسع ومن معركة محمد الخامس الى حرب التحرير في الجزائر في بداية الدعم المصري اللامحدود للثورة الجزائرية ونضال الشعب الجزائري لنيل الإستقلال عن فرنسا ولجأت فرنسا حينذاك الى محاولة التدخل عبر سفيرها في مصر مطالبة الرئيس جمال عبدالناصر بالتدخل لوقف إذاعة صوت العرب مع إستعدادها لتقديم كافة المساعدات ويذكر فتحي الديب إن الرئيس جمال عبد الناصر كان يضاحكه حين كان يلقاه بقوله صوت العرب عامل لي إزعاج كبير ودوشة والكل بيشتكي منه أنا يظهر حوقفه واللا إيه وحين كان يرد عليه حاضر يا أفندم نوقفه اليوم فكان يرد ضاحكا لو عملت كده حتبقى خلصت على نفسك ووصل الأمر بفرنسا إلى تهديد مصر أكثر من مرة وكان من الطبيعي أن يضع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م الإذاعة كهدف رئيسي لتدميرها وهو ما حدث بالفعل حيث قام الطيران الحربي للعدوان الثلاثي بقصف منشآت الإذاعة المصرية في منطقة أبو زعبل وكانت هذه الضربة ضربة إنتقامية وكان توقف البث الإذاعي يمثل صدمة وتذكر فتحي الديب أنه كان قد تم شراء جهاز إذاعة متنقل قوي الإرسال من صنع إيطاليا لحساب جيش التحرير الجزائري فقام بالإتصال بأحمد سعيد ليحضر بأدوات الإذاعة الخاصة بالإستوديو وتم نقل الجهاز من المخزن الى مكتبه وكلف المهندس المختص بتركيب الجهاز وإعداده للإرسال على موجة بث وإرسال صوت العرب ووصل أحمد سعيد وطاقمه ليبدأ تجربة الإرسال وفي الموعد المحدد بث الجهاز الإرسال وأطلق أحمد سعيد صوته قائلا هنا صوت العرب وكانت مفاجأة للجميع وإستمر الإرسال لمدة يومين من مكتب فتحي الديب حتى عادت محطة الإذاعة بأبو زعبل إلي العمل بعد إصلاحها .
وعلاوة علي ما سبق فقد قام قتحي الديب من موقعه كمسؤول عن الشئون العربية بجهاز المخابرات العامة المصرية بدعم الثورة العراقية ضد نورى السعيد حتى نجاحها إلي جانب المساهمة في سقوط حلف بغداد كما قام بدعم الثورة اليمنية حتى نجاحها حيث دعم الثوار والفدائيين باليمن ضد القوات البريطانية بكافة الوسائل والسلاح مما أجبر رئيس وزرائها هارولد ماكميلان عام 1968م علي إعلان إستراتيجيته المسماة إستراتيجية شرق السويس والتي تقضي بإنسحاب القوات البريطانية من الدول التي تقع شرق السويس مما أدى الى تحرر دول الجنوب العربى بالكامل وإذا ما إتجهنا غربا نحو تونس والجزائر نجد أن فتحي الديب قد قام بتدعيم حركات التحرر فى تونس حتى تحقق إستقلالها عام 1956م كما كان فتحي الديب هو أول من قدم الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بيلا إلي عبد الناصر وإستمر في دعم الثورة الجزائرية بالمال والسلاح حتي حصلت الجزائر علي إستقلالها عام 1962م وبعد الإستقلال ساعد بخبراته في تأسيس جهاز المخابرات العامة والعسكرية الجزائرى كما ساعد فى تأسيس أكثر من جهاز مخابرات في العديد من الدول العربية المستقله حديثا ونظرا لخبرته الكبيرة فى إنشاء إذاعة صوت العرب فقد شارك في تأسيس إذاعات موجهة من مصر لبلدان القارة الأفريقية لمساعدة شعوبها وحركات تحريرها باللغات الأفريقية المحلية السائدة فيها وقد بلغ عدد اللغات الأفريقية المحلية التى كان يتم بث الإذاعات المصرية الموجهه بها 33 لغة وفضلا عن ذلك فقد شاركت مصر في