بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
سليمان بك نجيب فنان قدير وممثل مصري كبير عمل في المسرح وفي السينما وتألق نجمه وكان بطلا في كل الأدوار التي قام بتمثيلها والتي كان يجسد فيها عادة دور الباشا أو إبن الذوات الأرستقراطي وإن كان قد حرص أيضا وحتي لا يتم حبس موهبته في دور واحد متكرر علي تقديم أدوار أخرى مختلفة كان من أشهرها تجسيده لبعض أدوار صغار الموظفين أو أدوار أبناء البلد والحرفيين والتي كان من بينها تجسيده لشخصية ناظر محطة سكة حديد في فيلم جنون الحب وشخصية حاتي في فيلم تار بايت ولذا فهو يعد قامة انسانية شامخة وقيمة فنية سامية وأحد أيقونات الفن العربي ورمز من رموزه الأصيلة الخالدة التي ساهمت في إثراء حياتنا الفنية بعدد كبير من الشخصيات الدرامية الخالدة بجميع القنوات الفنية سواء المسرح أو السينما أو الإذاعة ويحسب له نجاحه في تحقيق مكانة خاصة له في قلوب جماهير وعشاق الفن بمشاركاته الفنية المتتالية وإبداعاته المتعددة على مدار عدة أجيال تلك الجماهير التي أصبح سليمان نجيب بالنسبة لها علامة للجودة الفنية والأداء التلقائي المحبب للنفس وخفة الظل بعدما أعجبت وعشقت صدق أدائه ومهارة تجسيده لمختلف الشخصيات وبالطبع لم يكن يستطيع أن يحقق تلك المكانة الرفيعة وأن يضع بصمة مميزة خاصة به إلا بعدما نجح في توظيف موهبته المؤكدة التي صقلها بكثير من التجارب المتتالية وبالعمل مع كبار المبدعين ليقدم لنا في النهاية هذا الأداء الذي يمكن وصفه بدقة بأنه السهل الممتنع فهو بالرغم من رصانة أدائه وجديته قادر على خلق الإبتسامة ببساطة الأداء وبتلك التلقائية الشديدة وبذلك الظرف الطبيعي اللامفتعل حيث كان له أسلوبه الخاص الذى لا يشاركه فيه أحد كما كان لا يتملق أى صفات ليست أصيلة به للتسلق عليها أو إدعائها ومن ثم كان بطبيعته وأخلاقه وصفاته نمط جميل من البشر فكان لا أحد يشبهه لما يتمتع به من قدرات وإمكانات من الصعب أن توجد فى الآخرين وبلا شك كان كل ذلك نابعا من صفاته الشخصية التي كان يتحلي بها والتي كان من أهمها السلوكيات الراقية والصدق والأدب واللباقة وأدبه الجم وذوقه الرفيع وطيبة قلبه وخفة دمه الفطرية وإحترامه الشديد للمرأة وكان من أشهر أدواره دور مراد باشا في فيلم غزل البنات عام 1949م وقد أدى هذه الشخصية بكل أرستقراطيتها مع خليط من طيبة القلب وخفة الدم الفطرية لديه وما زلنا نتذكر المشهد الذى لا ينسي والذى يعد من علامات السينما المصرية ما بين مراد باشا والأستاذ حمام الذى جسد شخصيته عبقرى الكوميديا الراحل نجيب الريحاني والحوار الضاحك بينهما عندما توجه الأستاذ حمام لسراى الباشا لمقابلته للإتفاق معه علي إعطاء ليلي بنت الباشا درس خصوصي في اللغة العربية نظرا لرسوبها في هذه المادة في إمتحانات شهادة الثانوية العامة بالإضافة إلي مشهد الباشا مع الأستاذ حمام وهما يتناقشان حول كان وأخواتها وكلما رأينا هذين المشهدين نضحك من أعماقنا عليهما حتي وقتنا الحاضر .
