بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
علي بك السلانكلي هو محافظ رشيد الذى كان معروفا عنه أنه يتسم بالشجاعة والقوة وحسن البصيرة وكان هو من قاد أبناءها بشجاعة لتحقيق الإنتصار علي حملة فريزر التي حاولت إحتلال رشيد عام 1807م وتعود قصة هذه الحملة إلي أنه بعد خروج الفرنسيين من مصر في عام 1801م بعد فشل الحملة الفرنسية كان الإنجليز يحلمون بتولية محمد بك الألفي صنيعتهم على مصر ليضمنوا بذلك سيطرتهم على البلاد التي تتحكم في طريق التجارة إلى مستعمراتهم في الهند وأصيبت بريطانيا بالصدمة عندما علمت بتولية زعماء الشعب محمد علي ولاية مصر وموافقة السلطان العثماني سليم الثالث علي هذا الإختيار لأنها تعرف أن محمد علي ليس سهلا ولن يكون أداة طيعة في يدها ومن ثم حاولت إقناع السلطان العثماني بخلع محمد علي وإسناد الولاية لمحمد بك الألفي أو أي وال آخر وإستجاب السلطان العثماني وأصدر فرمانا بتعيين محمد علي واليا علي سالونيك ببلاد اليونان فأسرع محمد علي بالإتصال بالزعيم عمر مكرم وإتفقا علي رفض فرمان السلطان العثماني والترتيب لمقاومته هو والمماليك وهنا إضطر السلطان العثماني إلى الرجوع عن فرمانه لأنه كان يخشى أن تندلع ثورة شعبية في مصر يترتب عليها فقدانه لمصر فيسيطر عليها المماليك والإنجليز معا وعندما وجدت بريطانيا عدم نجاح الأساليب الدبلوماسية مع السلطان العثماني إنتهزت فرصة تدهور علاقاتها معه بسبب إنحيازه لفرنسا وإتفقت مع روسيا علي ضرب الإمبراطورية العثمانية في مصر ومن هنا وجهت حملة عسكرية في شهر مارس عام 1807م لإحتلال مصر وخلع محمد علي وتنصيب محمد بك الألفي وهي الحملة المعروفة بإسم حملة فريزر أو حملة الإسكندرية عام 1807م كما أنها تعرف أيضا بإسم الحرب الأنجلومصرية الأولى وفي واقع الأمر فقد كانت عبارة عن حملة عسكرية للبحرية الملكية والجيش البريطاني أثناء الحرب الأنجلوتركية التي إستمرت ما بين عام 1807م وعام 1809م ضمن تداعيات الحروب النابليونية التي خاضها الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت في قارة أوروبا ما بين عام 1803م وعام 1815م وكان الهدف من هذه الحملة هو الإستيلاء على الإسكندرية في مصر بغرض تأمين قاعدة عمليات ضد الدولة العثمانية في البحر الأبيض المتوسط وذلك ضمن إستراتيجية أكبر لمواجهة التحالف العثماني الفرنسي للسلطان العثماني سليم الثالث .
