الجمعة, 29 مارس 2024

abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
abou-alhool
الرئيسية
بانوراما
فرعونيات
بلاد وشركات
الحدث السياحي
سحر الشرق
سياحة وإستشفاء
أم الدنيا
حج وعمرة
أعمدة ثابتة
درجات الحرارة
اسعار العملات
abou-alhool

هوراشيو هربرت كيتشينر

 هوراشيو هربرت كيتشينر
عدد : 06-2021
بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”


المشير الميداني هوراشيو هربرت كيتشينر كان قائدا عسكريا كبيرا ومسؤولا إستعماريا شهيرا في الجيش البريطاني إكتسب سمعة سيئة نظرا لحملاته العسكرية لصالح الإمبراطورية البريطانية والتي إتسمت بالعنف الشديد وقيامه بإنتهاج سياسة الأرض المحروقة وبإنشاء معسكرات الإعتقال التي مات فيها مابين 18 ألف إلي 28 ألف رجل وامرأة وطفل بشكل رئيسي من أوبئة الأمراض خلال الفترة من عام 1900م وحتي عام 1902م بدولة جنوب أفريقيا فيما عرف بحرب البوير الثانية وشارك أيضا في الحرب العالمية الأولي عند قيامها في منتصف عام 1914م ولعب دورا مركزيا في الجزء الأول منها وحظي بشعبية كبيرة بين البريطانيين وبتركيزهم على شخصيته القيادية العسكرية ولذا فقد منحته بلاده العديد من الأوسمة والنياشين تكريما له نظرا لخدماته في المجال العسكرى الإستعمارى لبلاده وتكريس وتثبيت إحتلالها للكثير من المستعمرات البريطانية في قارتي آسيا وأفريقيا كما كان له دور كبير ومؤثر في تأمين السيطرة علي السودان بعد إستعادتها من أنصار المهدى عام 1898م .

ولد كيتشينر في يوم 24 يونيو عام 1850م في بالي لونجفورد بالقرب من ليستوول بمقاطعة كري في أيرلندا وكان والده هنري هوراشيو كيتشينر ضابطا في الجيش البريطاني أما أمه فرانسيس آن شيفالييه فقد كانت إبنة جون شيفالييه كاهن أسبال هول وعند مولده كان والده قد إشترى لتوه أرضا في أيرلندا في إطار برنامج لتشجيع شراء الأرض بعد بيعه لرتبته ثم انتقلت الأسرة إلى سويسرا حيث تلقى كيتشينر الصغير تعليمه في مونترو ثم في الأكاديمية العسكرية الملكية في وولويتش ومما يذكر عنه أنه كان يتمتع بطول القامة حيث بلغ طوله 188 سنتيمتر ونظرا لكونه كان مؤيدا للفرنسيين ومتلهفا لرؤية الحرب إنضم إلى وحدة إسعاف ميدانية فرنسية في الحرب الفرنسية البروسية في عام 1870م وكان عمره 20 عاما وقد أعاده والده إلى بريطانيا بعد أن أصيب بإلتهاب رئوى أثناء صعوده في منطاد لرؤية جيش اللوار الفرنسي في تلك الحرب وأنهيت خدمته في فرنسا في يوم 4 يناير عام 1871م ووبخه حينذاك الأمير جورج دوق كامبريدج الذي كان القائد العام للجيش البريطاني علي مشاركنه في الحرب الفرنسية البروسية والتي وقفت فيها بريطانيا علي الحياد ولم تؤيد طرفا علي الآخر وبعد ذلك خدم بصفته مساحا في الإنتداب البريطاني على فلسطين ومصر وقبرص وتعلم اللغة العربية وأعد خرائط طوبوغرافية تفصيلية لتلك المناطق .

