بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
الدكتور محمد حسين هيكل باشا أديب وكاتب وسياسي مصري كبير تقلد عدة مناصب وزارية خلال العهد الملكي وكان نائبا لحزب الأحرار الدستوريين أثناء فترة رئاسة محمد محمود باشا للحزب وبعد وفاته في عام 1941م أصبح رئيسا للحزب وكان هذا الحزب قد أسسه عدلي يكن باشا عام 1922م وأصبح رئيسا له ثم ترك الحزب بعد الانتخابات البرلمانية التي أجريت عام 1924م والتي لم يحقق فيها الحزب نتائج طيبة وترأسه من بعده عبد العزيز باشا فهمي الذى إستقال من رئاسته عندما تم تأسيس محكمة النقض وتم إختياره كأول رئيس لها وتولي رئاسة الحزب من بعده محمد محمود باشا حتي توفي في يوم 31 يناير عام 1941م ليخلفه محمد حسين هيكل باشا والذى إنفرد بين أبناء جيله وكلهم هامات سامقة في عالم الأدب والفكر والسياسة بأشياء حاز بها السبق والريادة حيث سبق غيره في تأليف أول رواية عربية بقصته المعروفة زينب وفتح لأصحاب القلم والبيان كتابة التاريخ الإسلامي على نحو جديد يجمع إلى جانب العمق والتحليل العرض الجميل والأسلوب الشائق والربط المحكم بين أحداث التاريخ وكتب أيضا أدب الرحلة وسجل خواطره وما يجول في نفسه في كتابه الرائع في منزل الوحي ودون مذكراته السياسية وما شاهده وشارك فيه من أحداث في كتابه مذكرات في السياسة المصرية وحاز هذا السبق وهو غير متفرغ للعمل الأدبي حيث قضى حياته كلها إما محاميا في قاعات المحاكم أو رئيسا لتحرير جريدة أو وزيرا في وزارة أو زعيما لحزب أو رئيسا لمجلس الشيوخ وكان مولد محمد حسين هيكل باشا في يوم 20 أغسطس عام 1888م في قرية كفر غنام إحدى قرى مركز السنبلاوين بمحافظة الدقهلية ونشأ في أسرة على جانب لا بأس به من الجاه والثراء وإلتحق بكتاب القرية حيث حفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة ولما بلغ سن السابعة إلتحق بمدرسة الجمالية الإبتدائية بالقاهرة وظل بها حتى أتم دراسته بها وحصل على الشهادة الإبتدائية عام 1901م وكان عمره 13 عاما ثم إنتقل إلى المدرسة الخديوية الثانوية حيث حصل علي شهادة إتمام الدراسة الثانوية عام 1905م ومن ثم إلتحق بمدرسة الحقوق الخديوية وفي أثناء هذه الفترة توثقت صلته بأحمد لطفي السيد باشا وتأثر بأفكاره وإلتزم بتوجيهاته وإنكب على قراءة الأدب العربي القديم في أمهاته المعروفة كالأغاني لأبي الفرج الأصفهاني والبيان والتبيين للجاحظ وطالع عيون كتب الأدب الإنجليزي وبعد تخرجه من مدرسة الحقوق عام 1909م سافر على نفقته الخاصة إلى العاصمة الفرنسية باريس ليستكمل دراسته في الحقوق ويحصل على شهادة الدكتوراة وإغتنم هيكل فرصة وجوده في فرنسا فإلتحق بمدرسة العلوم الإجتماعية العالية وحصل فيها على دراسات مختلفة وواظب على الإستماع لمحاضرات عديدة في الأدب الفرنسي وأقبل أيضا على قراءة الأدب الفرنسي بعد أن أتقن اللغة الفرنسية وأصبح عسيرها ميسورا له هذا إلى جانب إهتمامه بزيارة المعارض والمتاحف والآثار وظل في باريس ثلاث سنوات حصل في نهايتها على درجة الدكتوراة في الحقوق من جامعة باريس عام 1912م وكان موضوع الرسالة دين مصر العام .