وينحدر سليمان بك نجيب من عائلة عريقة فوالده هو الكاتب والأديب والشاعر مصطفى نجيب والذى عاضد حركة مصطفى كامل باشا الوطنية وتقلب في عدة مناصب رسمية كان آخرها أمين أول في معية الخديوي عباس حلمي الثاني بالديوان الملكي بسراى عابدين وتوفي في عام 1901م ولم يزل إبنه سليمان لم يبلغ العاشرة من عمره بعد وترك لنا من مؤلفاته حماة الإسلام وأحلام الأحلام وهي خواطر إنتقادية في الأدب والأخلاق والإجتماع كما كان عمه هو محمود شكرى باشا الذى شغل منصب رئيس الديوان السلطانى فى الفترة التى كان فيها السلطان فؤاد سلطانا على مصر قبل أن يصبح ملكا ثم أصبح ياورا له بعد أن أصبح ملكا في عام 1922م وبعد عشر سنوات وفي عام 1932م عين قائدا للحرس الملكى ثم رقى إلى رتبة اللواء في عام 1934م ثم عين قائدا للواء المشاه الثانى فى الإسكندرية ثم قائدا لقوات الميدان الغربى فى بداية عام 1936م ثم قائدا للواء المحروسة فى العام نفسه إلى أن شغل منصب رئيس أركان حرب الجيش المصرى بعد توقيع معاهدة عام 1936م بين مصر وبريطانيا كأول مصرى يشغل هذا المنصب منذ بداية الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882م أما خاله فكان أحمد زيوار باشا الذى كان رئيسا لمجلس وزراء مصر من أواخر شهر نوفمبر عام 1924م وحتي أوائل شهر يونيو عام 1926م وقبل ذلك تقلد مناصب وزارية عديدة حيث كان وزيرا للمعارف مرة واحدة ووزيرا للمواصلات عدة مرات ما بين عام 1919م وعام 1924م ثم أصبح رئيسا لمجلس الشيوخ ذي الأغلبية الوفدية عام 1924م كما تقلد منصب رئيس الديوان الملكي للملك فؤاد الأول لفترة قصيرة حوالي 9 شهور في أواخر شهر أكتوبر عام 1934م وحتي شهر يوليو عام 1935م خلفا لمحمد توفيق نسيم باشا الذى تولي رئاسة مجلس الوزراء حينذاك .
وكان مولد سليمان بك نجيب في يوم 21 يونيو عام 1892م وإهتم والده بتعليمه تعليما متميزا وبعد إنهاء مرحلتي الدراسة الإبتدائية والثانوية بأحد المدارس الأجنبية بمنطقة درب الجماميز بحي السيدة زينب بالقاهرة إلتحق بكلية الحقوق وبعد حصوله علي شهادة الليسانس عمل موظفا بإحدى المصالح الحكومية التابعة لوزارة الأوقاف المصرية وعمل في الوقت ذاته في المسرح إرضاءا لنزعته الفنية الجامحة وفضلا عن ذلك فقد كان يقوم بكتابة مقالات في مجلة الكشكول الأدبية تحت عنوان مذكرات عربجي منتقدا متسلقى ثورة عام 1919م ممن كانوا يريدون أن يسرقوا الثورة لكي يكتسبوا بعض الإمتيازات خلال فترة العصر الملكي وقد صعد المسرح في عهد كان يتعذر على أمثاله من أبناء الأسر المحافظة العمل بالتمثيل حيث كان ينظر فيه لأصحاب مهنة التمثيل على إعتبارهم مجرد مجموعة بهلوانات وأراجوزات ومشخصاتية كما كان يطلق عليهم حتى أن شهاداتهم كانت لا يعتد بها في المحاكم فإنضم إلى فرقة عبد الرحمن رشدى مع صديقيه زكي طليمات ومحمد عبد القدوس في عام 1917م كما عمل أيضا لفترة قصيرة بفرقة الشيخ سلامة حجازي ولكنه إضطر إلى الإستقالة من فرقة عبد الرحمن رشدي لأن أسرته لم ترحب بعمله فى الفن ودفعته إلى العمل بالسلك الدبلوماسى فترك التمثيل إحتراما لوالدته التى