بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
وفي يوم 6 أبريل عام 1963م إجتمعت وفود الدول الثلاثة في القاهرة ودارت المباحثات المكثفة بينها والتي أسفرت في النهاية عن توقيع إتفاقية 17 أبريل عام 1963م والتي تضمنت إعلان المبادئ الهامة التي تم الاتفاق عليها بين الدول الثلاثة بالإضافة إلي ملحقين مكملين لهذا الإعلان يوضحان كيفية بناء دولة الإتحاد الثلاثي والمؤسسات الدستورية اللازمة لذلك وكانت أهم بنود هذه الإتفاقية تتعلق بتنظيم العمل السياسي في دولة الإتحاد التي تقرر تسميتها الجمهورية العربية المتحدة وكل دولة من دولها تسمي قطر وجنسية مواطنيها هي الجنسية العربية وعلي أن تكون عاصمتها القاهرة وأن يكون دينها الرسمي الإسلام ولغتها الرسمية اللغة العربية وبخصوص برلمان دولة الإتحاد نصت الإتفاقية علي تأسيسه من غرفتين الأولي هي مجلس الأمة ويتم إنتخاب أعضائه كل 4 سنوات إنتخابا حرا مباشرا وعدد أعضائه يتم تحديده بنسب عدد السكان في كل قطر من أقطار دولة الإتحاد ويكون هذا المجلس مسؤولا عن إنتخاب رئيس الجمهورية بالإضافة إلي عدد 3 نواب بواقع نائب من كل قطر أما الغرفة الثانية فهي مجلس الإتحاد ويتكون من عدد متساو من الأعضاء من كل قطر يتم إنتخابهم إنتخابا حرا مباشرا لمدة 4 سنوات وعددهم يجب ألا يقل عن ربع أعضاء مجلس الأمة ولا يزيد عن ثلثهم ولا يتم إقرار أي قانون إلا إذا أقره المجلسان وتكون من سلطة رئيس الجمهورية إمكانية حل المجلسين وفضلا عن ذلك فقد نصت إتفاقية 17 أبريل عام 1963م علي قيام رئيس الجمهورية بتعيين رئيس لمجلس الوزراء وعدد من الوزراء ويكون مجلس الوزراء مسؤولا أمام مجلس الأمة كما يتم تأسيس محكمة إتحادية عليا يتم إختيار أعضاءها بواسطة مجلس الأمة بناءا علي ترشيحهم من قبل رئيس الجمهورية وللأسف الشديد لم يتم تنفيذ هذه الإتفاقية ولو لمدة يوم واحد فعقب عودة الوفدين العراقي والسورى إلي بلديهما بدا حزب البعث في كل من البلدين في شن حملات إنتقامية ضد الفئات القومية تم خلالها سقوط العديد من القتلى والجرحي وإعتقال المئات ويذكر أمين هويدى أنه في تلك الأيام تعرض هو ومسؤولو السفارة المصرية في بغداد للعديد من الإجراءات الإستفزازية مثل تفتيش سياراتهم ومنازلهم ووصلت للكثير منهم وعلي رأسهم السفير أمين هويدى تهديدات بالقتل ولذلك تجمدت الإتفاقية وفي يوم 22 يوليو عام 1963م وفي ذكرى مرور 11 سنة علي قيام ثورة يوليو عام 1952م ألقي الرئيس عبد الناصر خطابا وجهه إلي الأمة العربية كلها وأتبعه بخطاب آخر في يوم 26 يوليو عام 1963م شرح فيهما الحقائق وكل ماحدث خلال الأشهر السابقة في كل من سوريا والعراق وأن إتفاقية 17 أبريل عام 1963م كانت موجودة فقط في الأوراق التي وقعت عليها ولكنها لم تنفذ علي أرض الواقع وبذلك تحطمت هذه الإتفاقية قبل أن تبدأ .
وحفظا لماء الوجه لجأ النظام الحاكم في العراق إلي إشغال الشعب والجيش عن المشاكل المتفاقمة في البلاد إلي إشعال الحرب في شمال البلاد مع الأكراد وكان النظام العراقي يظن أنه في الإمكان الإنتهاء من هذه الحرب في غضون أسابيع قليلة ولكن تبين خلال شهر أغسطس عام 1963م أن ذلك غير ممكن وأن الأمر قد يستغرق أكثر من شهر مالم يتم الزج بالمزيد من القوات في تلك الحرب وهنا لجأ النظام العراقي إلي إقتراح بطلب قوات إضافية من سوريا مع إعلان الوحدة بين العراق وسوريا ووافق النظام السورى علي مد العراق بقوات سورية مع إعلان الوحدة العسكرية بين البلدين مع تأجيل إعلان الوحدة الدستورية لمدة شهرين وبالفعل وصلت القوات السورية إلي العراق وكان هناك تحفظ من جانب الوزراء القوميين في مجلس الوزراء العراقي علي إعلان الوحدة العسكرية مع سوريا وإقترحوا ضرورة إستطلاع رأى الرئيس عبد الناصر وبالفعل تم تشكيل وفد عراقي وصل القاهرة يوم 2 أكتوبر عام 1963م وقابله السفير أمين هويدى في مطار القاهرة حيث كان متواجدا حينذاك بالقاهرة وقابل الوفد الرئيس عبد الناصر في مساء اليوم التالي 3 أكتوبر عام 1963م وخلال هذا اللقاء جدد الوفد دعوة الرئيس عارف للرئيس عبد الناصر لزيارة العراق إلا أنه إعتذر عن تلبية هذه الدعوة خاصة وأنه في يوم 17 سبتمبر عام 1963م وهو اليوم الذى كان من المفترض فيه عمل الإستفتاء علي إتفاقية 17 أبريل عام 1963م أصدر حزب البعث بيانا ملئ بالمغالطات وصف فيه النظام المصرى بأنه نظام إنفصالي كما فجر الرئيس عبد الناصر قنبلة أخرى في وجه الوفد العراقي وأخبرهم بأنه مستاء أشد الإستياء من إذاعة إسمها صوت الجماهير يتم بثها من العراق وتهاجم كل من مصر والأردن والسعودية والمغرب ولما أنكر الوفد وجود هذه الإذاعة ذكر لهم الرئيس عبد الناصر الموجة التي تبث هذه الإذاعة عليها برامجها والمكان الذى يتم منه البث وأسماء العاملين بها وعند هذه النقطة أصبح موقف الوفد العراقي في منتهي الحرج والسوء وإنتقل الحديث بعد ذلك إلي الحرب الدائرة في شمال العراق وتم توجيه سؤال للرئيس عبد الناصر عن إمكانية مد العراق بقوات مصرية فأجاب بعدم الموافقة فتم توجيه سؤال آخر له عن هل يمانع قيام الوحدة العسكرية بين العراق وسوريا فأجاب بأن هذا الأمر شأن يخص العراق وسوريا وأضاف قائلا ما معناه ما هي الفائدة من الموافقة أو عدم الموافقة في حين أن القوات السورية قد دخلت بالفعل شمال العراق وشاركت في العمليات العسكرية وإنتهي اللقاء عند ذلك وعاد الوفد العراقي إلي بلاده دون أن يحصل علي موافقة عبد الناصر علي الوحدة العسكرية بين العراق وسوريا التي كانوا يريدونها .
وفي الحقيقة فإنه بعد عودة الوفد العراقي من القاهرة إلي بغداد أحست القيادة العراقية بحرج موقفها وبدأت تتراجع في كافة المحاور ولكن بلا نظام وبعد أيام قليلة وفي يوم 8 أكتوبر عام 1963م أعلن الرئيس عارف الوحدة العسكرية بين العراق وسوريا وتبين للشعب العراقي الذى قابل هذه الأحداث بفتور بالغ أن الحرب مع الأكراد كانت مجرد ستار لإعلان الوحدة الثنائية بين بعث العراق والبعث السورى وهكذا كان يتم التلاعب بمصائر الشعوب العربية في إستخفاف غريب من أجل تحقيق مصالح حزبية لا طائل من ورائها في سبيل تحقيق مصالح الشعوب ورفاهيتها وعلاوة علي ذلك فقد أدرك الشعب العراقي أن هناك صراعات وخلافات بين أجهزة الحكم وأن حزب البعث قد إنقسم إلي جناحين أحدهما بقيادة علي صالح السعدى وزير الإرشاد حينذاك والآخر بقيادة حازم جواد وزير الداخلية حينذاك وظل الحال علي ما هو عليه حتي شهر نوفمبر عام 1963م عندما أعلن الرئيس عارف إلغاء الوحدة العسكرية بين العراق وسوريا وخرجت بذلك القوات السورية من العراق وكان الرئيس عارف في ذلك الوقت عازما علي إنهاء حكم البعث للبلاد وكانت خطته تقتضي أن يترك الحزب ليتصارع جناحاه من داخله حتي لا يتبقي منهما إلا الذيل ومن ثم سيكون من السهولة قطعه وفي يوم 11 نوفمبر عام 1963م وهو اليوم المحدد للإجتماع من أجل إجراء الانتخابات القطرية لحزب البعث وكان حازم جواد قد إستطاع إستقطاب الكثير من ضباط الوحدات العسكرية في بغداد وأثناء الاجتماع الذى عقدته القيادات القطرية من أجل إجراء الانتخابات إقتحم مقر الاجتماع عدد 20 ضابط ممن إستقطبهم حازم جواد شاهرين مسدساتهم وتم القبض علي صالح السعدى وأنصاره وتم نفيهم إلي أسبانيا وتم هذا الأمر في هدوء ودون أن يشعر به أحد في بغداد إلا أنه في صباح اليوم التالي 12 نوفمبر عام 1963م إنتشر الخبر وبدأت قوات الحرس القومي الموالية لصالح السعدى في التجمع في عدة مواقع في بغداد بكامل أسلحتها وتمكنت من الإستيلاء علي أقسام الشرطة ودوائر البريد والكهرباء وسيطروا علي كافة الجسور العابرة لنهر دجلة وكانوا يقومون بعمليات تفتيش مستفزة للمارة والسيارات ومن ثم ففي اليوم التالي 13 نوفمبر عام 1963م أصدر الرئيس عارف قرارا بفرض حظر التجوال وبنزول قوات الجيش إلي الشوارع من أجل السيطرة علي الموقف وحل الحرس القومي لكن قيادة حزب البعث ببغداد إشترطت إبعاد كل من حازم جواد وطالب شبيب وزيرى الداخلية والخارجية خارج البلاد ووافق كل من الرئيس عارف ورئيس الوزراء البكر علي ذلك وتم إبعادهما إلي بيروت إلا أنه علي الرغم من ذلك قام قائد الحرس القومي بعدة طلعات جوية قصف خلالها قصر الرئاسة ووزارة الدفاع ومطار الرشيد وتمكن من إحراق عدد 5 طائرات وإزاء هذه الأحداث المتلاحقة عزم الرئيس عارف علي أن يضرب ضربته الأخيرة بداية من صباح يوم 18 نوفمبر عام 1963م .
وكان الرئيس عبد الناصر في هذا الوقت يتصل بالسفير أمين هويدى لكي يتعرف منه علي سير الأحداث وفي آخر مكالمة قبل تحرك الرئيس عارف أخبره السفير هويدى بأن الرئيس عارف علي وشك أن يضرب ضربته خاصة وأنه قد تم التخلص من قيادات الصف الأول وبعض من قيادات الصف الثاني لحزب البعث خلال الأيام الأخيرة وفي صباح اليوم المذكور تم القبض علي صالح عماش وزير الدفاع وأصدر الرئيس عارف أوامره لقوات الجيش بالسيطرة علي بغداد والتعاون مع قوات الشرطة من أجل تنفيذ ذلك وهنا بدأ الحرس القومي يلقي بأسلحته وتم السيطرة علي الموقف وتم تشكيل وزارة جديدة ويذكر السفير هويدى أنه كان حينذاك متواجدا في القاهرة والتي كان وصلها منذ حوالي يومين وعند عودته إلي بغداد في يوم 22 نوفمبر عام 1963م حمل رسالة من الرئيس عبد الناصر إلي الرئيس عارف يحييه فيها علي العمل الذى قام به والذى كانت الجماهير في العراق وفي كل البلاد العربية تنتظره وتسلمها الرئيس عارف من السفير هويدى عند لقائه به بعد عودته إلي بغداد وفي هذا اللقاء وضح الرئيس عارف للسفير هويدى أنه كان يأمل أن تتعاون معه القيادات البعثية بعد ثورة شباط عام 1963م لكن للأسف فإن الحزبية البغيضة كانت هي سيد الموقف إلي جانب قيام الحرس القومي بأعمال إستفزازية أغضبت الجيش ومن ثم كان ولا بد من القيام بعمل يوقف هذا العبث بمقدرات الشعب العراقي وأن الله وحده قد وفقه لكي يتحقق النجاح لهذا العمل علي الرغم من وجود عناصر بعثية حوله وفي مواقع حساسة ويذكر السفير هويدى أيضا أنه في هذا اللقاء طالب الرئيس عارف بعدم الحديث عن الوحدة في الوقت الحاضر حتي تستقر الأوضاع في العراق وتتهيأ الظروف المناسبة لتحقيقها وفي النهاية طالب الرئيس عارف بوجود قوات مصرية في العراق فرد عليه السفير هويدى بأنه سيخطر القاهرة بهذا الطلب وإنه في حالة موافقة القاهرة فسوف يكون وجود هذه القوات ليس لتنفيذ مهام قتالية في شمال العراق وبالطبع فقد حاول البعث إستعادة نفوذه في البلاد إلا أن الرئيس عارف كان قد بدأ في حركة تطهير واسعة في كل مؤسسات الدولة وعلي رأسها الجيش وأبعد الكثير من الضباط من ذوى الميول البعثية عن العاصمة بغداد كما تم إبعاد الكثير منهم خارج البلاد في المكاتب العسكرية في بعض العواصم مثل الرباط وكراتشي ولندن وباريس وبرن ويعلق السفير هويدى علي ذلك بقوله إن هذا هو دأب الحكومات العربية في إستخدام جيوشها في تحقيق أمنها الذاتي ومن ثم فهي تعجز في المحافظة علي الأمن القومي لبلادها .
وفى النصف الأول من شهر ديسمبر عام 1963م كان وزير الخارجية العراقى صبحى عبد الحميد فى القاهرة وقابل الرئيس جمال عبد الناصر أكثر من مرة وحضر المشير عبد الحكيم عامر إحداها وكان الموضوع الرئيسى الذى أثير فى هذه اللقاءات هو طلب العراق وجود قوات عربية وتحديدا مصرية فى بغداد وكان الرئيس العراقي عبد السلام عارف قد سبق له التحدث فى هذا الموضوع مع السفير هويدى كما ذكرنا في السطور السابقة ثم مع الرئيس جمال عبد الناصر بعد ذلك عدة مرات حيث أن مجرد وجود هذه القوة ولو كانت فى حجم كتيبة أو كتيبتين سوف يحقق لهم أغراضا متعددة حيث أنه سيؤمن الوضع فى بغداد ويؤثر على الأوضاع السياسية فى دمشق ويلين من عناد الأكراد ويقنعهم بضرورة الوصول إلى حل سلمى مع الحكومة المركزية وطرح وزير الخارجية العراقى موضوع تحمل حكومته مهايا ومرتبات الأفراد وعلاواتهم بالإضافة إلى التموين والإمداد إلا أن الرئيس عبد الناصر رفض رفضا باتا أن تتقاضى قواتنا أى نوع من المرتبات من الحكومة العراقية غير أنه أمام إلحاح وزير الخارجية العراقى وافق على مضض أن تتحمل الحكومة المصرية مرتبات القوات وتتحمل الحكومة العراقية الأجور الإضافية علاوة على تكاليف الإقامة والإعاشة والتموين والإمداد وبعد عودة صبحى عبد الحميد إلى بغداد قررت الحكومة السورية سحب قواتها الموجودة فى زاخو فى الشمال بناءا على إتفاقية الوحدة العسكرية بين البلدين ورحبت الحكومة العراقية بهذا الإجراء أيما ترحيب وأثناء المباحثات الدائرة بادر السفير أمين هويدى فى يوم 16 ديسمبر عام 1963م بإرسال مذكرة للعرض على الرئيس جمال عبد الناصر تناول فيها هذا الموضوع الخطير ورأى أن يضع أمامه بوضوح أن المكان الأكثر إحتمالا لوضع قواتنا فى حالة وصولها إلي العراق هو منطقة زاخو فى الشمال إذ أن سحب القوات السورية سيترك فراغا فى هذا المحور يجب أن يملأ خاصة أن الرئيس عارف أخطره بأنه أنذر قائد الجبهة الشمالية بإحتمال وصول قواتنا علاوة علي أن وضع هذه القوات على هذه الصورة سيجعلنا فجأة على الحدود التركية والحدود السورية الأمر الذى سيترتب عليه ردود فعل حادة من كلتا الدولتين كما أن التعاون بين إيران وتركيا والعراق مازال قائما وأن ضباط الإرتباط من تركيا وإيران ما زالوا موجودين فى بغداد ومعنى ذلك أننا سنجد أنفسنا فى تعاون غير مباشر مع حلف السنتو ومازالت أيضا المشكلة الكردية على حدتها وموقفنا من هذه المشكلة حتى الآن هو عدم التحيز لأى من الطرفين ومحاولة إيجاد التفاهم فى نطاق وحدة الأراضى العراقية وقد يخرجنا وجود قواتنا بالعراق عن هذه السياسة ثم هناك سؤال هام وهو ما الموقف لو تغير الوضع فى العراق وهذا إحتمال قائم فما زال الموقف بعيدا عن الإستقرار وطالب أمين هويدى فى النهاية بإعتذار القاهرة عن إرسال القوات مع إيجاد التبريرات التى تعزز ذلك وإقترح فى حالة عدم الأخذ بوجهة النظر هذه أن تتمركز قواتنا فى بغداد أو فى أى مكان آخر خلاف التمركز فى الشمال ووافقت القاهرة علي الإقتراح الثاني وهو إرسال قوات مصرية إلى العراق ووصلت فعلا على شكل أطقم دبابات وأطقم مدافع لتعمل على دبابات ومدافع عراقية وعلي أن تتمركز هذه القوات فى معسكر التاجى الموجود فى ضواحى العاصمة العراقية بغداد وفى مباحثاته مع وزير الخارجية العراقى إتفق أمين هويدى على أن تتقدم الحكومة العراقية بطلب رسمى تطلب فيه إرسال القوات المتفق عليها وتم ذلك فعلا وزاره العقيد الركن محمد مجيد معاون رئيس أركان حرب الجيش العراقى بمكتبه لبحث التفصيلات التنفيذية إلا أنه فوجئ بأنه يخبره بأنهم سيدفعون بقواتنا عند وصولها إلى الشمال للعمل فى أحد القطاعات بالجبهة وكان السفير أمين هويدى قد لمس هذا الإتجاه ولكن فى صورة مبهمة من الرئيس عبد السلام عارف قبل ذلك ووضح لكل منهما أن هذا الإتجاه ضد الإتفاق بين البلدين ورأى السفير أمين هويدى حينذاك أن من واجبه أن يسافر إلى القاهرة سريعا لعرض الموضوع على الرئيس جمال عبد الناصر حتى يحسم الموقف قبل التورط فى أى إجراء وإقترح عليه إرسال رسالة خطية إلى الرئيس العراقي عبد السلام عارف توضح الأمور بجلاء كامل قبل الإقدام على أى خطوة تنفيذية .
وبالفعل حمله الرئيس عبد الناصر عند عودته إلى بغداد رسالة مكتوبة إلى الرئيس عبد السلام عارف بتاريخ أول يناير عام 1964م كان نصها سيادة الأخ الرئيس عبد السلام عارف رئيس الجمهورية العراقية أحييكم أطيب تحية وأرجو أن يعينكم الله على تحمل الأعباء الضخمة التى تواجهونها حتى تبلغوا كل ما ترجونه ونرجوه لكم من توفيق ونجاح وبعد لقد حمل إلي السفير أمين هويدى نتائج مقابلاته معكم ومع المسئولين فى العراق ولست فى حاجة أن أذكر من جديد بأخوة صادقة أننا نقف إلى جانبكم بإصرار وقوة وعزيمة وأعتقد أن صبحى عبد الحميد وزير خارجيتكم قد لمس مدى هذا الإستعداد فى مقابلته لى والتى وافقت فيها على تلبية رغبتكم بإرسال قوة من الجيش المصرى إلى العراق وذلك رغم المصاعب التى قد تواجهنا فى سبيل تحقيق هذه الرغبة والتى من أجلها وافقت على إرسال القوة على أساس ألا تشترك فى أى معارك ولقد أوضحت لصبحي عبد الحميد أن إشتراك قواتنا المسلحة فى أي معركة يتعارض مع خطنا السياسى ويتنافى مع مصلحتنا بل والمصلحة العربية بصفة عامة وقد إقتنع بوجهة نظرنا وأكد أنكم لا تنوون إرسال هذه القوة إلى ميدان المعركة وإنما ستعسكر فى الموصل والحبانية غير أن السفير أمين هويدى قد ذكر أنه لمس من حديثكم معه ومن مقابلاته مع العقيد الركن محمد مجيد معاون رئيس الأركان فى الجيش العراقى أن القوة العربية قد تشترك فى العمليات العسكرية الأمر الذى لم يكن فى حسباننا ولقد رأيت أن أبعث إليكم بهذه الرسالة لأوضح ما دار بينى وبين صبحى عبد الحميد بخصوص هذا الموضوع ولقد ذكر لي صبحى عبد الحميد أن فخامتكم هو من تبني فكرة إرسال قوة مصرية إلى العراق حيث سيترتب علي وجودها في العراق عدة أشياء منها الضغط على الأكراد لأنهم يثقون فينا وفى الجمهورية العربية المتحدة وذلك من أجل قبول حل القضية القائمة بطريقة تتفق مع رغبة الحكومة العراقية إلي جانب القضاء نهائيا على أى فكرة لدى البعثيين سواء فى سوريا أو فى العراق للقيام بعمل ضد الحكومة لأن وجود قوة عسكرية مصرية ولو رمزية بالعراق يؤمن حال العراق ويقوى الروح المعنوية لدى القوميين فى سوريا من أجل العمل على التخلص بسرعة من الحكم البعثى البغيض وفضلا عن ذلك فإن وجود قوة مصرية فى منطقة الموصل والشعور سيكون من الممكن أن تتقدم فى أى وقت تشاء إلى سوريا وهذا في حد ذاته من شأنه رفع معنويات الشعب السورى حتى ينتفض بسرعة ضد الحكم البعثى وقد رددت على صبحى عبد الحميد بإمكانية إرسال القوات على أساس ألا تشترك فى عمليات عسكرية وأوضحت له أسباب ذلك على الصعيد المحلى والدولى وقد أكد لي أن هذا هو الوضع الذى يريده الرئيس عبد السلام عارف أى أن القوة المصرية ستبقى فى الموصل فى ثكناتها ولا تشترك في القتال فوافقت على إيفاد القوات العسكرية العربية على هذا الأساس وهذا هو فى الحقيقة ما دار فى إجتماعنا بصبحي عبد الحميد متعلقا بموضوع إرسال القوة وإنى أرجو أن تتيح لي فرصة لقائكم فى إجتماع القمة وأن نستأنف بحث هذا الموضوع مفصلا مع أصدق تمنياتى وأرجو لكم وللشعب العراقى الشقيق كل توفيق ورفاهية والله يوفقكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبذلك إنتهت رسالة الرئيس عبد الناصر للرئيس عارف وعاد أمين هويدى إلى بغداد يوم 4 يناير عام 1964م وسلم هذه الرسالة إلى الرئيس عبد السلام عارف فى اليوم التالى ووصلت القوة أخيرا إلى العاصمة العراقية بغداد وكانت بقيادة المقدم إبراهيم العرابى الذى أصبح فيما بعد الفريق إبراهيم العرابي وشغل منصب رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية وكان معروفا عنه أنه ضابط ممتاز يعتبر دونما شك قدوة فى الخلق والقيادة وتقدير المسئولية وكان يشاركه فى صفاته الممتازة كافة ضباطه ومعاونيه وللتاريخ فإن سلوك قواتنا فى العراق كان مضرب المثل سواء فى المظهر أو السلوك أو الإنضباط أو المعرفة وكم كان يحلو للرئيس عبد السلام عارف أن يصطحب السفير أمين هويدى فى كثير من الأحيان لزيارة هذه القوة فى معسكرها ويتناولا مع ضباطها وجنودها طعام الإفطار وقضاء وقت طيب مع أفرادها وقد بذلت فيما بعد محاولات كثيرة حينما بدأ الصراع داخل الصف القومى بالعراق لضم قواتنا إلى هذا الجانب أو ذاك إلا أننا إلتزمنا بمبدأ الحيدة الكاملة فقواتنا وجدت لتدعيم نظام قائم وليس لمعاونة فرد أو أفراد .
وللتاريخ فقد كان للعراق في ذلك الوقت مواقف لا تنسي ففي الوقت الذى إحتاجت فيه القاهرة إلي رصيد من العملة الصعبة قامت بغداد بضخ 5.5 مليون دينار عراقي لحساب مصر في البنك المركزى ولم تستغرق الإجراءات إلا أيام قليلة بعد مفاتحة السفير أمين هويدى لمحافظ البنك المركزي العراقي في هذا الأمر دون أن يتم الاتفاق علي موعد وكيفية السداد ومن جانب آخر عندما إحتاجت مصر للقمح فبمجرد أن قام السفير هويدى بفتح الموضوع مع طاهر يحيي رئيس الوزراء العراقي فتحت العراق صوامع البصرة وتم شحن 50 ألف طن إلي مصر دون الاتفاق أيضا علي السعر أو علي موعد السداد وفضلا عن ذلك فقد فتحت العراق أبواب العمل أمام الشركات المصرية حيث تم إسناد العديد من الأعمال الضخمة لشركة المقاولون العرب كان علي رأسها مشروع قناة كركوك بمراحله الثلاث كما تم إسناد العديد من المشاريع لشركة مصر لأعمال الأسمنت المسلح وأيضا إتسع مجال التبادل التجارى بين البلدين حيث قامت شركة النصر لصناعة السيارات بتوريد صفقة أوتوبيسات لمرفق النقل العام بالعراق والتي أخذت تسير في شوارع بغداد والموصل والبصرة وفي الوقت نفسه تم إفتتاح معرض دائم للمنتجات والصناعات العراقية في القاهرة وكانت بغداد تنظر للأمر حينذاك علي أساس أنه من الضرورى أن تشد من أزر النظام المصرى وأنه من الضرورى أن تقوم بهذا الدور بتقديمها هذه المساعدات إلي مصر حيث أنها بذلك تحقق لنفسها الأمان ولذلك فهي لم تتردد للحظة واحدة أو تتقاعس في القيام بهذا الدور ومن ثم فقد أثبتت هذه المواقف وتلك المساعدات المتبادلة بين الجانبين المصرى والعراقي أن أمن وإستقرار الدول العربية لا يمكن أن يتحقق علي المستوى المحلي أو القطرى بل علي المستوى القومي وأنه من الممكن أن تتكامل الدول العربية مع بعضها البعض إقتصاديا دون الإستعانة بأى طرف أجنبي تكون له أطماع من أجل إستعادة النفوذ في أي بلد عربي بعدما إنحسر ذلك النفوذ وولي بعد صراع مرير دام عبر أجيال متعاقبة قدمت الشعوب العربية خلاله الملايين من الشهداء والضحايا .
وبحلول شهر مايو عام 1964م وكانت مصر تقيم السد العالي أقيمت إحتفالات بمناسبة تحويل مجرى نهر النيل كمرحلة من مراحل بناء السد وقدم حينذاك وفد عراقي رفيع المستوى علي رأسه الرئيس عارف لحضور هذه الإحتفالات وهبطت الطائرة مباشرة في مطار أسوان بالوفد العراقي وكان معهم السفير المصرى في العراق أمين هويدى وبعد إنتهاء الإحتفالات والتي كان مدعوا فيها بخلاف الرئيس عارف الرئيس الجزائرى أحمد بن بيلا والرئيس السوفيتي نيكيتا خروشوف تم عقد عدة إجتماعات بين الوفد العراقي برئاسة الرئيس عارف مع الجانب المصرى برئاسة الرئيس عبد الناصر وإنتهت هذه الإجتماعات بتوقيع إتفاقية للتنسيق السياسي بين البلدين في يوم 16 مايو عام 1964م وتم تكوين ما يسمي بالمجلس الرئاسي المشترك الذى ضم عدة أعضاء من كلا البلدين وبدأ هؤلاء الأعضاء يضعون أفكارهم حول الوحدة بين البلدين وتم عقد اجتماع لأعضاء هذا المجلس عقب إنتهاء مؤتمر القمة العربي الثاني الذى إنعقد في الإسكندرية في شهر سبتمبر عام 1964م وعرض خلاله الأعضاء العراقيون أفكارهم حول تحقيق الوحدة بين البلدين والذين كانوا يطالبون بإعلانها فورا حيث لم تعد إتفاقية شهر مايو عام 1964م كافية لتحقيق مطالب الشعب العراقي الذى كان يطالب بالوحدة الفورية مع مصر وفي اليوم التالي تحدث الأعضاء المصريون عن أفكارهم حول موضوع الوحدة وكان من الواضح أن هناك إتجاها لتأييد قيام الوحدة الفورية من جانب العديد من الأعضاء الممثلين للبلدين إلا أن كلا من الرئيس عبد الناصر والرئيس عارف كانا غير متحمسين لهذه الخطوة وأنه يلزم إتخاذ الكثير من الإجراءات والخطوات التي تحتاج إلي جهود صادقة من أجل الوصول إلي هدف الوحدة الإندماجية الكاملة بين البلدين وتم الاتفاق علي تشكيل لجنة فرعية من سفيرى البلدين لإعداد مشروع تأسيس قيادة سياسية موحدة للبلدين مع عقد اجتماع آخر بعد أسبوعين لبحث هذا المشروع وبالفعل تم توقيع ما أطلق عليه إتفاق 16 أكتوبر عام 1964م ومرت أيام عديدة ولم يتم عقد أي اجتماع للقيادة السياسية في البلدين لتصميم وإصرار الرئيس عبد السلام عارف علي عقد هذا الاجتماع في بغداد فهو قد زار القاهرة عدة مرات وفي الوقت نفسه كانت الظروف لا تسمح للرئيس جمال عبد الناصر بالسفر إلي بغداد لأسباب عديدة وفي حقيقة الأمر لم يكن مهما عقد هذا الاجتماع وكان الأهم هو كيفية بناء الوحدة بين البلدين طوبة طوبة وإتخاذ خطوات جادة وبذل جهود صادقة من الجانبين حيث أن الوحدة لا يمكن أن تبني علي عقد إجتماعات أو إبرام إتفاقيات .
وفي حقيقة الأمر كانت الظروف في ذلك الوقات مهيآة أمام القوميين العراقيين لتحقيق الأحلام التي تراود الشعب العراقي في الإستقرار ومن ثم التفرغ لتحقيق الرفاهية المنشودة خاصة أنه لم تكن هناك حينذاك دلائل تشير إلي إحتمال حدوث حركات مضادة في القريب العاجل يكون من شأنها تهديد نظام الحكم القائم وصرفه عن تحقيق آمال الشعب العراقي لكن كان هناك تخوف كبير من حدوث إنشقاقات وصراعات من داخل دوائر نظام الحكم حيث بدأ الصراع بين الرفاق وبعضهم البعض وبدأت تظهر أزمات ما تلبث أن يتم تداركها إلا وتظهر أزمات أخرى وهكذا وأصبحت الأوضاع المتدهورة في دوائر نظام الحكم تنذر بالوصول إلي نقطة اللاعودة وإضطر الرئيس عبد الناصر حينذاك أن يتدخل للتوفيق بين الرئيس عبد السلام عارف ورفاقه في الحكم وكان عازفا في البداية عن ذلك إلي أن نحي هذا التردد جانبا وقرر التدخل لإيمانه بأنه لن تستقر الأمور في العراق إلا إذا كان هناك توافق قومي وبذل محاولات مستميتة من أجل تحقيق هذا الهدف لكن للأسف دون جدوى وفي ظل هذه الظروف المضطربة كان الرئيس عارف يحاول تفتيت الكتل المتناحرة من حوله وأراد في نفس الوقت إستقطاب عارف عبد الرزاق قائد القوات الجوية والذى تظاهر بقبول إنضمامه إلي صف الرئيس عارف وفي يوم 5 مارس عام 1965م أقال الرئيس عارف طاهر يحيي رئيس الوزراء حينذاك وأسند تشكيل الوزارة إلي عارف عبد الرزاق والذى حاول أن يضم في وزارته بعض الوجوه من القوميين إلا أنه فشل في ذلك تماما وفي النهاية شكل وزارته مع إحتفاظه بمنصب قائد القوات الجوية ومرت عدة شهور حتي بدأ شهر سبتمبر عام 1965م والذى كان مقررا خلاله عقد مؤتمر القمة العربي في الدار البيضاء بالمغرب والذى كان سيحضره الرئيس عارف وتم الإتفاق بين عارف عبد الرزاق ومجموعته علي تدبير إنقلاب علي الرئيس عارف أثناء وجوده في هذا المؤتمر وسافر الرئيس عارف إلي الدار البيضاء يوم 12 سبتمبر عام 1965م وتقرر أن تكون ساعة الصفر ليلة 14/15 سبتمبر عام 1965م إلا أن هذا الإنقلاب لم ينجح وهرب عارف عبد الرزاق في طائرة حربية قاصدا القاهرة وكانت هذه الأحداث تدور والرئيس عبد السلام عارف قي المغرب ولا يعلم عنها شيئا إلي أن أخبره الرئيس جمال عبد الناصر بكل تفاصيلها بناءا علي التقارير التي كان يرسلها إليه السفير أمين هويدى من بغداد ومن ثم قطع الرئيس عارف زيارته للمغرب وتوجه إلي القاهرة أولا وتم ترتيب وصوله إلي بغداد وفي مطار بغداد تم إستقباله وكان حاضرا السفير أمين هويدى وإنتقل بالسيارة إلي مقر الرئاسة ليتولي السيطرة علي الموقف وكان من أول قرارته تكليف الدكتور عبد الرحمن البزاز بتشكيل الوزارة الجديدة وكان أول رئيس وزراء مدني يتولى الحكم في العراق منذ ثورة تموز عام 1958م . |