وبعد عودة هيكل باشا من باريس عمل بالمحاماة في مدينة المنصورة فترة قصيرة ثم تركها بعد إختياره للتدريس في الجامعة الأهلية عام 1917م ولم ينقطع طوال عمله عن ممارسة العمل الصحفي وكتابة المقالات السياسية والفصول الأدبية في جريدة الأهرام وجريدة الجريدة صحيفة حزب الأمة التي كان يرأسها أحمد لطفي السيد باشا ثم تخلص هيكل من قيد الوظيفة وإستقال من الجامعة عام 1922م وتفرغ للعمل السياسي وإنضم إلي حزب الأحرار الدستوريين الذي تأسس في العام المذكور وكان هيكل أحد أعضاء مجلس إدارته ومن نجومه اللامعين وعقب صدور تصريح 28 فبراير عام 1922م وحصول مصر علي إستقلالها كان هيكل باشا أحد أعضاء لجنة الثلاثين التي شكلها عبد الخالق باشا ثروت في يوم 3 أبريل عام 1922م لوضع دستور وقانون إنتخابات لمصر وكانت تتكون من عدد 30 عضوا بخلاف رئيسها ونائبه وتم إختيار حسين رشدى باشا رئيس الوزراء الأسبق رئيسا لتلك اللجنة وأحمد حشمت باشا وزير المعارف العمومية الأسبق نائبا له وروعى في تشكيل تلك اللجنة أن يكون بها رجال سياسة وعلماء ومفكرين وأدباء ورجال دين إسلامي ومسيحي ويهودى ورجال قانون ورجال مال وأعمال وأعيان وتجار ولم تضم أى أعضاء من الوفد والحزب الوطني نظرا لإعتراضهم علي تشكيل اللجنة بهذا الشكل حيث طالبوا بتأسيس جمعية وطنية تأسيسية تمثل الأمة تتولى وضع الدستور لا لجنة حكومية يتم تشكيلها بقرار من رئيس مجلس الوزراء وأطلقوا عليها إسم لجنة الأشقياء وكان من أعضاء تلك اللجنة من السياسيين غير محمد حسين هيكل باشا عبد الفتاح باشا يحيى ومحمد بك علي علوبة وعبد اللطيف بك المكباتي وعبد العزيز بك فهمي ومن رجال الدين الإسلامي الشيخ محمد نجيب وعبد الحميد البكرى ومن رجال الدين المسيحي الأنبا يؤانس وعن اليهود يوسف أصلان قطاوى ومن الأعيان صالح لملوم باشا وعلي الرغم من معارضات حزب الوفد والحزب الوطني أنهت تلك اللجنة مهمتها علي أكمل وجه ووضعت الدستور والذى كان بحق وبشهادة كل المحايدين وحتي يومنا هذا دستورا من أفضل وأرقى الدساتير في التاريخ المعاصر ولا يعيبه إلا التعديلات التي أدخلت عليه فيما بعد ومنحت للملك سلطة حل البرلمان وإقالة الوزارة وقامت اللجنة برفع مشروع الدستور إلي رئيس مجلس الوزراء يوم 21 أكتوبر عام 1922م ولما أنشأ حزب الأحرار الدستوريين جريدة أسبوعية خلال عام 1926م بإسم السياسة الأسبوعية تولى هيكل باشا رئاسة تحريرها وجعل منها ميدانا خصبا لنشر المقالات والبحوث الأدبية والتاريخية والسياسية وتولى تحريرها والكتابة والنشر فيها العديد من كبار الكتاب والصحفيين وأئمة الأدب منهم الدكتور طه حسين وتوفيق دياب ومحمود عزمي ومحمد عبد الله عنان وعبد العزيز البشري وغيرهم وشهدت صفحاتها معارك فكرية حامية الوطيس مثل معركة كتاب الشعر الجاهلي التي فجرها الدكتور طه حسين وإستمرت وقتا طويلا وعلى صفحاتها نشر محمد حسين هيكل باشا أيضا فصولا من كتابه الشهير حياة محمد .