عام 1962م فى تأسيس وتمويل لجنة التنسيق لتحرير أفريقيا والتى رفعت شعار عبارة عبد الناصر إنه قد آن للإستعمار أن يحمل عصاه ويرحل والتى أنشئت بقرار من مؤتمر القمة الأفريقى الذى إنعقد فى العاصمة الأثيوبية أديس أبابا فى شهر مايو عام 1962م وقد أسهمت مصر عن طريق هذه اللجنة فى تقديم المساعدات المادية والعسكرية واللوجيستية لحركات التحرير الأفريقية وقامت بفتح مراكز للتدريب العسكرى فيها لكوادر هذه الحركات خاصة حركات التحرير بأنجولا وموزمبيق وروديسيا وهي زيمبابوي حاليا وجنوب أفريقيا كما أنها أتاحت الفرصة لحركات التحرر الأفريقية لإتخاذ القاهرة مقرا سياسيا وإعلاميا لها حيث إستضافت مصر قيادات وزعماء هذه الحركات وفتحت لهم مكاتب في القاهرة فى الرابطة الأفريقية التى أنشئت عام 1955م ثم تحولت إلى الجمعية الأفريقية في عام 1972م وقد بلغ عدد هذه المكاتب 19 مكتبا لحركات التحرير فى بلدان شرق وغرب وجنوب القارة وقد تم إغلاق هذه المكاتب بعد تمام أدائها لمهامها وحصول شعوبها على الحرية والإستقلال .
وكان من الصفحات المجهولة الخاصة ببعض المهمات التي تم تكليف فارسنا فتحي الديب بها والتي لم يتم الكشف عنها إلا منذ سنوات قليلة مهمته الغامضة في أمريكا اللاتينية حيث قضي فيها مايزيد عن شهر ونصف الشهر بداية من شهر يونيو عام 1959م للقاء عرب المهجر في المكسيك والبرازيل والأرجنتين وشيلي وبيرو وأوروجواي وبنما والتي بعد أن زارها حدثت محاولة تحرير قناة بنما من سيطرة الأميريكيين وعرف الخبر من صحيفتي هيرالد تربيون ونيوزويك الأميريكية وهو في الطائرة الأميريكية عائدا من البرازيل إلي القاهرة في يوم 6 أغسطس عام 1959م وقالت الصحيفتان إن السلطات الأميريكية إكتشفت وجود جاسوس لعبد الناصر مكث عدة أيام فى بنما لهذا الغرض ومن الأسرار المجهولة عنه أيضا أنه كان لديه أكثر من 30 جواز سفر سافر بهم في مهامه السرية للدول العربية كل جواز يحمل إسما مختلفا ومهنة مختلفة وكانت جولاته في تلك الدول تعتمد على الإستطلاع المباشر وليس عبر سياسيين أو مسؤولين تنفيذيين وكان الإعتماد الأساسي على المصريين المبعوثين في هذه البلاد فقد ذهب الى ليبيا بالتنسيق مع رئيس البعثة التعليمية المصرية هناك وبعد جولاته الميدانية ومعاينته للأوضاع علي الطبيعة كتب إلى الرئيس جمال عبدالناصر يقول إن الوضع في هذا البلد القريب الذي لا يزيد عدد سكانه على المليون هو وضع غريب فرغم الإستقلال الظاهري لها منذ عام 1949م فإن صراع القواعد العسكرية فيها على أشده بين بريطانيا والولايات المتحدة الأميريكية ورغم أن ليبيا هي جملة إتحاد بين ثلاث ولايات هي طرابلس وبرقة وفزان فإن هذه الولايات تتنافس وتتصارع فيما بينها تنافس قد يصل الى مستوى الحرب الأهلية ويبدو أن صراعات الأقاليم قد إستهلكت طاقة الليبيين فلم تعد هناك معارضة سياسية ذات فعالية أو تأثير وتكاد المعارضة في ليبيا تنحصر في جمعية عمر المختار المحدودة العدد بل إنه لا توجد أحزاب سياسية معلنة منذ أن ألغاها الملك إدريس السنوسي بعد توليه السلطة وهو ما ضاعف من إستفادته من المذهب السنوسي الذي ربط معظم القبائل به مع إغداق المنح المالية التي تمده بها بريطانيا دون إهتمام بأي