بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
محمد قدرى باشا رائد من رواد الترجمة ورجل قانون ووزير مصري تركي الأصل عاصر عدد 6 من حكام الأسرة العلوية كان أولهم رأس الأسرة محمد علي باشا وإبنه القائد إبراهيم باشا ومن بعدهما عباس باشا الأول ومحمد سعيد باشا والخديوى إسماعيل والخديوى توفيق والذى توفي خلال فترة حكمه وكان من أشهر رجال القضاء في مصر وكانت له مؤلفات في الفقه الإسلامي خاصة الحنفي وكان من أهم أعماله إصدار قانون خاص بالأحوال الشخصية علي المذهب الحنفي وكان مولده في عام 1821م بمدبنة ملوي إحدى مدن مديرية المنيا بوسط صعيد مصر وكان أصل أسرته من بلدة وزير كوبرولي بالأناضول بتركيا وكان جده واليا لتلك الولاية وجاء أبوه قدري أغا إلى مصر وإستوطنها وإلتزم بعض القرى بملوي وتملك فيها مساحات من الأرض الزراعية كما كان شائعا آنذاك ثم عين حاكما لجهة ملوي أما والدته فمصرية الأصل وكان له أخوان رزق بهما أبوه من أم أخرى تزوج منها وأصلها من الأناضول أحدهما توفي بالأناضول قبل مولده وهو ناصر الدين قدري والآخر توفي بعد مولده وهو قدري بك الذي كان من موظفي البلاط السلطاني في عهد السلطان العثماني عبد العزيز خان وبقي في إسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية وتوفي بها وتعلم محمد قدري دروسه الأولى في مدرسة أهلية صغيرة بمدينة ملوي ثم إنتقل إلى القاهرة وإلتحق بمدرسة الألسن التي كان قد أسسها رفاعة الطهطاوى باشا عام 1835م وكانت تسمي حينذاك مدرسة الترجمة وكان مقرها آنذاك في أبي زعبل فأتم فيها دروسه قبل أن يبلغ العشرين من عمره وكان منهج اللغة العربية بهذه المدرسة أيام رئاسة رفاعة الطهطاوي باشا لها مشابها لنظيره في الأزهر ومع ذلك فقد كان يتردد كثيرا على الجامع الأزهر الشريف لدراسة اللغة العربية والعلوم الشرعية حتى بعد تخرجه من مدرسة الألسن وتعيينه مترجما مساعدا بها وقد ظهر أثر ذلك فيما ألفه بعد ذلك من مؤلفات تدل على خبرة عميقة بالفقه الإسلامي وكانت مدرسة الألسن حينذاك هي المعهد الذي أسس الثقافة والمعارف والعلوم الحديثة في مصر فقد أدرك أهل ذلك العصر إدراكا تاما أن المدنية الغربية قوية التيار وأن مؤسسة الأزهر التي تمثل الحضارة الإسلامية بوضعها القائم حينذاك أصبحت غير قادرة على الوقوف في وجه هذا التيار الجارف حيث أنها كانت قد جمدت على مقررات وتعاليم لا تقبل أن تطعم بالمقررات والتعاليم الحديثة ومن ثم فهناك إستحالة في أن يتم معالجة التوفيق بين الجانبين وكانت اللغات أو الألسن على ما كانوا يسمونها يومئذ هي موضع عناية مدرسة الألسن الكبرى فكانت تدرس فيها اللغات التركية والفارسية والفرنسية والإيطالية والإنجليزية وكانت العناية فيها باللغة العربية عناية فائقة يدل عليها ما وضعه الذين تخرجوا منها وما ترجموه من كتب ومؤلفات كثيرة وقال محمد قدرى باشا عن ذلك في كتابه معلومات جغرافية الذي نشر في عام 1869م وقد ترجم تلاميذ هذه المدرسة أكثر من ألفي مجلد وأتى بأسماء كثير ممن ترجموا والفنون التي ترجموا كتبها الغربية .