وفي أواخر شهر ديسمبر عام 1937م تولي محمد حسين هيكل باشا أولي مناصبه الوزارية كوزير دولة في وزارة محمد محمود باشا وفي شهر أبريل عام 1938م تم إختياره ليشغل منصب وزير المعارف العمومية بعد إعادة تشكيل الوزارة وظل في هذا المنصب حتي سقوطها في يوم 18 من شهر أغسطس عام 1939م ثم عاد وزيرا للمعارف العمومية للمرة الثانية في شهر نوفمبر عام 1940م في وزارة حسين سرى باشا والتي ظلت في الحكم حتي يوم 2 فبراير عام 1942م وفي عام 1944م عاد وتولي هذا المنصب مرة ثالثة في وزارة أحمد ماهر باشا وأضيفت إليه وزارة الشؤون الاجتماعية خلال الفترة من شهر أكتوبر عام 1944م وحتي شهر يناير عام 1945م وفي نفس العام تولي رئاسة مجلس الشيوخ وظل في هذا المنصب حتي شهر يونيو عام 1950م أي أكثر من 5 سنوات أرسى خلالها تقاليد دستورية أصيلة بمعاونة بعض أعضاء المجلس ونوقشت خلالها العديد من الإستجوابات والقضايا القومية كان منها علي سبيل المثال لا الحصر إعلان الحرب علي دول المحور في شهر فبراير عام 1945م حتي تتمكن مصر من الإنضمام لمنظمة الأمم المتحدة وكان منها أيضا مناقشة دخول مصر حرب فلسطين عام 1948م وهو الأمر الذى عارضه العديد من أعضاء المجلس كان علي رأسهم إسماعيل صدقي باشا وفؤاد سراج الدين باشا نظرا لعدم إستعداد مصر لدخول هذه الحرب والنقص الشديد في الأسلحة والمعدات اللازمة للجيش وفضلا عن ذلك فقد تولي هيكل باشا تمثيل مصر في التوقيع على ميثاق جامعة الدول العربية عام 1945م وأيضا تمثيلها في كثير من المحافل الدولية حيث مثل مصر كرئيس لوفدها في منظمة الأمم المتحدة أكثر من مرة خلال عام 1946م وما بعدها وكانت له مواقف محمودة في قضيتي مصر وفلسطين عندما عرضتا علي منظمة الأمم المتحدة .
وإذا ما تركنا ميدان السياسة وإنتقلنا إلي مجال الحياة الأدبية والفكرية لهيكل باشا فسوف نجد أنها مرت بعدة تغيرات لكن بلا شك كان التغير الكبير وأكبر معالم التغيرات في حياة الرجل الفكرية هو الإنتقال من العقلية التغريبية إلى معاداة الغرب ففي القسم الأول من حياته كان مؤمنا بالقيم الغربية والنزعة الفرعونية المصرية التي كانت تنميها الثقافة الفرنسية والإنجليزية في حياة المصريين ولذلك وقف كل المواقف المؤدية إلى تعزيز الهوية المصرية وقطع صلتها مع العروبة والإسلام فدعم وآزر في هذا الإتجاه علي عبد الرازق وطه حسين وأحمد لطفي السيد في دعوتهم إلى النزعة المصرية وتمثل قيم الحضارة الغربية بكل ما فيها من دون أن يرى فيها أي خلل أَو نقص أَو خطأ ولكن هذه القناعة سرعان ما تزلزلت عندما نظر محمد حسين هيكل إلى الغرب بعين فاحصة لسلوكه وقيمه وأخلاقه وكانت الحرب العالمية الأولى هي التي أثارت هيكل فرأى الوحشية الغربية ورأى إزدواجيتها في قيمها وأخلاقها وعاداتها ورأى أن الحرية التي تدعو إليها باطلة لا أساس لها من الصحة لأن الغرب لا يرعى حرمة أحد ولا قيمه وفي نفس الوقت يطالب الجميع بإحترام قيمه وقد عبر كتابه ثورة الأدب بوضوح عن هذه المرحلة وطبيعتها ففيه يبدو واضحا التأصيل للهوية المصرية المستقلة عن العرب مع التركيز على الحرية والإيمان بها والدعوة إليها بمختلف صورها وأشكالها وخاصة حرية العقل والتفكر والبحث العلمي ولكنه سرعان ما إستنكر النزعة الفرعونية عندما أدرك أن أصحابها ينفخون في هذه النزعة التعظيمية للفرعونية ليس لما للفراعنة من قيمة وإنما لقطع الصلة مع العرب والإسلام فقط ومن ثم إنقلب على هذه النزعة أيضا ومن جانب آخر كانت القصة أول ميدان يرتاده الدكتور هيكل فكتب قصته زينب في عام 1914م وهي أشهر أعماله الثقافية