بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
عبد العزيز الطودى أحد ضباط المخابرات العامة المصرية في الفترة بين أوائل شهر يناير عام 1958م وحتي عام 1977م ويعد من الرعيل الثاني من ضباط المخابرات الذين تم إلتحاقهم بالجهاز مع تولي صلاح نصر قيادة الجهاز في عام 1957م خلفا لرئيسه الثاني علي صبرى الذى تولي رئاسة الجهاز بين عام 1956م وعام 1957م خلفا لرئيسه الأول زكريا محيي الدين عضو مجلس قيادة الثورة والذى كلفه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بتأسيس هذا الجهاز الهام عام 1954م ويعد فارسنا عبد العزيز الطودى واحدا ممن ساهموا فى صنع أمجاد وطنية فريدة لمصر قدمها جهاز المخابرات العامة خاصة في الفترة من أواخر الخمسينيات وخلال مرحلة الستينيات من القرن العشرين الماضي وحتي قيام حرب أكتوبر عام 1973م والتي شهدت صولات وجولات ناجحة تفوق فيها جهاز المخابرات العامة المصرية علي جهاز الموساد الإسرائيلي حيث تم الكشف عن العديد من شبكات التجسس والجواسيس الذين كانوا يعملون لحساب إسرائيل في مصر والذى كان من أشهرهم الجاسوس الألماني الأصل فولفجانج لوتز المعروف بإسم جاسوس الشمبانيا حيث كان يحتسي منها كميات كبيرة ويقدم صناديق منها كهدايا للحصول علي المعلومات والجاسوس الهولندي مويس جود سوارد والجاسوسة المصرية هبة سليم وغيرهم ومن جانب آخر تمكنت المخابرات العامة المصرية خلال هذه الحقبة الزمنية من زرع العديد من العملاء السريين داخل إسرائيل والذين أمدوا الجهاز بكم هائل من المعلومات كان من أشهرهم العميل رفعت الجمال والذى كان قد زرعه ضابط المخابرات المصرى عبد المحسن فائق داخل إسرائيل ثم كان الفضل فيما بعد لعبد العزيز الطودى وزميله محمد نسيم في إعادة تأهيله وتدريبه والإستفادة منه وقام الكاتب الراحل صالح مرسي بتحويل هذه العملية إلي رواية بإسم رأفت الهجان والتي تحولت بعد ذلك لمسلسل تليفزيوني من 3 أجزاء أخرجه يحيي العلمي ونال شهرة كبيرة واذيعت عام 1988م وعام 1990م وعام 1991م علي التوالي ولعب فيه دور رفعت الجمال أو رأفت الهجان الفنان محمود عبد العزيز ودور عبد المحسن فائق وكان إسمه في المسلسل محسن ممتاز الفنان يوسف شعبان ودور عبد العزيز الطودى وكان إسمه في المسلسل عزيز الجبالي الفنان محمد وفيق ودور محمد نسيم وكان إسمه في المسلسل نديم هاشم الفنان نبيل الحلفاوى وشاركهم في البطولة مجموعة كبيرة من الفنانين الكبار المتميزين منهم مصطفي متولي ونبيل الدسوقي وأسامة عباس وحسن حسني وصلاح ذو الفقار وعادل أمين وشوقي شامخ وحسن مصطفي وأحمد راتب وأحمد حلاوة وحسن عبد الحميد وصبرى عبد المنعم والسيد راضي وزوزو نبيل وعفاف شعيب ويسرا وسماح أنور وإيمان الطوخي وفايزة كمال وتهاني راشد وسهير الباروني وتيسير فهمي وسلوى خطاب وصفاء السبع ووضع الموسيقي التصويرية له الموسيقار القدير عمار الشريعي .