وكانت المهمة الأولي له كمساح في عام 1874م في فلسطين حينما كلفه صندوق إستكشاف فلسطين وكان عمره 24 عاما حينذاك بإجراء مسحٍ للأراضي المقدسة بغرض وضع خرائط تفصيلية لها ليحل محل زميله تشارلز تيرويت دريك الذي توفي جراء إصابته بالملاريا وإنضم كيتشينر الذي كان بحلول ذلك الوقت قد أصبح ضابطا في المهندسين الملكيين إلى زميله الضابط كلود كوندر وما بين عام 1874م وعام 1877م قاما بمسح جغرافي لفلسطين ولم يعودا إلى إنجلترا خلال هذه الفترة إلا لفترة وجيزة في عام 1875م بعد هجوم شنه السكان المحليون على صفد في منطقة الجليل وعرفت بعثة كوندر وكيتشينر بإسم مسح غرب فلسطين لأنها كانت تقتصر إلى حد كبير على المنطقة الواقعة غرب نهر الأردن وقد جمع هذا المسح الجغرافي بيانات عن الطوبوغرافيا والتضاريس والأسماء الجغرافية للمنطقة وكذلك النباتات والحيوانات المحلية ونشرت نتائج هذا المسح في سلسلة من ثمانية مجلدات ما بين عام 1881م وعام 1885م وكان لهذا العمل تأثير هام ودائم على منطقة الشرق الأوسط لعدة أسباب حيث كان هو الأساس الذي إعتمد عليه نظام الإحداثيات الفلسطيني المستخدم في الخرائط الحديثة لإسرائيل وفلسطين ولا يزال علماء الآثار والجغرافيون الذين يعملون في هذه المنطقة يستعينون بالبيانات التي جمعها كوندر وكيتشينر كما أن هذا المسح قد حدد ورسم الحدود السياسية لبعض الدول في هذه المنطقة وحددها بشكل فعال فعلى سبيل المثال أُقيمت الحدود الحديثة بين إسرائيل ولبنان عند نقطة في الجليل الأعلى حيث توقف مسح كوندر وكيتشينر وبعد إنتهاء هذه المهمة في فلسطين وفي عام 1878م أُرسِل كيتشينر إلى قبرص لإجراء مسح لتلك الدولة التي كانت قد وقعت تحت الحماية البريطانية حديثا وبعد إتمامه لهذه المهمة أصبح في العام التالي 1879م نائب القنصل العام البريطاني في الأناضول وفي يوم 4 ينايرعام 1883م ترقى كيتشينر إلى رتبة نقيب وأُرسِل إلى مصر حيث شارك في إعادة بناء الجيش المصري وذلك بعد أن كان الإحتلال البريطاني لمصر قد بدا منذ حوالي 4 اشهر وتحديدا في شهر سبتمبر عام 1882م وأصبح يقود جيشها ضباط بريطانيون رغم أنها كانت لا تزال إسميا ولاية تابعة للدولة العثمانية ويحكمها الخديوي توفيق وبعد مرور حوالي شهر واحد وفي شهر فبراير عام 1883م أصبح كيتشينر الشخص الثاني في قيادة كتيبة سلاح الفرسان المصري .

وشارك كيتشينر بعد ذلك في الحملة الفاشلة لنجدة الجنرال البريطاني تشارلز جورج جوردون حاكم عام السودان أواخر عام 1884م والتي لم تستطع الوصول إلي مقره بالعاصمة السودانية الخرطوم وقتل الجنرال جوردون في الخرطوم في يوم 26 يناير عام 1885م علي أيدى الثوار المهديين الذين كان يقودهم واحد من أبرز الدعاة الدينيين والسياسيين في تاريخ مصر والسودان وهو محمد أحمد الدنقلي الذي عرف بعد ذلك بإسم المهدي والذي قاد ثورة قدر لها أن تحقق نجاحـا ملموسا ضد الوجود المصري البريطاني في السودان لكن العمر لم يمهله لتحقيق حلمه بإحكام قبضته على كل ربوع السودان حيث توفي في يوم 22 يونيو عام 1885م وتولى زمام الأمور من بعده خليفته عبد الله التعايشي وبوجوده في هذه الفترة في مصر أصبح كيتشينر يتحدث اللغة العربية بطلاقة ونجده قد فضل صحبة المصريين على صحبة البريطانيين وبلغت درجة إجادته للغة العربية إلي أنه كان قادرا على التحدث بلهجات القبائل البدوية المختلفة في مصر والسودان وفي يوم 8 أكتوبر عام 1884م ترقى إلى رتبة رائد وبعد أقل من عام وفي يوم 15 يونيو عام 1885م ترقي إلي رتبة المقدم وأصبح عضوا بريطانيا في لجنة ترسيم حدود دولة زنجبار الأفريقية في شهر يوليو عام 1885م وفي شهر سبتمبر عام 1886م أصبح حاكم المقاطعات المصرية لشرق السودان وساحل البحر الأحمر التي كانت تتألف في الواقع من أكثر قليلا من ميناء سواكن وهي المنطقة التي ظلت في أيدى مصر بعد سقوط الخرطوم وأم درمان وما حولهما في يد المهديين وقاد قواته في العمل ضد أتباع المهدي في هاندوب في شهر يناير عام 1888م وأصيب في الفك حينذاك وفي يوم 11 أبريل عام 1888م ترقى كيتشينر إلى رتبة العقيد وقاد سلاح الفرسان المصري في معركة توشكى في شهر أغسطس عام 1889م حيث كان عبد الله التعايشي خليفة المهدى قد فكر في غزو مصر وسير إليها حملة بقيادة أحد أتباعه وهو عبد الرحمن النجومي لكى يصبح خليفة على مصر والسودان ثم على كل المسلمين ومن الجانب الأخر فقد إهتمت الحكومة المصرية بأمر قواتها المرابطة على الحدود الجنوبية وسارعت إلى إرسال تعزيزات تم توزيعها على الحاميات الحدودية بين مصر والسودان في كركر وأسوان ووادي حلفا وحرص وأرقين وكانت قوات أسوان تمثل القوات الإحتياطية لهذه الحاميات وتم تكوين قوتين قوة بريطانية بقيادة الجنرال ود هاوس وقوة مصرية يقودها الجنرال جرانفيل وكانت قوات النجومي ترمي إلي بلوغ مورد المياه في أرقين بينما كان قائد القوات البريطانية الجنرال ود هاوس يتابع أخبار الحملة وسيرها أولا بأول فسبقها في الوصول الي أرقين بإثنتين من البواخر النيلية قوامهما 2500 فرد إضافة إلي 130 جندي آخرين من جنود الهجانة التي تمتطي ظهور الجمال وثمانية مدافع وقوة الأورطة السودانية التاسعة عشرة والحادية عشرة وتم تحصين المدينة في إنتظار الحملة التي أعياها المسير عبر الصحراء وأنهكها العطش وأصدر النجومي أوامره بأن يتم فتح الطريق لجلب الماء للجيش وبالفعل وصلت قوة النجومي إلى مورد الماء بدوابها وأخذت كفايتها من الماء وفي العودة قسمت القوة إلي ثلاث أجنحة الميمنة والميسرة والوسط وتمكنت من إحتلال أجزاء من أرقين ولذا فقد دارت معركة عنيفة لطرد قوات النجومي منها وكانت خسائر هذه القوة جسيمة بلغت 90 قتيلا و500 أسير وجرح معظم ما تبقي منها في حين كانت خسائر الجيش المصري البريطاني المشترك طفيفة حيث لم تتجاوز عدد 11 قتيلا وعدد 60 جريحا .

وأمام هذا الموقف إضطر النجومى للإنسحاب إلى تلال أرقين وعقد مجلس للتشاور مع معاونيه وتم إقتراح الإنسحاب لكن النجومى رفض بعنف وقال لن أعود إلي الخرطوم إلا محمولا على الأعناق وإشتدت الخلافات بينه وبين معاونيه مما أثر على الروح المعنوية للجيش وبلغت الخلافات إلى حد عدم تنفيذ الأوامر فمثلا رفض أحد القواد التحرك نحو مورد المياه بل هرب هو ومجموعة من جنوده من الجبهة ثم توالى هروب الجنود من جيش النجومى وظهر للناس ان النجومى يقود جيشه نحو التهلكة وعلي الرغم من هذه الظروف كلها كان النجومي مصرا على التقدم شمالا في وقت كان فيه الجنرال جرانفيل والذى كان يقود القوات المصرية يتابع أخبار الحملة أولا بأول بينما عسكر الجنرال ود هاوس بجنوده على ضفاف النيل ليمنعهم من الماء وعندما علم الجنرال جرانفيل بالحالة المزرية لقوات النجومي كتب إليه واصفا الحالة الجيدة لحملته وأمره بالإستسلام قائلا إن الخليفة أرسلكم للهلاك فإن تقدمت تجد جيش الإنجليز متعطشا لدمائكم وإن عدت فقوات حلفا جاهزة لإبادتكم وإن بقيت مكانك مت من العطش فليس أمامك إلا الإستسلام لكن النجومي إستقبل هذه الرسالة بفتور شديد وطلب منه أن يستسلم هو وكتب للخليفة شارحا له ما قام به فبارك له الخليفة رده وتحرك النجومي قاصدا توشكي التي تقع قرب مدينة أبو سمبل حاليا جنوب غرب أسوان ووصل بالفعل إلي تلال توشكي وعسكر عند سفحها الغربي وذلك يوم 1 أغسطس عام 1889م وإنضمت القوات البريطانية التي كان يقودها القائد البريطاني ود هاوس التي كانت تتابع النجومي إلي القوات المصرية بقيادة الجنرال جرانفيل وأصبحت قوة واحدة تحت قيادة الجنرال جرانفيل منها 500 من الفرسان الراكبة بقيادة العقيد كيتشينر وواصل النجومي تقدمه شمالا لكن لواء كيتشينر تصدى له فبادر النجومي بإطلاق نيران كثيفة على قوات كيتشينر مما إضطره إلي الإنسحاب خلف التلال على بعد نصف ميل من جهة مجرى نهرالنيل ومن هناك بدأ في ضرب قوات النجومي الذى حاول تركيز هجومه على قيادة القوات المصرية الراكبة والتي كانت بقيادة جرانفيل وإجباره على التراجع والإستعانة بمدفعية الطوبجية لمواجهة هجوم النجومي وبزيادة كثافة النيران على قواته إضطر النجومي إلى وقف الهجوم الذي لم يحقق أي إختراق في صفوف الجيش المصري وغير إتجاه تقدم قواته نحو الشمال الغربي لكن قوات العقيد كيتشينر كانت قد إحتلت مواقع ذلك الإتجاه فتصدت لقوات النجومي وتمكنت من إيقاف تقدمها نحوه وبذلك أصبحت قوات النجومي شبه محاصرة بين فكي الرحى وبوصول موقف النجومي إلي هذا المأزق الخطير فقد أدرك خسارته وإختار لمحاولته الأخيرة منطقة منبسطة الأرض صف فيها قواته ونشر حملة البنادق في الأمام ومن خلفهم حاملي السيوف والحراب وإستعد لمواجهة قوات الجيش المصري التي قامت بشن هجوم مركز على قوات النجومي فتصدت لها قواته وقاتلت قتالا شرسا لكنها في النهاية لم تستطع الصمود وتكبدت خسائر فادحة في الأرواح والأسلحة مما إضطرها إلى التقهقر بعد فقدان عدد كبير من قادتها ما بين قتيل وجريح وبذل النجومي جهودا كبيرة لإعادة تجميع قواته وتنظيمها لمواصلة القتال فلاحظ ذلك جرانفيل ووجه نحوه قوة راجلة للقضاء عليه وبالفعل سقط النجومي على الأرض وأسلم الروح فحمله معاونيه على ظهر جمل وحاولوا الإفلات به من قوات الجيش المصري البريطاني المشترك إلا أنها لحقت بهم وإستولت على الجثمان وبدأت تتشتت وتتفرق بقية قوات النجومي بعد الهزيمة الثقيلة التي لحقت بها وإنسحبت جنوبا لتطاردها القوات المصرية والبريطانية التي قضت علي جزء كبير منها وقد إستشهد في هذه المعركة غير المتكافئة حوالي 1500 مقاتل من قوات النجومي إلي جانب عدد كبير أيضا من الجرحي وبهذه الهزيمة الثقيلة بدأ العد التنازلي للدولة المهدية في السودان .

وفي بداية عام 1890م عين كيتشينر مفتشا عاما في الشرطة المصرية قبل إنتقاله إلى منصب المساعد العام لقائد الجيش المصري في شهر ديسمبر من نفس العام 1890م وقد خلص تقييم مكتب الحرب لكيتشينر حينذاك إلى أنه ضابط جيد طموح جدا لا يحظى بالشعبية لكنه تحسن مؤخرا بشكل كبير في اللباقة والأسلوب وأنه يعد جندي شهم ولغوي جيد وناجح جدا في التعامل مع الشرقيين وفي شهر أبريل عام 1892م عين كيتشينر في منصب السردار أي القائد العام للجيش المصري برتبة أميرالاى أي عميد وأثناء شغله لهذا المنصب قامت القوات البريطانية فى عام 1893م بحفر مصرف حمل إسمه بطول 85 كيلومترا يبدأ من محافظ الغربية مرورا بمحافظة الدقهلية ثم محافظة كفر الشيخ والذى يمر بعدد من مراكزها ويصب في النهاية ببحيرة البرلس شمالي محافظة كفر الشيخ وكان اللورد كرومر الحاكم البريطاني الفعلي لمصر حينذاك يعتقد أن كيتشينر هو الرجل العسكري الأكثر إقتدارا ومهارة وحنكة الذي قابله في حياته ومن المواقف التي كلن كيتشينر طرفا فيها خلال هذه الفترة أنه في يوم 15 يناير عام 1894م قام والي مصر الخديوى عباس حلمي الثاني بزيارة أسوان ودعا عدد 33 ضابطا إنجليزيا للغذاء معه كان علي رأسهم قائدهم هربرت كيتشينر وفي أثناء الغذاء أبدى الخديوى بعض الملحوظات حول عدم كفاءة الجيش الإنجليزى فإعترض كيتشينر علي تلك الملحوظات وغضب غضبا شديدا وأبلغ اللورد كرومر الذى أبلغ بدوره وزير خارجيته وثارت ضجة في بريطانيا وتعالت الأصوات مهاجمة الخديوى وتنادى بضرورة خلعه وكتبت الصحف في صفحاتها الأولى إن الخديوى عباس حلمي الثاني يعامل الإنجليز في مصر معاملة الأعداء وطلب منه اللورد كرومر ومارس ضغوطا شديدة عليه بأنه من الضرورى أن يصدر أمرا عسكريا يثني فيه على كفاءة الجيش الإنجليزى ويشيد به وتحت هذه الضغوط صدر هذا الأمر يوم 21 يناير عام 1894م وإمعانا في إذلال الخديوى والتنكيل به ومعاقبته علي ماصرح به طالبوه بضرورة إقالة نظارة مصطفي رياض باشا وبالفعل أقيلت وتم تكليف نوبار باشا بتشكيل النظارة الجديدة .

وكان مقتل الجنرال تشارلز جوردون في السودان صفعة قوية لبريطانيا لا يمكن نسيانها أو بلعها بسهولة من جانبها وإن كان بدايةً لمرحلة جديدة من التاريخ السوداني دشنت خلالها فترة حكم وطني سرعان ما إنتهى على يد المستعمر الإنجليزي الذي عاد من جديد قبل نهاية القرن التاسع عشر الميلادى ليحتل البلاد مرة أخرى حيث لم تمض إلا حوالي 10 سنوات وتم فتح السودان مرة أخرى خلال الفترة من عام 1896م وحتي عام 1899م عندما غزت القوات الإنجليزية المصرية السودان مرة أخرى للقضاء على الدولة المهدية وتدميرها وقاد كيتشينر حملة الغزو الثنائي البريطاني المصري على السودان عام 1898م والتي تصدت لها قوات المهديين في معركة كرري الشهيرة شمالي أم درمان والتي وقعت في الساعة السادسة صبيحة يوم 2 سبتمبر عام 1898م وكان قوام القوات المهدية 60 الف جندى وتعداد الجيش الإنجليزي المصري حوالي 6 آلاف جندي ولكنهم كانوا مسلحين بالمدافع الرشاشة والمدافع الأوتوماتكية الحديثة تدعمهم البواخر الحربية وشنت القوات البريطانية المصرية هجوما شرسا علي قوات المهديين ولم يستطع أي جندي سوداني الوصول لمعسكرهم وذلك نظرا لكثافة النيران وفي تمام الساعة الثامنة صباحا أي بعد ساعتين من بداية المعركة أمر كيتشينر بوقف إطلاق النار بعد سقوط أكثر من 18 الف قتيل من القوات السودانية إضافة إلى أكثر من 30 الف جريح ووقوع 5 آلاف في الأسر وإنتهت المعركة بإنسحابها إلى غرب السودان ودخول كيتشينر أم درمان عاصمة الدولة المهدية وقام بقصف قبة المهدي بأم درمان فأصابها الدمار ولم يتم إصلاحها بعد ذلكة إلا في عام 1955م وتم إعلان نهاية الدولة المهدية ومن ثم أعيد الحكم الإنجليزي المصري للسودان الذي ظل قائما حتى إستقلال السودان في عام 1956م وكان هذا الغزو بمثابة إستعادة للأراضي التي فقدت خلال الثورة المهدية ما بين عام 1881م وعام 1885م وفي يوم 19 يناير عام 1899م وقعت إتفاقية الحكم الثنائي المصرى الإنجليزى للسودان والتي وقعها عن الجانب المصرى بطرس غالي باشا ناظر الخارجية المصرى حينذاك وعن الجانب البريطاني اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني في مصر والتي كان من أهم بنودها أن يستعمل العلمان البريطاني والمصري معا في البر والبحر بجميع أنحاء السودان فيما عدا ميناء سواكن فلا يستعمل فيها إلا العلم المصري فقط ولا يجوز تعيين قناصل أو وكلاء قناصل أو مأموري قنصليات بالسودان ولا يصرح لهم بالإقامة فيه قبل المصادقة على ذلك من الحكومة البريطانية كما تم تعيين كيتشينر حاكم عام على السودان بناءا على طلب الحكومة البريطانية وكان هذا يعني فعليا سلخ السودان فعلا عن مصر وإستئثار الحكومة الإنجليزية بحكمه وإدارته وقام كيتشينر كممثل للمستعمر الإنجليزى بتخليد ذكرى الجنرال الراحل تشارلز جوردون بإنشاء مدرسة عليا أطلق عليها كلية جوردون التذكارية والتي أصبحت فيما بعد تحمل إسم جامعة الخرطوم كبرى جامعات البلاد حاليا كما قام بمد خطوط سكك حديدية تربط بين معظم مدن السودان وتشييد الجسور المعدنية علي النيلين الأبيض والأزرق بين الخرطوم وأم درمان وبين الخرطوم والخرطوم بحري وببناء القصر الجمهوري الموجود إلى يومنا هذا وعلاوة علي ذلك فقد قام بتأسيس نظام إدارى حديث في السودان كما أنشأ مبانيَ الإدارات المحلية في مدنه .

وكانت المحطة التالية في مسيرة كيتشينر في جنوب أفريقيا حيث تم تعيينه بداية من عام 1900م قائدا للقوات البريطانية خلال حرب البوير الثانية وكان الصراع بين بريطانيا وبين البوير وهم طبقة أبناء الهولنديين في الجنوب الأفريقي قد إحتدم في القرن التاسع عشر الميلادى حيث سيطرت بريطانيا على سواحل جنوب أفريقيا في مستعمرات الرأس Cape ومنطقة الناتال وهو ما دفع البوير إلى النزوح إلى الشمال وتأسيس جمهوريتي الترانسفال والأورنج الحرة تحت وطأة القرار البريطاني بمنع الرق الذي كانت هذه الطبقة من المزارعين تحتاج إليه من أجل الزراعة وقد إستتب السلام بين الجمهوريتين من ناحية والأراضي الواقعة تحت الحكم البريطاني من ناحية أخرى ولكن هذه الظروف كانت تتغير مع مرور الوقت على ضوء عاملين أساسيين الأول هو التوجهات الإمبريالية التوسعية للإمبراطورية البريطانية ورغبتها المتصاعدة في ضم هاتين الجمهوريتين إلي مستعمراتها وبخاصة بعد تأسيس رجل الأعمال البريطاني سيسيل رودس جمهورية روديسيا فيما يعرف اليوم بزيمبابوي أما العامل الثاني فكان إكتشاف وجود مناجم للماس والذهب في الجمهوريتين وهو ما فتح الباب أمام هجرات بريطانية إليهما وأطلق علي هؤلاء المهاجرين الجدد إسم الغرباء وقد توسعت الهجرة إلى الحد الذي دفع رودس لترتيب إنقلاب فاشل علي حكومة الترانسفال مما أسفر عن إحتكاكات إنتهت بإعلان حرب البوير الثانية خلال الفترة من عام 1899م وحتي عام 1902م عندما سعى رئيس جمهورية الترانسفال لمحاولة إحتواء توغل الغرباء وتجنيسهم وقد إعتقدت لندن أن هذه الحرب بين الجيش البريطاني العظيم ومجموعة مزارعين ستكون سهلة تنتهي بهزيمتهم كما حدث في حرب البوير الأولى عام 1880م التي إنتهت بالإعتراف بإستقلال الترانسفال مع إبقائها تحت السيادة الفعلية البريطانية ولكن البوير رغم أنهم لم يكن لديهم جيشا منظما في الجمهوريتين إلا أنهم كانوا أكثر تنظيما مما إعتقد البريطانيون فإستعدوا على الفور من خلال ما عرف باسم ميليشيات الخيالة وكان الإسم الدارج لهم هو الكوماندوز والذين كانوا يمتلكون مدفعية غير نظامية متحركة ورغم أن كلتا الجمهوريتين لم يكن لديهما أي منفذ بحري فإن المساعدات والعتاد كانا يأتيان إليهما من شرق أفريقيا البرتغالية وبالتالي أصبح الصراع المفتوح بين الجيش البريطاني النظامي الذي كان يهدف لإخضاع الجمهوريتين وضمهما من ناحية والكوماندوز الذين كانوا يأملون في نصر عسكري سريع حيث أن إستمرار الحرب بين الطرفين كان أمرا مكلفا للغاية للطرفين وهو ما سوف يدفعهما بالتأكيد للدخول في مفاوضات بينهما تسمح بقدر كبير من الإستقلال للدولتين بعيدا عن النفوذ البريطاني المستشري في المنطقة .

وقد بدأت الحرب بتحقيق البوير لكثير من الإنتصارات من خلال تحركات الكوماندوز السريعة المدعومة من ميليشيات من الجنسيات الرافضة للحكم البريطاني في الرأس والناتال مما بات يهدد سيادة بريطانيا على هاتين المقاطعتين وبخاصة أن الجيش البريطاني كان موزعا على جبهة طويلة المدى ولم يكن بإستطاعته الصمود بشدة أمام حرب العصابات التي يشنها الكوماندوز ولكن هذه الهجمات سرعان ما فقدت قوة الدفع الأولية عندما صمدت القوات البريطانية وإزاء هذه الخطوة لجأ البوير إلى تكتيك مختلف لهزيمة الجنرال بولر القائد البريطاني حيث ركزوا قواتهم في ثلاث معارك محورية في نهاية عام 1899م ومطلع عام 1900م مما أسفر عن هزائم بريطانية متتالية وبخاصة خلال المعركة التي سميت سبيون كوب ولما تأزمت الأمور ووصلت إلي هذا الحد دفعت بريطانيا علي الفور بقيادة جديدة للقوات علي رأسها هربرت كيتشينر الذى كان يتمتع بكونه شخصية عسكرية قوية إضافة إلى تعزيزات كثيرة لجيشها في جنوب أفريقيا من أستراليا ونيوزيلاندا وكندا إلى جانب الهند حيث وصلت هذه القوات إلى ما يقرب من نصف مليون مقاتل بعد إنضمام الغرباء لهم وهو ما لم يكن للبوير طاقة به ومن ثم إستمروا على نهج حرب العصابات دون السعي للدخول في مواجهة مفتوحة كما كان يحدث من قبل وقد سعى البوير لجمع التعاطف الدولي لقضيتهم في قارة أوروبا ورغم نجاحهم في هذا التوجه إلا أن إن الدبلوماسية البريطانية كانت أقوى من كل ذلك حيث ضغطت على البرتغال لإغلاق منفذ التموين والدعم عبر مستعمراتها في شرق أفريقيا إلى جمهورية الترانسفال وهو ما وضع البوير في موقف صعب للغاية ومع هذه القوة الهائلة لجأ القائدان البريطانيان كيتشينر وبولر إلى سياسة الأرض المحروقة وأسر عائلات البوير من النساء والأطفال والشيوخ ووضعهم في معتقلات جماعية أقل ما توصف به بأنها كانت غير آدمية مات فيها الآلاف بسبب الجوع أو سوء التغذية أو الوباء والمرض وقد كفلت هذه السياسة للجيش البريطاني الإنتصارات الممتدة فاستولوا على المدن الرئيسية مثل بريتوريا وجوهانسبرج وإنتهت هذه السياسة بإستيلاء بريطانيا على الجمهوريتين وهروب رئيس الترانسفال كروجر إلى أوروبا لحشد الدعم وقد ظن الجميع أن الحرب قد إنتهت ولكن سرعان ما برز في البوير قادة جدد مثل بوثا ودي ويت إستطاعوا إعادة تنظيم الصفوف والدخول في حرب عصابات مجددا معتمدين على قدرتهم على الحركة وقد حقق هذان القائدان إنتصارات لا بأس بها مستغلين إنسحاب كثير من الفرق البريطانية وفي إحدى هذه المعارك تم أسر قائد بريطاني هو الجنرال اللورد ميثيوم ومرة أخرى لجأ البريطانيون إلى تطبيق سياسة الأرض المحروقة بكل وحشية وكان من أكثر القادة البريطانيين إستخداما لأساليب وحشية خلال تطبيقه لهذه السياسة هو القائد البريطاني هربرت كيتشينر نفسه الذي سجل التاريخ له جرائم حرب تضعه اليوم في مصاف مجرمي الحرب الدوليين بعدما تسبب في موت ما يقرب من حوالي عدد 42 ألف من النساء والشيوخ والأطفال ولكن كما هو الحال فإن التاريخ ينصف المنتصر مؤقتا حيث أنه من خلال هذه الحملات بدأ كيتشينر صعوده العسكري الذي دفعه إلى مصاف القيادات البريطانية العليا في كثير من الدول وأمام هذا الموقف العصيب إضطر البوير إلى الخضوع للضغوط غير الإنسانية للبريطانيين ودخلوا في مفاوضات معهم أسفرت عن التوقيع على إتفاقية فرينيجنج في يوم 31 مارس عام 1902م التي أقامت دولة فيدرالية لجنوب أفريقيا وقد كفلت هذه الإتفاقية حقوقا متساوية نوعا ما بين البوير والبريطانيين تحت الحكم والسيادة البريطانية وقد تضمنت هذه الإتفاقية تعويضا من بريطانيا بمبلغ 3 ملايين جنيه إسترليني لإعادة إعمار ما خربته الحرب ووعدا بتوفير حكم ذاتي محدود للبوير مستقبلا وقد تحقق ذلك في خلال عام 1906م وعام 1907م وجدير بالذكر أن ثمن النصر البريطاني كان باهظا حيث تكلفت الحرب 211 مليون جنيه إسترليني وهو ما يوازي أكثر من 200 مليار جنيه إسترليني حاليا كما تسببت هذه الحرب في مقتل عدد 22 ألف جندي بريطاني وإصابة أكثر من 75 ألفا آخرين ولذلك فقد مثلت تلك الحرب نقطة سوداء في تاريخ علاقة بريطانيا بمستعمراتها الأفريقية والآسيوية .

وبعد إنتهاء حرب البوير الثانية عام 1902م عاد كيتشينر إلى بريطانيا وأنعم عليه بلقب نبيل وعين قائدا أعلى للقوات في الهند وهناك إنضم لتنظيم الماسونية العالمية وأسس رابطة كيتشينر بها وأثناء عمله في الهند إختلف مع الحاكم العام البريطاني للهند اللورد جورج كورزون والذى قدم إستقالته في النهاية وعاد إلي بلاده عام 1905م وبعدها مكث كيتشينر في الهند حوالي 4 سنوات ثم غادرها عام 1909م وحاز على لقب مارشال وفي يوم 27 سبتمبر عام 1911م وفي عهد الخديوى عباس حلمي الثاني تم تعيين اللورد هربرت كيتشينر كمعتمد سامي بريطاني في مصر وحاول خلال توليه هذا المنصب أن يهدئ الأوضاع عن طريق إجراء إصلاحات محدودة فأشار بإنشاء الجمعية التشريعية بدلا من مجلس شورى القوانين وفي يوم 22 يناير عام 1914م أصدر الخديوى عباس حلمي الثاني مرسوما بإنشائها وتعيين سعد زغلول باشا رئيسا لها وفي بداية شهر أبريل عام 1914م رغب الخديوى في تغيير النظارة القائمة حينذاك وكانت برئاسة محمد سعيد باشا لوجود شبهات بتقديم رشاوى للنظار وإفسادهم وتحريضهم ضد الخديوى فأبلغه كيتشينر بضرورة تعيين مصطفي فهمي باشا رئيسا للنظار وأنه لن يرضى بغيره بديلا وبعدما وافق الخديوى عاد كيتشينر إمعانا في إذلال الخديوى واظهارا لقوته وطلب منه تغيير مصطفي فهمي باشا بآخر فكلف الخديوى حسين رشدى باشا بتشكيل النظارة فشكلها في يوم 5 أبريل عام 1914م ومع بدابة الحرب العالمية الاولي في منتصف عام 1914م تم تعيين كيتشينر وزير دولة لشؤون الحرب وكان من القلائل الذين توقعوا حربا طويلة المدى تستمر على الأقل لمدة ثلاث سنوات وبالسلطة المخولة إليه عمل بشكل فعال على هذا التصور وقام بتنظيم أكبر جيش تطوعي شهدته بريطانيا في تاريخها وأشرف على توسع كبير في إنتاج المواد لقتال الألمان على الجبهة الغربية في فرنسا وبلجيكا وفي هذه الفترة من حياته كان كيتشينر يعد الرمز العسكري المتربع على عرش قلوب البريطانيين إلا أنه لم يحظ بشعبية بين زملائه من السياسيين والعسكريين ويعتقد أن نفوره من العمل ضمن فريق قد ساهم في نجاح زملائه من الوزراء الآخرين ويؤثر عنه قوله لمستشاريه لا يجرؤ أحدكم على تذكيري باللوائح والأعراف فهي إنما وضعت لإرشاد الأغبياء وعلي الرغم من أنه كان قد حذر من صعوبة توفير المؤن والإمدادات والذخائر لحرب طويلة فقد ألقيت عليه مسؤولية نقص القذائف في ربيع عام 1915م وهي إحدى الأحداث التي أدت إلى تشكيل حكومة إئتلافية في بريطانيا وتجريده من سيطرته على العتاد والإستراتيجية إلا أنه لم يقدم إستقالته من منصبه كوزير لشؤون الحرب وفي يوم 5 يونيو عام 1916م كان كيتشينر يشق طريقه إلى روسيا على متن السفينة إتش إم إس هامبشاير لحضور مفاوضات مع القيصر الروسي نيقولا الثاني إمبراطور روسيا وكانت هذه المهمة قد إضطر رئيس مجلس الوزراء البريطاني حينذاك ديفيد لويد جورج إلى عدم القيام بها بسبب الصراع الدائر في أيرلندا الشمالية إلا أن كيتشينر قرر أن يتطوع ليقوم مقامه بتلك المهمة المحفوفة بالمخاطر وهو القرار الذي دفع حياته ثمنا له حيث إصطدمت السفينة التي كان يستقلها بلغم ألماني على بعد 1.5 ميل غرب جزر أوركني بإسكتلندا وغرقت بكل من كان علي متنها ومن ثم كان كيتشينر من بين عدد 737 فرد غرقوا معها وكان قد بلغ من العمر حينذاك 66 عاما ويتبقي لنا أن نذكر أنه قد نال العديد من الأوسمة والأنواط والنياشين تكريما له خلال حياته وإعترافا بالخدمات التي قدمها لبلاده بريطانيا منها وسام فرسان الرباط ووسام القديس باتريك ووسام آمر الطريق برتبة فارس أعظم ووسام الإستحقاق ووسام نجمة الهند ووسام القديس ميخائيل والقديس جرجس ووسام إمبراطورية الهند برتبة فارس أعظم .
 
 
الصور :