وتدور أحداث هذه الرواية في الريف المصري البسيط في أوائل القرن العشرين الماضي ذلك الريف الذي كان ملهما للأدباء والفنانين والشعراء وقد صورت الرواية بيوت الفلاحين وحياتهم المفرحة أحيانا والبائسة أحيانا أخرى وقد تحولت هذه الرواية إلي فيلم سينمائي مرتين كانت الأولي منهما عام 1930م وكان فيلما صامتا أما المرة الثانية فكانت عام 1952م وكان فيلما ناطقا وفي كلتا المرتين كان من إخراج المخرج الكبير محمد كريم ولعب دور البطولة في الفيلم الناطق يحيي شاهين وفريد شوقي وعبد الوارث عسر والسيد بدير وسليمان نجيب وراقية إبراهيم ونعيمة وصفي وسناء جميل ووداد حمدى وفردوس محمد ويرى مؤرخو الأدب وكثير من الدارسين هذه الرواية العمل الأهم المؤسس للرواية قبل نحو 100 عام وأن ما ترفضه الأعراف والتقاليد فى عصر ربما يكون مصدرا للتباهى والفخر فى عصر آخر وأن بعض المهن التى لا تحظى بتقدير يمكن أن تكون أكثر أهمية وإغراء فى عصر تال وقد صدرت هذه الرواية عام 1914م كما ذكرنا ولم يجرؤ حينذاك مؤلفها الدكتور محمد حسين هيكل باشا أن يضع إسمه عليها وحملت آنذاك توقيع بقلم مصرى فلاح وكان مؤلفها في ذلك الوقت محاميا يخشى أن تسئ إليه وإلى مهنته كتابة الرواية التى كانت فى تلك الفترة تعنى التسلية لا العمل الفنى الجاد ويسجل هيكل فى مقدمة الرواية بعد إعادة نشرها أنه بعد نحو 15 عاما جرؤ على كتابة إسمه الصريح على غلافها وأنه كان يخشى أن تجنى صفة الكاتب القصصى على إسم المحامى حيث كان قد كتب روايته بين سويسرا وباريس التى نال منها درجة الدكتوراة فى الإقتصاد السياسى عام 1912م وقد تختلف الأقوال حول قيمتها الفنية وجوانبها المختلفة لكنها تتفق في كونها أول رواية عربية تلتزم بقواعد القصة الفنية وأنها كانت بداية الإنطلاق لأعمال روائية لكبار الكتاب من أمثال العقاد وطه حسين والمازني وتوفيق الحكيم حتى بلغت النضج وقاربت الكمال على يد نجيب محفوظ الذي أخلص لعمله القصصي فلم ينشغل بما سواه على النقيض من هؤلاء الرواد الكبار الذين كانت لهم إهتمامات مختلفة وإسهامات متنوعة في ميادين الأدب والفكر وفضلا عن ذلك كان لهيكل قصة أخرى هي هكذا خلقت والتي تمثل المرأة محورها ونقرأ بين سطور هذه الرواية المرأةَ المصريةَ في منتصف القرن العشرين الماضي من خلال قصة إمرأة قاهرية ثائرة على وضعها الإجتماعي وهو الوضع الذي أشعل بداخلها الرغبة في ترك بيت أبيها والزواج ممن تحب لتحول حياته بعد ذلك رغم ما بينهما من حب إلى جحيم حتى يصل الأمر إلى الطلاق بعد المرور بالكثير من أفعال الغيرة والأنانية والمغالاة ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد بل إنها تتزوج بعده من أحد أصدقائه وتظل تتمادى في الإساءة إلى الزوجين السابق واللاحق في آن واحد وفي النهاية تطرح الرواية تساؤلا هل تثوب هذه المرأة إلى رشدها أخيرا أم تظل الضحيةَ والجانيَ في آن واحد وفيما بين هذين العملين كتب فصولا قصصية نشرها في بعض الصحف وضمتها بعض كتبه منها علي سبيل المثال لا الحصر ثورة الأدب وهو يحوي مجموعة من الفصول تهدف إلى إبراز الثورة العارمة التي حدثت في الأدب حيث يتحدث فيه المؤلف عن الثورات المتصلة التي شهدها مجال الكتابة والأدب القومي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الميلاديين كما يتناول بالشرح المجهودات المتوالية لأصحاب المدارس الفكرية المختلفة التي ساهمت في إحياء الأدب العربي والخروج به من حالة الركود إلى حالة الثورة ويعد هذا الكتاب من أوائل الكتب التي كتبها محمد حسين هيكل باشا في المجال الأدبي والفكري.