وكان القصد من تعليم هذه الألسن أو اللغات والقيام بعد ذلك بترجمة الكتب في مختلف العلوم والفنون نقل الحضارة الغائبة إلى مصر ليتمكن أهلها من السير سيرة أهل دول قارة أوروبا ولعل أكثر ما ترجم إنما ترجم عن اللغة الفرنسية حيث تأثرت مصر والعالم عموما بالثورة الفرنسية الكبرى كما تأثرت بها دول أوروبا المختلفة وكان من أثر ذلك أن قام محمد علي باشا فيما بعد بحركة تشبه الحركة التي قام بها الإمبراطور نابليون بونابرت في فرنسا وجعل التعليم هدفا له حيث كان مدركا أنه السبيل إلي تحقيق النهضة في مصر وتحقيق حلمه بتحويل مصر إلي دولة عصرية حديثة علي النمط الأوروبي ومن ثم أرسل البعثات الدراسية إلي فرنسا وليعود أعضاء هذه البعثات متسلحين بالعلم الحديث حيث كانت البلاد في حاجة ماسة لهم ولسواعدهم الشابة من أجل النهوض بالوطن وإعلاء بنائه ومن ثم كانت تصدر الأوامر بسرعة إلحاقهم بوظائف الدولة كل حسب تخصصه ومجاله وكما ذكرنا في السطور السابقة كان لمحمد قدرى ميل خاص لدراسة علوم الفقه ولمقارنة الشريعة الإسلامية بالقوانين الأوروبية فواظب حتي بعد تخرجه وتعيينه مترجما بمدرسة الألسن علي حضور بعض دروس الفقه بالأزهر وكان مقبلا على مطالعة كتب الشرع ولم تظهر آثاره في ذلك إلا بعد سنين طويلة وبقيت الترجمة هي عمله الرسمي الذي كان يتقنه أيما إتقان ولذلك نقل من مدرسة الألسن إلى نظارة المالية مترجما مساعدا وكان قد تم ضم الشام لأملاك مصر قبل ذلك بسنوات في عام 1933م ولما عين شريف باشا واليا لها إصطحب معه محمد قدري كسكرتير له وظل معه حتى زار إسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية وإصطحبه أيضا معه ولما عاد شريف باشا إلى مصر وكان قد كف بصره ظل محمد قدري معه يترجم له ما في الجرائد الفرنسية إلى التركية وفي عهد الخديوى إسماعيل عين محمد قدرى لتعليم الأمير إبراهيم بن الأمير أحمد رفعت باشا الشقيق الأكبر للخديوى إسماعيل الذى كان وليا لعهد محمد سعيد باشا والذى مات غرقا في نهر النيل في حادث قطار عند مدينة كفر الزيات فإنتقلت ولاية العهد للخديوى إسماعيل ثم عين أستاذا للغتين الفارسية والتركية في مدرسة الأمير مصطفى فاضل باشا الأخ الغير شقيق للخديوى إسماعيل ثم إختاره الخديوى إسماعيل مربيا لولي عهده الأمير توفيق وكان مكلفا أيضا بتدريس التاريخ والجغرافيا في مدرسة الأنجال التي أنشئت في قصر عابدين خصيصا لتعليم إبنه الأكبر وولي عهده الأمير توفيق وإخوته الأمير حسين كامل الذى أصبح السلطان حسين كامل فيما بعد والأمير حسن باشا ومحمد طوسون باشا إبن محمد سعيد باشا وإبراهيم باشا إبن أحمد رفعت باشا وفي أثناء تكليفه بهذه المهمة وضع عدة كتب في مواضيع مختلفة لكن أكثرها كان في اللغة العربية وقواعدها ومفرداتها وكان منها أيضا معاجم أو قواميس عربية فرنسية كان منها الدر النفيس في لغتي العرب والفرنسيس ويقع في سبعمائة صفحة والدر المنتخب من لغات الفرنسيس والعثمانيين والعرب وقواعد النحو في اللغة العربية ومختصر قواعد اللغة الفرنسية مترجمة إلى العربية والمترادفات باللغة العربية والفرنسية هذا عدا بعض كتب في التاريخ والجغرافيا ككتاب معلومات جغرافية مصحوبة ببعض نبذ تاريخية لأهم مدن مصر جمعت وترجمت باللغة العربية وهذا الكتاب تم طبعه فيما بعد عام 1869م كما ذكرنا في السطور السابقة .
وبعد إنتهاء محمد قدرى من مهمة التدريس بمدرسة الأنجال عينه الخديوى إسماعيل في قلم الترجمة بالمعية السنية والمقصود بها ديوان الخديوى ثم في ديوان المعارف ثم نقل إلى مجلس التجار بمدينة الإسكندرية ثم إلى نظارة الخارجية رئيسا لقلم الترجمة وكان منوطا وحده بتراجم الحكومة الرسمية ثم عرضت عليه وظيفة مفتش بنظارة المعارف فرفضها وجدير بالذكر أن هذه الكتب المشار إليها في السطور السابقة والتي كتبها محمد قدرى كانت تدل على مبلغ إلمامه الواسع بكل من اللغتين العربية والفرنسية وعلى مقدرته الفائقة في الترجمة لذلك كان طبيعيا أن يدعى للإشتراك في التمهيد للعمل التشريعي العظيم الذي كانت الحكومة المصرية تفكر فيه والذي كان مقدمة لإنتشار المحاكم المختلطة والمحاكم الأهلية فقد كان القضاء المصري في ذلك العهد منوطا بالمجالس التي كانت تحكم بالعرف وكانت تجمع من الرجال من قلت درايتهم بقواعد العدالة وإذ كانت مبادئ الثورة الفرنسية قد تسربت إلى مصر عن طريق الحملة الفرنسية علي مصر ما بين عام 1798م وعام 1801م وعن طريق الشبان المصريين الذين أوفدوا إلى فرنسا في بعثات دراسية في عهد والي مصر محمد علي باشا ثم عادوا إلى مصر فقد إتجهت الفكرة إلى تعريب القوانين الفرنسية التي وضعت أيام الإمبراطور نابليون بونابرت وعهدت الحكومة إلى جماعة من أفاضل المترجمين المصريين بهذه المهمة فقام بتعريب القانون المدني الفرنسي رفاعة الطهطاوى باشا وعبد الله بك رئيس قلم الترجمة وعبد السلام أفندي أحمد وأحمد أفندي حلمي أما قانون المرافعات فعربه أبو السعود أفندي وحسن أفندي فهمي أحد مترجمي نظارة الخارجية وعرب قدري باشا قانون العقوبات وعرب صالح بك مجدي قانون تحقيق الجنايات وجمعت هذه القوانين كلها وطبعت بالمطبعة الأميرية ببولاق في عام 1866م وإذا كان ميل قدري باشا للفقه والتشريع يرجع إلى أيام الدراسة على ما قدمنا فقد صادف ذلك العمل هذا الميل ودفع بصاحبه إلى التفكير في تقنين أحكام الشريعة الإسلامية وزاده إمعانا في هذا التفكير أن عهد إليه بالإشتراك في ترجمة قوانين المحاكم المختلطة إلى اللغة العربية مع اللجنة التي أنشئت في وزارة الحقانية للقيام بهذا العمل تمهيدا لوضع تشريع جديد للمحاكم الأهلية التي أزمع إنشاؤها حينذاك ولما كان التشريع للمصريين يقتضي التوفيق بين أحكام القانون المختلط الجديد الذي أخذ عن القانون الفرنسي وبين أحكام الشريعة الإسلامية التي كان عليها القضاء حتي ذلك الوقت فقد إشتغل قدري باشا بهذه المقارنات فوضع كتابا لم ينشر بعد وما تزال نسخته المخطوطة في دار الكتب المصرية عن تطبيق ما وجد في القانون المدني الفرنسي موافقا لمذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان وجاء في مقدمته أنه بيان المسائل الشرعية التي وجدت في القانون المدني مناسبة وموافقة لمذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة وكانت هذه الترجمة لقانون العقوبات الفرنسي ولقوانين المحاكم المختلطة وهذه البحوث المتصلة في المقارنات بين أحكام الشرع والقانون المدني الفرنسي مضافة إلى ميله الأصيل لإنجاز هذه الأعمال قد جعلت من قدري باشا فقيها في القانون ولذا فقد نقل من رئاسة قلم ترجمة الخارجية ليصبح مستشارا بمحكمة الإستئناف المختلطة وظل في منصبه هذا إلى أن عين وزيرا للحقانية في أول عهد الخديوى توفيق ثم إستقال مع الوزارة وعاد بعد ذلك وزيرا للمعارف العمومية ثم إنتقل وزيرا للحقانية من جديد وعمل في منصبه هذا على وضع القوانين للمحاكم الأهلية التي أريد إنشاؤها وإشترك بنفسه في وضع القانون المدني وقانون تحقيق الجنايات والقانون التجاري .
وكان طبيعيا إذن أن ينصرف قدري باشا في الشطر التالي من حياته عن الإشتغال بما شغل به في الشطر الأول منها من ترجمة ونحو وصرف إلى العمل في القانون والتشريع وكان قدري باشا من طراز الذين يقبلون بكل قوتهم على العمل ولا يملونه ولذلك وجه كل همه إلى تقنين مذهب أبي حنيفة بوضع عدد ثلاثة كتب ما يزال إسمه مقرونا بها وهي مرشد الحيران في المعاملات والأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية وقانون العدل والإنصاف في القضاء على مشكلات الأوقاف وكان الخديوى إسماعيل حينذاك قد طلب إلى علماء الأزهر أن يقوموا بصياغة مبادئ الشريعة الإسلامية صياغة عصرية حتى لا يضطر إلى الأخذ كليا بالقوانين الأوروبية وكان يتعرض لضغوط شديدة فى هذا الإطار خاصة مع إنفتاحه الكبير على أوروبا وتفاقم أزمة الديون وحدث أن خذله علماء الأزهر فلم يكونوا جاهزين لذلك فقهيا وقانونيا ومن ثم تقدم لينجز هذه المهمة وحده محمد قدرى باشا وجدير بالذكر أن معرفة هذه الكتب لا تقف عند رجال القانون والشرع فقط بل تمتد كذلك إلى عدد عظيم من سواد الناس فقد نظمت ثلاثتها أحكام الشريعة على مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان في شكل مواد تفي بحاجة كل من يهمه الوقوف على هذه الأحكام إذ يجدها مبوبة مرتبة ومدققا في إختيار ألفاظها حتى تعني مدلولاتها بشكل دقيق بما يقضي به فن الفقه القانوني وقد ظلت هذه الكتب كلها مخطوطة إلى حين وفاة صاحبها قدرى باشا في يوم ٢٠ نوفمبر عام 1886م ولم تطبع إلا بعد الوفاة بسنوات طويلة وهي مع ذلك التي خلدت ذكره وما تزال سبب مجده لما فيها من جهد عظيم لم يضطلع به من رجال الشرع الإسلامي أحد فإضطلع هو به وأداه على خير وجه وإقتران إسمه بها لخير دليل على أنها أثر خالد حقا وفضلا عن ذلك فلقد كان في أعماله الأخرى ما يكفي ليجعل منه واحدا من رجالات مصر العظماء الخالدين وفي مقدمتهم وكان يكفي إقتران إسمه بلائحة ترتيب المحاكم الأهلية وصدورها وكان يكفيه أيضا أنه تقلد الوزارة ثلاث مرات في حياته وكانت تكفيه كذلك كتبه الأخرى وكانت هذه الكتب الثلاثة التي لم تظهر إلا بموت مصنفها قد أعادت إسمه إلى الحياة متألقا شديد الإشراق وأسقطت من حوله حياة المادة وضعفها وأبقيت له حياة الروح المتصلة بالكون من أزله إلى أبده ويقول الذين عرفوا قدري باشا أيام حياته إنه مع إقباله على العمل أشد الإقبال لم يكن من المتجهمين للحياة العابسين في وجهها بل كان ظريفا غاية الظرف وكان يتقن الضرب على العود وقد ألف في علم الموسيقى رسالة جعل فيها النغمات أبراجا وهو ما لم يسبقه إليه أحد وكان عندما يجلس مع إخوانه وأصدقائه من خريجي مدرسة الألسن في حفلة طرب يسمعهم من أنغام عوده ما يهون على النفس أعباء العمل وإنك لتجد أولئك الذين وهبتهم الطبيعة من قدرتها ما يجعلهم قوة عاملة ذات أثر خالد في العالم أحرص الناس على أن ينالوا من جوانب الطبيعة الباسمة حظا يعينهم على أداء الواجب العظيم الذي فرض الوجود عليهم أداءه والذي يقتضيهم من الجهد ما ينوءون به لولا هذا الحظ القليل وما كان لأحد أن يأخذهم بذلك وهو أيا كان لونه ليس إلا رياضة لنفوسهم وأعصابهم أن يوهنها أو يضعفها الجهد أو يأتي عليها الملل وإذا أوهن أو أضعف الجهد قوى الأفذاذ الذين يقيمون العالم وحضارته فقد آن لملايين الناس الذين يعيشون في كنف مواهب هؤلاء الأفذاذ وينعمون بعلمهم أن تتحطم سعادتهم وأن تهدم حضارتهم .
ومما يذكر أيضا عن محمد قدرى باشا أنه خلال عهد الخديوى إسماعيل طلب السلطان عبد العزيز خان منه تكليف قدري باشا ومصطفى أفندي رسمي بتنقيح الدستور العثماني مما يدل على مدى شهرة قدري باشا في العلم القانوني وكانت هذه الشهرة هي السبب أيضا وراء ترشيحه بعد ذلك لتولي وزارة الحقانية عدة مرات وقد أتم الرجلان مهمة تنقيح الدستور من المؤلفات والمصادر الأوروبية ووضع باللغات التركية والعربية والفرنسية وفي أواخر عهد الخديوى إسماعيل وضع محمد قدري باشا نظاما خاصا لوزارة المالية التي كان يرأسها وزيران أحدهما فرنسي وهو المسيو دي بلينيير والآخر إنجليزي وهو المستر ولسن وفي عهد الخديوى توفيق عين محمد قدري باشا ناظرا للحقانية في نظارة محمد شريف باشا الثالثة ما بين يوم 14 سبتمبر عام 1881م حتي يوم 4 فبراير عام 1882م ثم ناظرا للمعارف العمومية فترة قصيرة في عهد نظارة محمد شريف باشا الرابعة عاد بعدها ناظرا للحقانية مرة أخرى وصدرت في نظارته هذه لائحة ترتيب المحاكم الأهلية وكان مكلفا بالإشتراك في وضع القانون المدني وقانون تحقيق الجنايات قبل صدور اللائحة والقانون التجاري وبعد نظارة الحقانية أحيل قدري باشا إلى المعاش ثم صدرت القوانين التي إشتغل في وضعها فيما بعد في عهد ناظر الحقانية حسين فخري باشا الذى خلفه في منصبه وكان من قسوة القدر على محمد قدري باشا أن كف بصره وأن انطفأ نور عينيه وسافر إلى النمسا أملا في معالجة نفسه من هذا المرض ولم يمنعه عدم نجاحه في هذا من متابعة عمله ثم كانت وفاته في يوم الأربعاء 17 ربيع الأول عام 1306 هجرية الموافق يوم 21 نوفمبر عام 1886م عن عمر يناهز 65 عاما ونعته جريدة الوقائع المصرية قائلة في الليلة الماضية إنتقل من هذه الدار الفانية إلى دار النعيم والبقاء المرحوم محمد قدري باشا ناظر الحقانية المصرية والمعارف العمومية سابقا ولما أُبلغ هذا الخبر إلى المسامع العلية الخديوية أمر الجناب العالي حفظه الله بإجراء ما يجب من التوقير والإحترام في تشييع جنازته لما كان له رحمه الله لدى الجناب العالي من المكانة والإعظام .
وفي النهاية يحق له أن نقول كلمة حق تجاه هذا الرجل العظيم وهي إن وفاته قد أحدثت فراغا كبيرا في عالم النهضة القومية وإن إنحيازاته السياسية كانت واضحة تمام الوضوح إلى الدستور وسيادة القانون وتحقيق العدالة وللأسف لم ينل هذا الرجل العظيم من التكريم والتقدير ما يستحقه وكل ما ناله أن وضع إسمه على شارع صغير يمتد من شارع بورسعيد وحتى جامع صرغتمش فى شارع الصليبة بالقاهرة وأكثر الناس لا يعلمون عنه شيئا وقد يعلم البعض إسمه فقط ولا يدرون عن أعماله الخالدة شيئا وأنه واضع الكتب الثلاثة الخاصة بتقنين أحكام مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان والتي تكفيه لتخليد سيرته فهذه الكتب الثلاثة هي في الحق أثر كاف لتخليد مؤلفها وإذا كان نابليون بونابرت قد جعل من قانونه المدني عنوان مجده وإعتبر ما إلى جانب ذلك من مجد النصر والظفر وحكمه العالم ثانويا فإن كتب محمد قدري باشا في تقنين أحكام الشرع في المعاملات والأوقاف والأحوال الشخصية عنوان مجد باق على مر الزمان ويكفيه فخرا أن كتبت عنه الكثير من المجلات والجرائد المصرية وغير المصرية في الداخل والخارج وأشار إليه وإلى مؤلفاته الكثير من عظماء هذا التاريخ في كتبهم ومؤلفاتهم كما أنه كان له باع طويل في التأليف المحبب الى أصحاب الإطلاع والمثقفين والباحثين لما له من دراية كاملة في فن صياغة الجمل وسهولة الألفاظ وعرض المسائل وقدرته على شرحها بدون خلط او تشابه في المعاني وأيضا لتميزه في الترجمة وفصاحة لسانه وتمكنه من اللغة العربية وفي واقع الأمر فإن من يقرأ كتب محمد قدرى باشا الخاصة بأحكام المذهب الحنفي قد يظن أنه كان فقيها عظيما من علماء الأزهر الشريف معهد دراسة الشريعة الإسلامية وموضع العناية بها فمن البديهي والطبيعي أنه يجب أن يكون الرجل الفذ الذي يقنن شريعة من الشرائع من أساطين رجال هذه الشريعة وفقهائها الكبار وما هو ليس طبيعيا أن يخرج هذا المعهد الألوف من العلماء والفقهاء ثم يكون من يقنن الشرع غيرهم غير أن الواقع الفعلي أن محمد قدري باشا لم يكن منهم ولم ينخرط في سلكهم ولم ينضم إلى زمرتهم ولم يدرس أصلا في الأزهر وكانت كتبه الثلاثة الفقهية الشهيرة ليست كل مؤلفاته في هذا المجال وإن كانت أبقاها وأخلدها فقد كانت تربيته ودراسته مدنية بحتة وكانت الوظائف التي تقلدها بعيدة عن أن تمس الأزهر الشريف أي مساس وأخيرا لا يسعنا إلا أن نترحم علي هذا الرجل العظيم أحد كنوز مصر البشرية وندعو الله أن يسكنه فسيح جناته جزاء ما قدمه من علم ينتفع به حتي قيام الساعة . |