كان يعشقها والتي لم تكن راضية عن عمله بالفن والتمثيل وبإلتحاقه بالعمل في السلك الدبلوماسى حقق نجاحا ملحوظا وبرع في هذا المجال تجاحا ملحوظا وسريعا خاصة أنه كان يجيد اللغة الفرنسية وترقي تدريجيا حتى صار في عام 1925م قنصلا في وقت قصير لمصر في السفارة المصرية بتركيا بالعاصمة حينذاك إسطنبول في أوائل الفترة التي كان يحكم تركيا فيها مصطفي كمال أتاتورك وظل يعمل في السلك الدبلوماسي لسنوات قليلة حيث كانت رغبته في التمثيل ترواده دائما ولذلك لم يمكث كثيرا في هذا المنصب وعاد إلى مصر وإلتحق بوزارة العدل وعين سكرتيرا فيها ومن إرتباطه بالجماهير وإنشغاله بقضاياهم كان يبحث دائما عن أفضل الطرق لتحقيق مطالبهم المشروعة وذلك ظهر جليا في جميع الوظائف التي شغلها وعلي الرغم من إقترابه من الشخصيات الحاكمة والملكية إلا أنه كان ثوريا بطبعة يصادق الزعيم مصطفي كامل باشا ويميل لأفراد الشعب وإلي الحرية وعدم الإرتباط بأي شئ قد يعوق اُسلوب حياته الذي يريد أن يحياه ولذلك كانت تنقلاته في أعمال متعددة كما أنه لم يتزوج أو يرتبط بقصة حب علنية مع أي فتاة حتي يكون حرا ومن الشائع عنه أنه أضرب عن الزواج لأن في نظره أن كل النساء مخالفات ويبحثن عن المشاكل وأنه شخص يحب المرح والإنطلاق كما أنه كان متخوفا من إنجاب أطفال يكون من نصيبهم العيش في جو من الفقر في حال إذا واجهته أي ظروف مادية تؤثر على مستواه المادي رغم ثرائه ولذا فقد أطلق عليه لقب أمير العزاب لكن الوجه الآخر لحقيقة رفضه الزواج جاء على لسانه في حوار أجراه لمجلة آخر ساعة قبل فترة قصيرة من وفاته حيث ذكر أنه كان يحب فتاة فقيرة وكان في بداية حياته الفنية مشغولا ببناء مستقبله الفني وظل يكافح حتى حفر إسمه ضمن عمالقة السينما المصرية وظل على هذا الحال طوال 15 عاما حتى جاء اليوم الذي قرر فيه أن يتزوجها بعدما حقق كل ما يتمناه وذهب إلى منزلها ليطلبها للزواج لكنه إصطدم بوفاتها ومن يومها قرر أن يظل وفيا لذكراها وعاش بعد ذلك أكثر من عشرين عاما لم يفكر في الزواج من أي إمرأة أخرى وحتي آخر حياته وظل يواظب على زيارة قبرها يوما من كل أسبوع ويضع على قبرها باقة من الزهور ويجلس يحدثها قائلا إنهضي يا حبيبتي إننى أستطيع الآن أن أحيا معك الآن حياة سعيدة .
وبعد رحيل والدته في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين الماضي كون سليمان بك نجيب مع الفنان الكبير عبد الوارث عسر جمعية أنصار التمثيل وكان لفترات طويلة من أبرز أعضائها ومارس هواياته في التأليف والإقتباس والتمثيل والإخراج من خلالها وإنتخب عام 1935م رئيسا لها عقب إستقالة الدكتور فؤاد رشيد وظل في منصبه حتى وفاته كما شارك الفنان عبد الوارث عسر فى تمصير أكثر من 30 عمل مسرحي من الأدب العالمى وتم تقديم هذه المسرحيات بعدة فرق منها أولاد عكاشة والكسار وجورج أبيض ورمسيس وفاطمة رشدي والقومية والطليعة والكوميدي وأيضا ببعض المدارس والجامعات وبجمعية أنصار التمثيل والسينما وكان من بينها مسرحيات 24 ساعة جواز وفتاة الأناضول والمشكلة الكبرى وحادثة طلاق والتقرير السري وحادثة