وقد تأثر الدكتور هيكل بالحضارة الغربية ومنجزاتها فجاش قلمه وهو في فرنسا بمقالات تمجد الحضارة الحديثة وتتخذ من أدباء فرنسا ومفكريهم موضعا لتحليله الأدبي وخص جان جاك روسو بمقالات تحليلية جمعها بعد ذلك في كتاب بعد عودته إلى مصر ثم تزعزعت ثقته بالحضارة الغربية بعد الحرب العالمية الأولى كما ذكرنا في السطور السابقة وشاهد دعاة الحضارة والإنسانية يتحولون إلى وحوش كاسرة لا تراعي حقا للشعوب ولا تحترم عهدا ولا تقيم وزنا لحقوق الإنسان ثم ولى وجهه شطر الحضارة الفرعونية القديمة فإنخدع بدعاتها وكانت أنفسهم تنطوي على فكرة خبيثة تستهدف بالحديث عن عظمة الحضارة الفرعونية إضعاف وقطع رابطة مصر بالإسلام وإثارة النزعة الوطنية ثم قطع ذلك كله حملة التنصير المسيحي التي إجتاحت مصر عام 1933م ورأى نفرا من أصحاب الأقلام يهونون من شأنها فإندفع وكان قد إستبان له الطريق يهاجم في ضراوة حملات دعاة التنصير ويوجه نقدا صارخا للحكومة على صمتها المهين على ما يحدث في أرض الكنانة وبدلا من أن تواجه الحكومة هذه الحملات التي نشط بعضها في أنحاء مصر إستدعت هيكل للتحقيق معه وحكم عليه بغرامة مالية بتهمة الوقيعة بين الأديان بعد أن جاهر بأن إدارة الأمن الإنجليزي في وزارة الداخلية المصرية هي التي تتحمل تبعة هذه الجرائم وكان هذا الرد من الحكومة هو السبب الذى دعا هيكل باشا إلى التفكير بطريقة أخرى فرأى في العودة إلى التراث العربي والإسلامي وتقديمه الدفاع المناسب عن الهوية والتراث هو طوق النجاة فكانت كتبه الكثيرة التي مثلت المرحلة الثالثة من مراحل فكره وفي هذا يقول وكان من أثر هذه الحركة التنصيرية وموقفي منها أن دفعني للتفكير في مقاومتها بالطريقة المثلى التي يجب أن تقاوم بها ورأيت أن هذه الطريقة المثلى توجب علي شخصي أن أبحث في حياة النبي الكريم محمد صلي الله عليه وسلم صاحب الرسالة الإسلامية ومبادئه بحثا علميا وأن أعرضه على الناس عرضا يشترك في تقديره المسلم وغير المسلم .
ومن هنا كان كتاب حياة محمد والذى يعد باكورة أعمال الدكتور هيكل الإسلامية والذى تم نشره عام 1933م تناول فيه بأسلوب طلي حياة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ورد فيه على آراء المتجنيين من كتاب الغرب على سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في منطق وبراعة وختم كتابه بمبحثين أولهما عن الحضارة الإسلامية كما صورها القرآن الكريم ومقارنتها بالحضارة الغربية وخصص البحث الآخر للرد على مزاعم بعض المستشرقين حول بعض المواقف الإسلامية وأحدث ظهور هذا الكتاب دويا هائلا وأقبل الناس على قراءته على نحو غير مسبوق وتناوله المفكرون والكتاب فأنصفه بعضهم وغض من قيمته آخرون لكن على أية حال كان الكتاب فتحا جديدا في كتابة السيرة النبوية على هذا النحو الشائق الذي جعل فضيلة الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر محمد مصطفى المراغي يكتب مقدمة للكتاب جاء فيها وقد وفق الدكتور هيكل في تنميق الحوادث وربط بعضها ببعض فجاء كتابه عقدا منضدا وسلسلة متينة محكمة الحلقات بما يجعل القارئ مطمئن النفس رضي القلب ليستمتع بما يقرأ ثم أتبع كتابه حياة محمد بكتاب بديع عن رحلته في أرض