بدأت حملة فريزر في منتصف شهر فبراير عام 1807م عندما أمر الجنرال فوكس المتمركز في ميناء ميسينا بجزيرة صقلية بالبحر المتوسط قوة من القوات البريطانية المتواجدة في كالابريا بجنوب شبه الجزيرة الإيطالية وفي جزيرة صقلية بالشروع في الإبحار في مهمة وتم الإعلان عن أنها ستتجه إلى إسطنبول عاصمة الدولة العثمانية بينما تم تعيين جون توماس دكورث نائبا لقائد أسطول البحر المتوسط الذي أبحر إلى إسطنبول بالفعل لكنه فشل في تقديم دعم فعال للبحرية الإمبراطورية الروسية بقيادة ديمتري سينيافين في عملية الدردنيل بعد مغادرته إسطنبول وكان من المقرر أن يلتقي بأسطول حملة فريزر في خليج أبو قير والذي كان يضم ما يقرب من ستة آلاف جندي بريطاني والذى بحلول يوم 17 مارس إقترب من الإسكندرية تحت قيادة الجنرال الكسندر ماكنزي فريزر ولم يكن ظهور البحرية البريطانية قبالة الإسكندرية متوقعاً فتمكنت السفينة البريطانية إتش إم إس تايجر من أسر فرقاطتين عثمانيتين في يوم 20 مارس عام 1807م والحراقة فارا نوما في يوم 21 مارس عام 1807م ووصل الجنرال فريزر بقواته إلي ساحل منطقة العجمي وبدأ في إنزال جنوده علي الشاطئ وكانت حامية مدينة الإسكندرية في ذلك الوقت تتألف من القوات الألبانية والتي حاول القنصل العام الفرنسي برناندينو دروفيتي دفعها للتصدي للإنزال البريطاني غرب المدينة وعلى الرغم من إرتفاع الأمواج فقد نجح ما يقرب من 700 جندي مع خمسة مدافع ميدانية وبصحبة 56 بحاراً بقيادة الملازم جيمس بوكسر من النزول دون مقاومة بالقرب من الوادي الذي يمتد من بحيرة مريوط إلى البحر المتوسط وإخترقت هذه القوات التحصينات المحيطة في الساعة الثامنة من مساء يوم 18 مارس عام 1807م ولم يواجهوا أي مقاومة تذكر ثم تم إرسال مفرزتين لإحتلال قلعتي أبو قير وقايتباى وكانت مهمتهما منع التعزيزات العثمانية من الوصول إلى المدينة وفي يوم 20 مارس عام 1807م ظهرت بقية قطع الأسطول البريطاني قبالة الإسكندرية وبعث الجنرال فريزر برسول عربي يحمل عرض الإستسلام إلي محافظ المدينة أمين أغا والذى قام بتسليمها للإنجليز دون أى مقاومة تذكر فدخلها الجنرال فريزر وجنوده يوم 21 مارس عام 1807م وإحتلوها وفي اليوم التالي 22 مارس عام 1807م ظهر السير جون توماس دكورث قبالة الإسكندرية في سفينة القيادة إتش إم إس جورج مما عزز ثقة القوات البريطانية التي كانت قد أتمت إحتلال مدينة الإسكندرية .
وفي هذا التوقيت علم الجنرال فريزر وقادته لأول مرة بوفاة محمد بك الألفي حليفهم الذي تعلقت آمالهم على تعاونه معهم في تحقيق نجاح أكبر والذى كان قد تحرك بقواته نحو الجيزة قبل قدوم الحملة بعدة شهور ولكنه لم يهاجم القاهرة في ذلك الوقت بل إتجه نحو دمنهور طبقا لإتفاقه السرى مع حلفائه الإنجليز على أن يؤيد الحملة البريطانية في مقابل أن تكفل بريطانيا للمماليك الإستيلاء على مقاليد الحكم في البلاد وكانت الخطة المرسومة له والمتفق عليها مع الإنجليز هي أن يزحف المماليك إلى القاهرة ليحتلوها بينما يحتل الإنجليز بأسطولهم موانئ مصر الشمالية وبعدها يزحفون إلى الدلتا ويحتلون القاهرة لإسقاط حكم محمد علي بمعاونة المماليك وعلي رأسهم جبهة محمد بك الألفي والذى حاصر دمنهور وكان يريد أن يتخذها مركزا لتجميع قواته ومنها يبدأ الزحف نحو القاهرة طبقا للخطة المرسومة له إلا أن الأهالي مع حامية المدينة دافعوا عنها ببسالة ولما بلغت الأنباء محمد علي أرسل قوات من جيشه فوصلت الرحمانية جنوب شرق دمنهور في شهر يوليو عام 1806م وإشتبكت مع قوات محمد بك