الطربوش وكلمة الحق وبيوت الذوات وإكسبريس قبلي وشروع في جواز وإلى الأبد وفي بيوت الناس وزوجتي وعفريت مراتي والحل الأخير وسوسو وأول بختي واللعب بالنار وعلشان عيونك وتوت عنخ آمون وإنقاذ ما يمكن إنقاذه وكلنا كده وكانت الكتابات الأدبية هي طريقة للمسرح بعد ذلك الذي قدم له حوالي 40 عملا ككاتب حيث قدمت له فرقة فاطمة رشدي مسرحيتي 667 زيتون عام 1930م والدكتور عام 1948م كما قدمت له الفرقة القومية مسرحيات الزوجة الثانية عام 1937م والأمل عام 1939م ورجال عام 1942م بينما قدمت له الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى مسرحية أرواح المرحومين عام 1946م ومسرحية الغيرة عام 1948م وفضلا عن ذلك فقد قام بتمثيل بعض الأدوار التي كان يجدها تناسبه منها أدواره في مسرحيات كلنا كده ومدرسة الأزواج ونص دقيقة عام 1943م وإبن مين فيهم والجزاء عام 1944م وحسن الشحات وأرواح المرحومين وعفريت مراتي ومشغول بغيري عام 1946م والشرف الياباني عام 1947م وعلاوة علي ذلك فقد كان صاحب الفضل في إستمرار فرقة الريحاني بعد وفاته في عام 1949م حتي لا يغلق باب الرزق أمام أعضائها وفي مجال السينما فقد كانت بدايته معها متأخرة نسبيا بعدما تخطى سن الأربعين عندما رشحه صديق عمره المخرج والرائد الكبير محمد كريم عام 1933م ليشارك الفنان محمد عبد الوهاب بطولة أفلامه الأولى في السينما الوردة البيضاء والذى شارك فى كتابة قصته وفيلم دموع الحب في عام 1935م وفيلم يوم سعيد في عام 1940م وقد بلغ عدد الأفلام التي شارك فيها الفنان سليمان نجيب عدد 52 فيلما كممثل وسيناريست كان منها علي سبيل المثال لا الحصر فيلم ليلي بنت الفقراء عام 1945م بالإشتراك مع الفنان أنور وجدى والفنانة ليلي مراد وفيلم أصحاب السعادة عام 1946م بالإشتراك مع الفنان محمد فوزى والفنانة رجاء عبده وفيلم فاطمة عام 1947م بالإشتراك مع الفنان أنور وجدى وكوكب الشرق أم كلثوم وفيلم لهاليبو عام 1949م بالإشتراك مع الفنان شكرى سرحان والفنانة نعيمة عاكف وفيلم الآنسة ماما عام 1950م بالإشتراك مع الفنان محمد فوزى والفنانة صباح وفيلم ورد الغرام عام 1951م بالإشتراك مع الفنان محمد فوزى والفنانة ليلي مراد وفيلم عايزة أتجوز عام 1952م بالإشتراك مع الفنان والمطرب فريد الأطرش والفنانة نور الهدى وفيلم قطار الليل عام 1953م بالإشتراك مع الفنان الكبير عماد حمدى والفنان إستيفان روستي والفنانة سامية جمال بالإضافة إلي أشهر أفلامه فيلم غزل البنات الذى ذكرناه في صدر هذا المقال بالإشتراك مع عبقرى الكوميديا نجيب الريحاني والفنان أنور وجدى والفنانة ليلي مراد وفضلا عن ذلك قام الفنان سليمان نجيب بكتابة قصة بعض الأفلام منها فيلم أخيرا إتجوزت عام 1942م وكان من بطولته وشاركته الفناناتان ميمي شكيب وتحية كاريوكا وفيلم قبلة في لبنان عام 1945م وكان بطولة الفنان أنور وجدى والفنانة مديحة يسرى وفيلم لست ملاكا عام 1946م وكان بطولة الفنان محمد عبد الوهاب ونور الهدى كما عمل مصور في فيلم وحيد هو فيلم كلمة حق بطولة إسماعيل ياسين وميمي شكيب وإخراج فطين عبدالوهاب .