تنمية إجتماعية ولو شكلية فالمدارس نادرة الوجود ومتخلفة المستوى ولا يقدر على تكاليفها سوى الأثرياء ومن ليبيا سافر الديب إلي سوريا وأقام فيها سرا لمدة ثلاثة أسابيع حيث ذهب إلي حمص ومنها إلي حماة معقل جماعة أكرم الحوراني وهو الرجل الذي لعب الدور الرئيسي خلف معظم الإنقلابات العسكرية التي واجهها الشعب السوري وكان إعتماده علي مدرس مصري كان يعمل هناك وإنتقل إلي مدينة حلب وبواسطة خبير مصري معار لزراعة القطن كان يقدمه إلي الناس علي أنه إبن خالته عرف كل كبيرة وصغيرة عنها ووجد سيطرة حزب الشعب سياسيا عليها وكذلك لاحظ وجود نشاط لجماعة الإخوان المسلمين بالمدينة وذهب أيضا إلي ميناء اللاذقية وفي التقرير الذي رفعه الديب إلى الرئيس عبدالناصر قال عن الواقع السوري في تلك الأيام إن الشعب السوري بقاعدته العريضة يمثل مركز ثقل عربي رغم طبيعة تكوينه الطائفي من السنة والدروز والعلويين والأكراد وهو يعاني من توالي الإنقلابات العسكرية التي إنتهت بحكم فردي ديكتاتوري يستعين في النهاية بالأحزاب السياسية الرجعية التي تتخذ من الجيش أداة لإرهاب الشعب وربما لهذا السبب تشككت العناصر الوطنية السورية في ثورة يوليو في مصر ولم تتفهم مبادئها وأهدافها وتصورت أنها في النهاية سوف تتردى في نفس أخطاء الإنقلابات السورية المتتالية وفي التقرير نفسه ذكر الديب إن الشعب السوري فقد الثقة في كافة الأحزاب السياسية ورجالها ولم يعد رهان التغيير مغريا إلا على الجيش رغم أن الجيش منقسم على نفسه حزبيا ورغم أن كبار قادته يعملون في التجارة ويحولون مكاسبهم الفاحشة إلى عملات أجنبية في أسواق بيروت المفتوحة وهو ما ضاعف من الأزمات الحادة التي يعاني منها الإقتصاد السوري ويهدد البلاد بكارثة محققة وفي الوقت نفسه يفتح باب التغيير بالقوة على مصراعيه وهو ما حدث بالفعل بعد عدة أسابيع عندما قام مصطفى حمدون بالإنقلاب العسكري الرابع في يوم 25 فبراير عام 1953م في حلب وتخلص من حكم أديب الشيشكلي الذي هرب الى بيروت ثم إستقر في المملكة العربية السعودية ومن سوريا سافر الديب برا إلي لبنان ودخلها علي أساس أنه يعمل بوظيفة حامل لحقيبة دبلوماسية وتنقل من طرابلس إلى بيروت ولمس فيها كما كتب في تقريره إلى الرئيس جمال عبد الناصر أن لبنان وبيروت بالذات تتميز عن باقي الساحة العربية بطابع لا هو عربي ولا هو بالأجنبي فهي خليط غير متجانس من التفكير والعادات والتقاليد ونظم الحياة وأساليبها وفي التقرير الذي رفعه إلى الرئيس جمال عبدالناصر قال إن المجتمع اللبناني بتكوينه الطائفي له طبيعة خاصة فكل طائفة لها تقاليدها وأعيادها ومدارسها وعياداتها وأحياؤها السكنية الخاصة بها وهو وضع يكرسه الدستور اللبناني الذي ينص على أن يكون رئيس الجمهورية مارونيا ورئيس الوزراء مسلما سنيا ورئيس البرلمان مسلما شيعيا وهو أفضل وضع يستغله الإستعمار وأعوانه من الحكام العرب ثم إن هذا الوضع عكس نفسه بشراسة على الصحافة اللبنانية فخربت النفوس وضاعت الضمائر وأصبحت كل كلمة تنشر لها أكثر من غرض وأكثر من ثمن وبسبب الدعاية السياسية والصحفية المضادة فإن قوى التغيير في لبنان لا تثق في ثورة يوليو ويعتبرونها إنقلابا عسكريا ويصفونها بحكم البكباشية .