وكان ميلاد فارسنا عبد العزيز الطودى في يوم 3 نوفمبر عام 1932م وكان أبوه الشيخ محمد حسن الطودي من علماء الأزهر وتوفي وهو لم يبلغ من العمر أربع سنوات مما دفع والدته للإنتقال إلى منزل والدها الشيخ إبراهيم الحبالى والذى كان أحد علماء الأزهر أيضا بمنيل الروضة ومما يذكر أن هذا المنزل كان قريبا من منزل المستشار حسن النشار شقيق الرئيس جمال عبد الناصر من الرضاعة والذي عاش به عبد الناصر لفترة قصيرة من عمره وكان يذهب خلالها إلى منزل الشيخ إبراهيم لزيارة زميله فؤاد الطودي شقيق عزيز الأكبر والذي أصبح فيما بعد واحدا ممن إعتمد عليهم عبد الناصر في تأميم قناة السويس وتربى عبد العزيز في منزل جده وبعد إتمامه مرحلة الدراسة الإبتدائية ثم الثانوية إلتحق بالكلية الحربية عام 1951م وتخرج منها عام 1953م وكان من الطرائف التي عاشها أثناء وجوده طالبا بالكلية الحربية أنه كان معه زميل يدعى عبد العزيز هندي وكانا شبيهين طبق الأصل للدرجة التي دفعت قائد الكلية لأن يحضرهما أمام جميع طلاب الكلية بعد إختلاط الأمر على الجميع وبالفعل خرجا أمام الطلاب فلم يكتشف أحد فرقا بينهما ومن المصادفات أنهما عملا معا في المخابرات المصرية وظلا صديقين حتى الأيام الأخيرة في حياة كل منهما وبعد التخرج إلتحق بمدرسة مدفعية الميدان وظل بها من شهر يونيو حتي شهر ديسمبر عام 1953م وعمل بعدها مدرسا في مدرسة المدفعية من شهر يناير عام 1954م حتي شهر نوفمبر عام 1955م وفي نهاية ذلك العام إنتقل عبد العزيز الطودى إلى منطقة دير البلح في قطاع غزة بفلسطين ثم إلى رفح وخان يونس ليعود بعدها إلى غزة في يوم 15 يونيو عام 1956م بناءا على طلب منه بعد إعتداء إسرائيل على قرى غزة وقتها وإستطاع العدو تدمير فرقة مدفعية فصدرت الأوامر بإستبدال الفرقة بأخرى ليتقدم عبد العزيز الطودي وكانت تلك المعركة من أهم المعارك التي ظل يذكرها بفخر حيث كان الضابط المصري الشجاع يملك وقتها أربعة رشاشات فقط لكنه راح يناور بطلقاته حتى ظن العدو أن حجم الأسلحة ضخم للدرجة التي إستطاع معها تدمير موقع عوزي الضابط الصهيوني الذي قام بتصميم الرشاش المشهور بإسمه وفي يوم 3 نوفمبر عام 1956م وأثناء العدوان الثلاثي علي مصر سقط في الأسر وبعد شهرين وفي شهر يناير عام 1957م عاد إلى مصر مرة أخرى في شهر يناير عام 1957 لينتقل بعدها إلى المخابرات العامة في أوائل عام 1958م لينتقل إلى نضال من نوع آخر عندما تم إختياره ضمن عشرة ضباط جدد صدر قرار بإلحاقهم بجهاز المخابرات العامة وكانت هذه هي الدفعة الثانية التى إلتحقت بالجهاز واتي كان منها أيضا شعراوى جمعة ورفعت جبريل الملقب بالثعلب وغيرهما .
وبعد إلتحاق فارسنا عبد العزيز الطودى بالمخابرات العامة وإجتيازه الدورة المؤهلة للعمل في هذا الجهاز كانت عملية العميل المصرى رفعت الجمال من أولي العمليات التي أصبح مسؤولا عنها ويذكر الطودى أن بدايته مع هذه العملية كانت ذات ليلة حارة في فيلا منعزلة بين الحقول خلال صيف عام 1958م عندما بدأ يقرا وصية الجمال والتي لم يستطع أن يحبس دمعة فرت من عينه مع إنتهائه من قراءتها ويضيف الطودى إنه كان في ذلك الوقت قد أنهي هو ومجموعة قليلة العدد من الزملاء الشبان إتمام دورة تدريبية متكاملة خاصة بالجوانب السرية البحتة من أعمال المخابرات وأنهم كانوا مكلفين بالعمل على تطوير النشاط السري الإيجابي ضد الدول المعادية لمصر على أسس علمية سليمة وذلك بعد أن كان قد بدأ بالفعل فور قيام الثورة زملاء سابقون لهم معتمدين على جهودهم الشخصية وما إكتسبوه من خبرة من واقع الإحتكاك الفعلي بالميدان وحتى ذلك الوقت كان جهاز المخابرات بالمعنى السليم للكلمة وليدا وليست هناك دولة تعطى لأخرى خبراتها في هذا المجال مهما تقاربت معها وإن حدث وأعطتها فإنها تعطيها خبرات قديمة عفا عليها الزمان ولعل ذلك يلقى الضوء على الجهود الهائلة التي بذلها الرعيل الأول من رجال المخابرات لوضع اللبنات الأولى لأجهزة العمل السري وللتوصل إلى برامج التدريب والإعداد السليمة التي كان أول تطبيقها على مجموعة عبد العزيز الطودى الصغيرة والذين كانوا قد إندمجوا في العمل فور إنتهاء دورتهم التدريبية تحت قيادة زملائهم القدامى وإشرافهم حيث تم تقسيمهم إلى مجموعات صغيرة متخصصة وبدأ الأمر بتكليفهم بدراسة العمليات الجارية من واقع ملفاتها السرية تمهيدا لتطويرها في الإتجاه الصحيح وبذلك كانت عملية رفعت الجمال من نصيبه وكان ملف هذه العملية صغيرا يحتوى على بضع صفحات وكان أول ما لفت نظره فيه مظروف مكتوب عليه بالخط النسخ الكبير وصية لا تفتح إلا بعد مماتي ولكن الظرف كان مفتوحا وعليه عبارة صغيرة تقول فتح بمعرفتي وتحت توقيع رئيس جهاز العمل السري نعم فالمخابرات لا تعرف العواطف وإنما تتعامل مع الحقائق وجها لوجه ثم إنتقل إلى الصفحة الأولى من الملف وهى نموذج مطبوع يحتوى على البيانات الأساسية عن المندوب وهو ما إصطلح على إطلاقه على المتعاونين وليس الجاسوس أو العميل فوجد في خانة الملاحظات عبارات أثارت دهشته فإحداها تقول إنه بارع في التأقلم مع أي بيئة وثانية تقول إنه جبان لا يسعى بإيجابية للحصول على المعلومات وإنما يعتمد على ما يسمع من أحاديث وشائعات وأخرى تقول إنه أبدى كفاءة أثناء العدوان الثلاثي وبضع عبارات أخرى بعضها مضئ وبعضها مظلم ويقول الطودى عن ذلك إنه لم يقتنع بهذا التناقض وقام بعمل دراسة عميقة ومتأنية لشخصية رفعت الجمال والظروف التي تم فيها تجنيده وزرعه داخل إسرائيل ومستوى التدريب الذى حصل عليه قبل سفره إلي إسرائيل في منتصف عام 1954م وإنشغاله في الفترة الأولي من وصوله إليها بتأسيس الساتر الذى سيعمل من خلاله في إسرائيل وعدم حصوله علي أي دورات تدريبية علي مدى 4 سنوات وأيضا الظروف التي كان يمر بها الجهاز الوايد في مصر وإعادة هيكلته كانت وجهة نظر عبد العزيز الطودى أنه من الممكن الإستفادة من هذا العميل بعد إعادة تأهيله وتدريبه ومع إستحالة عودة اللواء عبد المحسن فائق من مقر عمله فى الولايات المتحدة الأميريكية فى ذلك الوقت لم يجد عبد العزيز الطودى أمامه لكي يقوم بهذه المهمة إلا رجل المخابرات المخضرم قلب الأسد محمد نسيم المعروف بجديته وصرامته وشخصيته القوية ونبوغه الفائق وهو النموذج المماثل لعبد المحسن فائق وهو كما ذكرنا في السطور السابقة الشهير بإسم نديم هاشم في مسلسل رأفت الهجان والذى قام بدوره بإقتدار بالغ الفنان المصري نبيل الحلفاوى فى واحد من أعظم أدواره على الإطلاق لا سيما وأن نبيل الحلفاوى كان يشبه اللواء محمد نسيم فى الشكل والأداء إلى درجة مذهلة وتم اللقاء بين قلب الأسد وبين رفعت الجمال في إيطاليا ولم تمض ساعات على لقائهما إلا وكان محمد نسيم قد ألقي بغياهب شخصيته الفريدة فى وجه المتمرد النابغة رفعت الجمال والذى كان قد أبصر بعيونه عبر معايشته للمجتمع الإسرائيلي كيفية التقدم المدهش لهم فى مجال الأمن وكان فى أمس الحاجة إلى من يريه تفوق بلاده وقد كان عندما تمكن محمد نسيم عبر التدريبات المكثفة من إقناع رفعت الجمال بمدى التقدم المدهش الذى أحرزه المصريون على الإسرائيليين فى المواجهات المباشرة بينهما وبعد أسبوعين من التدريب المستمر والشاق خرج رفعت الجمال فى مستوى ضابط حالة وهو المستوى الأعلى لأى عميل مدنى فى نظم المخابرات في العالم ووقع تحت الإشراف المباشر لعبد العزيز الطودى وللتدريب على يد محمد نسيم لتكتسب مصر كما رهيبا من المعلومات بالغة السرية التى أرسلها رفعت لا سيما بعد تمكنه من بسط علاقاته ونفوذه فى مجتمع تل أبيب بتعليمات معلمه محمد نسيم عبر شركة سي تورز والمعروفة بإسم ماجى تورز في المسلسل المشار إليه وفى قلب تل أبيب واصل نجم المجتمع الإسرائيلي جاك بيتون وهو الإسم المستعار لرفعت الجمال والذى عرف فى المسلسل بدافيد شارل سمحون وبلغت علاقاته حدا جعله صديقا شخصيا للجنرال موشي ديان وزير الدفاع الإسرائيلي وجولدا مائير رئيسة الوزراء الشهيرة .
ويقول عبد العزيز الطودى عن قصة رفعت الجمال إنه توقع أنه عندما يرى الكتاب الذى كتبه هو بنفسه ثم أعده من بعده صالح مرسي النور أن يعتقد بعض القراء من المصريين والعرب أنه قصة من نسج الخيال ليس لها من الواقع أساس وإنه ليس لديه ما يقوله لهؤلاء إلا أنه ليس كاتبا أو قصصيا وما هذا الكتاب إلا تسجيل واقعي لعملية قام بها جهاز المخابرات العامة المصرية فيما بين الخمسينيات والسبعينيات من القرن العشرين الماضي ومازال معظم الذين أسهموا فيها على قيد الحياة وأضاف أيضا أنه يتوقع أيضا أن ينبري البعض في إسرائيل مأخوذا بالمكابرة أو المغالطة أو عزة النفس فيدعى أن السلطات الإسرائيلية كانت على علم بهذه العملية وأنها كانت تسيطر عليها وتوجهها بمعرفتها مغرقة المخابرات العامة المصرية في بحر من الوهم والخديعة والتضليل ولهؤلاء عنده الكثير أقله وأبسطه أن دواعي السرية والأمان إقتضت بالضرورة حجب بعض الوقائع والتفاصيل وأنه يتحداهم أن يذكروا ولو واحدة منها واحدة فقط ولعله من الغنى عن البيان أن يقول إنه قد بدل أسماء جميع الأشخاص الذين أسهموا في هذه العملية بأسماء مستعارة لأسباب يعلمونها هم قبل غيرهم أولها أن تلك هي طبيعة العمل السري وآخرها أنهم أزهد الناس في بريق الشهرة وحديث الأمجاد ويذكر أيضا أنه عندما بدأ في كتابة سجل عملية رفعت الجمال كما أحب أن يسميه بتكليف من المخابرات المصرية وقع في حيرة كبيرة بالنسبة للعنوان الذي يطلقه عليه وورد على ذهنه خلال الكتابة العديد من الأسماء لم يقتنع بمعظمها وإكتشف أن الباقي معاد ومكرر وعندما إنتهي من الكتابة فرض العنوان نفسه عليه حيث قفز أمامه سؤال كبير وهو هل يليق بضابط المخابرات أن ينساق وراء العاطفة فتسيل دموعه تأثرا وإنفعالا والإجابة القاطعة هي لا حيث أن واجب المخابرات ذو شقين أساسيين أولهما هو البحث عن الحقيقة وثانيهما هو التعامل مع هذه الحقيقة بشجاعة وواقعية وعليه فلا مكان للعواطف في أعمال المخابرات ولكن ضابط المخابرات قبل كل شئ إنسان ولقد بكى الإنسان في نفسه من أجل الرجل محور هذه العملية خمس مرات خمس مرات فقط على مدى عشرين عاما لعل في ذلك ما يلتمس له العذر لدى رجال المخابرات العامة المصرية إذ إختار هذا العنوان للكتاب الدموع الخمس .
وعندما كتب صالح مرسي الذى لقب بأديب المخابرات نظرا لتخصصه في كتابة العديد من الروايات المأخوذة من سجلات المخابرات العامة المصرية روايته رأفت الهجان وصف فى مقدمته لتلك الرواية كاشفا سبب قبوله كتابتها مشيرا إلى أن الطودى كتب القصة فى عدة أوراق وتم تقديمها إليه فى أحد أيام شهر يونيو عام 1985م فإعتذر عن عدم قراءتها لأسباب شخصية ثم قدمت له مرة ثانية وثالثة فى كرم لا ينكره وإعتذر أيضا حيث كان يتملص محاولا الخروج من شرنقة هذا النوع الجديد من الأدب الذى يتناول قصص عمليات المخابرات حيث كان لديه شعور بأنه كان قد قدم فيه الكثير وأنه قد أدى واجبه نحو وطنه وأمته العربية ويؤكد مرسى أيضا أنه فى المرة الرابعة ما إن وقعت عيناه على أول الكلمات فى تلك الأوراق حتى وجد نفسه يهوى معها إلى هوة بلا قرار ويغيب عن الوعى لثلاث ساعات كاملة حيث كانت السطور ملخصا كتبه ضابط الحالة عبد العزيز الطودى وكانت كما يقول ترفعه إلى السماء ثم تهوى به إلى الأرض فى واقع أسطورى شديد الغرابة وفى سطور أخرى كان يصفق كصبى بهره الشجيع على الشاشة وقد إنتصر على أبطال الشر وعندما كان يقرأ كيف عرض حزب الماباى الإسرائيلى على رفعت الجمال أو رأفت الهجان أو ديفيد شارل سمحون في القصة أن يرشح نفسه للكنيست الإسرائيلى أحس بزهو من أنجب عملاقا ويقول مرسي أيضا إنه قد دخلت عليه زوجته حجرة نومه وهو يقرأ القصة وفوجئت بدموعه تتساقط ويومها تساءلت زوجته في لهفة عن السبب فرد قائلا إنت فاكرة إنك متجوزة راجل وإن اللي حوالينا دول رجالة هناك رجالة لهم طعم تانى خالص وهناك رجالة نوعيات مختلفة وكان صالح مرسى محقا إلى حد كبير فالرجل الذي يضع رقبته تحت المشنقة لمدة 20 عاما ويعيش داخل إسرائيل وهى لا تعرف أنه مصري ويموت فيها وهى لا تعرف عنه شيئا أقل ما يقال عنه إنه أسطورة وينقل مرسى مما كتبه الطودى أو الجبالى كلماته التي أشرنا إليها في السطور السابقة ويكشف لنا أنه بعد أن قرأ هذه الأوراق كان لابد وأن يلتقى بكاتبها عبدالعزيز الطودى وبالفعل إلتقي به وجلس إليه لأكثر من أربعين ساعة على مدى ثلاثة أشهر وسجل له عشرين ساعة وثلاثين دقيقة وكم ضحكا معا وفرحا معا ولفهما الحزن والأسى فى أحيان كثيرة وكم دمعا وهو يحكى فى تدفق وحرارة يبعثان على الحيرة والعجب حقا فقد كان الطودى شخصية شديدة الرقة والإنسانية والعذوبة لدرجة أن الدموع كانت تتقافز من عينيه عند حديثه عن رفعت الجمال أو رأفت الهجان ويضيف مرسي أيضا قد أعطتني لقاءاتي مع الطودى إحساسا دفينا بأن الصورة التي في خيالنا عن قسوة رجل المخابرات المصري وغلظته صورة خاطئة تماما .
وبخلاف عملية رفعت الجمال كان من العمليات التي قام بها فارسنا عبد العزيز الطودى أنه إستدعى ذات يوم خلال عام 1962م بصحبة زميله على زكى لمكتب السيد سامي شرف مدير مكتب الرئيس عبد الناصر للمعلومات ومنه دخلا إلى مكتب الزعيم جمال عبد الناصر ليغلق عليهم الباب كي يتلقيا مهمة الذهاب إلى الجزائر وكانت الثورة الجزائرية حينذاك مشتعلة ضد المستعمر الفرنسي ليكلفهما بتوصيل رسالة هامة خاصة لأحمد بن بيلا الذى كان يقود الكفاح المسلح ضد الفرنسيين حينذاك ويقول الطودى كانت هذه المهمة صعبة للغاية ومحفوفة بكثير من المخاطر وتمت في ظروف صعبة للغاية وتولى الطودي مهمة الترتيب للسفر الذي إتخذ مسارا دائريا يبدأ من مصر ومنها إلى أوروبا مرورا بأسبانيا ثم المغرب والتي كان محمد أوفقير وزيرا للداخلية بها وكان أحد المسيطرين على الأمن وكان مشهورا بميله الشديد للإستعمار الفرنسي ولذلك كان يترصد ويتتبع خطي أي موفدين من قبل القيادة المصرية لمعرفته الكاملة بأنهم لابد وأنهم قدموا للمغرب في مهام لمساندة وتدعيم الثورة الجزائرية وذلك لضمان عدم وصول الإمدادات لرجال وزعماء الثورة بالجزائر وعلي الرغم من كل الإحتياطات الأمنية التي إتخذت لتأمين هذه المهمة إلا أن الخطر الشديد لم يبتعد عن الطودى وزميله علي زكي خاصة بعدما علم أوفقير بمهمتهما وحاول إصطيادهما أكثر من مرة لكنهما إستطاعا أن يدخلا المغرب عبر مضيق جبل طارق ثم يصلا إلي الجزائر عبر الحدود المغربية الجزائرية وسلما الرسالة لأحمد بن بيلا ثم عادا للقاهرة بسلام وقال عنه سامي شرف بعد إنجازه لهذه المهمة إنه يعد واحدا من أنشط الرجال الذين عرفتهم المخابرات العامة المصرية فقد كان وطنيا لأبعد مدى وكان يعمل في صمت وبإتقان عال وينفذ كل ما يكلف به برؤية ومهارة مرتفعة وكان ينفذ المهام المكلف بها بإتقان ومهارة خاصة في الجزائر أيام الرئيس بن بيلا بالتعاون مع رجل المخابرات العتيد ومهندس حركات التحرر العربية فتحي الديب الذى كان مسؤولا عن الشئون العربية بتكليف من الرئيس عبد الناصر بجهاز المخابرات العامة .
وقال عنه أيضا مجدي عمر مساعد رئيس المخابرات الأسبق إنه كان إنسانا ملتزما في عمله يمارس المهام المطلوبة بإعتبارها مهمة وطنية لا بد أن تنجز وليست وظيفة ويحسب له أنه حفظ ملحمة رأفت الهجان في مذكراته الدموع الخمس وقال عنه أيضا صديقه عمر حجاج إنه كان يعشق مصر وقد عرفته منذ عشرات السنين أدى واجبه ولم يمل لحظة من العطاء فإستمر كي يعرف الجيل الحالي والقادم من هي مصر ومن هم المصريون إذا ما هيئت لهم الأرض وظل عبد العزيز الطودى يواصل عمله بجهاز المخابرات العامة المصرية والتعامل مع عميله رفعت الجمال علي البعد فلم يلتقيا قط ولم يتحدثا مباشرة وكانت أخصب فترة في هذا التعامل فترة ما قبل حرب أكتوبر عام 1973م وفي عام 1977م إنتهت خدمه الطودى في الجهاز وكان عميله رفعت الجمال قد إعتزل هو الآخر في نفس الفترة تقريبا وأنهيت مهمته في إسرائيل وكان قد نقل نشاطه حينذاك إلي المانيا وتزوج من سيدة ألمانية مطلقة والتي حملت إسم فالتراود بيتون بعد زواجها منه وعند وفاته في عام 1982م تم تكليف السيد اللواء سامح سيف اليزل بإغلاق ملف رفعت الجمال والشهير يإسم رأفت الهجان وإبلاغ أهله بأنه كان يعمل لصالح المخابرات العامة وهو من قام بمقابلة زوجة رفعت الجمال بعد وفاته وإبلاغها بحقيقة نشاطه وبلا شك كان فارسنا عبد العزيز الطودى من الذين كانت لهم بصمات مميزة في مرحلة بناء هذا الجهاز الجبار منذ أن إلتحق به عام 1957م وحتي إعتزاله في عام 1977م وهي فترة بلغت فيها المواجهة بين أجهزة الإستخبارات المصرية ونظيرتها في إسرائيل الذروة بينما كانت القوات المسلحة المصرية وعلي التوازى في مرحلة إعادة تكوينها من جديد وعلى نحو جدي بعد قيام ثورة يوليو عام 1952م ثم مرة أخرى بعد نكسة الخامس من شهر يونيو عام 1967م لإسترداد الأرض العربية المسلوبة .
ويقول فارسنا عبد العزيز الطودى بعد خبرته الطويلة في مجال الإستخبارات إن المجتمع الإسرائيلي يسهل إختراقه من الداخل بإمكانات الإنسان العربي وبمنتهى البساطة فقط إذا توفرت الإرادة الوطنية في مقاومة المشروع الصهيوني وأخيرا يقول عنه إبنه عمر إن أباه كانت لديه عقلية مرتبة جدا يكاد يراها عبقرية وعلى الرغم من تخرجه في كلية التجارة إلا أنه وقف بجانبه مشجعا ميوله للموسيقى حتى اللحظة الأخيرة وكان أول من يسمعه عندما ينتهى من تأليف قطعة موسيقية حتى إنه قال له يوما تمنيت لو أن موسيقى مسلسل رأفت الهجان كانت من تأليفك يا عمر وكان آخر كتاب في يده قبل الوفاة عن معركة العلمين التي وقعت عام 1942م وفي جلسة عائلية تحدث عن روعة ما جاء بالكتاب وكيف إخترق الإيطاليون في البداية الحدود الغربية المصرية عن طريق ليبيا وكيف زحف الإنجليز إلى هناك لردهم ثم تتبعهم داخل الأراضي الليبية ثم إستنجاد الإيطاليين بالألمان بعد تعرضهم لهزائم متتالية ووصول القوات الألمانية بقيادة ثعلب الصحراء إرفين روميل وتحقيقه العديد من الإنتصارات علي الجيش الثامن الإنجليزى ومطاردته للإنجليز حتي وصوله إلي العلمين وأخيرا كيف تمت خطوات المعركة الفاصلة بين الطرفين .
ويذكر عمر أيضا إن أباه كان يذكر دائما شخصا يدعى عودة العمارى وهو مواطن فلسطيني كان دليلا للعمليات الفدائية أثناء وجود أبيه في منطقة رفح ودير البلح وغزة أواخر عام 1955م وخلال عام 1956م وكان أبوه يصفه بأن جسده لم يكن به مكان إلا وبه آثار لضرب النار ويضيف عمر أثناء عملية عاصفة الصحراء سألنا أبي ماذا بعد فأجاب اللهم لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه وأنه كان يوم توقيع معاهدة كامب ديفيد ثم يوم توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل ومن بعدهما يوم سقوط بغداد تحت الإحتلال الأميريكي في عام 2003م من أصعب الأيام علي نفسه وكانت وفاته في يوم 17 سبتمبر عام 2004م عن عمر يناهز 72 عاما بعد أن أدى واجبه نحو بلده رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وبلا شك سيظل عبد العزيز الطودى واحدا من فرسان هذا الزمان الذين خدموا الوطن بإخلاص وتجرد ومضوا في صمت لم يسمع بهم أحد ولم يعرفهم أحد ولكنهم تركوا للقريبين منهم السيرة الطيبة والخبرة ومضوا ورحلوا عنا دون أن يجمعوا ثروة ولم يصبحوا نجوما بالمعني السائد الآن وسيظل أيضا ممن سيذكرهم الوطن والمخلصون من أبنائه هؤلاء الذين مازالوا يتمسكون بقيم الوطنية والشرف والنزاهة من أمثال الطودي والمتواجدين في مختلف المواقع وستظل الحياة تتدفق علي الطرقات ويستمر عبور الجسور وبسوق الاشجار ونماء الدافع لدي هؤلاء للحصول علي المعرفة والعلم والإحتفاظ بالمثل والقيم التي يعتبرها البعض الآن بالية فبأمثال الطودي تستمر وتحيا الأوطان ولذلك سنذكره وسيذكره الوطن دائما . |