الألفي إلا أن قوات محمد علي قد تعرضت للهزيمة وإنسحبت جنوبا إلى منوف وعاد محمد بك الألفي لحصار دمنهور ولكنه لم يستطع دخولها وتذمر جنوده نظرا لطول فترة الحصار مما دفعه لفك الحصار عن دمنهور ومالبثت أن لعبت الأقدار لعبتها لصالح محمد علي فقد توفي كل من عثمان بك البرديسي ومحمد بك الألفي زعيما المماليك وخصميه اللدودين ولما علم فريزر وقادته بالنبأ بعثوا بالرسل من فورهم إلى خليفته وغيرهم من البكوات المحليين ليوافونهم بقواتهم في الإسكندرية وفي الوقت نفسه أرسل اليهم محمد علي ليهادنهم فخشوا أن يتهموا بالخيانة فقرروا الإنضمام مرحليا إلي قوات محمد علي والي مصر حينذاك وان كانوا غير جادين في مقاومة الإنجليز وكانت نيتهم التمهل والإنتظار لحين أن يتبينوا لمن تميل لصالحه الكفة من القوات المتحاربة فينضموا إليه وعموما فبإستقرار الجنرال فريزر وقواته في الإسكندرية إستطاع الوزير البريطاني المقيم ميجور ميسيت بمؤازرة داكورث إقناعه بأهمية إحتلال رشيد والرحمانية لمنع وصول الإمدادات للإسكندرية لأنهم بذلك سوف يسيطروا على القناة التي من خلالها تأتي الإمدادات إلى المدينة عبر نهر النيل ومنها إلي الإسكندرية وفي نفس الوقت يؤمنون الطريق النهرى بين رشيد والقاهرة عند تحركهم نحو القاهرة لإحتلالها .
وبالفعل قرر الجنرال فريزر أن يزحف برا إلى رشيد لإحتلالها وإتخاذها قاعدة حربية لقواته وكلف أحد معاونيه وهو القائد باتريك ويشوب بهذه المهمة العسكرية والذى تحرك علي رأس قوة قوامها 1600 جندي من الإسكندرية إلى رشيد في يوم 31 مارس عام 1807م وهنا ظهرت شجاعة وبطولة وفدائية وحسن تصرف بطلنا علي بك السلانكلي محافظ إقليم رشيد والذى كان رجلا شجاعا ثاقب النظر يختلف كثيرا في اخلاقه عن أمين أغا محافظ الاسكندرية وكان تحت أمرته حامية قوامها 700 جندي وعزم على مقاومة عساكر الإنجليز وعدم تسليم المدينة لهم وإستنفر الشيخ حسن كريت نقيب الأشراف برشيد الأهالي للمقاومة الشعبية وأمر علي بك السلانكلي بإبعاد المراكب المصرية من أمام شاطئ النيل برشيد إلى البر الشرقي المقابل عند الجزيرة الخضراء وبرج مغيزل بمركز مطوبس بمحافظة كفر الشيخ حاليا لمنع الأهالي من ركوبها والفرار من المدينة وحتى لا يجد رجال حاميته وسيلة للإرتداد أو الإستسلام أو الإنسحاب كما فعلت حامية الإسكندرية من قبل وقام علي بك السلانكلي أيضا بنشر الحامية بين الأهالي متوارية بالمنازل داخل مدينة رشيد وبذلك أصبح لا مناص أمامهم إلا القتال والمقاومة وأمرهم بعدم التحرك أو إطلاق النار إلا بعد صدور إشارة متفق عليها وقدم الإنجليز إلي المدينة ولم يجدوا أي مقاومة فإعتقدوا أن المدينة ستستسلم كما فعلت حامية الإسكندرية فدخلوا شوارع المدينة مطمئنين وأخذوا يستريحون بعد السير الشاق في الرمال من الإسكندرية إلى رشيد وإنتشروا في شوارع المدينة وأسواقها للعثور على أماكن يلجأون إليها ويستريحون فيها وما كادوا يبدأون في أخذ قسط من الراحة بعد مسيرتهم الشاقة حتى إنطلق نداء الآذان بأمر من السلانكي من فوق مئذنة مسجد سيدي زغلول مرددا الله أكبر حي على الجهاد فإنهالت النيران من الأهالي وأفراد حامية رشيد من نوافذ المنازل وأسطحها علي الجنود الإنجليز مما تسبب في مقتل حوالي 185 جندى وإصابة حوالي 300 بجراح كما تم أسر 120 جنديا ومن ثم إضطر ويشوب للإنسحاب نحو الإسكندرية وتم إرسال رؤوس القتلى مع الأسرى إلى القاهرة مما كان له وقع طيب جدا في رفع الروح المعنوية وقوبل موكب الأسرى ورؤوس القتلى بإحتفال كبير عند وصوله إلي القاهرة .