ومن لبنان سافر الديب إلي العراق علي أنه موفد إلى السفارة المصرية بالعاصمة بغداد من وزارة الخارجية المصرية على أساس أنه عضو جديد بإدارة الأبحاث بالوزارة ووظيفتها تولى متابعة تقارير السفارات وتقييمها وتعامل في بغداد مع أستاذ جامعي مصري كان يعمل في إحدي جامعاتها وعن طريقه كان يتنقل ويقضي سهراته ويقابل من يريد بعيدا عن عيون أجهزة نوري السعيد رئيس الوزراء وشاء حظه أن يلقى في طريقه أيضا بمناضل عراقي شهير هو عدنان الراوي الذى رسم له خريطة القوى السياسية في العراق حيث كان يحكم نوري السعيد مؤسس مدرسة القسوة والتعذيب في الأنظمة العربية وتعرف فتحي الديب من خلاله على كل العناصر الوطنية العراقية المستقلة غير المرتبطة بالأحزاب وغير المؤمنة بها وعلى رأس هذه العناصر مجموعة من ضباط الجيش كانت تكون تنظيما للضباط الأحرار وإنتهت هذه الرحلة بتقرير رفعه فتحي الديب إلى الرئيس جمال عبد الناصر قال فيه إن الشعب العراقي يواجه حكما ديكتاتوريا دمويا يتحكم فيه الأمير عبد الإله وهو الملك الحقيقي غير المتوج ويسانده فيه شريك عمالته للمخابرات البريطانية نوري السعيد وفي المقابل لم تفلح الأحزاب السياسية في تجاوز أزماتها التقليدية وهي الصراعات والمكاسب والرغبة في البقاء مهما كان الثمن وفي الوقت نفسه تحتل الطائفية مركز الصدارة في تهديد وحدة وكيان الشعب العراقي ويحتل الإستعمار البريطاني كل شرايين الإقتصاد العراقي مستغلا الوضع الطائفي فقد ركز تجارة الجملة في يد كبار رجال الطائفة الشيعية وترك الزراعة في يد طائفة السنة والأكراد ولم يجد فتحي الديب في تقريره أملا للتغيير إلا في الجيش العراقي وأخيرا في اليمن ذهب إليها فتحي الديب تحت إسم محمد مبروك مفتش بوزارة الخارجية وكانت الملاحظة التي لفتت نظره هي حالة الفقر الشديد والتخلف التي يعاني منها شعب هذا البلد التعيس وبلا شك كان هذا التخفي يعطيه مساحة واسعة من التحرك بحرية خاصة وأن الكثير من أنظمة هذه الدول كانت على عداء مع الثورة المصرية والصورة التي كانت لديها ناحية ثورة يوليو لم تكن إيجابية بالطبع فالبعض نظر إليها على أنها إنقلاب ضباط سيتحول الى ديكتاتورية ولذا فقد نظر البعض إليها بعين الريبة وعدم الإرتياح وهكذا أصبح جمال عبدالناصر يملك في وقت مبكر خريطة دقيقة عن كافة القوى السياسية والحزبية المعلنة والخفية المدنية والعسكرية في الدول العربية من حوله وبالتالي لم تكن حركة هذا الزعيم الذي آمن بدوره وقدره القومي حركة عشوائية غير مدروسة وغير مخططة وتتم في الظلام ولم تكن مجرد إنعكاس لرغبة أنانية نرجسية تحقق نزعة مجنونة نحو الزعامة حيث كان ما يريده وما يستهدفه جمال عبدالناصر هو تحقيق حلم كل من يعيش على أرض هذا الوطن العربي الكبير في الحرية والوحدة والرخاء والرفاهية والقوة .