الحجاز بعنوان في منزل الوحي والذى تم نشره عام 1939م وكتبه بأسلوب رفيع ووقف على الأماكن التي وقف فيها النبي صلى الله عليه وسلم يتلمس سيرته ويستخلص العظة والعبرة والمثل وهذا الكتاب يجمع بين المشاهدة العيانية والبحث التاريخي والرؤية العاطفية في بيان خلاب وعناية بأدق التفاصيل وإستطاع محمد حسين هيكل من خلال هذا الكتاب أن يقدم لنا وثيقة تاريخية وأدبية فريدة في أسلوبها عظيمة في أثرها غنية ووفيرة بما تحمله من معان جمة وروحانيات عالية تسمو بالنفس لتطوف بها حيث طاف النبي وصحبه بما يحمل لنا كثيرا من المعاني التي جاشت في خاطره أثناء زيارته لمهبط الوحي وموطن الرسالة المحمدية فكانت خواطر مليئة بالإيمان تبحر بنا في أعماق الماضي بصورة حديثة وهذه شهادة لم يكتمها هيكل وذلك على خلاف ما كان يعتقد في السابق من إيمان عميق بالثقافة الغربية ونبذ للثقافة العربية وكونه أحد من كانوا يتلمسون العلم والمعرفة لدى الغرب ولا يجدون في غيره الفلاح حتى إذا سطعت أمامه الحقيقة في أسمى معانيها آثر أن يكشفها لأبناء وطنه الكبير أبناء الأمة العربية والإسلامية وإستكمل هيكل بعد أن تناول سيرة النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة عن خلفائه فأخرج كتابيه الصديق أبو بكر والفاروق عمر ففتح المجال لكتابة التاريخ الإسلامي بعد أن عبد الطريق لمن جاء بعده ليرتادوا سبيلا مهده بقلمه وعقله والكتابان ليسا ترجمة للصحابيين الجليلين واللذان يعدان أبرز الشخصيات الإسلامية التي ساهمت بقدر كبير في تأسيس قواعد الدولة الإسلامية بإعتبارهما أول وثاني الشخصيات التي أُسندت إليها مسئولية الحكم عقب وفاة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بل هما بمثابة تأريخ للعصر وعرض لتطوراته وبيان لحركته ولم يسلم هذان الكتابان من نقد وجه إليهما بعضه كان مغاليا مسرفا في النقد غير أن معظمه جاء ليقوم الكتاب لا ليهدمه ويبين جوانب تميزه لا ليغمطه حقه وحسب الكتابان أنهما لا يزالان حتى اليوم مرجع الباحثين ومهوى القراء بعد أن حببهم هيكل في مطالعة صحائف العزة ودروس المجد وأمثلة الكرامة في أعمال قادة الإسلام وأئمته وقد أتبعهما بكتاب ثالث عن الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه رصد فيه كل ما يتعلق بشخصيته وأخلاقه وزوجاته وغزواته ومآثره كما يصور لنا سياسته التي إنتهجها إبان حكمه للدولة الإسلامية والفتوحات التي قادها وينهي مؤلفه بالحديث عن الأسباب والحيثيات التي أفضت إلى مقتله .
وإلى جانب هذه الأعمال الإبداعية والفكرية كتب الدكتور هيكل كتابه مذكرات في السياسة المصرية خرج جزءان منها في حياته وصدر الجزء الثالث بعد وفاته وهذا الكتاب من أهم أعمال هيكل وتبدأ المذكرات بنشأة صاحبها السياسية عام 1912م وينتهي الجزء الأول منها بتوقيع معاهدة عام 1936م ويبدأ الجزء الثاني منها وينتهي بقيام ثورة يوليو عام 1952م حيث يبدأ الجزء الثالث ليؤرخ مرحلة ما بعد الثورة وهذه المذكرات مرجع هام في التاريخ السياسي المصري وإن كان الحياد فيها عسيرا لأن لصاحبها موقفا ورأيا بالإضافة إلي إنتمائه الحزبي المناوئ لحزب الوفد والذى يظهر أثره في بعض أجزاء الكتاب في غمار سرد العديد من الأحداث والوقائع السياسية التي مرت بها البلاد وعلى الرغم من أهمية هذه المذكرات وأهمية كاتبها فلا يمكن الإعتماد عليها وحدها كوثائق تاريخية دون الرجوع إلى المصادر الأخرى لأن المؤلف كتبها ببراعة فائقة قد تنزلق إليها قدم الباحث العجول الذي لا يمتد بصره إلى غيرها من المصادر وإلى جانب ذلك فلهيكل عدد من الكتب الأخرى مثل في أوقات الفراغ وتم نشره عام 1914م وهو عبارة عن مجموعة رسائل أدبية تاريخية أخلاقية فلسفية ويستعير الكاتب في هذا الكتاب من عالم المعرفة أوراقا لكي يكتب فيها رسائله الأدبية والأخلاقية والتاريخية والفلسفية وقد جاءت هذه الرسائل ثمرة لأوقات فراغه ويميز الكاتب في الجزء الأول من كتابه بين النقد الذاتي والنقد الموضوعي وينتصر للنقد الذاتي في مقابل النقد الموضوعي ثم يعقد مقارنةً بين الناقد العربي والناقد الغربي موضحا أوجه المفاضلة بينهما كما يتناول سيرة عدد من الكتاب الذين زخرت بهم ميادين الفكر والأدب ويبرز مكانتهم الفكرية التي علت بعلو الإرث المعرفي الذي تناقلته الأجيال ثم يعبر الكاتب في الجزء الثاني من كتابه إلى صفحات من تاريخ مصر يعرض فيها الإرث الحضاري والأثري الذي أضاء مفرق حضارتها عبر التاريخ ويذكر عددا من ذكريات الصبا ورحيق الشباب ثم ينتقل في الجزء الثالث والأخير من الكتاب إلى بحر المعارك الأدبية التي دارت بين القديم والحديث ويروي لنا مشهدا من مشاهد الحضارة العربية والإسلامية لينهي كتابه وقد حلق بقارئه في عوالم شتى من آفاق المعرفة ومن كتب الدكتور هيكل أيضا كتاب عشرة أيام في السودان ونشر عام 1927م وهذا الكتاب ليس فيه شئ أكثر مما يمكن أن يشتمله عنوانه فهو عبارة عن مجموعة ملاحظات ومعلومات جمعها مؤلفه أثناء رحلة قصيرة بالسودان حيث لم تتجاوز عشرة أيام وهي مدة قصيرة لا يستطيع الإنسان فيها أن يلم إلماما صحيحا بكل ما يقع تحت نظره كما لا يستطيع تحقيق كل ما يصل إلى مسامعه لكنها مع ذلك تسمح بالوقوف على كثير مما لم يكن للإنسان به علم كما تسمح بتحقيق كثير مما كان الإنسان يتخيله في ذهنه ومن مؤلفات الدكتور هيكل أيضا كتاب بإسم شخصيات مصرية وغربية وتم نشره عام 1929م ونجد في مقدمة هذا الكتاب تلخيص ممتع لتاريخ مصر عبر عدد بسيط من الصفحات حيث إستطاع هيكل أن يلخص قرون طويلة من التاريخ المصري وبعد المقدمة نجد الكتاب مقسم إلى جزئين مهمين الأول منهما وهو الترجمة لعديد من الشخصيات المصرية بداية من عصر الخديوى إسماعيل وشخصه هو وإنتهاءا بشخصية عبد الخالق باشا ثروت وقبل كل ذلك نجد ترجمة للملكة كليوباترا وإسقاط مهم على فترة حكمها وغير هؤلاء نجد ترجمة لشخصيات الخديوي توفيق ومحمد قدري باشا وبطرس غالي باشا ومحمود سليمان باشا ومصطفي كامل باشا وقاسم أمين وإسماعيل صبري وبإختصار فهو تلخيص مهم لفترات مصرية تاريخية مهمة وفي الجزء الثاني من الكتاب نجد ترجمة لشخصيات غربية عديدة تراوحت أنشطتهم بين الموسيقى والأدب فنجد ترجمة لبيتهوفن و شكسبير وأدولف تين وشيلي ويتميز هذا الكتاب بلغة رصينة وممتعة مع التركيز الشديد والدقيق علي أحداث عميقة في حياتهم أضافت عمق للشخصية نفسها وبذلك نستطيع أن نقول إنه كتاب بسيط ومفيد إلي أقصي درجة .
