بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
وبعد تنفيذ قرار النفي ووصول بيرم إلى تونس بدأ يبحث عن أفراد عائلة جده التونسية وبالفعل إستطاع الوصول إليهم وفوجئ بهم يذكرون أول ما يذكرون أصله وأنه من نسل الجارية التي أهداها السلطان التركي لجده فيتركهم بيرم وهو يشعر بأنه منفي إلى بلد غريب عنه وحاول الإتصال ببعض الكتاب التونسيين للإشتراك معهم في إصدار صحيفة ولكن الإدارة التونسية كانت تضعه تحت المراقبة منذ وصوله بإعتباره مشاغبا وباعث ثورات ولأن الدعاية التي أحاطته منذ وصوله أنه ينتمي إلى عائلة أصلها تركي وأنه كان أحد الثائرين في مصر ضد بريطانيا فلهذا كله لم يستطع ممارسة أي نشاط صحفي أو سياسي طوال فترة إقامته وسمح له فقط بالعمل في الأعمال التي تحتاج إلي قوة جسمانية فعمل في بعض المحلات التجارية ثم إكتشف أن البوليس بدأ يضيق الخناق عليه ويتتبعه في كل مكان يذهب إليه فقرر الرحيل من تونس إلي فرنسا في أوائل عام 1921م وذلك بعد أربعة أشهر من وصوله إليها وما أن وصل إلى ميناء مارسيليا لم يحتمل المكوث فيه أكثر من ثلاثة أيام إنتقل بعدها إلى العاصمة باريس التي شعر فيها بقسوة الغربة ولسعة البرد الشديد والذى لاحظ أنه لا يعطل الناس عن الإستيقاظ مبكرين والتوجه إلى أعمالهم ودفعه ذلك إلى كتابة أبيات يسجل فيها إعجابه بنشاط الشعب الفرنسي وتسجيله لحزنه على مصر كان منها :-
الفجر نايم وأهلك يا باريس صاحيين معمرين الطريق داخلين على خارجين
منورين الظلام راكبين على ماشيين بنات بتجري وياما للبنات أشغال
وعيال تروح المدارس في الحقيقة رجال ورجال ولكن على كل الرجال أبطال
ولسه حامد وعيشة وإسماعين نايمين
وفي باريس يفشل بيرم في الحصول على عمل فينصحه بعض المغتربين بالسفر إلى مدينة ليون التي وصفها في مذكراته قبل وفاته بقوله سعيت بنفسي إلى مدينة صناعة الصلب في فرنسا تلك المدينة التي لأهلها قلوب مثل الصلب لا تعرف الرحمة أو الشفقة وهي أيضا مدينة مشهورة عند الفرنسيين أنفسهم بأنها مدينة معتمة ووصلت لهذه المدينة في عز الشتاء ولأن جيوبي كانت شبه خاوية فقد أخذت المسألة من أقصر طرقها وذهبت إلى أفقر أحيائها وإستأجرت فوق سطوح أحد المنازل شيئا يسمونه حجرة كانت من الخشب الذي حولته مياه الأمطار إلى مكان له رائحة من نوع خاص رائحة قريبة من العفن وداخل تلك الثلاجة كنت أنام الليالي القاسية البرودة وفي النهار كنت أسعى مع الفجر في البحث عن عمل قبل أن يتبخر آخر مليم في جيبي وبعد مجهود شاق حصل بيرم علي عمل في مصانع الصلب والغازات الخانقة وكان مجرد وسيلة يضمن بها بقاءه على قيد الحياة وكان لهذا العمل الشاق بجانب مشقة الغربة أثر كبير في صقل موهبته فمع إنشغال بيرم الدائم بإنتقاد الأوضاع الإجتماعية والسياسية في بلده مصر على الرغم من بعده عنها واصل بيرم عمله الزجلي بشكل آخر حيث عقد مقارنات بشكل أدبي أيضا بين مصر وباريس وسماها السيد ومراته في باريس وكان بيرم يرسل أجزاء من هذا العمل إلى صديقه عبد العزيز الصدر صاحب جريدة الشباب في مقابل أن يسلم لزوجته ثمن الأزجال حتى تستطيع مع النقود القليلة التي يرسلها لها من ليون أن توفر أجرة المسكن والطعام وقد جمع الصدر هذه الأزجال وأصدرها في جزئين على نفقته الخاصة ولحسابه وتم إستخدام هذا العمل فيما بعد في دراسة اللهجة العامية المصرية في قسم اللغات الشرقية في جامعة برلين بالمانيا وتناول بيرم في هذا العمل قصة سفر رجل وزوجته إلى باريس وتأثرهما الإيجابي بالعادات الغربية مع تمسكهما بهويتهما العربية وبعد فترة يمرض بيرم بسبب عمله الشاق فيفقده وهو ما يجعله يشعر أكثر بمرارة الغربة وقال فيما بعد عن تلك الفترة إنه كان أثناء الجوع يمر بمراحل لا يشعر بها غيره من الشبعانين حيث كان في البداية يتصور الأشياء ويستعرضها في ذاكرته فهذا طبق فول مدمس وهذه منجاية مستوية ثم ينتقل بعد ذلك إلى مرحلة التشهي أثناءها تتلوى أمعاؤه ويبدأ يشعر بالمغص ويطوف الظلام حول عينيه ويتمنى من الله أن ينقله إلى الدار الآخرة فهي أفضل من هذا العذاب الأليم وأخيرا تبدأ مرحلة الذهول وخفة العقل فيطيل النظر إلى اللحاف الذي يغطيه وتحدثه نفسه أن يأكل قطنه أو يبحث بين محتوياته عن بذرة للغذاء تحتوي على زيوت ولم يستطع بيرم أن يواصل تلك الحياة القاسية كما أنه كان قد إشتاق لرؤية زوجته وأولاده والذين لم يرهم لمدة عام ونصف وأيضا الإلتقاء بأولاد البلد الذين أعطوه الإلهام ومن ثم بدأ في البحث عن طريقة تساعده في العودة إلى مصر فلجأ إلى إختصار إسمه في جواز السفر الجديد الذي كان يحمل ختم القنصلية البريطانية وإستطاع بهذا الجواز أن يصعد إلى إحدى السفن وينزل في ميناء بورسعيد وذلك في يوم 27 مارس عام 1922م وتوجه فورا إلى الإسكندرية وذهب إلى حي الأنفوشي متخيلا اللحظة التي سيلتقي فيها بزوجته ويأخذ بين يديه مولودهما الجديد الذي لم يتعرف على ملامحه بعد فقد كان قد ترك زوجته الجديدة وهي حامل وما أن وصل إلى حي الأنفوشي حتى علم أن زوجته وضعت طفلة إسمها عايدة وأنها طلبت الطلاق في فترة غيابه وحصلت عليه بعد أن أثبتت أن زوجها مغضوب عليه وليس هناك أي أمل في عودته للبلاد .
وكان الوضع السياسي في البلاد حينذاك ملتبس في هذه الأثناء وكانت سلطات الإحتلال تقمع أي معارضة وكان قد تم نفي سعد زغلول باشا للمرة الثانية مع عدد 5 من رفاقه إلي جزيرة سيشل في المحيط الهندى منذ شهر ديسمبر عام 1921م ولهذا فقد قرر بيرم ألا يغامر بالنزول إلى الشارع وأن ينتظر لحظة هدوء تسود مصر يحاول أثناءها أن يتصل ببعض الذين لديهم القدرة على الإتصال بالقصر ليتوسطوا له من أجل إصدار العفو عنه والسماح ببقائه في البلاد دون تهديد أو خوف من إفتضاح أمره ولكن إنتظار بيرم طال في منزل أولاد عمه لمدة ثلاثة أشهر قرر بعدها أن ينزل إلى الشارع ويمارس حياته العادية فقد أصبح أمره لا يهم أحدا بل ورأى أنه يستطيع السفر إلى القاهرة ليلتقي بصديقه عبد العزيز الصدر وببعض الأصدقاء المخلصين الذين يستطيع الإعتماد عليهم في حل مشكلته لكن الحياة لم تطب لبيرم حيث كان في كل لحظة مهددا بالإبعاد مرة أخرى إذا إكتشفت السلطات أمره حيث كان قد دخل مصر متسللا ولم يطق بيرم هذا الخناق الذي كان يقيد من حريته حيث كان لا يستطيع الكتابة ونقد الأحوال ومناهضة الإستعمار خوفا من النفي مرة أخرى فإتفق مع صديقه عبد العزيز الصدر أن يرسل لجريدته الشباب كل أسبوع معظم مواد العدد بشرط ألا يضع إسمه على الأزجال السياسية والتي واصل بيرم كتابتها والتي كانت ليست فقط بها نقد للحكم بل كانت تتخطى ذلك بكثير وأدى تعقد الأحوال السياسية وتشابكها آنذاك وإنشغال القصر بالصراعات مع المعارضة إلى إطمئنان بيرم وإلى تماديه في كتابة أزجاله التي تترجم إحساسه بالضيق والثورة وإستمر وجود بيرم في مصر لمدة 14 شهرا وتم إكتشاف أمر دخوله مصر متسللا عندما تكلم أحد أصدقائه عن لقائه ببيرم أمام أحد رجال السلطة وهو يعتقد أنه قد تم له السماح بدخول البلاد ومن ثم تم القبض عليه للمرة الثانية وتم وضعه في يوم 25 مايو عام 1923م على ظهر أول سفينة تغادر البلاد إلى فرنسا حيث وصل إلي ميناء مارسيليا حيث عمل شيالا وبحث بيرم عن أي عمل في مصانع المدينة إلا أنه لم يفلح في ذلك ولم يتخلص من أزمته إلا عندما قابل بالصدفة أحد المصريين المغتربين وحكي له مأساته فتأثر بها وأخذه من يده ليتوسط له في شركة للصناعات الكيماوية وتسلم عمله الجديد الذي وجد فيه منذ اليوم الأول أنه يعد أعظم طريقة للإنتحار البطئ ومن ثم لم يستطع بيرم العمل في هذا المصنع لفترة طويلة حيث أصابه المرض ونقل إلى المستشفى وعندما تم له الشفاء أقسم ألا يعود إلي عمله السابق مرة أخرى وإلتحق بالعمل في مصنع للحرير الصناعي في مدينة جرينوبل بجنوب شرق فرنسا ومرض مرة أخرى نتيجة الغازات الخانقة التي يستنشقها في هذا المصنع أيضا ونقل إلى المستشفى للعلاج ولكن بقاءه فيها طال ففصل من العمل .
وعلي الرغم من ذلك كله إلا أن بيرم ظل مهتما ومتابعا للأحداث التي تقع في وطنه مصر فنجده عندما علم أن بعض رجال الصوفية يحرضون الناس على الإنفضاض عن عمر بك لطفي ودعوته التعاونية بزعم أنه من أنصار الحركة البلشفية التي إنتشرت في دولة الإتحاد السوفيتي حينذاك كتب تحت عنوان عالم ومسلم وبتعارض في فعل الخير قائلا :-
لا في الجوامع رأيت مثلك ولا في الدير عالم ومسلم وبتعارض في فعل الخير
مدام فضيلتك بتاكل كوستاليته وطير يبقى الدريس والدرة والفجل للخرفان
لا والتلامة يستشهد لنا بالدين إنه أمر يبقى نص المسلمين جعانين
إن كنت فاهم شريعة العدل عن لينين إنظر شريعة نبينا نازلة في القرآن
ويأخذ بيرم أيضا في مراسلة الفرق المسرحية ليجد ما يسد به جوعه فيكتب بيرم ويقول :-
يا باريز يام بلاد بره يا مربيه لامارتين بعتت لك أم الدنيا شاعر في الشعر متين
يعمل أشعار لصعايدة وبنات وفلاحين وتلامذة وأزهرية وخوجات ومفتشين
إياك ما يموتش عندك في بيوت المساكين
وتشاء الأقدار وسط هذه الأحداث كلها أن يقابل بيرم الفنان عزيز عيد في فرنسا والذى طلب من بيرم أن يؤلف له مسرحية في مقابل مبلغ عشرين جنيها كمقدم وعلي أن تكون أحداث هذه المسرحية مقتبسة من نص أجنبي ثم سأله بيرم عن الطريقة التي يستطيع بها العودة إلى مصر لأنه لم يترك وزيرا أو شخصية مهمة حضرت إلى فرنسا دون أن يقابلها ولكن دون جدوى فقال عزيز لبيرم إنه من جانبه سيحاول أن يثير مشكلته مع كل مسؤول يأتي إلى مسرحه ووجد بيرم الرواية الأجنبية في رواية تسمى لو كنت ملكا وبدأ في تمصيرها وسماها ليلة من ألف ليلة ونجحت نجاحا مبهرا وبعد ذلك وصل خطاب لبيرم من عزيز عيد أخبره فيه بأن يتفرغ لكتابة المسرحيات لفرقته وإرسالها إليه وأنه سيمده بإستمرار بالنقود بدون إنقطاع وأنه سيترك له حرية إختيار الأفكار دون تدخل من جانبه وبعد ذلك علم بيرم أن صديقه زكريا أحمد قد وصل إلى باريس فأسرع لمقابلته لكي يتوسط له عند القصر حتى يستطيع الرجوع لمصر ولكن زكريا أحمد لم يعطه أملا في العودة في ذلك الوقت ولم يجتمع بيرم وزكريا أحمد بعد هذه المقابلة وترك زكريا باريس بعد أن أعطى وعدا لبيرم بمده بالنقود من وقت لآخر وأنه سيبذل كل مافي وسعه في القاهرة للعمل على عودته إلى أهله وأولاده وكانت قد مرت حينذاك تسع سنوات قضاها بيرم في فرنسا بعد نفيه من مصر للمرة الثانية لا ينقطع فيها رغم الألم النفسي والجسدي الذي عاناه من الإنقطاع عن بلده عن تأليف أبدع الأزجال التي كان يرسلها إلى الصحف وناشري الكتب بصفة مستمرة ولم يمنعه من مواصلة الكتابة سوى خروج الصحف الفرنسية ذات يوم وبها إنذار يطالب الأجانب بالإستعداد لمغادرة البلاد والعودة إلى أوطانهم فورا فتذكر بيرم في هذه اللحظة آلامه في المنفى والدنيا التي تنكرت له وحياة التشرد التي عاشها وتصل آهاته إلى عنفوانها عندما يصف الجحود الذي إستقبل به في مصر وتونس وباريس وتظل الدنيا توجه ضرباتها لبيرم حتى يتنكر له الكثير من أصحاب الجرائد التي كان يراسلها فيعبر عن أوجاعه وآلامه ويقول :-
الأولة مصر قالوا تونس ونفوني والتانية تونس وفيها الأهل جحدوني
والتالتة باريس وفيها الكل نكروني الأولة مصر قالت تونس ونفوني جزات الخير
والتانية تونس وفيها الأهل جحدوني وحتى الغير والتالتة باريس وفيها الكل نكروني وأنا موليير
وكان من الأحداث التي تمت خلال هذه الفترة خطبة نعيمة إبنة بيرم فراسل خطيبها وأرسل إليه بأزجاله حتى يقوم بتوزيعها له ثم تم زواج إبنته وهو بعيد عنها وأخذ ينتقل من بلد إلى آخر حيث رحل من فرنسا إلي تونس ومن تونس إلي سوريا ومن سوريا وضع على ظهر سفينة لنفيه لأي دولة في شمال أفريقيا وإضطر بيرم في تلك الفترة أن يراسل عن طريق زوج إبنته بعض الصالات الفنية وبعد عدة محاولات إستطاع بيرم ثانية العودة إلى مصر عن طريق ميناء بور سعيد وساعده على ذلك ملامحه الغربية بعض الشئ وإستطاع أن أن يصل إلى بيت إبنته التي تركها وعندها سبع سنوات ويعود وعمرها عشرون عاما تقريبا وأخذ يتنقل بين بيوت أصدقائه محاولا الإختباء لديهم حتى أرسله أحدهم إلى عيادة صديق له ليختبئ فيها فيدرك الطبيب خطورة ذلك إذ أن العيادة يتردد عليها الكثير من الناس ففكر في صديق له من أشد المعجبين ببيرم وهو في الوقت نفسه أعزب لذا فإن مسكنه هو أنسب مكان لإخفاء بيرم فتركه صديقه الطبيب في عيادته ونزل وعاد ومعه صديقه العازب كليم أبو سيف الذي وافق على خطة صديقه الطبيب وبمجرد أن فتح الرجلان الباب على بيرم حتى إنهار بيرم تماما وأخذ يصرخ ويبكي وهو يقول لصديقه الطبيب ليه يا طه دا أنا عندي أولاد ليه الله لا يبليك باللي شفته حيث إعتقد بيرم أن صديقه أبلغ عنه السلطات فشرح له الطبيب فورا فكرته وبالفعل ذهب بيرم للإختفاء عند كليم والذى كان على علاقة قوية بوزير الداخلية حينذاك محمود فهمي النقراشي باشا فحكي له عن بيرم راجيا منه مساعدته في الحصول علي العفو من الملك وفي نفس الوقت وفي شهر أبريل عام 1938م طلب بيرم من زوج إبنته سعيد راتب أن يذهب إلى جريدة الأهرام ويقابل صديقا من المعجبين به ويعطيه خطابا مهما وكان هذا الصديق هو الصحفي المعروف كامل الشناوي وقد قال في هذا الخطاب واصفا حاله غلبت أقطع تذاكر وشبعت يارب غربة وطلب بيرم في هذا الخطاب من كامل الشناوي أن ينشره له وإتصل كامل الشناوي بأنطون الجميل رئيس تحرير الأهرام حينذاك وروي له قصة هذا الخطاب وإذ به يفاجأ برئيس التحرير نفسه وهو يقول له إن محمد محمود باشا رئيس الوزراء ومحمود فهمي النقراشي باشا وزير الداخلية حينذاك بالإضافة إلي أحمد حسنين باشا الأمين الأول في القصر الملكي قبل أن يصبح رئيسا للديوان جميعهم من أشد المعجبين ببيرم وقد سمعت منهم بعض أزجاله وسأتصل بهم وأستأذنهم في نشر هذا الزجل وبعد ساعتين إستدعى أنطون الجميل كامل الشناوي وقال له مبروك إنشر الزجل في الصفحة الأولى وكانت هذه أول مرة ينشر فيها الأهرام زجلا في الصفحة الأولى وقدم هذا الزجل كامل الشناوي بقوله إنهم في الأهرام قد تلقوا هذا الزجل من مجهول وهو بخط بيرم التونسي وطلب في هذا التقديم العفو عن صاحب الزجل خاصة وأن زجله ملئ بالإستعطاف حيث يشكو فيه آلام المنفى ويطلب عفو من الملك فاروق وما أن نشر هذا الزجل حتى أصدر وزير الداخلية أمرا بتجاهل وجود بيرم في مصر وصدر بعد ذلك عفوا ملكيا عن بيرم ومن ثم بدأت الدنيا تبتسم له بعض الشئ وإستطاع أن يعيد زوجته التي كانت قد طلقت منه إلى عصمته وأنجب منها فيما بعد ولدين وقام بجمع بعض أزجاله التي كتبها في المنفى في ديوان من جزئين وتعرف علي كوكب الشرق أم كلثوم وألف لها العديد من الأغنيات والتي لحن معظمها زكريا أحمد ثم الموسيقار الكبير رياض السنباطي وكان بيرم قد عمل كمدير للدعاية بشركة في الإسكندرية إلا أنه تركها ليتفرغ للعمل الصحفي فأصدر صحيفة فكاهية ثم تركها بعد فترة وعمل كاتبا في جريدة أخبار اليوم الأسبوعية بداية من شهر مارس عام 1950م وحتي شهر أغسطس عام 1951م وبعدها عمل في جريدة المصري ثم إنتقل ليعمل في جريدة الجمهورية في عام 1955م والتي كانت قد تأسست خلال عام 1954م وجدير بالذكر أن بيرم قد قدم أعمالا أدبية مشهورة في السينما والإذاعة والمسرح وكان أغلبها أعمالا إذاعية منها سيرة الظاهر بيبرس وعزيزة ويونس وواصل نقده الإجتماعي وذكر المزايا مثل العيوب تماما وكان مما قاله في الحالة الفنية في ذلك الوقت :-
كل جدع فرحان بشبابه يقول في عنيه دموع باللي جلبتي شقاه وعذابه حلي لنا الموضوع
طالع نازل يلقى عوازل واقفه بتستناه يا أهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقة سكوت لله
حافضين عشرة إتناشر كلمة نقل من الجورنال شوق وحنين وأمل وأماني وصد وتيه ودلال
واللي يتعاد ينزاد يا خوانا وليل ونهار هواه يا أهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقة سكوت لله
وعن التعارف الذى تم بين كوكب الشرق أم كلثوم وبيرم التونسي فقد تقابلت معه في نهاية عام 1940م بعد أن عاد إلي مصر في شهر أبريل عام 1938م وظل مختفيا لفترة حتى صدر العفو الملكي عنه وكان صيته قد ذاع في تلك الفترة وعرف الوسط الفني والأدبي قصته بما فيه أم كلثوم التي كانت تعرف ماضيه في الصحف والمجلات وتأليف المسرحيات الغنائية فطلبت من شيخ الملحنين الشيخ زكريا أحمد أن يعرفها على صديقه الزجال بيرم التونسي ومن ثم تم التعارف بينهما وإتفقت معه علي تأليف مجموعة من الأغاني علي أن يلحنها زكريا أحمد وبدأ بيرم في أول أعماله الغنائية مع أم كلثوم في شهر أبريل عام 1941م عبر أغنية أنا وأنت ثم أتبعها بأغنية أخرى وهي أغنية كل الأحبة والتي يقول في مطلعها :-
كل الأحبة إتنين إتنين وإنت يا قلبي حبيبك فين
يطلع علي البدر جميل يا بدر مالي أنا ومالك
ماليش يابدر نديم وخليل أوريه ويوريني جمالك
وإستمرت رحلة الأعمال الفنية لأم كلثوم مع كلمات بيرم وألحان زكريا أحمد حيث غنت أم كلثوم أيضا من كلمات بيرم وألحان زكريا أحمد أغنية إيه أسمى الحب وأغنية الآهات والتي ترددت أم كلثوم كثيرا في غنائها لولا إقناع الشيخ زكريا أحمد لها وبالفعل حققت الأغنية نجاحا قويا جدا لدرجة أنها عندما غنتها لأول مرة ما أن إنتهت من الغناء حتى تواصل التصفيق لأم كلثوم أكثر من عشر دقائق وكانت هذه أطول مدة تصفيق إستقبل فيها الجمهور أغنية من أغانيها طوال حياتها وتوالت بعد ذلك الأغاني التي قدمها بيرم لأم كلثوم نذكر منها حلم وأنا في إنتظارك والأولة في الغرام وحبيبي يسعد أوقاته وأهل الهوى وشمس الأصيل والحب كده والقلب يعشق كل جميل والتى يصف فيها رحلة الحج المباركة بأرق العبارات فيقول :
دعانى لبيته لحد باب بيته واما تجلى لى بالدمع ناجيته
كنت أبتعد عنه وكان يناديني ويقول مسيرك يوم تخضع لى وتجيني
طاوعنى يا عبدى طاوعنى أنا وحدي أنا اللى أعطيتك من غير ما تتكلم
وأنا اللى علمتك من غير ما تتعلم
وفضلا عن ذلك كانت هناك أغاني أخرى غنتها أم كلثوم لبيرم وربما كانت أقل شهرة من الأغاني السابقة مثل إكتب لي من غير تأخير والبدر أهو نور وأنا ليه أجاسر وأعاتبك وفي أوان الورد إبتدا حبي وياقلبي ياما تميل بنظرة وحيران ليه يادموعي كما غنت له بعض الأناشيد الوطنية مثل أغنية صوت السلام والتي كانت سببا في حصوله على ميدالية برونزية من المجلس الأعلى للفنون والآداب وبالنظر إلي قائمة أعمال أم كلثوم مع بيرم التونسي سنجد أنه قد ألف لها عدد 33 أغنية وذلك عبر مرحلتين حيث كانت المرحلة الأولي قد بدأت في عام 1941م بأغنية أنا وإنت وإستمرت هذه المرحلة حتى عام 1947م وكانت جميع أغانيه خلالها لأم كلثوم من تلحين زكريا أحمد وفي عام 1947م كان فيلم فاطمة آخر أفلام أم كلثوم نقطة فاصلة حيث غنت أم كلثوم لأول مرة من تأليفه وتلحين محمد القصبجي ورياض السنباطي ومن ثم بدأت المرحلة الثانية حيث لحن رياض السنباطي جميع الأغاني التي غنتها أم كلثوم من شعر بيرم التونسي بإستثناء أغنية بالسلام إحنا بدينا ولحنها محمد الموجي وهو صحيح الهوى غلاب ولحنها زكريا أحمد . وبخصوص عمل بيرم التونسي في صحيفة أخبار اليوم التي أسسها علي ومصطفي أمين عام 1944م فقد إرتبط بها بيرم التونسي بداية من شهر مارس عام 1950م حيث كانت صحيفة أخبار اليوم تبحث عن أقلام مشهورة تجعلها تقف في وجه المنافسة الحامية بينها وبين الصحف الأخرى ولهذا تم الإتصال ببيرم وطلب منه أن يمدها كل أسبوع بزجل إجتماعي تدفع فيه عشرة جنيهات وعلي أن يحتل بإستمرار بروازا عريضا في الصفحة الأخيرة ولم يصدق بيرم هذا العرض في بداية الأمر إلا عندما إستلم بيده ثمن أول زجل كتبه في الصحيفة حيث كان لم يتقاض قبل الكتابة في أخبار اليوم أكثر من ثلاثة أو خمسة جنيهات في الزجل الواحد وكان أول زجل ينشر لبيرم في أخبار اليوم في شهر مارس عام 1950م هو ما كتبه تحت عنوان فوضى وفيه إنتقد حياة الشعب المصري التي لا تعرف الدقة والنظام والنظافة قائلا :-
تقول في بيتنا أو في بيتكم هي هي المشكلة
ستات حاجتها كلها عايشة عيشة هرجلة
ستات عجايز أو صبايا فوق بعضها متكتولة
خلوا عقولنا زيهم متشوشة ومتبرجلة
درج المعالق يتحشر فيه قطن طبي ومبشرة
وعلبة الشاي ياعالم تتركن فوق صندرة
فيها مسامير وأسبرين وجوز شراب ومكحلة
ومضي بيرم في كتاباته في أخبار اليوم شاهرا سيفه مثل أبطال الأساطير الشعبية فمثلما كان أبطال السيرة الشعبية يقهرون الشر والظلم بما لديهم من قوة وذكاء وقدرة على التحمل والمثابرة كان بيرم يمضي في إصرار وعناد واهبا قلمه لبتر كل الصفات الرذيلة في المجتمع المصري التي تؤدي إلى الإنحراف والخنوع والسلبية والهوان الاجتماعي فهو يكتب مثلا عن النشالين وعن جنون الموضة بين الهوانم وعن أطفال الشوارع ويتعرض بأزجاله لكل مظاهر الفساد والإستغلال والرشوة فيكتب تحت عنوان خيبة قائلا :-
أنا كنت أتمنى أمسك منطقة تموين سكانها في المية مية عيانين جعانين
وأكسب بجرة قلم أربع خمس ملايين ومن ورايا رئيس يشهد بأني أمين
ولم يترك بيرم منحى من مناحي الحياة إلا وإنتقده فنجده مثلا ينتقد الصحافة النسائية التي تنشر دائما أبوابا للطهو والمأكولات المنزلية تغالي في أوصافها مع أنها بعيدة عن متناول المواطن العادي فنجده كتب تحت عنوان أبلة نظيرة قائلا :-
أنا اللي للطرشي والجبنة القريش محتاج توصف لي أبلة نظيرة مخ بالعصاج
ولسان بتلو يابيه أو ساندوتش دجاج إيش خلا أهل البسيطة كل يوم في هياج
وفضلا عن ذلك كانت كتابات بيرم في أخبار اليوم تتناول قضايا أخرى مثل الضياع والسوق السوداء وفوضى التليفونات والإيمان بالخرافات وفضائح التنويم المغناطيسي والدعوة لمواصلة تطور المرأة وأزمة المواصلات وكانت أيضا كتاباته لا تتجاهل القضايا الثقافية والفلسفية ولهذا نجده قد ناقش في أحد أزجاله قضية الإقتباس من الموسيقى الأجنبية وكيف يبرر الفنان عملية السطو الواضحة على أساس أنها خطوة لتطوير الموسيقى العربية وفي زجل آخر ناقش قضايا فلسفية ويظهر ذلك في زجله عن مفهوم الوجودية ولم يغفل بيرم أيضا في كتاباته في أخبار اليوم الجوانب السياسية من نقد للأوضاع في البلاد في ظل تعدد الأحزاب فكتب ينتقد هذا الوضع تحت عنوان الهتاف تارة وتارة أخرى تحت عنوان الظلمات هذا وقد ظل بيرم مرتبطا مع صحيفة أخبار اليوم حتي يوم 18 أغسطس عام 1951م حيث إنتقل إلي جريدة المصرى والتي كان قد أسسها محمود أبو الفتح في عام 1936م وكانت ندا قويا لجريدة الأهرام حينذاك .
ولما قامت ثورة 23 يوليو عام 1952م كان بيرم في ذلك اليوم المشهود في تاريخ مصر جالسا على المقهى الذي إعتاد الجلوس عليه بجوار منزله في حارة النواوي بشارع السد البراني وكان في ذلك الوقت يكتب زجله لجريدة المصري وإذا به يسمع المذيع في الراديو وهو يعلن خبر قيام ثورة من الجيش في مصر ولا يملك بيرم نفسه من الفرحة فيقوم ليهنئ كل الجالسين على المقهى ويجري بكل قوته إلى الإذاعة المصرية ليقف أمام الميكروفون وهو يتنفس لأول مرة من أعماله نسائم الحرية ويقول للمستمعين زجلا على نفس وزن بحر الزجل الذي كان قد هاجم به السلطان فؤاد ويبدأ هذا الزجل بنفس مطلع الزجل القديم فيقول :-
العيد ده أول عيد عليه القيمة مافيهشي تشريفة ولا تعظيمة
صابحين وأعراضنا أقله سليمة والقيد محطم والأسير متحرر
مرمر زماني يا زماني مرمر
ومنذ ذلك اليوم سخر بيرم قلمه لخدمة الشعب وأغراض الثورة وعندما حصل بيرم على الجنسية المصرية بصفة رسمية في عام 1954م فإنه إعتبر ذلك خير رد لإعتباره من جانب الدولة المصرية وفي عام 1955م بدأ بيرم مشواره في جريدة الجمهورية وذلك بعد تركه لجريدة المصري وكتب فيها في البداية أزجالا تلفت نظر الثورة إلى الأحوال الإجتماعية التي يجب معالجتها والتصدي لها بصراحة في المجتمع المصري كما كتب أيضا بعض الفوازير التي تشير إلى بعض الأسماء السياسية المنحرفة في بعض الدول العربية وكان من الأزجال التي لفتت النظر في جريدة الجمهورية عند بداية إشتغال بيرم بها تلك التي نشرها تحت عنوان كفاح الشعب وقدم فيها قصة الحملة الفرنسية على مصر في 26 حلقة متتالية وفي تلك الحلقات وصف لنا بيرم كيفية إحتلال الفرنسيين للإسكندرية على طريقة سرد الشاعر الشعبي لسيرة أبوزيد الهلالي وسيف بن ذي يزن وغيرهما وقال بيرم تعليقا على عودته إلى السياسة في تلك الفترة عدت إلى السياسة بعد أن زال الطغاة وقام الجيش بكل ما ناديت به من إصلاح كما قضى على ما كنت أهاجمه من فساد فالحمد لله أنني لم أمت قبل أن تتحقق آمالي وكان مما قاله بيرم من أجل مساندة ثورة يوليو :-
أرض العرب وحدها فيها الدمار جارية من بعد مصر الجريحة تنضرب سوريا
متحسبوناش يا عالم حته من كوريا وإحنا اللي بنحب عيسى وستنا مارية
وبعد تأميم قناة السويس في يوم 26 يوليو عام 1956م وحدث العدوان الثلاثي علي مصر في أواخر شهر أكتوبر عام 1956م كان من أبلغ ما كتب بيرم التونسي من أزجاله مهاجما القوى الإستعمارية التي تساند إسرائيل ما قاله تحت عنوان سني سكاكينك :-
وقالوا يا إسرائيل إحنا اللي باعتينك وإحنا اللي بالمال وبالصواريخ بنعينك
فالمسلمين إدبحي واحد ورا التاني وكل ما يصرخوا سني سكاكينك
وفي عام 1960م تم تكريم بيرم التونسي حيث منحه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر جائزة الدولة التقديرية لمجهوداته في عالم الأدب وظل إلى آخر لحظة في حياته من حملة الأقلام الحرة الجريئة وأصحاب الكلمات الحرة المضيئة حتى تمكن منه مرض الربو وثقل السنين وكانت آخر أغنية كتبها لأم كلثوم هي رائعته هوه صحيح الهوى غلاب وأذاعت أم كلثوم خبر وفاته على الهواء مباشرة في يوم 5 يناير عام 1961م عن عمر يناهز 68 عاما بعد أن نال منه مرض الربو وكأنه كان ينعي نفسه حين كتب :-
قال إيه مراد إبن آدم قلت له طقة
قال إيه يكفي منامه قلت له شقة
قال إيه يعجل بموته قلت له زقه
قال حـد فيها مخلد قلت له لأه
وفي النهاية نذكر بعض من أقوال بيرم التونسي عندما تكلم عن النقد ودوره في المجتمع فقال النقد إمتداد للنبوة ولولا النقاد لهلك الناس ولطغى الباطل على الحق ولإمتطى الأراذل ظهور الأفاضل وبقدر ما يخفت صوت الناقد يرتفع صوت الدجال وأيضا قال يوما معلقا على الإنحطاط الذي وصلت إليه الأغنية إن الأغنية مدرسة تستطيع أن تعطينا قيما سليمة أو تدس لنا سموما خبيثة فهي أخطر أداة للنشر في هذا العصر ومن المحزن أنه لا أحد يدرك أو يقدر خطر الأغنية على الناس لا المؤلف ولا الملحن ولا المطرب وحينما سئل عن دور الفن في حياة الفرد قال الفن هو التأثير الوجداني للحياة والفنان الأصيل هو الذي يعبر في صدق عن عواطفه ومشاعره وقال في الشعب المصري يامصري ليه ترخي دراعك والكون ساعك ونيل جميل حلو بتاعك يشفي اللهاليب خلق إلهك مقدونيا على سردينيا والكل زايطين في الدنيا ليه إنت كئيب ماتحط نفسك في العالي وتتباع غالي وتتف لي على اللي في بالي من غير ماتعيب وقد قال عنه الكاتب كامل الشناوي إن بيرم فنان ثائر عاش طوال حياته يعاني العرق والقلق وشظف العيش وقد يتهيب خاصة المثقفون عندنا من الإعتراف به في حين كانت جامعات أوروبا تدرس آثاره وتعترف بموهبته الأصيلة وفنه الرفيع ومدحه أيضا أمير الشعراء أحمد بك شوقي قائلا إن زجل بيرم فوق مستوى العبقرية . |