وبخلاف مجالي المسرح والسينما فقد ساهم سليمان نجيب في إثراء الإذاعة المصرية بالكثير من الأعمال الدرامية على مدار مايزيد عن 25 عاما ةللأسف يصعب حصر جميع المشاركات الإذاعية لهذا الفنان القدير نظرا لعدم توثيق الأعمال الإذاعية في بداية الأمر بعد تأسيسها لكن عموما كان من بين المسلسلات التي شارك فيها علي سبيل المثال لا الحصر آخر إنذار وجمعية العزاب وذلك بخلاف مشاركته في إعداد وتقديم بعض البرامج الدرامية وبرامج المنوعات للإذاعة المصرية كان من أهمها برنامج حديث السهرة وقد تقلد سليمان نجيب منصب مدير دار الأوبرا الخديوية في عام 1938م حيث كان قد جاء آخر مدير أجنبي لها وهو معلم الأميرات نورتاتوتو كانتونى مديرا للأوبرا من عام 1932م وحتي عام 1937م حيث قررت الحكومة في هذا العام تمصير الوظائف بإحلال المصريين محل الأجانب فعينت وكيل الأوبرا المصري منصور غانم مديرا لها بدلا من مديرها الأجنبي المسيو كانتوني وبذلك أصبح منصب وكيل الدار شاغرا فكتب جورجي رياض مراقب الفنون الجميلة بوزارة المعارف العمومية التي كانت تتبعها الأوبرا حينذاك مذكرة رشح فيها سليمان نجيب لتولي منصب وكيل دار الأوبرا مبررا ترشيحه بأن سليمان نجيب من نوابغ هواة التمثيل وقد كان من أول الناهضين بهذا الفن وقد قام ولا يزال يقوم في خدمة المسرح بجهود موفقة ومواقف رائعة يذكرها له جميع المتتبعين للنهضة المسرحية والمهتمين به ولم يستمر منصور غانم في منصبه سوى عام واحد فقط ثم تولي المنصب من بعده الفنان الكبير والممثل القدير سليمان نجيب وقد ترأس الفنان سليمان نجيب دار الأوبرا الخديوية من عام 1938م حتى عام 1954م وأسندت إليه أيضا الإدارة الفنية للفرقة القومية لفترة في أوائل أربعينيات القرن العشرين الماضي ولما بلغ الستين من عمره تمت إحالته إلى المعاش بتاريخ 15 مايو عام 1952م ورغم ذلك أصدر وزير المعارف العمومية حينذاك محمد رفعت قرارا في يوم 9 يونيو عام 1952م بتجديد تعيين سليمان نجيب مديرا لدار الأوبرا بدرجة مدير عام إعتبارا من تاريخ إحالته إلى المعاش وعندما أنشئت وزارة الإرشاد القومي في يوم 10 من شهر نوفمبر عام 1952م بعد قيام ثورة يوليو عام 1952م أصبحت دار الأوبرا تابعة لها وظل سليمان بك نجيب مديرها العام حتي عام 1954م وخلال الفترة التي أدار فيها دار الأوبرا شهد له الجميع بأنه قد أدارها بكل حزم وإقتدار وكافأه الملك فاروق بأن منحه رتبة البكوية وكان أول فنان يحصل علي هذه الرتبة وكان الملك فاروق يعتبره من أصدقائه وقام سليمان بك نجيب بالتوسط للشاعر بيرم التونسي لدى الملك لكي يعفو عنه بعد أن تم نفيه خارج مصر في أوائل العشرينيات من القرن العشرين الماضي بعد تأليفه لقصيدة القرع السلطاني والبامية الملوكي التي كان يسخر بها من الملك فؤاد الأول ثم خلفه الشاعر عبد الرحمن صدقى من عام 1954م وحتي عام 1956م .
وجدير بالذكر أنه كان وما يزال الدخول إلي دار الأوبرا شأنه شأن جميع دور الأوبرا في كل دول العالم كان وما يزال لابد وأن يكون بالملابس الرسمية الكاملة ومن الطرائف في هذا المقام أن الملك فاروق الأول كان جالسا ذات ليلة من ليالي عرض أوبرا لاترافياتا في صدر مقصورته بدار الأوبرا التي شيدها جده الخديوي إسماعيل فإذا به عن بعد يلمح شيئا ما في الصالة من أسفل فتناول الملك منظاره المكبر ليتأكد مما تراه عيناه فغضب وأرسل في إستدعاء سليمان بك نجيب مدير دار الأوبرا وقتئذ مناولا إياه المنظار مشيرا إلى المقعد الخامس من الصف الثالث في الصالة حيث خلع صاحبه الجاكيت ووضعه على ساقية مكتفيا بالقميص الأبيض الذى بدا بوضوح وسط ملابس السهرة السوداء ضاربا بذلك قواعد البروتوكول الخاص بدور الأوبرا حول العالم عرض الحائط وخاطب الملك سليمان نجيب وهو غاضب قائلا له سليمان إنت شايف اللي أنا شايفه فهرول سليمان بك نجيب للمتفرج المتهور الذي أتى أمرا وذنبا لا يغتفر وخرج عن القانون الأوبرالي ليهمس في أذنه محذرا ومهددا يا إبني إلبس الجاكيت الله يرضى عليك وعلينا ولم يكن الملك فاروق الأول وحده هو من يراعي صرامة بروتوكول حضور عروض الأوبرا وإنما أيضا كان يراعيها جميع أفراد الأسرة المالكة ومن الطرائف أيضا التي ذكرها سليمان بك نجيب موقف آخر حدث وهو مدير لدار الأوبرا أنه كانت الأميرة فايزة شقيقة الملك فاروق الأول تحجز دائما أحد البناوير في أيام معينة من الأسبوع وتدفع ثمن إشتراك الموسم كله مقدما وكانت تحرص علي الحضور في المواعيد المخصصة لها وفي إحدى الليالي قالوا لسليمان بك نجيب إن صاحبة السمو الملكي وزوجها يجلسان الآن في بنوارها وذلك في يوم غير الأيام المخصصة لها فوقع في مأزق حرج لأن البنوار كان محجوزا في تلك الليلة فتوجه إليها يستأذنها في الإنتقال إلى بنوار آخر فأدركت الأميرة علي الفور خطأها لتهب واقفة في خجل قائلة ببساطة لزوجها محمد علي رؤوف لقد أخطأنا وجئنا في يوم غير يومنا وإعتذرا لسليمان بك نجيب بشدة ثم وجهت الأميرة كلامها لزوجها قائلة لابد وأن نعاقب أنفسنا بقضاء سهرتنا الليلة في المنزل .