وقبل أن نسترسل في حديثنا عن فارسنا فتحي الديب نذكر أنه قد جاءت للأسف نكسة الخامس من شهر يونيو عام 1967م وكانت مدمرة فى آثارها إلى حد رهيب على العالم العربي أجمع إلا أنها كانت ذات تأثير صاعق على الأسود الرابضة فى عرين المخابرات العامة المصرية الكائن فى حى حدائق القبة بالقاهرة الواقع خلف قصر القبة الشهير ولكى نتصور هذا الأثر ونقدره يكفي أن نعلم أن مصر كلها ذاقت الهزيمة إلا هذا الجهاز حيث كان هو المنتصر على أى مقياس منطقي فقد تكفل رجاله ونجومه وعملاؤه وعلى رأسهم فتحي الديب ومحمد نسيم ورفعت الجمال وغيرهم بمعرفة كل التفاصيل الدقيقة والخرائط لخطة الحرب العسكرية فى عام 1967م وقاموا بإرسالها إلى القيادتين السياسية والعسكرية ليفاجئ الأبطال بالنكسة وهم الذين بذلوا قصارى جهدهم وعرضوا أنفسهم لأخطار كبيرة لكي يمكنهم الحصول علي المعلومات الدقيقة التي وضعوها أمام القيادتين السياسية والعسكرية ولكن لعوامل كثيرة ليس هذا مكانها وقعت الواقعة وإنهزمت مصر هزيمة ساحقة كادت تعبر بها حافة اليأس لولا توفيق الله والإرادة الفولاذية التى قدت من الصخر وبدأت معارك حرب الإستنزاف في منتصف عام 1968م وإستمرت خلال عام 1969م وحتي منتصف عام 1970م وتزلزلت القوات الإسرائيلية بكم العمليات الصادمة التى تم التخطيط لها وتنفيذها بناءا علي المعلومات الغزيرة التى وفرها الرجال سواء في جهاز المخابرات العامة المصرية أو في جهاز المخابرات الحربية وذلك بعد تطهير الجهاز من قياداته المنحرفة وتعديل وضبط مساره وفي هذه المرحلة تولي أمين هويدى رئاسة الجهاز يعاونه فتحي الديب ومحمد نسيم وغيرهما وتحمل الرجال مسئولية إعادة الأمور الى نصابها في هذا الجهاز الخطير عقب نكسة الخامس من شهر يونيو عام 1967م وفضلا عن ذلك ينسب البعض لإذاعة صوت العرب ولمديرها أحمد سعيد إذاعة بيانات عن مصادر عسكرية أعلنت عن إنتصارات وهمية للجيش المصري في عام 1967م وثبت لاحقا كذب هذه البيانات لكنها إلتصقت بإسمهما لكن الحق الذى يجب أن يقال إن تلك البيانات كانت تتلقاها محطات الإذاعة المختلفة من القيادة العسكرية ولا يحق لها حسب الدستور والقانون أن تعدل أو تناقش المعلومات الواردة فيها .