ونظرا لأهمية إحتلال مدينة رشيد بالنسبة للإنجليز إلي جانب أن معركة رشيد التي هزم فيها الجنرال فريزر كانت ضربة موجعة له ولجنوده علاوة علي تكبده خسائر فادحة بسببها لذا أراد فريزر أن يمحو أثر تلك الهزيمة التي لحقت به فجهز جيش آخر لكي يستأنف الزحف نحو رشيد قوامه 2500 جندى بقيادة معاون آخر من معاونيه يدعي ويليام ستيوارت يوم 3 أبريل عام 1807م فوصل إليها يوم 7 أبريل عام 1807م وضرب حصارا حولها وضربها بالمدافع وأرسل قوة بقيادة معاون آخر له هو الكولونيل ماكلويد لإحتلال قرية الحماد التي تقع جنوبي رشيد بين النيل وبحيرة إدكو وكان الغرض من إحتلالها تطويق رشيد وإحكام الحصار حولها لكي يتم قطع الإمدادات والمؤن التي تصلها من الجنوب عنها وحماية مصدر الماء للجيش الإنجليزي وإحتل الإنجليز أيضا آكام أبي مندور المطلة علي رشيد وركبوا عليها المدافع ليضربوا رشيد بالقنابل وعسكر معظم الجيش غربي رشيد وجنوبيها وأحكم حولها الحصار وبدأ الجيش الإنجليزى في قصف المدينة بالمدافع وكان الإنجليز يظنون أن ذلك سوف يلقي الرعب في نفوس الحامية والأهالي ويضطرهم إلى التسليم وقاموا بإنذارهم عدة مرات وطلبوا منهم أن يكفوا عن المقاومة وأن يسلموا المدينة إلا أن الأهالي وحاميتها تحت قيادة البطل علي بك السلانكلي دافعوا عنها ببسالة منقطعة النظير ورفضوا التسليم وكان إنتصارهم السابق في واقعة رشيد قد بعث في نفوسهم الحمية والحماسة فصمموا على الإستبسال في الدفاع تحت قيادة البطل علي بك السلانكلي وعلي الرغم مما أحدثته القنابل من تخريب البيوت وقتل الكثير من السكان إلا أنهم صبروا وصمدوا وتحملوا ذلك بشجاعة وكانوا يخرجون من المدينة من وقت لآخر لمناوشة القوات الإنجليزية وإستمر ضرب الحصار حول رشيد نحو 12 يوما دون أن يحرز الإنجليز أي إنجاز عسكري وكان الإنجليز حينذاك ينتظرون أن ينجدهم المماليك ولكن هؤلاء أخذوا يسوفون ويماطلون في الوفاء بعهدهم ويرقبون تطور الأحداث ثم تخلوا عن حلفائهم لما رأوا حرج مركزهم وفي غضون ذلك أخذ الأهالي وحامية المدينة بقيادة علي بك السلانكلي يناوشون مواقع الإنجليز في قرية الحماد فأنفذ إليها الجنرال ستيوارت مددا من الجنود ومن جانب آخر فقد ركب المصريون أيضا مدفعين على الشاطئ الشرقي للنيل وأخذوا يلقون القنابل على ميمنة الجيش الإنجليزي بالبر الغربي فإجتازت قوة من الإنجليز قوامها 250 جندي نهر النيل عند مسجد أبي مندور في يوم 16 أبريل عام 1807م وإستولت على موقع المصريين وعلى المدفعين إلا أن المصريين تلقوا مددا فإضطرت هذه القوة إلي العودة مرة أخرى إلى البر الغربي لنهر النيل .