وكما ذكرنا في السطور السابقة أن سليمان بك نجيب قد عاش طوال عمره أعزبا وبالتالي لم يكن له ذرية من صلبه لكن خادمه الخاص كان عنده 3 أولاد وتكفل سليمان نجيب بحياتهم وتعليمهم وعلاجهم إذا مرضوا وشراء كل إحتياجاتهم وكان هذا الخادم وأولاده الثلاثة هم تقريبا أصحاب البيت وكان سليمان بك هو الذى يسكن لديهم وذلك بكل سماحة نفس منه فكانوا يأكلون من طعامه ويشربون من شرابه وينامون على أسرة بيته وفي أوقات الطعام يجلسون معه على مائدة سفرة واحدة وكان معهم نسخ من مفاتيح المنزل ليدخلوا ويخرجوا منه في أي وقت ولما كان سليمان بك نجيب يغضب منهم كان يترك المنزل ويخرج ويقول لهم أنا خارج وسأترك لكم البيت وعندما يعود يقول لهم أنا رجعت أمشي ولا أدخل وفي مرة عرف سليمان نجيب من طباخه أن أهل بلدته يقومون ببناء جامع هناك وأن أعمال البناء متوقفة بسبب عدم وجود تمويل فدفع مبلغ من جيبه علي سبيل التبرع وعن طريق إتصالاته وافقت وزارة الأوقاف علي صرف إعانة قدرها 386 جنيه من أجل إستكمال بناء الجامع ومما يذكر عنه أيضا أن مربيته كان يعتبرها مثل والدته تماما ولما توفاها الله رفض أهله دفنها مع والدته لكونها في نظرهم خادمة حتى لو كانت هي إلتي قامت بتربيته وكان في ذلك الوقت خارج القاهرة فإتصلوا به ولما عرف بالخبر قال لأهله تدفن مع أمي طبعا هو في بيه وباشا في الموت كلها نومة واحدة عجايب عليكم ياناس عجايب. وقبل وفاته بيومين يقول صلاح الشاهد كبير الأمناء الأسبق برئاسة الجمهورية في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في كتابه شهادتي بين عصرين إنه قبل وفاة الفنان سليمان نجيب بثلاثة أيام طلب مقابلة الرئيس عبد الناصر لأمر هام وفي اليوم التالي حضر الفنان سليمان نجيب إلي مكتبي وعاتبني عتابا شديدا لعدم إتاحة الفرصة أمامه لمقابلة الرئيس وقال بالحرف الواحد ربنا ولا جمال عبد الناصر فقلت له أستغفر الله ما وجه الشبه بينهما فقال توجد إمكانية مقابلة الله سبحانه وتعالى بعد لحظات لو أطلقت على رأسي الرصاص فإني سوف أكون في لقاء الله بعد ثوان فضحكت ودخلت على الرئيس وأبلغته ما حدث فضحك وكان مجتمعا بالمرحوم المستشار أحمد حسني وزير العدل حينذاك وأذن للفنان الكبير بالدخول فدخل الفنان وبطريقته الظريفة ولهجته المحببة قال للرئيس عبد الناصر عندما رأى وزير العدل إنه كان ألفة عليه عندما كانوا تلاميذ في المدرسة وهو الآن وزير وأنا ممثل وطلب من الرئيس أن يشاهد عمل مسرحي له قبل إعتزاله للفن في الغد فوعده الرئيس بذلك وذهب فعلا لمشاهدة المسرحية وكان إسمها المشكلة الكبرى وشاركه في التمثيل الفنان الكبيرعبد الوارث عسر والفنانة أمينة رزق والفنانة عفاف شاكر وغيرهم وأبدع يومها الفنان سليمان نجيب إلى حد كبير وكأنه كان يحس أنه يمثل آخر أدواره على المسرح فأجاد وأبدع وقد إلتقى الرئيس عبدالناصر وصحبه معه على هامش هذا الحفل وجلسوا يتسامرون وإلتقط لهم المصورون عدة لقطات تذكارية .
