الأحد, 15 ديسمبر 2024

abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
الرئيسية
بانوراما
فرعونيات
بلاد وشركات
الحدث السياحي
سحر الشرق
سياحة وإستشفاء
أم الدنيا
حج وعمرة
أعمدة ثابتة
درجات الحرارة
اسعار العملات
abou-alhool

مصطفي النحاس باشا
-ج4-

مصطفي النحاس باشا
-ج4-
عدد : 05-2021
بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”

كان الملك فاروق يتحفز لوزارة النحاس باشا منذ تشكيلها في يوم 4 فبراير عام 1942م وينتظر الفرصة المناسبة للخلاص منها بعد فرضها عليه ومن الجانب الآخر كان السفير الإنجليزي يقف بصلابة أمام محاولات الملك وهو يدرك ضرورة بقائها في الحكم خاصة وأن معركة العلمين الفاصلة مع الألمان علي الأبواب وأن الجبهة الداخلية وراء الخطوط الإنجليزية يجب أن تظل هادئة ومستقرة في ظل هذه الظروف الحرجة ولا أحد في نظره غير النحاس باشا يمكن أن يحقق ذلك وقد سارت تلك الوزارة على نفس النهج الذى سارت عليه منذ تشكيلها الأول يوم 4 فبراير عام 1942م في تنفيذ خطة التعاون مع الإنجليز دون إعلان الحرب علي دول المحور وسلمت للسلطات العسكرية الإنجليزية جميع الأراضي والمنشآت التي طلبت شغلها أثناء الحرب كما أن الملك فاروق قد أبدى بعض المرونة في التعامل مع الإنجليز فأهدى إليهم قصر رأس التين بالإسكندرية ليكون مستشفي لكبار الضباط الإنجليز طوال سنوات الحرب وكوفئ علي ذلك بإهدائه عصا المارشيلية مع منحه لقب جنرال شرف في الجيش البريطاني وكانت حالة الحرب قد تسببت في عدم أمان وخطورة نقل المنتجات عن طريق البحر كما جعل مصر وغيرها في عزلة إقتصادية فلم تستطع مصر بالتالي تصدير حاصلاتها الزراعية خاصة القطن وبذلك تحكمت بريطانيا في تجارة مصر الخارجية وفي أسعار حاصلاتها الزراعية وخاصة القطن عماد الثروة القومية في البلاد . وعلاوة علي ماسبق شهدت البلاد تدفق جيوش الحلفاء من عدة بلاد إلى مصر وأصبح معظم تموينها وإعاشتها من منتجات البلاد وحاصلاتها مما أدى إلي حدوث موجة من غلاء الأسعار وإختفاء العديد من السلع وظهور السوق السوداء للعديد منها وكانت بريطانيا لاتقوم بسداد ثمن تموين جيوشها وجيوش حلفائها نقدا أو سلعا من منتجات مصانعها بل كان السداد يتم عن طريق أذونات خزانة تقدمها بريطانيا إلي البنك الأهلي الإنجليزي وتكون مستحقة علي الخزانة البريطانية ليصدر البنك مقابلها الكميات التي تطلبها من أوراق البنكنوت المصرية مما أدى إلي حدوث حالة من التضخم وهبوط القيمة الشرائية للعملة المصرية وبالتالي إرتفاع الأسعار إرتفاعا حادا وكان مما قررته تلك الوزارة إصدار قانون مجانية التعليم الإبتدائي وإعتماد مبلغ 35 ألف جنيه لإستكمال منشآت جامعة فاروق الأول بالإسكندرية وندب الدكتور طه بك حسين المستشار الفنى لوزارة المعارف العمومية مديرا لها إلي جانب عمله كما قررت الوزارة توزيع مساحة 4617 فدان علي خريجي المعاهد الزراعية العالية والمتوسطة وتخصيص مبلغ 50 ألف جنيه سلفة لإقامة مباني للمنتفعين بذلك ومساعدتهم في شراء الأدوات والمعدات اللازمة لهم وفي مجال العلاقات الخارجية قررت الوزارة يوم 27 سبتمبر عام 1943م الإعتراف بجمهورية لبنان دولة مستقلة ذات سيادة وتبادل التمثيل الدبلوماسي معها وكذلك إهداء حضرموت مبلغ 10 آلاف جنيه لشراء معونات لمنكوبي المجاعة بها وتخصيص 20 ألف جنيه لمسلمي مقاطعتي البوسنة والهرسك بيوغوسلافيا للتخفيف عن المعاناة والإضطهاد التي كانوا يعانون منها .

وبالإضافة إلي ماسبق تم في شهر سبتمبر عام 1944م عقد إجتماع بالإسكندرية بين وفود كل من مصر وسوريا ولبنان والعراق وشرق الأردن لإقرار ميثاق إنشاء جامعة الدول العربية والذى من أهم بنوده أن فلسطين ركن من أركان الدول العربية وفي عهد تلك الوزارة ظهر وباء الملاريا في بلاد النوبة وفي مديريتي أسوان وقنا في صعيد مصر في أواخر عام 1942م نتيجة دخول بعوضة الجامبيا المسببة للمرض بواسطة الطائرات البريطانية التي لم تكن هناك عناية وإهتمام بتطهيرها وبحلول عام 1944م كان الوباء قد تفشي وبلغ عدد المصابين بهذا الوباء اللعين حوالي 250 ألف مصاب توفي منهم حوالي 20 ألف مصاب وعجزت الوزارة عن توفير الوقاية والعلاج من هذا المرض بشكل كافي وهو الأمر الذى تزامن مع النقص الشديد في السلع التموينية والذى وصل إلى حد المجاعة في بعض المناطق وقد إستغل القصر هذه المحنة في الصراع الدائر بينه وبين الوزارة التي فرضت عليه وكان يتمنى أن تواتيه الفرصة للتخلص منها فقام الملك فاروق مصطحبا أسرته بزيارة المناطق المنكوبة بوباء الملاريا في صعيد مصر وصاحبت تلك الزيارة هالة كبيرة من الدعاية والإشادة بعطف الملك على الفلاحين المنكوبين ورد النحاس باشا بزيارات وجولات مماثلة مما أغضب القصر وأثار حفيظة الملك فاروق وفي عهد هذه الوزارة أيضا قامت معركة العلمين الأولي والثانية بين قوات الحلفاء بقيادة الجنرال برنارد مونتجمرى وبين قوات المحور بقيادة الفيلد مارشال إرفين روميل ثعلب الصحراء وكانت التوقعات والتكهنات تشير إلى تفوق قوات المحور قياسا علي نتائج المعارك السابقة التي تعرض فيها الجيش الثامن الإنجليزي لهزائم قاسية إستدعت تغيير قيادته مرتين إلا أن تأخر وصول الإمدادات والوقود اللازم لمركبات ودبابات وطائرات قوات المحور أدى إلى عجزها عن مواصلة القتال وإضطر قائد هذه القوات الفيلد مارشال إرفين روميل إلى الإنسحاب بقواته نحو الغرب مستخدما تكتيكات وخطط ومناورات عسكرية فذة لكي يحافظ على قواته بأقل قدر ممكن من الخسائر وهو مانجح فيه إلي حد كبير وبذلك إنتهي خطر زحف قوات المحور في شمال أفريقيا وتنفست بريطانيا الصعداء بعد أن تخلصت من كابوس ظل جاثما علي صدرها لمدة طويلة مهددا وجودها في مصر والتي إن سقطت في يد الألمان لكانت كارثة كبرى لبريطانيا حيث سيتم قطع خطوط مواصلاتها إلي مستعمراتها في قارة آسيا وأهمها الهند بالقطع .

وكما أسلفنا القول فإن الملك فاروق كان متحفزا لوزارة الوفد برئاسة النحاس باشا التي فرضت عليه يوم 4 فبراير عام 1942م وكان هذا الأمر يمثل له جرحا غائرا ظل محفورا في ذاكرته طوال حياته وكان ينتظر بفارغ الصبر الفرصة المناسبة للتخلص من النحاس باشا ووزارته وفي يوم 12 أبريل عام 1944م قابل الملك فاروق السفير الإنجليزي السير مايلز لامبسون وأبلغه برغبته في تغيير الوزارة وأنه سيتم إسناد الوزارة إلى أحد الرجال الغير حزبيين الذي سيتعاون معه كما كان يتعاون معه النحاس باشا وأعد الملك بالفعل مرسوم إقالة الوزارة إلا أن السفير نجح في الضغط على الملك وأقنعه بضرورة الإنتظار حتي يأتي الرد من لندن وإضطر الملك للرضوخ حتي لايتكرر حادث يوم 4 فبراير عام 1942م وجاء رد لندن بأن إقالة حكومة يتمتع رئيسها بأغلبية في البرلمان الذى أمامه 3 سنوات لكي تنتهي مدته يعتبر عملا محفوفا بالمخاطر ولكن إذا رأى الملك حل البرلمان وإجراء إنتخابات جديدة فإن لندن لن تتدخل بشرط ألا يتولي رئاسة الوزارة أحد رجال القصر أو زعيم لا يحصل علي أغلبية برلمانية وكان معني هذا الرد ببساطة أن يحتكم النحاس باشا إلى الشعب فإذا جدد الثقة به عاد إلي الوزارة مرة أخرى وهو حل ما كان ليقبله الملك فأجل الأمر إلي حين وبعد مرور 5 شهور من المناوشات والصراعات الخفية والمعلنة وفي يوم الجمعة 15 سبتمبر عام 1944م كان الملك متوجها للصلاة في جامع عمرو بن العاص فلاحظ وجود لافتات مكتوب عليها يحيا الملك مع النحاس فأصدر أوامره إلى غزالي بك مدير الأمن بنزع اللافتات فورا والذى نفذ الأمر وفي مساء نفس اليوم أصدر النحاس باشا بصفته وزيرا للداخلية قرارا بإيقاف مدير الأمن عن العمل حيث دستوريا لا يصح أن ينفذ أوامر غير أوامر رؤسائه حتي ولو كان الملك نفسه وغضب الملك من هذا القرار وطالب بعودة مدير الأمن إلى عمله وتمسك كل طرف بموقفه وأصبحت أزمة حادة بين الطرفين وإنتظر كل طرف موقف السفارة البريطانية مما حدث وفي هذا الوقت كان مصير الحرب العالمية الثانية قد تم حسمه لصالح الحلفاء بنسبة كبيرة ولذا كان تدخل السفارة لصالح وزارة النحاس باشا سيكون أمرا من الصعب تفسيره كما أن غزالي بك مدير الأمن الموقوف عن العمل من الأشخاص المتعاونين مع الإنجليز وعلي ذلك كان ملخص موقف السفارة الإنجليزية أن حكومة صاحب الجلالة ملك بريطانيا العظمي تعتبر هذه الأزمة شأنا مصريا داخليا خالصا وليس لها أن تتدخل فيها وكان هذا يعني ببساطة إعطاء الضوء الأخضر للملك فاروق لكي يقيل الوزارة الأمر الذى كان الملك يحلم به طوال أكثر من سنتين وهو الأمر الذى تفهمه أيضا مصطفي النحاس باشا ومن ثم دعا إلي إجتماع عاجل للوزارة مساء يوم 8 أكتوبر عام 1944م لكي تتقدم الوزارة بإستقالتها وحتي يكون خروجها من الحكم علي نحو فيه جوانب وطنية حيث ستكون الإستقالة مسببة بحجة التدخل البريطاني السافر في الشئون المصرية الداخلية إلا أن الملك فاروق بادر في الساعة الخامسة والنصف مساء اليوم نفسه وقبل إجتماع الوزارة بساعات قليلة بإرسال مرسوم الإقالة إلي النحاس باشا مصاغا بعبارات مهينة وجافة وقاسية وبذلك ينسدل الستار علي وزارة مصطفي النحاس باشا .

وبإقالة وزارة النحاس باشا قام الملك فاروق بتكليف أحمد ماهر باشا رئيس الحزب السعدى بتشكيل الوزارة الجديدة ففي اللحظة التي كان يتسلم فيها النحاس باشا كتاب إقالة وزارته كان أحمد ماهر باشا رئيس الحزب السعدى يتسلم كتاب تكليفه بتشكيل الوزارة الجديدة وكان ذلك كما أسلفنا مساء يوم 8 أكتوبر عام 1944م وعلي الفور بدأ أحمد ماهر باشا في مشاورات تشكيل الوزارة وتعثرت تلك المشاورات في البداية بسبب مطالبة مكرم عبيد باشا بعدد من المناصب الوزارية لحزبه الكتلة الوفدية مماثلا للمناصب الوزارية التي ستحصل عليها الأحزاب الأخرى المشاركة في الوزارة لكن تدخل القصر ممثلا في أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي للتقريب بين الأطراف المختلفة وكللت جهوده بالنجاح وتم تشكيل الوزارة ومنذ اليوم الأول لتولي تلك الوزارة الحكم تبنت سياسة الهجوم الشرس علي الوفد وعلى النحاس باشا شخصيا بهدف القضاء علي شعبيتهما وتدميرهما وإقصائهما تماما بعيدا عن الحياة السياسية وتم إتهام النحاس باشا بأنه من أسوأ الديكتاتوريين وأنه كان يريد حكم مصر بأساليب هتلر وموسوليني القمعية كما أعلن مكرم عبيد باشا عن نيته في نشر المزيد من الفضائح والمطاعن عن النحاس باشا وزوجته وأسرتها لم يتضمنها كتابه الأول المسمى بالكتاب الأسود وعند هذا الحد تدخل السفير البريطاني ناصحا بهدف عدم التمادى في هذه السياسة التي وصفها بالتهور وعدم الحكمة وقد إستجابت الحكومة لنصيحة السفير البريطاني وتوقفت تلك السياسة بالفعل إلا أنها قامت بإلغاء كافة الترقيات والعلاوات والمعاشات الإستثنائية التي كانت قد أقرتها حكومة الوفد خلال المدة من شهر فبراير عام 1942م وحتي شهر أكتوبر عام 1944م وأعيد الكثير من الموظفين الذين إستبعدهم الوفد إلى أعمالهم وإحالة من تعاطف مع الوفد إلى المعاش وهكذا كان دأب الحكومات في تلك الفترة فالحكومة التي تتولى الحكم تغدق علي أنصارها وتميزهم وتضطهد أنصار خصومها فإذا تغيرت الحكومة وجاءت حكومة أخرى فعلت نفس الشئ بحجة رد المظالم إلي من أضيروا في عهد الحكومة التي سبقتها وهكذا وبالإضافة إلى ذلك تقرر تشكيل لجنة برئاسة مكرم عبيد باشا وزير المالية لفحص جميع القرارات والتصرفات المالية التي تم إقرارها في عهد حكومة الوفد السابقة والتي تمس نزاهة الحكم كما قررت الوزارة إطلاق سراح من كانوا رهن الإعتقال ممن تعاطفوا مع دول المحور وممن ساهموا في طبع الكتاب الأسود والذين تم إعتقالهم بموجب الأحكام العرفية التي كان قد تم إعلانها في بداية قيام الحرب العالمية الثانية في عهد وزارة علي ماهر باشا الثانية في شهر أغسطس عام 1939م .

وخلال المدة من شهر أكتوبر عام 1944م وحتي شهر يناير عام 1950م أي لمدة خمس سنوات وثلاثة شهور بعيدا عن الحكم وخلال هذه الفترة تفجر الصراع بين الوفد والإخوان خلال فترة حكم إسماعيل صدقي باشا ما بين شهر فبراير وشهر ديسمبر عام 1946م وكان الميدان الأساسى للمعركة هو القضية الوطنية والموقف من حكومة صدقى باشا فنتيجة لخطأ فى التقدير السياسى للإخوان وقفوا إلى جانب صدقى فى بداية عهده فقط بينما رفض الوفد بقيادة النحاس باشا التعاون معه وهاجموا حكومته منذ بداية عهدها غير أن هذا التعارض فى الموقف من حكومة صدقى لم يكن السبب الأساسى للصراع بين الوفد والإخوان بدليل أن إضطهاد صدقى للجميع بما فيهم الإخوان لم يؤد إلى توقف ذلك الصراع بل تزايد وقد أراد صدقى من تحالفه مع الإخوان تحقيق توازن مع الوفد فعرض على البنا أن يكون وزيرا للأوقاف لكن البنا رفض خوفا من أن يفقد نفوذه ومكانته كقائد ومرشد للإخوان وعمل الوفد على تشكيل جبهة موحدة فى مواجهة حكومة صدقى باشا فتم تكوين ما سمى باللجنة الوطنية للعمال والطلبة وهى تحالف ضم الوفد والشيوعيين ورفض الإخوان الإنضمام إلى تلك اللجنة وفضلوا العمل منفردين يؤازرهم فى أغلب الأحيان الحزب الوطنى وحزب مصر الفتاة وشكلوا ما عرف باللجنة القومية وبرر البنا وجهة نظر الإخوان فى الإبتعاد عن اللجنة الوطنية بقوله إن اللجنة التى ترى الرغيف أغلى من الحرية وتنادى بفصل مصر عن السودان لجديرة أن ينفض عنها وينفض يده منها الوطنيون الأحرار وعلى ضوء هذا التعارض بين الوفد والإخوان فى الموقف من حكومة صدقى باشا إشتد التنافس بينهما وشهدت المدن والأقاليم معارك بين أنصار الطرفين ففي يوم 6 يوليو عام 1946م إنتقلت الإشتباكات إلى بورسعيد وتبادل الطرفان الإتهامات وزار البنا المدينة ليخطب فيها، فإنفجرت قنبلة كادت أن تودى بحياته وهاجم الشباب الوفدى دار الإخوان وأشعلوا فيها الحريق فجرت معركة دموية بين أنصار الطرفين جرح فيها عدد 58 من الوفد وعدد 22 من الإخوان وفى منفلوط حاول الوفديون حرق دار الإخوان المسلمين وأطلقوا النار ليلا على محمد حامد أبوالنصر الرجل الذى أصبح رابع مرشد للإخوان فيما بعد وعقدت الجماعة مؤتمرا فى مسجد أبو النصر بمنفلوط فإعتدى الشباب الوفدى على المجتمعين وألقوا عليهم الحجارة وجرت أيضا إشتباكات دامية بين أنصار الطرفين فى السويس وخرجت الجماهير الوفدية بهتافات معادية للإخوان ونادت بسقوط الشيخ البنا صنيعة الإنجليز وفى ظل حملات متوالية من الهجوم شنتها صحافة الوفد على الإخوان بصفة عامة وعلى مرشدهم بصفة خاصة ألقى البنا خطابا فى إجتماع للإخوان أواخر شهر أغسطس عام 1946م تناول فيه علاقة الفريقين قائلا مازلنا نجهل الدافع إلى خصومة الوفد للإخوان فماذا جنى الإخوان وهاجم البنا الوفد والنحاس باشا قائلا أخطر ما فى الموقف أن يلجأ الإنجليز إلى إيجاد حكومة محايدة وتأليف وفد مفاوضات جديدة برئاسة النحاس وينتهى الأمر بالتوقيع على معاهدة المجد والفخار وتكون هى بعينها معاهدة الشرف والإستقلال الماضية لم يتغير فيها إلا بعض العبارات والألفاظ ويقصد البنا بذلك معاهدة عام 1936م التى وقعها مصطفى النحاس باشا وإنتقد البنا أيضا موقف الوفد المتهاون بخصوص القضيه الوطنية وعاب عليه أن يصرف جهده فى مهاجمة الإخوان وتجريح الأشخاص والسعى للوصول الى كرسى الحكم وأنه أهمل نتيجه لذلك الإهتمام بقضية الوطن بل أصبح عاجزا عن مجرد القيام بدور أحزاب المعارضة كما يحدث فى الدول الديموقراطية . ومن جانب آخر نشرت جريدة الإخوان اليومية على صدر صفحتها الأولى تصريحا للمرشد العام يحمل تهديدا للوفد وزعامته إذ قال سنستعدى عليهم سهام القدر ودعاء السحر وأكد على تميز جماعته بقوله إن الغد يختصنا بتبعاته وفى خضم ذلك التنافس جرت مفاوضات بين صدقى باشا والإنجليز حول الإستقلال ولكنها لم تصل إلى نتيجة وتحت الضغط الشعبى الرافض للمفاوضات وسحب الإخوان تأييدهم لوزارة صدقى باشا سقطت تلك الوزارة وتشكلت وزارة جديدة برئاسة محمود فهمي النقراشى باشا وفى يوم تأليفها نشر البنا مقالا دعا فيه الحكومة الجديدة إلى إختصار الطريق وإحترام إرادة الأمة وقطع المفاوضات والتقدم فورا لمحكمة العدل الدولية بطلب إلغاء معاهدة عام 1936م لمناقضتها مبادئ مثياق الأمم المتحدة ولزوال الأسباب التى دعت إليها ولأن الإنجليز أنفسهم نقضوها .

وفي هذه الفترة أيضا كانت وفاة صبرى أبو علم باشا سكرتير عام حزب الوفد صباح يوم 13 أبريل عام 1947م عن أربع وخمسين عاما وبضعة أيام وهو في كامل صحته وحيويته فأحدثت وفاته المفاجئة دويا هائلا في ذلك الحين وتسابقت أقلام الأدباء والشعراء تنعي الفقيد الى الأمة وخرجت مصر في موكب مهيب رهيب تودعه إلى مقره الأخير لكن الجماهير الغفيرة والتي إكتظت في المسافة مابين ميدان التحرير وجامع الكخيا بشارع إبراهيم باشا وهو شارع الجمهورية حاليا والذى شيعت جنازته منه وهي مسافة كبيرة قطعت صمتها الحزين بهتافات مدوية ضد نظام الحكم الحاضر آنذاك بقولها بلغ الظلم لسعد يا صبري والذى مات على مبادئ الوفد بخلاف غيره ممن تحولوا عن الحزب وقد شارك في جنازته رجال حزب الوفد وعلي رأسهم مصطفى النحاس باشا زعيم الوفد خاطبا في الجماهير كان صديقا وفيا ورجلا أبيا وعلى المساومين في حقوق الوطن جبارا عصيا وشارك أيضا في تشييع جنازته زعماء الأحزاب الأخرى ورؤسائها كما رثاه الكثير من الشعراء وحزنوا عليه حزنا شديدا ومن طرائف التاريخ أن مصطفي النحاس باشا ومكرم عبيد باشا حضرا جنازته وكانت قد دبت بينهما الخصومة منذ سنوات كما ذكرنا في السطور السابقة فوجدا نفسيهما يتعانقان وإذا بمكرم عبيد باشا يقول بصوت عال علي مرأى ومسمع من مشيعي الجنازة إذا مات صبرى أبو علم باشا فإن حب مكرم للنحاس باشا لا يموت وكان في تعانقهما دليل علي مكانة هذا الرجل الكبيرة في نفوس من يعرفونه وما إستدعاه الإيمان من الشعور بزوال الدنيا ولوعة الفراق وبعد وفاة صبرى أبو علم باشا كان من المفترض إختيار القطب الوفدى ورئيس مجلس النواب الوفدى عبد السلام باشا فهمي جمعة سكرتيرا عاما لحزب الوفد خلفا لصبرى أبو علم باشا إلا أنه كان مقيما بمدينة طنطا بصفة دائمة ولا يحضر إلي القاهرة إلا في أيام إنعقاد جلسات مجلس النواب وحيث أن هذا المنصب يستلزم أن يتواجد من يشغله بصفة دائمة في القاهرة لذا تم إختيار فؤاد سراج الدين باشا ليشغل هذا المنصب والذى إستمر يشغله حتي قيام ثورة يوليو عام 1952م وإلغاء الأحزاب السياسية وقد إستطاع أيضا أن يملأ الفراغ الذى تركه سلفه صبرى أبو علم باشا .

وقد تميزت الفترة منذ أوائل عام 1945م وحتي منتصف عام 1949م بالعديد من الأحداث الهامة وموجات العنف والإغتيالات بدأت بإغتيال رئيس الوزراء أحمد ماهر باشا في يوم السبت 24 فبراير عام 1945م أثناء إجتيازه البهو الفرعونى الذى يفصل بين مجلسي النواب والشيوخ حيث أطلق عليه محام شاب إسمه محمود العيسوى الرصاص فأصابه فى مقتل وعلل جريمته بأن أحمد ماهر باشا قد ضحى بمصالح بلاده بإعلان مصر الحرب علي دول المحور وقد تعرض النحاس باشا خلال هذه الفترة لعدة محاولات لإغتياله منها ما كان في يوم 6 ديسمبر عام 1945م وقام بها الشاب حسين توفيق الذي ألقى قنبلة على سيارة النحاس باشا أثناء مروره في شارع قصر العيني في طريقه إلى النادي السعدي وكان معه فؤاد سراج الدين باشا ولم يصبا بسوء في هذا الحادث ولم يعرف الجاني إلا بعدها بأسابيع عندما إعترف حسين توفيق بأنه مرتكب الحادث أثناء التحقيقات في قضية إغتيال أمين عثمان باشا وزير المالية الوفدى في شهر يناير عام 1946م أما المحاولة الثانية فوقعت في يوم 25 أبريل عام 1948م عندما تم تفجير سيارة ملغومة بجوار منزله بجاردن سيتي والذى يشغله الآن المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ولم يصب أحد في الحادث وإن كانت بعض أركان الدار قد تعرضت للتلف ولم يستدل على الجناة وأخيرا كانت المحاولة الثالثة في شهر نوفمبر عام 1948م حين هاجمت سيارة مسلحة النحاس باشا أثناء عودته إلى منزله مساءا وأطلقت عليه الرصاص فقتلت إثنين من حراسه وجرحت ثلاثة آخرين ولم يعرف الجناة أيضا وكانت هناك أيضا محاولة رابعة لإغتياله عن طريق نسف عربة القطار التي كان يستقلها عند عودته من مدينة العياط وتم إكتشافها وضبط الجناة قبل تنفيذ العملية وفي واقع الأمر فقد عبر النحاس باشا سنوات الإرهاب مابين عام 1945م وعام 1949م بسلام تلك السنوات التي حدثت بها العديد من حوادث الإغتيال ونجا بأعجوبة من محاولات إغتياله حتى قيل عنه إنه كان رجلا طيبا وفيه شئ لله وإنه كان مكشوف عنه الحجاب وشاع لدى محبيه الإستشهاد بالآية القرآنية التى تقول إن الله يدافع عن الذين آمنوا للدلالة على صيانة الله للزعيم الجليل وبالفعل فمن يراجع محاولات إغتيال زعيم الوفد يتعجب من تلك القوى الخفية التى كانت تكتب للرجل النجاة دون أن يمسه أى سوء فى كل مرة .

وعلاوة علي هذه الأحداث ففي عام 1947م قام أحد أفراد هذه جماعة الإخوان بإلقاء قنبلة بفندق الملك جورج بمدينة الإسماعيلية فإنفجرت وأصيب من شظاياها عدة أشخاص كما أصيب ملقيها نفسه بإصابات بالغة ثم قامت الجماعة بإغتيال القاضي أحمد الخازندار أمام منزله بضاحية حلوان جنوبي القاهرة يوم 22 مارس عام 1948م نظرا لإصداره بعض الأحكام القضائية بإدانة بعض أعضاء الجماعة في أحداث عنف وتفجيرات وفي يوم 15 نوفمبر عام 1948م أمسكت الشرطة سيارة جيب بها مستندات تخص جماعة الإخوان المسلمين عبارة عن مخططات تفجير وإغتيالات ومستندات كل عمليات التفجير التي كانت قد تمت في الآونة الأخيره فضلا عن بعض القنابل والمتفجرات والأهم من ذلك فقد تم القبض على ثلاثه من رجال الإخوان كان أهمهم مصطفى مشهور أحد الكوادر الكبيرة في الجماعة وفي يوم 4 ديسمبر عام 1948م قامت الجماعة بإغتيال اللواء سليم زكي حكمدار القاهرة أثناء وجوده علي رأس قواته في كلية الطب بجامعة فؤاد الأول بإلقاء قنبلة عليه من الطابق الرابع كما تم تفجير بعض العبوات الناسفة في أكثر من مكان فأصدر النقراشي باشا رئيس الوزراء حينذاك أمرا عسكريا فى يوم 8 ديسمبر عام 1948م بوصفه حاكما عسكريا بحل هذه الجماعة وإغلاق مقراتها والأماكن المخصصة لها حيث كانت قد إنحرفت عن أهدافها الدينية والإجتماعية كما جاء فى التقرير الذى قدمة وكيل وزارة الداخلية لشئون الأمن العام وفى يوم 28 ديسمبر عام 1948م وبينما كان النقراشى باشا فى طريقة إلى مكتبه بمبنى وزارة الداخلية وأثناء وقوفه أمام باب المصعد أطلق عليه شاب يرتدى زى ضابط برتبة ملازم أول عدد 3 رصاصات فى ظهره من الخلف وذلك بعد أن أدى له التحية أثناء مروره أمامه ثم أخرج مسدسه من سترته وأطلق عليه الرصاص فأرداه قتيلا في الحال وتبين أن القاتل طالب بمدرسة الطب البيطرى ويدعى عبد المجيد أحمد حسن وفى التحقيق معه إعترف بأنه عضو فى جماعة الإخوان المسلمين التي أسسها حسن البنا وأنه إرتكب الجريمة إنتقاما من رئيس الوزراء الذى أصدر الأمر السابق ذكره وفي أوائل عام 1949م حدثت موجات من أعمال الإرهاب والعنف تمثلت فى محاولة أحد الشبان نسف دار محكمة الإستئناف بباب الخلق وذلك بوضع حقيبة متفجرات فى أحد ممرات المحكمة وشاء القدر أن تنفجر قبل وصول الموظفين والمتقاضين وتم ضبط الجانى وكان ينتمى إلى جماعة الإخوان المسلمين وعلل جريمته بأنه كان يستهدف نسف مكتب النائب العام بما فيه من وثائق تدين بعض أعضاء الجماعة وفي مساء يوم السبت 12 فبراير عام 1949م أطلق مجهول عدة أعيرة نارية على حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين والمرشد العام لها بينما كان يغادر جمعية الشبان المسلمين بشارع رمسيس وبعد ساعات فارق الحياة وكان قد أصدر بيانا قبل شهر من مصرعه إستنكر فيه نزعة القتل والإجرام ودعا إلى الوئام وتوحيد الكلمة ولم يستدل على الجانى حتى الآن وإنتقاما لمقتله قام بعض من شباب الجماعة بالتخطيط لإغتيال رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادى باشا الذى خلف النقراشي باشا أثناء عودته إلي منزله بضاحية المعادى يوم 5 مايو عام 1949م ولكنها فشلت .

وفي شهر يوليو عام 1949م تم إختيار حسين سرى باشا لكي يترأس حكومة إنتقالية خلفا لوزارة إبراهيم عبد الهادى باشا وكان إختيار القصر لحسين سرى باشا لتأليف وزارة قومية في ذلك الوقت إختيارا محسوبا بدقة وذلك لأن فكرة تشكيل وزارة قومية كانت تتحطم كل مرة على صخرة رفض حزب الوفد لها فلذلك كان مطلوبا إختيار رئيس وزراء يثق فيه القصر ويقبله الوفد وفي نفس الوقت يستطيع التعامل مع الإنجليز بصورة مرضية لجميع الأطراف ومتوازنة وحقا فقد كان التاريخ السياسى لحسين سرى باشا يؤكد أنه يعد من السياسيين القلائل الذين يمكنهم تحقيق ماسبق فقد كان موضع ثقة الإنجليز وكان أيضا موضع ثقة القصر ثم إنه كان من الوجوه السياسية المقبولة لدى الوفد ذلك لأنه لم يكن فى أى وقت من الساسة الحزبيين المعادين للوفد أو لغيره من الأحزاب بوجه عام فقد ظل طوال حياته السياسية على إستقلاله ولذلك وقع الإختيار عليه لتشكيل الوزارة الجديدة بعد سقوط وزارة إبراهيم عبد الهادى باشا السابقة وكانت وزارته تضم عدد 4 وزراء من الوفديين وعدد 4 من السعديين وعدد 4 من الأحرار الدستوريين وعدد 2 من الحزب الوطنى وعدد 4 من المستقلين ومنذ البداية كان واضحا الإختلاف بين وجهة نظر كل من القصر ومعه أحزاب الأقلية من ناحية وبين وجهة نظر الوفد من ناحية أخرى فكانت وجهة نظر القصر من تأليف الوزارة على الشكل القومى الذى تألفت عليه تستهدف تكريس هذا الشكل والإبقاء عليه بهدف خلق نوع من التوازن الحزبى داخل الوزارة وبالتالى لايملك أى حزب أغلبية مطلقة فى البرلمان وعلى الجانب الآخر كان الوفد يرى أنه قد تحقق بالوزارة الجديدة شرطه التقليدى الذى طالما تمسك به وهو أن يرأسها سياسى محايد من أجل إجراء الإنتخابات البرلمانية في البلاد بالإضافة الى أن وجوده داخل الوزارة يتيح له نوع من الرقابة علي هذه الإنتخابات والتي كانت بالفعل على الأبواب وهو يرى أن نهاية هذه المشاركة سوف تكون لصالحه حتما بإنتخاب مجلس نواب وفدى وتأليف وزارة وفدية خالصة وعلي هذا الأساس وافق الحزب علي الإشتراك في الوزارة بعدد 4 وزراء كان منهم فؤاد سراج الدين باشا بإعتبار أنها وزارة إدارية مؤقتة مهمتها إجراء الإنتخابات البرلمانية وليست وزارة إئتلافية من الممكن أن تمكث طويلا فقد كان الوفد يرفض بإستمرار المشاركة في أى وزارة إئتلافية منذ عام 1928م عندما شاركه حزب الأحرار الدستوريين في الوزارة وتسبب الوزراء المنتمين لهذا الحزب في إسقاطها بإنسحابهم منها نتيجة الإختلافات في وجهات النظر وتباين المواقف نحو العديد من القضايا حسب رؤية وسياسة كل حزب خاصة وأن هذه الإختلافات كانت جذرية وعميقة في الكثير من الأمور .

وأجريت الإنتخابات البرلمانية في يوم 3 من شهر بناير عام 1950م وأسفرت نتيجة هذه الإنتخابات عن فوز حزب الوفد بأغلبية كبيرة حيث حصل على عدد 288 مقعدا وحصل المستقلون علي عدد 30 مقعدا والسعديون علي عدد 28 مقعدا والأحرار الدستوريون علي عدد 26 مقعدا والوطنيون علي عدد 6 مقاعد والإشتراكيون علي مقعد واحد ومما هو جدير بالذكر أنه قد شارك في عملية الإنتخابات هذه عدد 2 مليون و859 ألفا من بين الناخبين البالغ عددهم 4 ملايين و 105 ألف مواطن لهم حق التصويت أى بنسبة مشاركة بلغت حوالي 69.65% وهي نسبة لا بأس بها وتعد من أعلي نسب المشاركات في الإنتخابات منذ أول انتخابات برلمانية أجريت في مصر في عام 1924م وبعد ظهور نتائجها قدم حسين سرى باشا إستقالته وتم تكليف مصطفي النحاس باشا رئيس حزب الوفد بتشكيل الوزارة الجديدة وكانت وزارة وفدية خالصة وكان من أهم ماشملهم هذا التشكيل فؤاد سراج الدين باشا وزيرا للداخلية وعثمان محرم باشا وزيرا للأشغال العمومية ومحمد صلاح الدين باشا وزيرا للخارجية وأحمد حمزة باشا وزيرا للزراعة ومصطفي نصرت باشا وزيرا للحربية والبحرية وعبد الفتاح حسن باشا وزيرا للشئون الاجتماعية والدكتور طه حسين وزيرا للمعارف العمومية ومحمد زكي عبد المتعال باشا وزيرا للمالية وقد إنزعج القصر الملكي إنزعاجا شديدا وأحس أيضا بقلق شديد ليس لحصول الوفد على أغلبية فى البرلمان بين النواب الجدد فحسب وإنما أيضا أن تكون الأغلبية الوفدية في البرلمان كبيرة على هذا القدر وهو الأمر الذى دفع الملك فاروق إلى التعجيل بتعيين حسين سرى باشا رئيسا للديوان الملكي وذلك ليواجه معه الموقف المترتب على وجود مجلس نواب ذى أغلبية وفدية ساحقة وعلى الجانب الآخر كان حزب الوفد والذى عاني الأمرين من الصراع الذى كان يواجهه مع القصر الملكي سواء في عهد الملك فؤاد الأول أو في عهد الملك فاروق وكان يرى أن من حقه أن يكون في الحكم طالما كان هو صاحب الشعبية الأولي في البلاد وصاحب الأغلبية في مجلس النواب عند إجراء انتخابات نزيهة لا تتدخل فيها الإدارة فقرر في عهد وزارته الجديدة والأخيرة فى تاريخ الوزارات الوفدية والتى شكلها مصطفي النحاس باشا أن يلجأ إلي المناورة وأن يحاول عدم الإصطدام بالملك والوصول إلي طريق مسدود معه يترتب عليه صدور قرار بإقالة الوزارة من جانب الملك فاروق كما حدث في أواخر عام 1937م وفي شهر أكتوبر عام 1944م وذلك لكي يتفرع الوفد للمفاوضات الشاقة التي من المفترض أن بخوضها مع الجانب الإنجليزي من أجل تحقيق الجلاء الكامل للقوات الإنجليزية عن مصر .

ومن هذا المنطلق أخذت الوزارة الوفدية تقدم حلولا لنقاط الخلاف مع الملك وكانت هذه هي وجهة نظر الوفد وفي المقابل فقد نظر البعض إلي هذا الأسلوب علي أنه يعد تنازلا غير جائز للملك وأن الوفد أخذ يقدم تنازلا وراء الآخر للملك مما جعل بعض الكتاب المعاصرين يطلقون على هذه الوزارة وزارة الإستسلام للملك وأنه كانت معظم فترات الوزارة فى الحكم بمثابة شهر عسل بين الوزارة والقصر حيث حصل القصر على أول تنازل من الوزارة خلال مشاورات تأليفها فقد أصر الملك فاروق على تعيين الفريق محمد حيدر باشا وزيرا للحربية والبحرية إستمرارا له فى المنصب الذى ظل يشغله منذ أواخر شهر نوفمبر عام 1947م وكانت تقاليد الوفد لاتسمح بأن يشترك فى أى وزارة يؤلفها وزير غير وفدى وبدلا من أن يصر النحاس باشا على التمسك بهذا التقليد إلا أنه قد قدم حلا وسطا حتي تمر تلك الأزمة بسلام عن طريق تقديم إقتراح على إنشاء منصب جديد هو منصب القائد العام للقوات المسلحة بدرجة وزير ويكون له حق الإتصال المباشر برئيس الحكومة وتعيين حيدر باشا فى هذا المنصب وبذلك تكون الوزارة على هذا النحو قد احتفظت بحقها الدستورى من الناحية الشكلية وتنازلت عنه من الناحية الموضوعية الأمر الذى قبله الملك فاروق ووافق عليه ومن هذا المنطلق وفى إطار العلاقة بين الوزارة والقصر توالت وتعددت درجات تنازلات الوزارة للملك فاروق ومع هذه التنازلات المستمرة كان من المتصور أن تقضى الوزارة مع القصر شهر عسل طويل إلا أن التصور شئ والواقع شئ آخر فبالرغم من دفاع الحكومة عن رجال الملك فى قضية الأسلحة الفاسدة التي أثيرت في هذه الفترة إلا أنها تحت ضغوط الرأى العام والصحافة إضطرت في النهاية إلى فتح باب التحقيق في هذه القضية الشائكة والذى سار حثيثا حتى وصل إلى داخل القصر الملكي ومس بعض رجال الملك وكان الملك فاروق وقتها فى رحلة إلى الخارج فى صيف عام 1950م ولما عاد لم يكن ليقبل بما حدث فصمم على إبعاد وزير العدل من منصبه وكان لذلك أسوأ النتائج على العلاقات بين القصر الملكي والوزارة وعلى مستوى العمل التنفيذى وإجتماعات مجلس الوزراء على إمتداد عهد هذه الوزارة تشير محاضر إجتماعاتها إلى أنه فى شهر فبراير عام 1950م صدر مرسوم بإنشاء وزارة للشئون البلدية والقروية كما قرر المجلس تشكيل لجنة وزارية تضم عدد 5 وزراء للنظر فى إلغاء الأحكام العرفية المعلنة في البلاد منذ بداية حرب فلسطين في شهر مايو عام 1948م وفى شهر مايو عام 1950م صدر قانون برفع هذه الأحكام فى جميع أنحاء البلاد فيما عدا محافظتى سيناء والبحر الأحمر وبإحالة الجرائم العسكرية إلى المحاكم العادية وبمناسبة الإحتفال بعيد ميلاد الملك فاروق وبلوغه 30 عاما فى يوم 11 فبراير عام 1950م وافق المجلس على مذكرة وزير المعارف العمومية بإعادة الطلاب الذين فصلوا من جامعتى فؤاد الأول بالقاهرة وفاروق الأول بالإسكندرية والمعاهد الأخرى خلال المدة من شهر أكتوبر عام 1944م إلى يوم 8 فبراير عام 1950م .

وفي شهر مارس عام 1950م صدر قانون بإنشاء وزارة الإقتصاد الوطنى بهدف تدعيم إقتصاديات البلاد وتنمية الثروة القومية وتعيين حامد زكى باشا وزيرا للدولة وزيرا للإقتصاد كما تم الترخيص لوزير المواصلات بإنشاء عدد 1600 خط تليفونى جديد بسنترال القاهرة بتكاليف قدرها 70 ألف جنيه وأيضا صدر في عهد تلك الوزارة قانون تنظيم مزاولة مهنة الطب وجراحة الفم والأسنان وتضمن عقوبة تصل إلى الحبس مدة سنتين لمن يزاول المهنة دون أن يكون إسمه مقيدا بالجدول وصدر قانون بتعديل بعض أحكام قانون الجامعات لتشجيع الطلاب على الحصول على الشهادات النهائية ومواصلة الدراسة يقضى بمنح مكافأت للطلاب المتفوقين الذين ينتظمون في الدراسة من أجل الحصول علي درجة الليسانس أو البكالوريوس بواقع 30 جنيها مكافأة فى السنة على أقساط طوال مدة الدراسة ويشترط لمنح المكافأة النجاح فى إمتحان المسابقة الذى يعقد لهذا الغرض ومنح الطلاب الحاصلين على الليسانس أو البكالوريوس بتفوق مكافأة قدرها 120 جنيها بشرط أن يتعهد الطالب بمواصلة الدراسة فى الدراسات العليا كما صدر قانون مجانية التعليم الثانوى والفنى وكانت المجانية قبل ذلك مقررة لمن يحصل على 60% من الدرجات وفضلا عن ذلك وافق مجلس الوزراء على قانون تسعير المواد الغذائية ومستلزمات البناء والأدوية وقررت الوزارة إخراج السكر من نظام البطاقات وتوفير الكميات اللازمة منه للإستهلاك وقررت عقوبات لمخالفة الأسعار أو الإمتناع عن بيع السلعة غير المسعرة ومعاقبة المشترى الذى يشترى بأكثر من التسعيرة المعلنة والعفو عنه وعدم تنفيذ العقوبة عليه فى حالة التبليغ عنها أو الإعتراف بها كما صدر مرسوم بإنشاء مجلس للسياحة والمصايف والمشاتى برئاسة وزير الإقتصاد يختص بتنشيط السياحة الداخلية والخارجية وتحديد أسعار المحال العمومية بالمناطق السياحية وفى يوم 20 سبتمبر عام 1950م صدر قانون خاص بالجنسية المصرية نص على أن المصريين هم أعضاء الأسرة المالكة والمتوطنين فى الأراضى المصرية قبل أول يناير عام 1848م وحافظوا على إقامتهم حتى يوم 10 مارس عام 1929م والرعايا العثمانيين المولودين بمصر وقبلوا المعاملة بقانون القرعة العسكرية سواء بأدائها أو دفع البدل النقدى عنها كما صدر قانون بميزانية الدولة للسنة المالية 1950م / 1951م بلغت فيه المصروفات مبلغ وقدره 205 مليون و988 ألف جنيه بينما بلغت الإيرادات مبلغ وقدره 180 مليون و949 ألف جنيه .

وقد عادت الوزارة إلى سياستها التقليدية فى إنصاف الموظفين المنتمين للوفد عن طريق الإستثناءات فى التعيينات والترقيات والعلاوات فأعادت الإستثناءات القديمة التى صدرت من الوزارة الوفدية السابقة فى عام 1942م حتى عام 1944م والتى ألغتها وزارة أحمد ماهر باشا ومنحت هؤلاء الموظفين فروق المرتبات المستحقة وإعتمدت مليون جنيه لهذا الغرض وكانت وجهة نظر الوزارة أنها بذلك تعيد الحق لأصحابه الذين كان يقع عليهم الظلم والغبن في عهد وزارات أحزاب الأقلية وقد نال كل موظف على ضوء ذلك مبالغ بلغت فى كثير من الأحيان عدة ألوف من الجنيهات فكانت بمثابة مكافآت عدها البعض غير مشروعة وعلى أساس أنها بناءا علي إستثناءات غير مشروعة الأمر الذى أدى إلي إضطراب فى مجال العمل الإدارى والحكومي وسريان روح اليأس بين الموظفين وجدير بالذكر أننا نعرض هنا وجهتي النظر المتضادتين دون تحيز لطرف علي حساب الآخر ففي حقيقة الأمر كانت هذه القضية بمثابة دوامة وحلقة مفرغة تتكرر مع مجيء ورحيل كل الحكومات بدون إستثناء حيث كانت كل حكومة تحاول ترضية أنصارها علي حساب خصومها وهكذا وبينما كانت الأمور تجرى على هذا النحو فى علاقة الوزارة بالقصر وفي المجال الداخلي كانت تجرى أمور أخرى فى المجال الخارجي كان أهمها أمران أولهما الإتفاق مع الملك عبد العزيز ملك السعودية في ذلك الوقت علي أن توضع جزيرتا إيران وصنافير الواقعتان في مدخل خليج العقبة والتابعتان للمملكة العربية السعودية تحت الإدارة المصرية وكانت بحق هذه مناورة سياسية بارعة حيث بموجب ذلك ووفقا لقانون ترسيم وتحديد حدود المياه الإقليمية لكل دولة سيكون عرض خليج العقبة بالكامل مياه إقليمية مصرية وعليه فقد قامت مصر بغلق خليج العقبة أمام السفن المتوجهة إلى ميناء إيلات الذى أقامته إسرائيل علي رأس خليج العقبة بعد إستيلائها على مثلث أم الرشراش جنوبي صحراء النقب والواقع علي رأس خليج العقبة في شهر مارس عام 1949م وإقامتها لهذا الميناء وتقدمت إسرائيل بشكوى إلي الأمم المتحدة والتي أقرت بحق مصر بالسيادة علي مياهها الإقليمية وظل الخليج مغلقا أمام الملاحة إلى ميناء إيلات حتي العدوان الثلاثي عام 1956م حين إحتلت إسرائيل سيناء وكان ثمن خروجها منها في شهر مارس عام 1957م هو السماح لها بالمرور في خليج العقبة .

وكان الأمر الثاني الخاص بالمجال الخارجي الذى إهتمت به الحكومة الوفدية هو علاقتها بالإنجليز فقد إستأنفت الحكومة مباحثاتها مع الجانب البريطانى بعد شهرين فقط من تشكيلها في شهر مارس عام 1950م وكان قد تم تعيين سفير جديد لبريطانيا في مصر خلفا للسير رونالد كامبل هو السير رالف ستيفنسون وقد إستمرت المفاوضات طوال 19 شهرا وإنتهي الأمر إلي تعثر المفاوضات نتيجة تعنت وعناد الجانب الإنجليزي فتوقفت المفاوضات تماما وإنتهى الأمر بإلغاء معاهدة عام 1936م وإتفاقيتى الحكم الثنائى فى السودان بقرار منفرد من جانب واحد إتخذته الحكومة المصرية بعد موافقة البرلمان في شهر أكتوبر عام 1951م عندما وقف النحاس باشا في البرلمان مخاطبا أعضائه قائلا من أجل مصر وقعت معاهدة عام 1936م ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بالموافقة علي إلغائها وكان لهذا القرار خلفياته حيث رأت الوزارة أن مثل هذا القرار يمثل ضربة وطنية كبرى قد تمكنها من إستعادة بعض شعبيتها التى كانت قد فقدت الكثير منها لحساب الجماعات العقائدية التى كانت قد ظهرت فى هذه الفترة مثل الإخوان المسلمين والشيوعيين والإشتراكيين وأصدرت السفارة البريطانية في مصر بيانا أعلنت فيه تمسكها بالمعاهدة وأن الحكومة البريطانية تعتبرها سارية المفعول وقد زلزل إلغاء المعاهدة كيان بريطانيا فقد إجتمع فى اليوم التالى 9 أكتوبر عام 1951م هربرت موريسون وزير خارجية بريطانيا بكل مستشارى الوزارة وحضر الإجتماع بريان روبرتسون قائد القوات البرية فى الشرق الأوسط وأصدر الوزير بيانا يحتج فيه على إلغاء المعاهدة وأعلن الجنرال روبرتسون أنه سيطير إلى القاعدة البريطانية فى منطقة قناة السويس وفى مصر طلب السفير البريطانى السير رالف ستيفنسون من القادة البريطانيين لجيش الإحتلال الإجتماع به فى نفس اليوم فى الإسكندرية وإستمر الإجتماع حتى منتصف الليل وقامت الحكومة البريطانية بإلغاء الأجازات لجميع قوات جيش الإحتلال وفى الخرطوم طافت دبابات الجيش البريطانى فى الشوارع لإرهاب السودانيين فقابلوها بالهتافات بسقوط الاحتلال هذا وبموجب إلغاء المعاهدة تم إطلاق لقب ملك مصر والسودان علي الملك فاروق كما إمتدت موجات المد الوطنى وإرتفعت على نحو هائل فى أعقاب ذلك وقد قامت الحكومة بشكل غير رسمي بدعم هذه الموجات كما وفرت للعمال الذين إنسحبوا من خدمة القاعدة الإنجليزية بمنطقة القناة أعمالا بديلة ومن لم ينخرط منهم في عمل قررت له إعانة عاجلة حتي يجد عملا آخر ومع تصاعد أعمال العنف ضد القوات البريطانية في منطقة القناة تعددت مظاهر العنف من الجانب البريطانى وتمثل ذلك فى الحجر على حرية المواطنين المصريين بحجة أو بأخرى وفى دخول القوات البريطانية لمدن القناة وإحتلال بعض مناطقها بحجة البحث عن الفدائيين المصريين إلا أنها وصلت إلى أقصي مداها بالمذبحة التى قامت بها القوات البريطانية والتى إستخدمت فيها الأسلحة الثقيلة ضد قوت بلوكات النظام فى محافظة الإسماعيلية صباح يوم الجمعة 25 يناير عام 1952م عندما حاصرت القوات الإنجليزية مبني محافظة الإسماعيلية وطالبت قوات الشرطة بالإستسلام وتسليم اسلحتها وتم الإتصال بوزارة الداخلية في القاهرة وصدرت إليهم التعليمات بالصمود وعدم الإستسلام وقامت معركة غير متكافئة حيث واجهت قوات الشرطة ببنادقها البسيطة مصفحات ومدرعات ودبابات الإنجليز وإنتهت تلك المعركة بخروج قوات الشرطة المصرية من مبني المحافظة بدون إستسلام مرفوعة الرأس وكان علي رأسهم اليوزباشي أى النقيب مصطفي رفعت وإستشهد منهم عدد 50 شهيدا وأصيب عدد 80 منهم بجراح وقدم لهم الجنرال إكسهام قائد القوات الإنجليزية التحية العسكرية هذا ويحتفل رجال الشرطة ومصر كلها فى مثل هذا اليوم من كل عام بهذه الذكرى العطرة ويعتبرونه عيدا للتضحية والفداء من أجل مصر .

وكان لهذه المذبحة ردود فعل واسعة كان أخطرها ماحدث فى العاصمة القاهرة فى اليوم التالى مباشرة السبت 26 يناير عام 1952م من إحراق عدد من المؤسسات والمحال والمبانى والمنشآت الهامة في وسط المدينة فيما هو معروف بحريق القاهرة والذى كان بمثابة نهاية لآخر وزارة حزبية قبل قيام ثورة يوليو عام 1952م كما كان بمثابة بداية النهاية والإحتضار للنظام الملكي كله وبالإضافة إلي ذلك ففى الساعة السادسة من صباح نفس اليوم السبت 26 يناير عام 1952م تمرد جنود بلوكات النظام فى العباسية وخرجوا يحملون أسلحتهم وساروا فى مظاهرة شبه عسكرية بشوارع القاهرة حتى وصلوا الى جامعة فؤاد الأول سابقا القاهرة حاليا وهناك إختلطوا بطلاب الجامعة وسار الجميع وقد إنضمت إليهم فئات عديدة من الشعب إلى رئاسة مجلس الوزراء وفى فناء المجلس أعلنوا إحتجاجهم على ماحدث لزملائهم بمدينة الإسماعيلية على أيدى القوات البريطانية في اليوم السابق وطالبوا بالسلاح لمواصلة الكفاح وقتال الإنجليز وتطورت الأحداث التى أدت إلى مزيد من الحرائق بالقاهرة وهو الحادث الذى لم تعرف أسبابه حتى الآن والحقيقة إن الحرائق كان من الممكن السيطرة عليها فى بدايتها ولكن ثورة الشعب العارمة والسخط الشعبي المتزايد والذى كان قد بلغ مداه قد زادتها إشتعالا حتي قيل إن شرارة الغضب قد أشعلت من الحريق فى القاهرة أكثر مما أشعلته يد التدبير الآثمة الخفية التى بدأت عملية الحريق وكان آخر إجتماع للوزارة الوفدية القائمة قد تم عقده مساء يوم السبت 26 يناير عام 1952م وكان قد تقرر نزول قوات الجيش إلي شوارع القاهرة للسيطرة على الحالة الأمنية قبله وكانت القاهرة مشتعلة فى ذلك اليوم كما أسلفنا وقد عقد الإجتماع بمنزل النحاس باشا بحي جاردن سيتي بالقاهرة وفى الساعة العاشرة والنصف أذاعت الوزارة مرسوما وقعه الملك بإعلان الأحكام العرفية فى جميع أنحاء البلاد بداية من مساء هذا اليوم وتعيين رئيس الوزراء مصطفي النحاس باشا حاكما عسكريا عاما وكان أول قرار أصدره بهذه الصفة منع وحظر التجوال في العاصمة القاهرة وضواحيها وبندر الجيزة منعا باتا فيما بين الساعة السادسة مساءا والساعة السادسة من صباح اليوم التالى وإغلاق المحال التجارية فى هذه الفترة كما أصدر أمرا بمنع التجمهر وبإعتبار كل تجمهر مؤلف من 5 أشخاص فما يزيد مهددا للسلم والأمن العام ويعاقب كل من يشترك فيه بالحبس مدة لاتزيد على سنتين وهكذا كان آخر عمل للوزارة إعلان الأحكام العرفية نظرا لما وصلت إليه الحالة الأمنية بالبلاد .


وفي صباح يوم الأحد 27 يناير عام 1952م تسلم النحاس باشا فى منزله كتاب إقالة وزارته موقعا عليه من الملك وأسدل بذلك الستار علي آخر وزارة شكلها حزب الوفد وكانت كذلك آخر وزارة حزبية خلال العهد الملكي كما أسلفنا القول وكلف الملك فاروق علي ماهر باشا بتشكيل الوزارة الجديدة دون إبطاء وفي أسرع وقت ممكن وعلي عجل ويتبقي لنا أن ننوه أنه كانت من الأحداث الهامة في تلك الفترة تعيين حافظ عفيفي باشا ذو الميول الإنجليزية رئيسا للديوان الملكي خلفا لحسين سرى باشا وكان ذلك متزامنا مع تصاعد حركة الكفاح المسلح في القناة وهو الأمر الذى أثار سخط الشعب والوزارة وضباط الجيش وكان أيضا من أحداث تلك الفترة الزواج الثاني للملك فاروق حيث تزوج من الملكة ناريمان يوم 6 مايو عام 1951م وأيضا مولد ولي العهد الأمير أحمد فؤاد الثاني فى يوم 16 يناير عام 1952م وقد سجل إسمه فى السجل الخاص بأولاد الأسرة المالكة برئاسة مجلس الوزراء كما صدر أمر ملكى بإطلاق لقب أمير الصعيد على الأمير الصغير ولم تمكث وزارة علي ماهر باشا طويلا في الحكم حيث إستمرت فقط 5 أسابيع ةلتخلفها وزارة أحمد نجيب الهلالي باشا في يوم أول مارس عام 1952م وقد شنت هذه الوزارة هجوما شرسا علي الوفد وعلي النحاس باشا رافعة شعار التطهير والقضاء علي الفساد وقد ظلت في الحكم حتي أواخر شهر يونيو عام 1952م وخلفتها وزارة حسين سرى باشا والذى لم يمكث في الحكم سوى حوالي 3 أسابيع ليخلفه أحمد نجيب الهلالي باشا مرة أخرى أى أنه قد تعاقبت بعد وزارة الوفد الأخيرة في غضون 6 شهورعدد 4 وزارات مما يدل ويشير إلي أن الملك فاروق كان لايطيق أن يرى وزارة تبقى مدة طويلة فى الحكم بل كان يميل دائما إلى التغيير والتبديل والتلاعب بالوزارات دون مبرر بل لمجرد إستمتاعه بالعبث بالوزراء والوزارات وكذلك فقد كان هذا دليلا دامغا علي التخبط والعشوائية والإضطراب في إدارة شئون البلاد وهو الأمر الذى أدى بالضرورة إلي سقوطه وسقوط النظام الملكي برمته في النهاية فلا يلومن إلا نفسه وكانت وزارة الهلالي باشا الأخيرة من أقصر الوزارات عمرا في التاريخ فلم تدم اكثر من 188 ساعة ففي صباح اليوم التالي الأربعاء 23 يوليو عام 1952م وقبل أن تكمل الوزارة يوما كاملا في الحكم أى 24 ساعة قامت ثورة الجيش وتم إقالتها وتكليف علي ماهر باشا بتشكيل الوزارة الجديدة وبذلك إنسدل الستار علي العهد الملكي نهائيا وكان النحاس باشا خارج مصر حينذاك ويحكي في مذكراته إنه كان في أوروبا عندما إندلعت ثورة يوليو عام 1952م وكان وقتها في الثانية والسبعين من عمره وعلى الرغم من مرضه، فإن فرحته كانت غامرة بأنباء الحركة المباركة فقرر قطع رحلته والعودة إلي مصر بأي ثمن حتى لو كان عبر ركوب طائرة وهي الخطوة التي كان يتهيب منها ولم يفعلها طوال حياته وما أن وصل النحاس القاهرة حتى زار مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في كوبري القبة وكانت الساعة قد بلغت الثانية بعد منتصف ليلة 28 يوليو عام 1952م وعلي الرغم من التوقيت المتأخر عقد مع الضباط إجتماعًا إيجابيا تبادلوا فيه التهاني والدعوات بالتوفيق مما بشر بعلاقة مميزة ستنشأ بين الطرفين .

ولا عجب أن يحصد النحاس وحزبه كل هذه الأهمية فهو حامل راية سعد زغلول باشا وآخر عنقود زعماء ثورة عام 1919م الباقين على الساحة ورئيس حزب الأغلبية طوال ربع قرن وصاحب آخر حكومة وفدية حكمت مصر قبل الإطاحة بها في يوم 27 يناير عام 1952م وهي الحكومة التي أتت إلى سدة الحكم عقب انتخابات حرة ونزيهة حقق بها حزبه فوزا ساحقا على كل منافسيه وحصد 296 مقعدا بالبرلمان عجزت كل الأحزاب المنافسة عن جمع ربعها وعندما جاءت ثورة يوليو عام 1952م كان من المتصور في أول الأمر أن الثورة قد قامت لتأتي بالنحاس باشا إلى الحكم وعموما فقد بدأت لعلاقة بين الوفد ورجال الثورة ودية لكن بمرور الوقت ظهرت التناقضات بينهما حيث كان الوفد يرى أن الواجب الأول والأخير للضباط هو إقامة إنتخابات نيابية حرة ثم العودة بعدها إلى ثكناتهم مجددا أما التناقض الثاني فكان بسبب قانون الإصلاح الزراعي بعدما إنقسم حزب الوفد على نفسه لجبهتين واحدة أيدت تحديد الملكية وأخرى نادت بفرض الضرائب التصاعدية تزعمه فؤاد سراج الدين باشا ومن المفارقة أن النحاس باشا كان مؤيدا للفريق الأول إلا أن تمسكه بوجهة نظره بتخلي الضباط عن الحكم وإعادة إعمال دستور عام 1923م سبب الفراق بينه وبين عبد الناصر والذين معه وفي ذلك الوقت كانت أبواق الثورة تهتف في كل مكان أنها ستقيم حياة نيابية سليمة وهذه الكلمة الأخيرة بالذات دمرت علاقة النحاس والضباط لأنها نتج عنها حملة تشهير ضد الحياة النيابية السابقة التي وصفت بأنها غير سليمة والتي كان النحاس وحزبه إحدى دعائم أركانها وفي يوم 31 يوليو عام 1952م بثت الإذاعة بيانا من القيادة العامة دعت فيه الأحزاب لتطهير صفوفها من الفاسدين كما فعل الجيش وإعلان برامج محددة يتم تقديمها إلى الشعب وهو القرار الذي تعامل معه الوفد بخفة وإكتفى بفصل 12 عضوا ثانويين ولم يقم بتغييرات جذرية في هيكل أعضائه وخلال هذه الفترة لعب أحد ألد أعداء النحاس دورا أساسيا مؤثرا في زيادة الفجوة بين الطرفين وهو سليمان حافظ نائب رئيس مجلس الدولة وهو الرجل الذي إقترح على الضباط تشكيل مجلس وصاية بعد طرد الملك خوفا من الإضطرار إلى دعوة مجلس الأمة الوفدي أو إجراء إنتخابات جديدة ستعيد الوفد حتما لسدة الحكم وفي واقع الأمر كان سليمان حافظ يكن حقدا دفينا على النحاس وحين تم تكليفه بتقديم مشروع قانون تنظيم الأحزاب السياسية قدم مشروعا كان يقصد من ورائه هدم حزب الوفد ورئيسه مصطفى النحاس باشا أولا وأخيرا وعلى الرغم من معارضة الدكتور عبد الرزاق السنهوري باشا رئيس مجلس الدولة لهذا المشروع بإعتباره مخالفا للدستور تم إقرار المشروع من منطلق الإقتناع بأن الأحزاب الفاسدة لا يمكنها أن تقيم ديموقراطية برلمانية سليمة وإعتبرت بموجبه جميع الأحزاب منحلة منذ صدوره وعلي أن يعاد تأسيسها من جديد وفقا لأحكامه وتسبب صدور القانون في قيام معركة طاحنة أصدر بموجبها النحاس باشا بيانًا قال فيه إنني أعد نفسي ملكا للشعب وقد كانت ثقتي في الشعب وثقته في شخصي طوال حياتي السياسية عوني على الشدائد وظهري في العيش وسأظل ما بقي من عمري ملكا لهذا الشعب الوفي ولن تستطيع قوة أن تنحيني عن هذه المكانة بعد الله جلت قدرته إلا الشعب دون سواه والله ولي التوفيق وعلى الرغم من إستجابة الوفد لهذا القانون حيث تنحى النحاس لأول مرة عن رئاسة حزبه وإكتفى بأن يكون رئيسا فخريا له إلا أن هذا لم يرضِ ضباط يوليو فتم الإعتراض على هذه الإستجابة بدعوى أن بقاء النحاس باشا على رأس الوفد مخالف لقانون تنظيم الأحزاب وبعد ذلك وفي شهر أبريل عام 1954م أُطلق ما يمكننا تسميته قانون مصطفى النحاس الذي نص على حرمان أي شخص تولى منصبا وزاريا خلال فترة ما قبل 23 يوليو عام 1952م وكان منتميا للوفد أو الأحرار الدستوريين أو الحزب السعدي من ممارسة العمل السياسي وبالطبع كان النحاس باشا على رأس المعاقبين بمقصلة هذا القانون إضافة إلى العشرات غيره .

وعلى هامش هذا التباين المتصاعد تصاعَد خلاف آخر بين عبد الناصر ومحمد نجيب على إثره أرسل الأول الدكتور طه حسين وزير المعارف في آخر حكومة ترأسها النحاس باشا قبل الثورة إليه وطلب منه أن يعلن تأييده لعبد الناصر إلا أن زعيم الوفد رفض فأدرك عبد الناصر حينذاك أن الساحة لا تتسع لزعيمين وعلى واحد منهما فقط أن تلقي عليه الجماهير الورود خلال سيره بالشارع وخرج هذا التوتر سريعا إلى العلن وقرر بموجبه عبدالناصر أن يتقدم خطوة إضافية وقدم لمحمد نجيب كشفا بأسماء بعض الزعماء السياسيين الذين إعتبرهم خطر على النظام وطالب بضرورة إعتقالهم ولما كان سجن زعيم شعبي كالنحاس باشا أمرا مستحيلا فإكتفى بطلب تحديد إقامته وهو ما رفضه نجيب فورا ولم يوقّع الكشف إلا بعد إزالة إسم زعيم الوفد منه غير أن عبد الناصر أعاده بعدها دون عِلمه وكان ذلك أحد أسباب تقديم نجيب لإستقالته في شهر فبراير عام 1954م وهو الأمر الذى تراجع عنه عقب إندلاع المظاهرات في مصر والسودان وفي هذه الفترة أكثر محمد نجيب من جولاته الجماهيرية وتقرب إلى الناس وحاول أن يكون نسخة محسَنة من مصطفى النحاس مما أكسبه شعبية واسعة وهو الأمر الذي أثار القلق لدى جمال عبد الناصر والزملاء في القيادة وردد صلاح سالم عضو مجلس قيادة الثورة كذبا أن بعض السياسيين القدامى يتعاونون مع أمريكا من أجل إعادة الملك فاروق مجددا وإدعي أنه يمتلك وثيقة تثبت هذا الكلام فتقرر تشكيل محكمة الثورة التي تشكلت من عدد 3 أعضاء هم عبد اللطيف البغدادى وحسن إبراهيم وأنور السادات وتم القُبض على إبراهيم عبد الهادي باشا وعلي إبراهيم فرج مسيحة باشا بتهمة التآمر مع أمريكا وكذلك كانت هناك محاولة لتقديم النحاس باشا لذات المحاكمة لكنها لم تنجح وحقا فإن خليفة سعد زغلول باشا نجا من بهدلة قضبان السجون إلا أن إجراءات التنكيل به وقصقصة ريشه إستمرت فبقي سجين داره محدَد الإقامة علاوة على إنطلاق حملات تشهير عنيفة ضده وضد زوجته زينب هانم الوكيل حيث نشرت جريدة أخبار اليوم سلسلة مقالات عنيفة ضدها كما نشرت مجلة روز اليوسف تقريرها الشهير الذي شككت به في مصادر ثروتها بعنوان كم تبلغ ثروة السيدة حرم الرئيس مصطفى النحاس وبعدها صدر قرار بتقديمها إلى محكمة الثورة بتهمة إفساد الحياة السياسية والتدخل في شئون الحكم وعوقِبت بمصادرة كل ممتلكاتها وإعراب المحكمة عن أسفها لموقف السيد مصطفى النحاس إزاء تصرفات زوجته وسماحه لها بالتدخل في شئون الحكم وعلاوة علي ذلك فقد تم أيضا تقديم أقرب المقربين له وهو إبراهيم فرج إلى محكمة الثورة وعلي الرغم من أنه كان يحاكم بتهمة الإنتماء لجماعة سرية ذات نظام هدام فإن التحقيقات معه تركزت على طبيعة علاقته بالنحاس وكأنه يعاقب بسببها حتى أن محاميه الدكتور محمد صلاح الدين قال خلال الجلسات هل يخاف أحد من النحاس وهو في هذه السن أمثل هذا الرجل المريض المتقدم في السن تخاف منه الثورة وصدر الحكم على إبراهيم فرج بالأشغال الشاقة المؤبدة ثم تخفف الحكم إلى 15 عاما وقد شعر الجميع أن المحاكمة الحقيقية لا تجري لزينب الوكيل ولا لإبراهيم فرج وإنما كانت لشخص آخر وهو النحاس باشا .

وعلي الرغم من أنه قد إتضح أن صلاح سالم يكذب وأنه لا يمتلك أي وثيقة تفيد تخابر أي شخص مع أمريكا كما إدعي حكمت المحكمة على عبد الهادي باشا بالإعدام فرفض محمد نجيب وخالد محيي الدين التصديق على الحكم وبعد ذلك إستكملت هذه المحكمة مهامها ضد الوفد وقياداته وبقايا التنظيمات السياسية ومن ضمنهم فؤاد سراج الدين باشا وبعدما إنتهت جلساتها كانت معظم تلك القيادات خلف قضبان السجون وقد دفعت هذه الإجراءات القمعية أحد القيادات الوفدية وهو المجاهد إبراهيم طلعت للتخطيط لإغتيال زعماء حركة يوليو وعلى رأسهم جمال عبد الناصر إلا أن النحاس باشا قد عارضه بشدة قائلا إن الغدر والإغتيال لا يقيمان دولة ولا يردان حقا وبعد إنتهاء أزمة مارس عام 1954م وعدول محمد نجيب عن إستقالته تم الإفراج عن المعتقلين وألغي تحديد إقامة الزعيم مصطفي النحاس وأراد محمد نجيب أن يتأكد بنفسه من تنفيذ قرارات الإفراج فإتصل بالنحاس وقال له لعلك راض الآن يا رفعة الرئيس فأجابه النحاس راضٍ عن ماذا أنتم أفرجتم عن كل الناس بينما ضوعفت الحراسة علي شخصي فرد نجيب مطمئنا إياه إن شاء الله قريبًا سيزول هذا الغبار وإنتهت المحادثة بسؤال عن صحته وعن صحة السيدة زوجته ولم يكن نجيب يعلم أن هذا الغبار لن يزول وإنما سيمتد ليغطيه هو نفسه فعقب حادث المنشية في شهر يوليو عام 1954م صدر في يوم 15 نوفمبر عام 1954م قرارا بإعفاء اللواء محمد نجيب من مناصبه وكانت المفارقة أنه تم تحديد إقامته في فيلا زينب هانم الوكيل زوجة النحاس باشا بالمرج وهو القصر الذي كانت قد أعدته لنفسها ثم صادرته منها محكمة الثورة وهكذا زامل نجيب النحاس باشا في الإقامة الجبرية كما تمت مصادرة أموال النحاس باشا وأصبح الزعيم يواجه أزمة تغطية نفقات منزله ومعاشه لا يتجاوز 120 جنيها فإضطرت السيدة حرمه لأن تبيع ما تمتلكه من حليها الذهبية وبعض قطع أثاث منزلها لمواجهة أعباء المرض التي بدأت تزحف عليهما بشكل خطير وإضطر الزعيم إلى التخلص من سيارته بالبيع وتخفيض عدد القائمين على خدمته لعجزه الشديد عن مواجهة أعبائه المالية المتزايدة وبحلول عام 1955م أصبح زعيم الأمة سابقا عاجز تماما عن مواجهة أعباء حياته فإضطر إبن شقيقته محمود شوقي سكرتير عام مجلس الوزراء سابقا إلى تكليف إثنين من سكرتارية الزعيم السابقين بالسفر إلى الوجهين القبلي والبحري لجمع تبرعات من أعضاء الهيئة الوفدية السابقين للزعيم ولما علم فؤاد سراج الدين باشا بهذا الأمر أمر بصرف 400 جنيه شهريا ترسل إلى منزل الزعيم ويحكي النحاس هذا الموقف في مذكراته قائلا جاءنى عثمان محرم وأحمد حمزة وفؤاد سراج الدين وبدأ فؤاد الحديث قائلا أنت تعلم أن عبد الناصر قد إستولى على جميع ما تملكه السيدة حرمك وأن المعاش لا يكفيك ولا يفي بمطالبك الضرورية ونحن والحمد لله لا يزال لدينا ما يزيد عن حاجتنا ولطالما غمرت المحتاجين منا ومن أعضاء الهيئة الوفدية وأنصار الوفد بعطفك وفضلك كعهدنا بك كما عودتنا أن تنزل عند رأي الجماعة وقد قررنا أن نساهم معك فى بعض النفقات ونرجو ألا ترفض طلبنا ولم يستمر هذا المعاش كثيرا لأن الحراسة فُرضت على فؤاد سراج الدين وحينها بزغت فكرة اللجوء لعبد الناصر شخصيا لإنقاذ عدوه اللدود من الضنك وهنا يمدنا التاريخ بروايتين الأولى في مذكرات النحاس بأن زوجته زينب هانم الوكيل إتصلت بعبد الناصر مباشرة وطلبت منه صرف معاش كي لا يهان زوجها في أخريات أيامه ولا يجد ثمن الدواء الذي يعالج به فإستجاب لها وأمر بصرف مبلغ 300 جنيه شهريا أما الرواية الثانية فمفادها أن فؤاد سراج الدين هو الذي بادر بالإتصال بمكتب الرئيس عبد الناصر لشرح الظروف الأليمة التي يمر بها رفعة الباشا فسمح له بمبلغ 250 جنيها شهريا .

وبقي النحاس باشا ما تبقي له من العمر معتزلا الحياة السياسية ومقيما في منزله بجاردن سيتي حتي وافته المنية في يوم 23 أغسطس عام 1965م عن عمر يناهز 86 عاما بعد 12 عاما قضاها حبيس منزله ومن عجائب الأقدار أنه نفس اليوم الذى توفي فيه الزعيم سعد زغلول باشا الرئيس الأول للوفد في عام 1927م وفور الإعلان عن وفاة الزعيم مصطفي النحاس باشا تدفق الآلاف على بيته في جاردن سيتي وراحوا يبكونه بحرارة وإنطلقت جنازته والجماهير تهتف له إلى جنة الخلد يا نحاس ولا زعيم إلا أنت وإشكي لسعد الظلم يا نحاس وفشلت الشرطة في السيطرة على الموقف فسارت الجنازة من جاردن سيتي إلى التحرير وعبر شارع سليمان باشا سابقا وهو شارع طلعت حرب حاليا إلى شارع صبري أبو علم ثم تمت الصلاة عليه في جامع الكيخيا بشارع الجمهورية ثم إنطلقت الجنازة نحو مسجد الإمام الحسين حيث صلى عليه مرة ثانية والناس تبكي ولا تكاد تصدق وهي تهتف يا إبن بنت الزين جالك الحبيب الزين فى إشارة إلى الإمام الحسين إبن بنت رسول الله صلي الله عليه وسلم وإنطلقت بعد ذلك السيارة التي تحمل الجثمان إلى مقابر البساتين حيث صلي عليه للمرة الثالثة قبل أن يدفن في مقبرته هناك وكان عبد الناصر حينذاك في زيارة للملكة العربية السعودية وعلم أن توديع الصحافة العالمية له كان رهيبا بينمل لم تخصص الصحف المصرية الصفحات الملائمة للحديث عن تاريخ هذا الرجل وأمجاده حتى أن الملك فيصل ملك المملكة العربية السعودية حينذاك قال له لقد كان النحاس باشا رجلا عظيما فاضلا وهنا صمت عبد الناصر فهذه المرة قراراته العقابية بحق الرجل لن تستطيع ملاحقته إلى الدار الآخرة ولما عاد إلي مصر إعتبر أن خروج كل هذا الحشد بالجنازة هو ثورة على النظام فأصدر أمرا بالقبض على كل القيادات الوفدية السابقة التي سارت في الجنازة وقضي بعضهم في السجن عامين والبعض الآخر لم يخرج إلا بعد حوالي 6 سنوات في عهد السادات ولم تكن هذه الجنازة هي المشهد الأخير بين زعيمي مصر وإنما جمعتهما لمرة أخيرة أغنية ظهرت في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين الماضي وهي أغنية مصطفى يا مصطفى التي كتب كلماتها شاعر غير معروف في الوسط الفني وهو سعيد المصري ولحنها الموسيقار الفذ الراحل محمد فوزي وأراد الأخير أن تغنيها المطربة العالمية داليدا لكن ظروفًا إنتاجية منعتها من إتمام التجربة فرشحت شقيقها برونو مورو الذي غير اسمه بمجيئه إلى مصر ليصبح أورلاندو وغناها برفقة المطرب السكندري الشهير ببوب عزام وحقق هذا العمل نجاحا ساحقا وتم توزيع الملايين من نسخها حول العالم إلا أن مصر قررت عدم إذاعتها حينذاك بدعوى أن كلماتها تمتدح في النحاس باشا وتتحسر على مرور 7 أعوام من سقوط الملكية بناء على قرار الرقابة التي كان يرأسها آنذاك الروائي الشهير نجيب محفوظ ولكنها عادت للظهور مرة أخرى مع وفاة الزعيم مصطفي النحاس باشا .

وبعد أن إستعرضنا الرحلة الطويلة من النضال والكفاح والعمل من أجل الوطن للزعيم مصطفي النحاس باشا والتي نسي خلالها حياته الشخصية حيث نجده قد ظل أعزبا حتي قارب علي سن 55 عاما نذكر جانبا من حياته الشخصية حيث أنه بعد سنين الكفاح والنفي قرر الزعيم مصطفى النحاس باشا الزواج ورشح له صديقه ورفيق كفاحه حينذاك مكرم عبيد باشا زينب هانم الوكيل إبنة عبد الواحد الوكيل والذى كان من أعيان مديرية البحيرة وكانت صديقة لزوجته وتم عقد القران في يوم 12 يونيو عام 1934م قبل يومين من بلوغ النحاس باشا سن 55 عاما حتي يكون من حق زوجته معاشه بعد وفاته وكانت زينب هانم الوكيل إمرآة قوية وذكية وتنتمي إلي الطبقة الأرستقراطية وفي محاولات خصوم الوفد والنحاس باشا سواء خلال العهد الملكي أو بعد قيام ثورة يوليو عام 1952م النيل منهما إتهمت هذه السيدة الفاضلة يأمرين الأول كونها المسؤولة عن الخلاف الذي وقع بين مصطفى النحاس باشا رئيس حزب الوفد وبين مكرم عبيد باشا سكرتير عام الوفد ذلك الخلاف الذي أدى إلى إصدار مكرم عبيد الكتاب الأسود بعد خروجه من الوفد والذي هاجم فيه سياسات مصطفى النحاس أما الإتهام الثاني هو الزعم بأنها إستغلت نفوذ زوجها وتدخلت في شئون الحكم وقامت بإستثناءات كثيرة وبخصوص الإتهام الأول فبشهادة الشهود العدول وبعضهم من غير المنتمين للوفد كان المسؤول الأول عن هذا الخلاف هو مكرم عبيد نفسه الذى غرر به أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي للملك فاروق والذى كان يلوح له بأنه الأجدر بتقلد منصب رئيس الوزراء من غيره وأنه قد تقلد هذا المنصب قبله من الأقباط بطرس غالي باشا ويوسف وهبة باشا وغذى فيه طموحه الشديد ولكن هذا الطموح أوقعه في خطأ قاتل قضى به على نفسه ومكانته ومستقبله السياسي حيث دخل في روعه عن طريق الخطأ أنه هو الذي صنع شعبية حزب الوفد وفاته أن وجوده في صفوف هذا الحزب الشعبي الكبير هو الذي خلق منه شخصية مكرم عبيد الكبيرة وبإختصار فقد إستخدمه الداهية أحمد حسنين باشا كمعول لكي يهدم به النحاس باشا والوفد وتناسي الإثنان أن الوفد أقوى وأرسخ من أن تهدمه الدسائس والمؤامرات وأنه قادر علي إمتصاص وصد أي منها وأنه قادر علي الخروج من أي أزمة أقوى مما كان قبلها ومما يذكر لزينب هانم الوكيل في هذا الصدد أنها ظلت حريصة على مد جسر من المودة مع عايدة هانم زوجة مكرم عبيد وصلت إلى حد السفر معها كثيرا والتشاور فيما يخص النواحى الإجتماعية حتى أنهما كانتا تنسقان معا زيارة المستشفيات ودعم النشاط الخيرى أما الإتهام الثاني فقبل ثورة يوليو فند النحاس باشا كل الإتهامات التي وردت بالكتاب الأسود أمام البرلمان وحاز علي ثقته وأن ما ورد بالكتاب الأسود لا يمت للحقيقة بشئ وبعد ثورة يوليو تم تقديم السيدة زينب الوكيل ضمن عدد 6 أشخاص لمحكمة الثورة التي كانت موجهة في الأساس ضد الوفد وقياداته وكان الخمسة الآخرين هم فؤاد سراج الدين وإبراهيم فرج ومحمود سليمان غنام ومحمود أبو الفتح وشقيقه حسين أبو الفتح ولم تثبت أي تهمة من التهم التي وجهت إليهم ولم يتم العثور علي أي دليل إدانة ضدهم وقد توفيت السيدة زينب الوكيل بعد حوالي سنتين من وفاة زوجها النحاس باشا في عام 1967م عن عمر يناهز 56 عاما .

وقبل أن نختم بحثنا هذا عن الزعيم والرئيس الجليل صاحب المقام الرفيع مصطفي النحاس باشا نذكر أنه من المؤسف أن فتاة من بين خريجات الجامعة في منتصف الستينيات من القرن العشرين الماضي طرقت باب منزل النحاس باشا قبل وفاته وكانت من بين المكلفات بعمل التعداد السكانى وحين سألته عن اسمه ووظيفته لم تعرف أن الرجل الذى يحدثها كان ذات يوم رئيسا لمجلس وزراء مصر ورئيسا لأكبر وأقوى حزب سياسي في العهد الملكي والذى تعرض لمؤامرات ودسائس ومكائد كانت كفيلة بهدمه لولا أساسه المتين الذى وضعه رئيسه الأول سعد زغلول باشا وحافظ عليها رئيسه الثاني مصطفي النحاس باشا والذى كان يحرك الجماهير بإشارة من أصغر أصابعه وتخرج لتهتف بإسمه وأنه هو من قال جملته الشهيرة من أجل مصر وقعت معاهدة عام 1936م وبإسم مصر أعلن إلغاءها وهي العبارة التي تحولت لمأثور شعبى لكن أجيالا نشأت وهى تجهل تماما الأدوار الوطنية التى أداها هذا الرجل الذى يعد من كنوز مصر البشرية إنطلاقا من إيمان راسخ بفكرة الحرية وإنحياز واضح للعدالة الإجتماعية التى تمثلها حتى وهو على رأس أكبر حزب جماهيرى في البلاد دون أن ينتظر أي تقدير أو تكريم حيث شطب إسمه من كتب التاريخ ولم يصنع له تمثال ولم يطلق إسمه علي محطة مترو أو أي شارع إلا من سنوات قريبة حينما أطلق إسمه علي أحد الشوارع الرئيسية في حي مدينة نصر والذى يخترق الحي من الجنوب إلي الشمال كما لم يتم إنتاج مسلسل درامي أو فيلم سينمائي يتناول قصة حياته وإقتصر الأمر فقط علي وجود شخصيته في بعض الأعمال الدرامية التي تتناول موضوعات أخرى منها مسلسل العملاق عن قصة حياة الأديب والمفكر الكبير عباس العقاد إنتاج عام 1979م وجسد شخصيته الفنان مصطفي الخضرى ومسلسل رد قلبي إنتاج عام 1998م وجسد شخصيته الفنان مخلص البحيرى ومسلسل أوراق مصرية الذى يشمل 3 أجزاء وتم إنتاجها مابين عام 1998م وعام 2004م وجسد شخصيته الفنان فهمي الخولي ومسلسل الإمام المراغي إنتاج عام 2006م وجسد شخصيته الفنان معتز السويفي ومسلسل مسلسل الملك فاروق إنتاج عام 2007م عن قصة حياة الملك فاروق الأول وجسد شخصيته الفنان صلاح عبد الله ومسلسل ملكة في المنفى إنتاج عام 2010م عن قصة حياة الملكة نازلي وجسد شخصيته الفنان محمد متولي ومسلسل الجماعة الجزء الأول إنتاج عام 2010م وجسد شخصيته الفنان أحمد راتب ومسلسل مشرفة رجل لهذا الزمان إنتاج عام 2011م عن قصة حياة العالم المصرى الدكتور علي مصطفى مشرفة وجسد شخصيته الفنان طارق عبد العزيز ومسلسل كاريوكا إنتاج عام 2012م وجسد شخصيته الفنان محمد غنيم ومسلسل الجماعة الجزء الثاني إنتاج عام 2016م وجسد شخصيته الفنان محمود الجندي .