وكان للدكتور هيكل أيضا كتابان هامان آخران أولهما كتاب ولدى وهذا الكتاب أهداه الدكتور هيكل إلي نجله ممدوح الذى إختطفه الموت وهو في ريعان الشباب وقام بتبديل عنوانه إلى ولدي بدلا من خلال أوروبا الذي كان يعتزِم تسمية الكتاب به أملا في تقديمه ككتاب سياحي يهديه إلى زوجته إحتفاءا بزيارتهما لأقطار أوروبا شرقا وغربا وقد تجلت ملكات محمد حسين هيكل باشا الإبداعية حينما أشرك البلدان التي زارها في إستحضار مأساة ولده فيذكر مدينة ميلانو الإيطالية التي إسترعت إنتباهه قبورها التي عدت معلما فنيا يبرهن على وجه من وجوه الإبداع الإيطالي ثم يعرض لنا مشاهد أخرى لبلدان زارها وكأنه يتجول بعين السائح المستكشف وقلب الأب الجريح وقلم الأديب المبدع أما الكتاب الثاني فهو كتاب الشرق الجديد وهذا الكتاب عبارة عن تجميع لبعض ما كتبه محمد حسين هيكل باشا حيث يخبرنا نجله أنه قد حرص علي أن يثبت في النهاية بيانا بمصادر الكتاب يتضح منها للقارئ أن فصوله كتبت في أوقات متباعدة وأن الدكتور هيكل لم يقصد يوم كتبها أن تكون أجزاء منتظمة من كتاب والواقع أن نجله قد وجدها ترتبط جميعا في إتجاه واحد نحو إزالة بعض الغموض الذي يكتنف طريق بعث الشرق وأنها تتضمن بعض آراء الدكتور هيكل في طائفة من المسائل هي موضع الباحثين في تاريخ الشرق وفي حضارته وفي الجزء الأول من الكتاب يوضح محمد حسين هيكل رؤيته لما هي عليه صلات الشرق والغرب وما شهدته من تنوع وتعدد وتضاؤل وعنف وأحيانا سلم يبلغ درجة التفاهم وفي الجزء الثاني يتعرض هيكل للحركات الفكرية التي تقوم علي أساسها الحضارات والتي تؤدي لقيام الحروب والثورات وأثرها في بناء الأمم خاصة أمم الشرق أما الجزء الثالث من الكتاب فيتناول مجهودات الزعيم الهندى المهاتما غاندي في حصول الهند علي إستقلالها ومنهجه الإجتماعي الذي إستهدف تحرير المنبوذين ومساواتهم بسائر أبناء الهند .
وعن الصفات الشخصية للدكتور هيكل فيجمع كثير من المعاصرين له على أنه كان وديع النفس جم الأدب يميل إلى الدعابة في مجالسه حاضر البديهة والمنطق الأدبي السليم ومثالا للتواضع ولم تغير المناصب الرفيعة التي تولاها شيئا من أخلاقه وقد إنضم هيكل إلى كثير من الهيئات العلمية فكان عضوا في الجمعية المصرية للقانون الدولي والجمعية المصرية للدراسات التاريخية وإختير عضوا في مجمع اللغة العربية عام 1940م فكان من الرعيل الأول لأعضاء المجمع ويذكر له إقتراحه على المجمع بوضع معجم خاص لألفاظ القرآن الكريم فوافق المجمع على إقتراحه وكان من أعضاء اللجنة التي تألفت لوضع منهجه وبعد حياة طويلة حافلة بجلائل الأعمال كانت وفاة الدكتور محمد حسين هيكل باشا في يوم 8 ديسمبر عام 1956م عن عمر يناهز 68 عاما وتقول عنه حفيدته الكاتبة المبدعة متعددة المواهب والإتجاهات علي غرار جدها الراحل حيث تكتب الرواية والقصة القصيرة والنص الشعرى والنقد والمقالة علياء هيكل إن سيرة جدها الملهمة وكتاباته الإبداعية ومؤلفاته وكتبه التى تنطوى على فلسفة عميقة تبقي متأثرة بما عايشه ببلاد الغرب وأيضا بما تربى عليه فى مجتمعه المصرى آنذاك ومن ثم فقد حاول أن يدمج بينهما بعين ناقدة فاحصة وعليه فقد كتب الدكتور محمد حسين هيكل باشا بصدق وفى رأيها أن من يكتب بصدق لا يموت وأنه بالنسبة لها يعد مثل وقدوة واسوة عظيمة وقد تعلمت من تجربته ضرورة الإنفتاح على ما حولها في المجتمع في الداخل والخارج وهدم الأبراج العاجية تلك التى تبعد المفكر أو المبدع عن عمق الأحداث وعن الإندماج مع الناس وعن التفاصيل متناهية الصغر والتى بدورها تحرك المجتمع بشكل مؤثر. |