وكان من أواخر ما قام به فتحي الديب قبل وفاة الرئيس عبد الناصر دعم الثورة الليبية حتى نجاحها وبمجرد قيامها بقيادة العقيد معمر القذافى في يوم الأول من شهر سبتمبر عام 1969م أسند إليه الرئيس عبدالناصر ملف الثورة الليبية فسافر إلى ليبيا للمساعدة فى بناء أجهزة الدولة كما كان قد تم تكليفه أيضا برئاسة الأمانة العامة للقيادة السياسية الموحدة بين مصر وسوريا وليبيا والسودان وهو مشروع كان قد بدأه الرئيس عبد الناصر ولم يستكمله بسبب وفاته في يوم 28 سبتمبر عام 1970م وتولى الرئيس السادات الحكم حيث تم إسدال الستار عن هذا الدور يوم 19 مايو عام 1971م وكان عمره 48عاما ففى مساء اليوم السابق 18 مايو عام 1971م إتصل الرئيس السادات بمنزل فتحى الديب يطلب لقاءه ظهر اليوم التالى 19 مايو عام 1971م بمبنى مجلس الوزراء وأبلغه بأنه سيكلفه بالسفرإلى ليبيا لمعاونة القادة الليبيين فى إتخاذ إجراءات وضع إعلان قيام إتحاد الجمهوريات العربية بين مصر وليبيا وسوريا موضع التنفيذ وتوجه الرجل للقاء السادات فوجده مشغولا وأرسل له مدير مكتبه ليخبره بأنه سيتصل به ليحدد موعدا جديدا مساء نفس اليوم للإلتقاء به وغادر الديب مقر مجلس الوزراء ليتوجه لمكتبه ثم إلى منزله إلا أنه فوجئ في الساعة الخامسة مساء نفس اليوم بحضور ضابط مباحث عامة سبق له التعاون معه لمنزله ليطلب منه إصطحابه إلى مبنى مستشفى كلية الشرطة وحينما إستفسر منه عن السبب أخبره والدموع فى عينيه أنه صدرت إليه الأوامر لإعتقاله وتحديد إقامته فى مبنى مستشفى كلية الشرطة وأنه حاول التنحى عن أداء هذا العمل الصعب والثقيل على نفسه فطلب منه التريث حتى يعد حقيبته ثم صاحبه إلى المبنى المذكور ليجد عددا من رؤساء وأعضاء منظمة الشباب بالإتحاد الإشتراكى قد سبقوه ليحتجزوا فيها وخصصت له غرفة خاصة ليقيم فيها فخلا فيها إلي نفسه ليستعرض تطور الأحداث فإقتنع بأن الهدف الرئيسى من إعتقاله هو المجموعة التي قابلها في المستشفى هو التخلص من كل من عاون الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وثورة يوليو بكل الصدق والوفاء .
ولم تمض ثلاثة أيام على إعتقال فتحي الديب حتى أصيب بأزمة قلبية فنقل إلى مستشفى المعادى للقوات المسلحة تحت الحراسة وليقضي بها سبعة أشهر تحت العلاج والتحقيق معه خلالها لإلصاق تهمة بلبلة الأفكار ضد إتفاقية إقامة إتحاد الجمهوريات العربية ويعلق الديب علي ذلك قائلا كانت هذه التهمة موضع تندر كل من إستمع إليها متعجبين كيف أكون مبلبلا للأفكار ضد الإتفاقية التى أعددتها بنفسى وبقلمى وتمت المحاكمة لتبرأ ساحته لعدم وجود أى دليل أو سند لما وجه إليه من إتهامات كاذبة ويقول الديب في هذا الشأن عدت إلى منزلى مرفوع الكرامة وتوافد على العديد من الإخوة المناضلين من كافة أنحاء الوطن العربى لتهنئتى وإعلان سخطهم على ما تم من إجراءات تعسفية ضدى وضد كل المخلصين المؤمنين من أعوان الرئيس جمال عبد الناصر ويضيف قائلا بادرت بتقديم إستقالتى خطيا لرئيس الجمهورية وبعدها بأيام حضر لزيارتي عدد من أعضاء مجلس الثورة الليبى ليعرضوا على مصاحبتهم إلى ليبيا للإقامة بها والعمل مستشارا للرئيس