وفي اليوم التالي 18 يناير عام 1955م إنتقل الفنان الكبير إلى جوار ربه وكان عمره حينذاك 63 عاما وكان دائما يقول عن نفسه إنه سيتوفاه الله في سن حول الستين عاما وقد صدقت نبوءته بالفعل وعن اللحظات الأخيرة في حياة الفنان سليمان بك نجيب يروى صديق عمره وخليفته في إدارة دار الأوبرا المصرية الشاعر عبد الرحمن صدقي لقد كان من نصيب سليمان نجيب أن يموت ميتة يحسده الناس عليها لو كان في الموت يجوز الحسد وقد كان أصدقاؤه المقربون يعرفون أن الموت بعيد عن خاطره كل البعد فقد كان يضحك ويمزح ويملأ الدنيا بهجة وفرحة حتى اللحظات الأخيرة في حياته وفي يوم وفاته كان يجلس معه صديقه القائمقام مصطفى لطفي وأراد سليمان نجيب أن يمزح معه ويخيفه فقام بتمثيل صورة الميت وهو يحتضر وطلب منه إستدعاء طبيب فخرج صديقه من غرفة النوم إلى صالة المنزل حيث يوجد التليفون فأراد سليمان نجيب أن يتقن الدور وأخذ يردد بصوت عال أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ثلاث مرات فرجع الصديق يخبره أن الطبيب في الطريق إليه فوجده وياللعجب قد إنتقل فعلا إلي رحمة الله وأصبح جثة هامدة وكان قد أوصى بسيارته لسائقه والمطبخ والسفرة لطباخه وباقي الأثاث لدار الأوبرا المصرية التي كان رئيسها في يوم من الأيام ومن عجائب الأقدار إنه في يوم وفاته كان أخوه مسافرا خارج مصر فطلب من أحد أصدقاء الفنان سليمان نجيب أن يشرف على الجنازة ويكتب فواتير بكل قرش يقوم بصرفه إلي أن يعود من السفر وفعلا نفذ ذلك وشيعت جنازة المرحوم الرائد الفنان سليمان نجيب وحضرها صلاح الشاهد نيابة عن الرئيس الراحل عبد الناصر ولما عاد أخوه إلي مصر قابل هذا الصديق في بيت سليمان نجيب وقدم له فواتير بمصاريف الجنازة بالضبط وكانت 299 جنيه وقرش صاغ واحد واخرج أخوه دفتر الشيكات لكي يكتب له شيك بهذا المبلغ فجاء خادم سليمان بك نجيب وقال له إنه يوجد مبلغ كان سليمان بك محتفظا بهم في دولاب حجرته لمصاريف جنازته فقام أخوه ودخل حجرة سليمان بك وفتح الدولاب فوجد مبلغ نقدى عبارة عن بعض عشرات وخمسات الجنيهات وبعض الجنيهات والعديد من القروش فقام بعدها فوجد جملتها بالضبط مبلغ 299 جنيه وقرش صاغ واحد وهو نفس مبلغ مصاريف جنازة الفنان الراحل وتعجب حينذاك الحضور وعدوا النقود مرة أخرى وراجعوا الفواتير أيضا مرة أخرى لتأكيد مبلغها الإجمالي ويقولون في دهشة يا سبحان الله غير ممكن الفلوس بالضبط هي نفس مصاريف جنازته وهكذا ظل هذا الفنان العظيم الراحل طوال حياته لا يمثل عبئا على أحد وتبقى أعماله وطلته خالدة ورحم الله الفنان العظيم رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته . |