بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
رياض محمد السنباطي موسيقار وملحن مصري كبير يعد أحد أبرز الموسيقيين العرب وتميز بتلحين القصيدة العربية سواء القديمة أو الحديثة وبلغ عدد مؤلفاته الغنائية عدد 539 عملا في الأوبرا العربية والأوبريت والإسكتش والديالوج والمونولوج والأغنية السينمائية والدينية والقصيدة والطقطوقة والمواليا وبلغ عدد مؤلفاته الموسيقية 38 قطعة وبلغ عدد شعراء الأغنية الذين لحن لهم عدد 120 شاعرا وكان من أبرز من غنوا من تلحينه صالح عبد الحي ومحمد عبد المطلب وعبد الغني السيد وطلال مداح وكوكب الشرق أم كلثوم وسلطانة الطرب منيرة المهدية ومطربة القطرين فتحية أحمد وهدى سلطان وفايزة أحمد وسعاد محمد وأسمهان ووردة الجزائرية ونجاة علي ونجاة الصغيرة وسميرة سعيد وإبتسام لطفي وميادة الحناوي والتي لحن لها قصيدة أشواق وعزيزة جلال والتي قدم لها مجموعة من الأغاني العاطفية ولحن لها آخر عمل فني له قبل رحيله قصيدة الزمزمية وقصيدة من أنا لتكون بذلك عزيزة جلال آخر فنانة تقدم أعمال رياض السنباطي وكان مولده في يوم 30 نوفمبر عام 1906م في مدينة فارسكور التابعة لمحافظة دمياط بشمال دلتا مصر وكان والده منشد تعود الغناء في الموالد والأفراح والأعياد الدينية في القرى والبلدات الريفية المجاورة ولتتفتح أذنا الفتى الصغير على أبيه وهو يعزف على العود ويغني الغناء الأصيل والتواشيح الدينية ولما بلغ التاسعة من عمره ضبطه والده عند جارهم النجار هاربا من المدرسة يضرب على العود ويغني بصوته أغنية الصهبجية لسيد درويش فطرب لصوته وقرر أن يصطحبه معه للغناء في الأفراح وكان ذلك في وقت خاتمة عهد عصر سلامة حجازي وفاتحة عصر سيد درويش وكان لظهور الأسطوانة والفونوغراف منذ عام 1904م أثر كبير في وصول الأصوات الغنائية إلي بلاد الريف المصرى مما مكن الفتى الصغير رياض من الإستماع إلى عبد الحي حلمي ويوسف المنيلاوي وسيد الصفطي وأبو العلا محمد وكان أن تتلمذ على أيديهم من دون أن يراهم إلا أنه ظل دائما مدينا لوالده الشيخ محمد السنباطي الذي قام بتعليمه تراث وأصول الموسيقى العربية ومن بينها أغنيات لمحمد عثمان وعبده الحامولي ولم تطل إقامة الشيخ السنباطي الكبير في فارسكور فنزح إلى مدينة المنصورة عاصمة مديرية الدقهلية وألحق إبنه رياض بأحد الكتاتيب ولكنه لم يكن مقبلا على الدراسة والتعليم بقدر إقباله وشغفه بفنون الموسيقي العربية والغناء والتي أظهر فيها إستجابة سريعة وبراعة ملحوظة فأدى بنفسه وصلات غنائية كاملة وأصبح نجم فرقة والده ومطربها الأول وعرف حينذاك بإسم بلبل المنصورة وفي ذلك الوقت كان الشيخ سيد درويش قد إستمع إليه وأعجب به وأراد أن يصطحبه إلى الإسكندرية ولكن والده رفض ذلك العرض بسبب إعتماده عليه بدرجة كبيرة في فرقته .
وفي عام 1928م وكان رياض قد بلغ عمره 22 عاما كان قرار الشيخ محمد السنباطي الأب بالإنتقال إلى القاهرة مع إبنه الذي كان يرى أنه يستحق أن يثبت ذاته في الحياة الفنية مثله مثل المطربة المعروفة حينذاك أم كلثوم التي كان والدها صديقا له قبل نزوحه إلى القاهرة وفي العام المذكور 1928م بدأ الشاب رياض السنباطي مرحلة جديدة من حياته لا يمكن وصفها بالسهولة وإزاء تلك الصعوبات كانت رغبته في إثبات ذاته وسط مناخ المنافسة الشديد ولهذا وفي تواضع جم وإنكار لذاته ولقدراته وإمتثالا لواقع الأمور تقدم بطلب لمعهد الموسيقى العربية الذى كان قد تأسس قبل ذلك بسنوات وتحديدا في عام 1921م في عهد السلطان فؤاد الأول قبل أن يصبح ملكا والذى كان شديد الإهتمام بتأسيس المؤسسات الثقافية ليدرس به فإختبرته لجنة من جهابذة الموسيقى العربية في ذلك الوقت إلا أن أعضاءها أصيبوا بنوع من الذهول حيث كانت موهبته وقدراته أكبر من أن يكون طالبا لذا فقد أصدروا قرارهم بتعيينه في المعهد أستاذا لآلة العود والأداء ومن هنا بدأت شهرته وإسمه في البروز في ندوات وحفلات المعهد كعازف بارع ولم تستمر مدة عمله بالمعهد إلا ثلاث سنوات قدم إستقالته بعدها حيث كان قد إتخذ قراره بدخول عالم التلحين وكان ذلك في مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين الماضي عن طريق شركة أوديون للأسطوانات التي قدمته كملحن لكبار مطربي ومطربات الشركة والذين كان منهم عبد الغني السيد ورجاء عبده ونجاة علي وصالح عبد الحي وفي بداية هذه المرحلة الجديدة من مسيرة رياض السنباطي الموسيقية تأثر تلحينه للقصيدة بالمدرسة الكلاسيكية التقليدية وبأسلوب الشيح زكريا أحمد وأخذ عن الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب الطريقة الحديثة التي أدخلها على المقدمة الموسيقية وفضلا عن ذلك كان السنباطي من أوائل الموسيقيين الذين أدخلوا آلة العود الشرقية مع الأوركسترا وإستبدل المقدمة القصيرة بأخرى طويلة ويري المؤرخون الموسيقيون أن ملامح التلحين لدى السنباطي قبل عام 1948م إعتمدت على الإيقاعات العربية الوقورة والبحور الشعرية التقليدية الفسيحة والكلمة الفصحى التي تقتضي في الإجمال لحنا مركزا والسكك المقامة الراسخة البعيدة عن المغامرة وكانت كثير من ألحانه حتي العام المذكور تظهر من خلالها أعراض التأثر المباشر الصريح بكبار الملحنين المتواجدين علي الساحة حينذاك ومن ثم فبعد عام 1948م إنصرف إلى أسلوبه الخاص الذى أخذ يؤسسه لبنة لبنة حتى إختلط الأسلوب الكلثومي في الغناء بالأسلوب السنباطي في التلحين وأمكن لرياض أن يقول قصة حياتي هي أم كلثوم .
وفي منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين الماضي تعرف السنباطي على كوكب الشرق أم كلثوم لتبدأ بينهما رحلة فنية طويلة وناجحة تعد أعظم شراكة موسيقية عربية حدثت على الإطلاق وكان هذا التعارف بينهما بداية لتقديم أم كلثوم أعمال خلدت فى تاريخ الموسيقى والغناء العربي منها القصيدة العربية القديمة والقصيدة العربية الحديثة والشعر العامي وجاءت قصة تعارف رياض السنباطي مع كوكب الشرق أم كلثوم مع تطور أسلوب السنباطي وسطوع نجم ام كلثوم في منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين الماضي مما سهل لهما التلاقي وكانت البداية بأغنية على بلد المحبوب وديني التي قدمت عام 1935م ولاقت نجاحا كبيرا لينضم السنباطي إلى جبهة الموسيقى الكلثومية والتي كانت تضم حينذاك محمد القصبجي وزكريا أحمد إلا أن السنباطي تفوق علي الآخرين وتميز عنهم فيما قدمه من ألحان لأم كلثوم بلغ عددها نحو 95 لحنا وتعامل فنيا مع درة الفن أم كلثوم فترة تزيد على 40 عاما وكان ضمن هذا الرصيد من الأغاني التي لحنها لسيدة الغناء العربي العديد من الأغانى الهامة التى تعد من علامات الغناء العربي وإستطاعا أن يحصدا بها نجاحا ساحقا وفي أحد لقاءاته الصحافية روى رياض السنباطي قصة لقاءه بأم كلثوم فقال إنه قابلها لأول مرة في عام 1918م في محطة القطار فجرا بينما كان عائدا مع والده من الغناء في حفل زفاف وكانت أم كلثوم أيضا تغني في فرح آخر بنفس القرية وبحكم الصداقة التي تجمع أبويهما دار حوار بين السنباطي وأم كلثوم في محطة القطار وكانت تبلغ من العمر 17 عاما وكان عمره وقتها 12 عاما وبعد سبعة عشر عاما من هذا اللقاء إلتقي بأم كلثوم مرة أخرى بعد أن كان صيتها قد ملأ الآفاق في القاهرة ويقول السنباطي إنه وقتها كان يحسد الذين يلحنون لها وكانت تتحرك في أعماقه ملكة التلحين تعبيرا عن عواطف جياشة يعيشها الشاب في مثل سنه وكان يقيم حينذاك في شقة بمفرده وطلب تركيب تليفون بها كي يسهل عليه أعماله وإتصالاته وفي اليوم الأول الذي دخل فيه التليفون إلى الشقة سمع أغنية لأم كلثوم من الراديو فتذكر تعارفهما السابق وكان قد عرف رقم تليفونها من الإذاعة فإتصل بها وعندما ذكر لها إسمه تذكرت أن والدها الشيخ إبراهيم كان يغني مع والده في الأفراح ودار بينهما حديث قصير قالت له في نهايته إبقي خلينا نشوفك يا أستاذ رياض مادام أنت في مصر وأنا في مصر ومن ثم كان اللقاء والذى يعد الثاني بينهما والذى كان نتيجته أن إتفقا علي أن يقوم السنباطي بتلحين أغنية على بلد المحبوب وديني والتي كانت من تلحين شاعر الشباب أحمد رامي وكانت الأغنية الأشهر حينذاك لدرجة أن ام كلثوم غنتها في حفل زفاف الأميرة فوزية شقيقة الملك فاروق علي زوجها الأول الذى كان ولي عهد إيران آنذاك وذلك في أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين الماضي .
وبعد أغنية علي بلد المحبوب لحن رياض لأم كلثوم أغنية لما أنت ناوية تهاجريني عام 1936م ولحن لها أيضا أغنية النوم يداعب عيون حبيبي وهاتان الأغنيتان كانتا من كلمات شاعر الشباب أحمد رامي أيضا وكانت أم كلثوم قد أعجبتها الأغنية الثانية جدا ومن ثم قدمتها في حفلها الشهري على مسرح قاعة إيوارت التذكارية بالجامعة الأميريكية بالقاهرة وكان حفلا مذاعا ويعتبر من المنعطفات الرئيسية في حياة أم كلثوم والسنباطي معا وظل رياض السنباطي يمد أم كلثوم بألحانه وروائعه حيث وجد رياض في صوت أم كلثوم ضالته المنشودة فبقدراتها الصوتية غير المحدودة وبإعجازها غنت ألحانه فأطربت وأبدعت حيث كانت فنانة ذكية و موهوبة ومنحها الله موهبة إستثنائية من الصعب أن تتكرر وقد ساهمت في تطوير الموسيقى العربية بتقديمها كل ألوان الغناء ديني ورومانسي ووطني وإستمرت مسيرة السنباطي مع أم كلثوم حتي بلغ عدد الأغاني التي لحنها لأم كلثوم حوالي 95 أغنية كان آخرها أغنية القلب يعشق كل جميل والتي قدمتها في عام 1972م وعلى الرغم من قوة العلاقة التي كانت بين أم كلثوم ورياض السنباطي إلا أن تلك العلاقة مرت بأزمة وصلت إلى القطيعة بينهما لمدة 3 سنوات ما بين عام 1939م وحتي عام 1942م بسبب إعتراض أم كلثوم على فقرة موسيقية في أغنية يا طول عذابي والتي كتب كلماتها أحمد رامي وطالبت رياض السنباطي بتغييرها وقالت له إنها تكرار للقصبجي فإستاء السنباطي ورفض تغيير المقطع وتركها وإنصرف ومن ثم بدأت بينهما القطيعة التي إستمرت حتى عاد التعاون بينهما من جديد وجدير بالذكر أنه مثلما تكونت ثنائية أم كلثوم والسنباطي تكونت أيضا ثنائية أحمد رامي مع أم كلثوم وكانت هي الأطول بين الثنائيات الكلثومية حيث قدم أحمد رامي ورياض السنباطي لأم كلثوم عدد 33 أغنية غير الأغنيتين المذكورتين هي إجمعي يا مصر وإذكريني وأصون كرامتي وأقبل الليل وأغار من نسمة الجنوب وإفرح يا قلبي وبين عهدين وأوبريت عايدة الجزء الثاني والشمس مالت للمغيب وجددت حبك ليه وحأقابله بكره وعودت عيني وحيرت قلبي معاك وحيوا الربيع ودليلي إحتار وذكريات وهجرتك ومصر التي في خاطري وسهران لوحدي وغلبت أصالح في روحي وفاكر لما كنت جنبي وغنى الربيع وكيف مرت على هواك القلوب وقضيت حياتي ونشيد الشباب والورد فتح ويا شباب النيل ويا طول عذابي وياللي كان يشجيك أنيني وهلت ليالي القمر ويا ليلة العيد آنستينا ويا ظالمني ورباعيات الخيام والتي ترجم كلماتها من اللغة الفارسية التي كتبت بها إلي اللغة العربية شاعر الشباب أحمد رامي .
وقد إلتقي السنباطي أيضا بكبار الشعراء الآخرين وعلي رأسهم أمير الشعراء أحمد بك شوقي وشاعر النيل حافظ إبراهيم عبر صوت أم كلثوم حيث قام بتلحين جميع القصائد التي غنتها أم كلثوم لأمير الشعراء ومجموعها 10 قصائد وبدأ تقديم هذه المجموعة من القصائد عام 1946م وهي سلوا كؤوس الطلا والسودان وسلوا قلبي ونهج البردة وولد الهدى ثم تلتها مجموعة من القصائد في الأعوام التالية وهي أتعجل العمر والنيل وإلى عرفات الله وبأبي وروحي الناعمات والملك بين يديك كما قام أيضا رياض السنباطي بتلحين قصيدة مصر تتحدث عن نفسها والتي غنتها أم كلثوم لحافظ إبراهيم وإلتقي السنباطي أيضا مع شاعر العامية الكبير بيرم التونسي عبر صوت أم كلثوم عام 1937م في فيلم فاطمة في أغنية ظلموني الناس لكنه لحن بعد ذلك جميع الأغاني التي غنتها أم كلثوم من شعر بيرم بإستثناء أغنية بالسلام إحنا بدينا والتي لحنها محمد الموجي وهو صحيح الهوى غلاب وكانت من تلحين الشيخ زكريا أحمد وكانت الأغاني التي لحنها رياض السنباطي لأم كلثوم من شعر بيرم التونسي بطل السلام وبعد الصبر ما طال والحب كده وشمس الأصيل وصوت السلام وظلموني الناس ويا سلام على عيدنا ويا جمال يا مثال الوطنية والقلب يعشق كل جميل ويأتي الشاعر عبد الفتاح مصطفي بعد ذلك في ترتيب الشعراء الذين غنت لهم أم كلثوم من تلحين رياض السنباطي حيث غنت له عدد 8 أغنيات هي أقولك إيه عن الشوق وتوبة والزعيم والثورة وطوف وشوف ولسه فاكر ولا يا حبيبي وليلي ونهاري ومنصورة يا ثورة أحرار و يا حبنا الكبير .
وبلا شك كان من أروع وأجمل ما غنت أم كلثوم من تلحين رياض السنباطي من القصائد القديمة قصيدة أراك عصي الدمع للشاعر والفارس العربي أبي فراس الحمداني والتي إستخدم فيها لأول مرة آلة البيانو في مقدمتها وتبدو هذه القصيدة للوهلة الأولى قصيدة تحكي عن العشق ولكن القصة الحقيقية التي خرجت بهذه القصيدة تروي بطولة أبي فراس الحمداني وإخلاصه لسيف الدولة الحمداني والذي كان يرى في أبي فراس عدا عن كونه شاعرا شهدت له بلاغته وقصائده التي قربته من بلاطه فارسا مغوارا يذود عن حكم بني حمدان ويتولى صد هجمات الروم في شمال الدولة الحمدانية في شمال سوريا ولذا كان مقربا من سيف الدولة في مجلسه الذي كان يجمع الشعراء والمفكرين وأهل العلم وعلي الرغم من أنه كان من أبرز من ظهر في عهد سيف الدولة الحمداني من الشعراء أبو الطيب المتنبي الذي لم ينفك عن كتابة القصائد التي يمدح فيها سيف الدولة الحمداني وبطولاته في صد هجمات الروم وحماية الدولة ولكن ما ميز أبا فراس الحمداني عن جموع الشعراء والمفكرين والعلماء هو براعته في الشعر وشجاعته في ساحات المعارك والغزوات ضد أعداء الدولة وتوليه أحد ثغورها لصد هجمات الروم وهو الأمر الذي جعل لأبي فراس الحمداني منزلة رفيعة في نفس سيف الدولة وهذا ما أثار حفيظة الكارهين لأبي فراس في البلاط الحمداني وعلي الرغم من تمكنه بشجاعته من تخليص نفسه من الأسر مرتين من قبضة الروم إلا أنه وقع في الأسر للمرة الثالثة ولكي لا يتمكن من الهرب أحكم الروم قبضتهم عليه فكتب أبو فراس الحمداني إلى إبن عمه سيف الدولة ليرسل للروم فدية خروجه من الأسر ووصلت رسائل أبي فراس إلى إبن عمه الحاكم سيف الدولة فتجاهل الأخير هذه الرسائل بعدما إلتف حوله الواشون والكارهون لعودة أبي فراس الحمداني وإخبارهم لسيف الدولة أن خروجه من الأسر سوف يقدمه بنحو ما إلى سدة الحكم آنذاك نظير صيته وبطولاته في ساحات المعارك وإدعاءهم طمع أبي فراس في الحكم فما كان من سيف الدولة إلا أن تجاهل نداءات أبي فراس وهو في الأسر فطالت به ليالي النفي والأسر ولم ينفك أبو فراس في كتابة القصائد التي إمتلأت بمشاعر هي مزيج من العتب والحزن على ما آل إليه ونسيان إبن عمه له في الأسر وعندما وصل حد يأسه من إستجابته كتب قصيدة مطلعها أراك عصي الدمع شيمتك الصبر يصف نفسه فيها ببيان عاشق مخلص لبلاده وحاكمها وعندما وصلت أنباء هذه القصيدة إلي سيف الدولة الحمداني إستشعر فيها العاطفة الصادقة لأبي فراس وتذكر مآثره وفضله في حماية الدولة التي قوضتها هجمات الروم المتكررة أثناء غيابه في الأسر فما كان من سيف الدولة الحمداني إلا أن جهز جيشا لإستعادة مدينة حلب وما حولها التي كانت قد وقعت في أيدي الروم فحررها وأخرج جميع الأسرى من سجونهم بما فيهم أبو فراس الحمداني ويقول أبو فراس في مطلع هذه القصيدة :- أراك عصي الدمع شيمتك الصبر أما للهوى نهي عليك ولا أمر بلى أنا مشتاق وعندي لوعة ولكن مثلي لا يذاع له سر إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى وأذللت دمعا من خلائقه الكبر تكاد تضئ النار بين جوانحي إذا هي أذكتها الصبابة والفكر
وبالنسبة للقصائد الحديثة التي غنتها أم كلثوم من ألحان رياض السنباطي يجمع المؤرخون علي أن قصيدة الأطلال للشاعر الطبيب إبراهيم ناجي كانت هي أروع وأجمل أغنية عربية في القرن العشرين الماضي وقد أنشدت أم كلثوم بعض أبياتها مضافا إليها أبيات إختارتها من قصيدة الوداع لإبراهيم ناجي أيضا وغنتها لأول مرة في عام 1965م بعد وفاة شاعرها بثلاثة عشر عاما وكان إبراهيم ناجي قد كتب هذه القصيدة في حب صباه عندما فارقه حيث كان ناجي قد غادر بلدته المنصورة عاصمة محافظة الدقهلية لدراسة الطب وعندما عاد علم أن حبيبته قد تزوجت وفي إحدى الليالي سمع طرقا شديدا على باب منزله فقام من سريره ليستبين الطارق فكان رجلا يريد طبيبا لمساعدة زوجته التي كانت في حالة ولادة متعسرة فأخذ ناجي حقيبته وذهب مع الرجل إلى بيته حيث كانت زوجته بوضع صعب وإقترب منها ناجي ليفاجأ بأنها حبيبته السابقة فعالجها حتي تمت الولادة وخرج من بيتها بعد أن إطمأن على صحتها وصحة مولودها وكتب قصيدة الآطلال بعد هذه الحادثة الفريدة هذا وقد بدل الشاعر أحمد رامى بعضا من كلمات القصيدة مثل يا فؤادي لا تسل أين الهوى وفي الأصل كانت الكلمات التي كتبها ناجي يا فؤادي رحم الله الهوى وأيضا وضع سبعة أبيات من قصيدة الوداع أيضا لإبراهيم ناجي بداية من بيت هل رأى الحب سكارى مثلنا حتى وإذا الأحباب كل في طريق وكان إجمالي أبيات القصيدة عدد 125 بيتا تشمل عدد 250 شطرا وكان لحن المقدمة الموسيقية من مقام راحة الأرواح أو الهزام وتخللها صولو على القانون من مقام الراست بينما يبدأ الغناء من مقام راحة الأرواح في الكوبليه الأول بينما ينتقل إلى مقام الصبا المعروف بحزنه عند يا حبِيبا زرت يوما أيكه ويستمر الغناء من مقامات الكرد والنوا أثر عند أَعطني حريتي أَطلق يديا وينتهي اللحن بقفلة عالية دار عليها خلاف بين أم كلثوم ورياض السنباطي عند فإِن الحظ شاء حيث أن أم كلثوم كانت تفضل قفلة منخفضة وكانت أول أبيات هذه القصيدة علي النحو التالي :- يا فؤادي لا تسل أين الهوى كان صرحا من خيال فهوى إسقني وإشرب على أطـلاله وإرو عني طالما الدمع روى كيف ذاك الحب أمسى خبرا وحديثا من أحاديث الجـوى لست أنساك وقـد أغريتنـي بفم عـذب المنـاداة رقيـق
وبعد فقد كان للسنباطي تجربة وحيدة ولم يكررها في السينما حيث قدم في عام 1952م فيلم حبيب قلبي وشاركته بطولته الفنانة هدى سلطان وكان من إخراج المخرج حلمي رفلة وعلى الرغم من نجاح الفيلم إلا أن السنباطي الذي قدم فيه مجموعة من الأغنيات التي لاقت الإستحسان لدى الجمهور لم يفكر في تكرار التجربة من دون إفصاح عن الأسباب إلا انه قال لم أجد نفسي في التمثيل فاللحن هو عالمي وكان للسنباطي أيضا تجربة من نوع آخر لم تتكرر من خلال أغنية رسالة إلى جمال عبد الناصر والتي غنتها أم كلثوم في ليلة وفاته وكان قد كتب هذه القصيدة الشاعر السورى الشهير نزار قباني ولحنها مباشرة رياض السنباطي وجدير بالذكر أن أم كلثوم قد غنت أغنيتين غير هذه الأغنية للرئيس الراحل جمال عبد الناصر من ألحان السنباطي الأولى بعد حادث المنشية عام 1954م بعنوان يا جمال يا مثال الوطنية والثانية عندما تنحى عبد الناصر بعد نكسة الخامس من يونيو عام 1967م وكانت بعنوان قم وإسمعها من أعماقي تناشده فيها بالبقاء في الحكم وقد نال السنباطي العديد من التقديرات والتكريمات كان منها وسام الفنون من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عام 1964م وجائزة المجلس الدولي للموسيقى في باريس عام 1954م أيضا ووسام الإستحقاق من الطبقة الأولى من الرئيس الراحل محمد أنور السادات وجائزة الريادة الفنية من جمعية كتاب ونقاد السينما عام 1977م وجائزة الدولة التقديرية في الفنون والموسيقى والدكتوراة الفخرية لدوره الكبير في الحفاظ على الموسيقى من أكاديمية الفنون عام 1977م وجائزة منظمة اليونسيكو من جناحها العربي وكان الوحيد عن العالم العربي ومن بين خمسة نالوها عام 1977م وعلاوة علي ذلك كان عضوا بنقابة المهن الموسيقية وفي جمعية المؤلفين بفرنسا وبلجنة الموسيقي بالمجلس الأعلى للفنون والآداب وبجمعية المؤلفين والملحنين في مصر وكانت وفاته في يوم 10 سبتمبر عام 1981م عن عمر يناهز 75 عاما .
وكان لرياض السنباطي إبنان هما محمد وأحمد السنباطي ويقول محمد عن والده إنه كان مثاليا وطيبا للغاية ولكنه كان سريع الغضب في البروفات عندما لا يحفظ أي من المطربين ألحانه ولذا فقد كانت الفرق الموسيقية دائما مرعوبة منه لمعرفتهم أنه كان حريصا أشد الحرص على عمله وعلي ضرورة خروجه في أبهي حلة له أم أحمد فقد عمل كملحن وكممثل وكمطرب وكعازف جيتار وكان مولده في يوم 4 أكتوبر عام 1945م وكانت قد بدأت تظهر موهبته في الغناء في سن السابعة عندما بدأ يغني ويردد أغاني كوكب الشرق أم كلثوم التي إعتبرها والدته الثانية وكان دائما عندما تزورهم تنادي عليه وتقبله وهو طفل وتطلب منه أن يغني لها وكانت تقول له غني حتى تسلطنني وكان يغني لها مقاطع من أغانيها مثل حيرت قلبي معاك وحسيبك للزمن وغيرهما ومن هنا إكتشف رياض السنباطي أن صوت إبنه جميل وطلبت منه أم كلثوم أن يلحقه بمعهد الموسيقى العربية وفعلا إلتحق بالمعهد بالإضافة إلى الكونسرفتوار وعلمه والده أصول العزف على آلة العود ودراسة المقامات العربية والشرقية على أصولها وحفظ الأدوار والبشارف والسمعيات القديمة وإستمر هذا نحو 10 سنوات وتخرج أحمد السنباطي من قسم الفيولينة في معهد الكونسرفتوار في عام 1967م وكانت بداياته الفنية الفعلية في شهر سبتمبر عام 1970م حيث سافر للخارج وكون فرقة أطلق عليها إسم صيحة شرقية فكان يغني للفرنسيين والمغتربين والجاليات العربية أغاني أم كلثوم والتي كانت من ألحان أبيه رياض السنباطي وطاف عددا من البلاد الأوروبية وعاد إلى مصر عام 1973م وبدأ يغني وتفجرت لديه في نفس الوقت موهبة التلحين وقابل الشاعر مصطفى الضمراني الذي كتب له أغنية عجيبة وهي الأغنية الأولى الخاصة به وعندما إستمع والده إلى لحن الأغنية صفق له من قلبه وقال له أرجو أن يفهمه المستمعون لأن هذا اللحن سابق عصره وتعامل أيضا مع كبار المطربين كملحن كان منهم فايزة أحمد ووردة الجزائرية ولطيفة وكانت له مئات الألحان الغنائية فضلا عن الأغاني التي قدمها بصوته والتي كان من أشهرها لو كان بينا بلاد ويلا يا دنيا نحب الحب ومين في الجمال قدك وفي عز الحب ورحلة العيون وفضلا عن ذلك فقد طرق أحمد السنباطي مجال السينما فعمل بالتمثيل في بعض الأفلام مثل البنات لازم تتجوز وأنا والعذراء والجدي وعن حياته الخاصة فقد تزوج من فريال نعامي إبنة الفنانة الراحلة فايزة أحمد وله منها ولد وبنت وهما فايزة ورياض وتوقف عن الغناء لفترة وإهتم بتقديم تراث وألحان والده الملحن الكبير رياض السنباطي ثم عاد للغناء مرة أخرى وتوفي في يوم 25 فبراير عام 2012م بعد رحلة صراع مع المرض إستمرت 3 سنوات عن عمر يناهز 67 عاما . |