وفي أثناء هذه الأحداث المتلاحقة كان محمد علي قد وصل إلي القاهرة في يوم 12 أبريل عام 1807م قادما من الصعيد بعد أن طرد المماليك من أسيوط فإطلع على الأنباء الواردة عن هزيمة الإنجليز في رشيد فإطمأن قليلا ولكن لم يركن إلى ما حدث في تلك الموقعة ورأى بنظرة ثاقبة أن الإنجليز قد يستأنفون القتال والزحف نحو القاهرة ليستردوا هيبتهم الضائعة فبادر إلي إتمام عمل الإستحكامات الدفاعية حول القاهرة بغرض تأمينها وواصل العمل في حفر الخنادق بين باب الحديد وبولاق لإقامة خط الدفاع عنها من الشمال وشق أخاديد أمام الخنادق تتصل بالنيل لتمتلئ بالمياه وتعرقل تقدم الجيش الإنجليزي وأغرق عددا من المراكب بين جزيرة بولاق والشاطئ لمنع مرور السفن الإنجليزية في نهر النيل إذا جاءت من رشيد ونصب المدافع في شبرا وإمبابة وجزيرة بولاق وبالتوازى مع ذلك بادر إلي حشد جيش لمحاربة الإنجليز وصدهم بقيادة نائبه طبور أوغلي قوامه 4000 من المشاة وعدد 1500 من الفرسان وأخذ يدبر المال اللازم لنفقات هذا الجيش وعاونه السيد عمر مكرم وعلماء وشيوخ الأزهر في جمع ما يمكن تدبيره من المال وفي هذا الصدد يقول الجبرتي نبه السيد عمر مكرم النقيب على الناس وأمرهم بحمل السلاح والتأهب لجهاد الإنجليز حتى مجاوري الأزهر أمرهم بترك حضور الدروس وكذلك أمر المشايخ بترك إلقاء الدروس ويعلق الرافعي على ذلك بقوله فتأمل دعوة الجهاد التي بثها السيد عمر مكرم والروح التي نفخها في طبقات الشعب فإنك لتري هذا الموقف مماثلا لموقفه عندما دعا الشعب على التطوع لقتال الفرنسيين قبل معركة الأهرام ثم تأمل دعوته الأزهريين إلى المشاركة في القتال تجد أنه لا ينظر إليهم كرجال علم ودين فحسب بل أيضا كرجال جهاد وقتال ودفاع عن الوطن عندما يتهدده الخطر فعلمهم في ذلك العصر كان أعم وأعظم من عملهم اليوم وكان ضرب وحصار رشيد والحماد قد ظل مستمرا إلى أن جاء المدد الذي أرسله محمد علي باشا بقيادة طبور اوغلي فتغير الموقف الحربي تغيرا جوهريا حيث كان هذا المدد مؤلفا من فرقتين الأولى يقودها طبور أوغلي بالبر الشرقي للنيل والأخرى بقيادة حسن باشا بالبر الغربي وكانت الفرقتان تسيران بحذاء الشاطئين فلما إقتربتا من رشيد عسكرت فرقة حسن باشا بالبر الغربي تجاه قرية الحماد وعسكرت الأخرى في قرية برنبال في مواجهتها بالشاطئ الشرقي للنيل وكان جنود الفرقتين بشاهد بعضهم بعضا وفي صبيحة يوم 20 أبريل عام 1807م تقدمت طلائع الجيش المصري من الفرسان من فرقة حسن باشا نحو مواقع الإنجليز في الحماد وإلتقت بكتيبة منهم وسط المزارع فأراد هؤلاء الإرتداد إلى القرية ولكنهم لم يحكموا إنسحابهم وأحاط بهم فرسان الجيش المصري فقتلوا بعضهم وأسروا آخرين فلما علم الجنرال ستيوارت بهذا الإصطدام الأول أرسل الكولونيل ماكلويد ومعه عدد من الجنود والمدافع إلى الحماد لتثبيت مركز الإنجليز فيها وعهد إليه بقيادة القوة المرابطة بها وكان موقع هذه القرية على جانب كبير من الأهمية وعليها يدور محور القتال لأنها واقعة في البرزخ بين النيل وبحيرة إدكو وفي شمالها ترعة كانت في ذلك الحين جافة تصل من النيل إلى قرب البحيرة فلو أن الإنجليز أحكموا الدفاع عن موقعهم بها لأمكنهم أن يسدوا الطريق أمام الجيش المصري فلا يستطيع إجتياز ذلك البرزخ ولا الوصول إلى مدينة رشيد وفك الحصار عنها ورتب ماكلويد مواقع جنوده ليدافع بهم عن هذا البرزخ وكان عددهم ثمانمائة مقاتل ترتكز ميسرتهم إلى النيل بقيادة الميجور وجسلند وميمنتهم قرب بحيرة إدكو بقيادة الكابتن تارلتون والقلب في قرية الحماد بقيادة الميجور مور أما باقي الجيش الإنجليزي فقد ظل مرابطا حول مدينة رشيد .
وإنقضي يوم 20 أبريل عام 1807م وموقع الإنجليز في الحماد لم يستهدف من قبل القوات المصرية وكان ماكلويد مطمئنا إلى مركزه لكن الجنرال ستيوارت لاحظ حتما تأثر خط الدفاع في الحماد أنه لا يحتمل في بعض جهاته ضغط قوات الجيش المصري إذا تكاثر عددها فأمر ماكلويد بأن يستبسل في الدفاع عن مواقعه قدر ما يستطيع وفي حالة تكاثر قوات الفرسان المصريين فعليه أن يرتد إلى شاطئ بحيرة إدكو فإذا لم يستطع ذلك فليتراجع إلى مواقع الجيش الإنجليزي الذي كان يحاصر رشيد وأدرك الجنرال ستيوارت أن القوات المصرية بعد أن جاءها المدد صارت أكثر عددا من الجيش الإنجليزي فإرتأى أن ينتظر إلى اليوم التالي 21 أبريل عام 1807م وإعتزم إذا لم تصله النجدة من المماليك أن ينسحب من الحماد ويرفع الحصار عن رشيد ويتراجع إلى الإسكندرية ومن جانب آخر كان طبور أوغلي قائد الجيش المصري إلى ذلك الوقت مرابطا في برنبال بالبر الشرقي للنيل ولم يقرر أي طريق يسلكه هل يذهب رأسا لنجدة رشيد ليرفع الحصار عنها أم يهاجم أولا موقع الإنجليز في الحماد إلى أن تشجع بالنصر الذي ناله فرسان حسن باشا بالبر الغربي في الإصطدام الأول فإعتزم إتباع الخطة الأخيرة فعبر نهر النيل ليلا بجنوده وإنضم بهم إلى فرقة حسن باشا تأهبا لمهاجمة جيش الإنجليز في قرية الحماد في صبيحة يوم 21 أبريل عام 1807م وفي صباح هذا اليوم شاهد ماكلويد قوات الجيش المصري قد تكاثر عددها وإمتلأ السهل برجالها فأرسل من فوره إلى الجنرال ستيوارت ينبئه بالخبر ويطلب إليه أن يقره على الإنسحاب إلى مواقع الجيش الإنجليزي حول رشيد فبعث إليه ستيورات برسالة يقره فيها على خطته ومده بفصيلة من الجند لكن الرسول لم يتمكن من الوصول إلى قرية الحماد وكذلك لم يصل المدد لأن فرسان الجيش المصري قد إنتشروا في السهل وقطعوا المواصلات بين الحماد ورشيد فإعتزم ماكلويد الإنسحاب من خط دفاعه ولكنه لم يحكم خطته وتفرقت قواته فتمكن فرسان الجيش المصري من الإنقضاض عليها واحدة إثر أخرى في الوقت الذي إحتل فيه المشاة المصريون قرية الحماد وتعقب الفرسان قوات الإنجليز وأحاطوهم وإنهال عليها الرصاص من كل صوب فقتل عدد كبير منهم علي رأسهم قائدهم ماكلويد وأحاطوا كذلك بالميمنة فقتل قائدها تارلتون ومعظم جنودها ولم ينج من القتل سوى خمسين وقعوا في الأسر أما الميسرة فقد قاومت قليلا وأحاط بها الفرسان من كل جانب فلم ير قائدها الميجور وجسلند بدا من التسليم فسلم هو والبقية الباقية من الإنجليز وكان ذلك ختام هذه المعركة والتي كانت قد بدأت في الساعة السابعة صباحا وإستمرت حتي الساعة العاشرة صباحا أي أنها إستمرت ثلاث ساعات حمى فيها وطيس القتال وإنتهت بهزيمة الجيش الإنجليزي المرابط في قرية الحماد هزيمة ساحقة ولم ينج منه أحد تقريبا فمن لم يدركه القتل لم يسلم من الأسر وبلغت خسارته نحو عدد 416 من القتلى وعدد 400 أسير وعدد كبير من الجرحي والمصابين .
وفي هذه الأثناء كان الجنرال ستيوارت مرابطا جنوبي رشيد ومعه بقية الجيش الإنجليزى فلما أدرك عظمة النكبة التي حلت بقواته في الحماد سارع إلى رفع الحصار عن رشيد وبادر إلى الانسحاب نحو الإسكندرية قبل أن ينقض عليه الجيش المصري فأتلف مدافعه التي لم يستطع حملها وتراجع إلى طريق أبو قير يجر أذيال الخيبة والهزيمة وعلي الرغم من كتمانه تدابير الإنسحاب فإن أهالي رشيد والبلاد المجاورة تعقبوه في إنسحابه إلى أن وصل إلى بحيرة إدكو وجرت مناوشات على شاطئ البحيرة بينه وبين المصريين إنتهت بإرتداد هؤلاء ومواصلة الإنجليز الإنسحاب حتى بلغوا أبو قير ومن هناك إستقلوا السفن إلى الإسكندرية وبعد هذه الأحداث وبإنتهاء هذه المعركة هزم الإنجليز هزيمة ساحقة وإمتلأت نفوس المصريين فخرا وثقة وأسقطت هيبة الجيش الإنجليزي وخاصة لما تم جمع أسراهم وشحنهم في المراكب إلى القاهرة ليتحقق الناس من عظم النصر الذي حققه الجيش المصري ووصل اولئك الأسرى إلى بولاق يوم 29 أبريل عام 1807م فسيقوا من بولاق إلى الأزبكية ومنها إلى القلعة وكان عددهم 480 أسيرا وكان في مقدمتهم من قواد الجيش الإنجليزي الميجور مور والميجور وجسلند وكان يوم حضورهم يوما مشهود إحتشدت فيه الجماهير من سكان العاصمة على جوانب الشوارع والطرقات لرؤية منظر الأسرى وحملت رؤوس القتلى الإنجليز ليراها الناس على الطريقة التي كانت مألوفة في ذلك العصر فبلغ عددها 450 رأس وواصل الجيش المصرى الزحف نحو الإسكندرية وحاصرها حصارا محكما وأسقط في يد الجنرال فريزر بعد تلك الهزيمة الساحقة ورأى أنه من العبث أن يعاود القتال فتحصن بالإسكندرية وأخذ في تحصينها وبعث بالرسل إلى زعماء المماليك يذكرهم بوعود محمد بك الألفي ويناشدهم العهود ويطالبهم بإمداده ومعاضدته ليواصل القتال لكي يعيدهم إلى حكم مصر ولكن المماليك لما علموا بما حل بالإنجليز من الهزيمة آثروا الصمت وصموا آذانهم عن الإستجابة له وظلوا بعيدين عن غمرات القتال وأخيرا في يوم 14 سبتمبر عام 1807م تم عقد صلح بين الطرفين المتحاريين يتم بمقتضاه إيقاف القتال بينهما خلال 10 أيام والإفراج عن أسرى الإنجليز المحبوسين في القاهرة ورحيلهم عن الإسكندرية وبالفعل تم تنفيذ الإتفاق وغادر فريزر الإسكندرية متجها إلى صقلية يوم 25 سبتمبر عام 1807م إلي غير رجعة .
وجدير بالذكر أنه بهزيمة هذه الحملة وخروجها من مصر تخلص محمد علي من هذا الكابوس الذى كاد أن يزلزل أركان حكمه ويطيح به بعد حوالي سنتين فقط منذ توليه حكم مصر وليتفرغ بعد ذلك للتخلص نهائيا من المماليك فيما عرف بمذبحة القلعة في عام 1811م والتي كاد أن يلقي علي بك السلانكلي فيها حتفه نتيجة تواجده خلف صفوف المماليك الذين إنهال عليهم الرصاص من جنود محمد علي باشا وكاد أن يصيبه وليبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة نحو بناء مصر الحديثة ويبقى أن نقول إنه كعادة شعب مصر عندما تتعرض البلاد للخطر من الخارج يلتف الجميع حول قيادتهم ويقدمون أروع الأمثلة في التضحية والفداء ولا يكون هناك شعب وجيش بل الكل يهب مدافعا عن بلده وشرفه وعزته وكرامته كما رأينا من شعب رشيد البطل الذى صنع ملحمة رائعة في تصديه لحملة فريزر وتسلم الأيادى وتحيا مصر تحيا مصر تحيا مصر وستظل شامخا يا وطني أبد الدهر وللأسف الشديد لا يعلم الكثيرون شيئا عن بطلنا علي بك السلانكلي ولا تتكلم وسائل الإعلام عنه ويجب علينا ألا ننسي هذا البطل العظيم وتلك الشخصية التاريخية العظيمة التي لعبت دورا بطوليا كبيرا في قيادة شعب رشيد وتحقيق الإنتصار علي حملة فريزر ومن يزور متحف رشيد يمكنه رؤية تمثال نصفي تبدو علي ملامحه الحزم والصلابة لعلي بك السلانكلي وقد ذكر أخباره كتاب الجبرتى عجائب الآثار فى التراجم والأخبار فى يومياته عن عام 1807م و كان علي بك السلانكلي على رأس وفد رشيد بعد النصر لإستعراض مظالم الأتراك بعد إنخذالهم في المعركة وتسليمهم الإسكندرية للإنجليز دون أي مقاومة وتركهم النضال لأهل رشيد وقد أقام له محمد على باشا تمثالا من المرمر فى حوش الباشا وهي مدافن الأسرة العلوية بالإمام الشافعى بالقاهرة وأصدر له مرسوما بالسماح بدفنه عند وفاته بتلك المدافن شأنه فى ذلك شأن أفراد الأسرة العلوية وفضلا عن ذلك فقد جاء ذكره ودوره البطولى والوطنى فى دحر حملة فريزر في رواية غادة رشيد للشاعر والروائى وإبن مدينة رشيد على الجارم ولا يفوتنا هنا أن نذكر أيضا أن مسجد زغلول بمدينة رشيد والذى يعد أقدم مساجد المدينة حيث يعود تاريخ بنائه إلي عام 1549م ما يزال يحمل ذكرى عزيزة على قلوب الرشايدة وكل المصريين وهي هذا الإنتصار الذى تحقق على حملة فريزر فمن على مئذنته إنطلقت صحية الله أكبر حي علي الجهاد إيذانا ببدء الهجوم على عساكر الحملة الانجليزية كما ذكرنا في السطور السابقة وكان هذا المسجد بمثابة الأزهر في رشيد حيث كان يعد مركزا للحركة العلمية والدينية خلال العقود الماضية وكان يتوافد عليه طلاب العلم من كل مكان وكان لكل شيخ عمود به ولذا كان يطلق عليه المسجد الجامع وكان هذا المسجد قد وصل إلي حالة يرثي لها وأصبح مهددا بالإنهيار وتم إغلاقه لمدة طويلة بلغت حوالي 13 عام ثم أجريت به عمليات الترميم والإصلاح اللازمة بالتعاون بين وزارتي الأوقاف والآثار وأعيد إفتتاحه مرة أخرى عام 2018م . |