القذافي ولكني إعتذرت موضحا لهم أننى قررت ألا أعمل فى أى ميدان له أى علاقة بالرئيس السادات من قريب أو بعيد مع إستعدادى لمعاونتهم فى كل ما يحتاجون إليه من منزلى بالقاهرة وفى شهر يونيو عام 1972م فوجئت بإتصال تليفونى من أشرف مروان سكرتير السادات يطلب منى السفر إلى ليبيا لحاجتهم لى هناك فأبلغته بإعتذارى فعاود الإتصال بى حافظ إسماعيل مستشار الأمن القومى حينذاك طالبا منى الإستجابة وكان جوابى إننى على إستعداد بشرط قبول رئيس الجمهورية لإستقالتى التى أرسلتها له ولم يبت فيها كما أطالب بجواز سفر جديد بإسمى الشخصى وبلا منصب حتى لا توجه لى فيما بعد تهمة التعاون مع جهات أجنبية وبعدها تم إخطارى على لسان حافظ إسماعيل بقبول إستقالتى وسافرت إلى طرابلس وإلتقي بي الرئيس القذافى فى اليوم التالى لسفرى وطلب مني مرافقته إلى مدينة بنى غازى لمصالحتى على السادات الذى سيصل إلى ليبيا بعد ظهر نفس اليوم وكان ردى آسف يا أخى معمر لست مستعدا لألدغ من نفس الجحر مرتين وحاول إثنائى عن موقفى ولكنى أصررت وإستأذنت للسفر صباح اليوم التالى لتتوقف صلاتى بأحداث ليبيا على المستوى الرسمي .
وبعودة فارسنا فتحي الديب من ليبيا إبتعد عن العمل العام وتفرغ لكتابة عدد من المؤلفات التي تناول من خلالها العديد من المهمات التي تم تكليفه بها في حدود ما تسمح به إعتبارات الأمن القومي وكان من هذه المؤلفات عبد الناصر وتحرير المشرق العربى ويكشف في هذا الكتاب وقائع مذهلة عن أدواره السرية في سلطنة عمان ومنطقة الخليج وسوريا ولبنان والعراق واليمن أما دوره في ربط الثورة الجزائرية بمصر منذ إندلاع كفاحها المسلح بداية من عام 1954م فحكى قصته في كتابه عبد الناصر وثورة الجزائر وفي كتابيه عبد الناصر وثورة ليبيا وعبد الناصر وثورة اليمن يكشف أسرار علاقة مصر بالثورتين ودوره فيهما أما كتابه عبد الناصر وثورة إيران فيكشف فيه دوره مع المعارضة الإيرانية أثناء حكم شاه إيران في ستينيات القرن العشرين الماضى وذلك ردا على دعم الشاه لإسرائيل وكان إبراهيم يازدى أول وزير خارجية لإيران بعد الثورة عام 1979م ضمن الذين تواصل معهم من هذه المعارضة أما كتابه عبد الناصر وعرب المهجر فهو وثيقة مجهولة يكشف فيها جولته السرية في دول أمريكا الجنوبية لربط العرب المهاجرين فيها بدولة الوحدة المصرية السورية التي إستمرت من يوم 22 فبراير عام 1958م وحتي يوم 28 سبتمبر عام 1961م وفي يوم 7 فبراير عام 2003م رحل الفارس فتحي الديب في هدوء عن دنيانا عن عمر يناهز 80 عاما دون أن يترك أبناء ولا ثروة مالية حيث عاش الرجل على معاشه هو وزوجته في هدوء وبلا صخب إعلامي وللأسف أغفلت الصحف القاهرية نشر نبأ رحيله ولم تنشر صحيفة الأهرام في صفحة وفياتها الشهيرة أي تنويه إلى وفاة الرجل الذي كان مسؤولا لعقدين كاملين من الزمن عن الإتصالات والعلاقات بين مصر والعالم العربي في مجال الأمن والإستخبارات وحقق الكثيرمن النجاحات لكن وحسب وصف أحد تلاميذه الكاتب والإعلامى والمترجم محمد الخولى إن له في كل قطر عربى أبناء ويستحق أن يقام له تمثال في كل عاصمة عربية وفاءا لدوره في تحريرها وإستقلالها . |