بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
عمر سلطان باشا كان من كبار أعيان مديرية المنيا وهو ينتمي لبيت من أعرق بيوت المجد حسبا ونسبا وجاها وكرما وصفه معاصروه بأنه كان كريما له في القلوب أعز المنازل ووجيها له إحترامه في الأفئدة وأديبا تتفاخر بأدبه الأدباء وفاضلا يعترف بفضله الفضلاء وجوادا محسنا يجاهر بجوده البؤساء والفقراء وكان مولده في مدينة المنيا عام 1882م عروس صعيد مصر لأبوين شريفين فوالده محمد سلطان باشا والذى كان من الرعيل الأول من السياسيين المصريين حيث كان رئيسا لأول مجلس نيابي في مصر ودعامة من أبنائها يوم هبت العواصف الثورية وكان قد قدم مع أبيه من أرض الحجاز لمصر مع الهجرات العربية التي وفدت إلي مصر خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادى وإستقر بإحدى القرى التابعة لمركز المنيا والتي يطلق عليها إسم قرية سواده والتي تقع في الجهة الشرقية للنيل أمام مدينة المنيا وعرف عنه الكرم والسماحة والذكاء الحاد وكان يمتلك أهداف وطموحات كبيرة لم يكن لها حدود وبدأ يتقرب بذكاء إلى دائرة حاشية الخديوي إسماعيل في ذلك الوقت حتى تمكن بعد فترة قصيرة من الوصول إلى الخديوى وقامت بينهما صداقة قوية حتى وصلت إلى ثقة الخديوى إسماعيل الكبيرة به وبذلك بدأ يتدرج محمد سلطان باشا في المناصب المهمة داخل الصعيد حتى تمكن من الوصول إلى منصب حاكم الصعيد وحاز لقب ملك الصعيد وكان ذلك المنصب من أهم المناصب في ذلك الحين داخل الدولة المصرية لأن صاحب ذلك المنصب كان يتمتع بشأن وقيمة كبيرة داخل الدولة المصرية آنذاك وبعد الوصول لذلك المنصب الهام في تلك الفترة بدأ سلطان باشا يسعى إلى الوصول والدخول في مجلس شورى النواب وبالفعل حقق هدفه في الدخول للمجلس حتى وصل إلى أن يكون رئيسا للمجلس في شهر ديسمبر عام ١٨٨١م في عهد الخديوى توفيق .
وكان الخديوى توفيق قد إفتتح هذا المجلس بنفسه في يوم 26 ديسمبر من العام المذكور وقام بتلاوة خطبة العرش ومما جاء فيها موجها حديثه إلي أعضاء المجلس أنتم تحيطون علما أن جل مقاصدى ومساعى حكومتى هى راحة الأهالى ورفاهيتهم وإنتظام أمورهم بتعميم العدالة بينهم وتأمين سكان القطر المصرى على إختلاف أجناسهم وهذا منهجى واضح مستقيم وعليه أسير منذ أن توليت أمركم محبا للتربية ونشر العلوم والمعارف فعلى المجلس أن يكون مساعدا للحكومة فى هذه الأمور كلها وطبقا لرواية عبد الرحمن الرافعى فإن الجميع هتف للخديوى توفيق فور إنتهاء خطبة العرش وأطلقت المدافع من القلعة مؤذنة بإنتهاء الخطاب مبشرة بإجتماع المجلس ثم غادر الخديوى مكان الإجتماع وصدحت الموسيقى بنغمات التحية وعاد الخديوى إلى سراى عابدين فى موكب حافل وقد تجاوزت الحكومة عما جاء باللائحة الخاصة بالمجلس بسرية جلسات المجلس في هذا اليوم فدخل كثير من النظار مكان الإجتماع ووقفوا حول الأعضاء حتى إنتهت حفلة الإفتتاح وفي هذا الحفل لم يدع أحد من قناصل الدول الأجنبية إلى الحضور وأعد فى القاعة 120 كرسيا لجلوس النواب وبعد إنصراف الخديوى توفيق إستراح النواب لمدة ساعة ثم عادوا إلى قاعة المجلس مرة أخرى لإستئناف باقى الأعمال فألقى محمد سلطان باشا رئيس المجلس خطبة أكد فيها على شدة الإرتباط بالدولة العلية وقد ظل محمد سلطان باشا رئيسا لهذا المجلس حتي شهر مارس من العام التالي 1882م ثم عاد مرة أخرى رئيسا له من شهر نوفمبر عام 1883م حتي شهر أغسطس عام 1884م .
وكان محمد سلطان باشا أول مشارك وداعم للعرابيين في ثورتهم ضد الخديوى توفيق ومؤيدا لمطالبهم ولكنه إنشق عنهم بل عمل ضدهم خلال الثورة العرابية ربما لأن السلطان العثمانى إجتذبه إلى صفوفه ليعمل ضد العرابيين وربما لأن الخديوى توفيق الجالس على عرش مصر شده إلى معسكره وأغراه بالمال والسلطة والجاه وربما لأن الإنجليز شدوه إلى معسكرهم وأغروه بالمناصب والألقاب حتى إنه كان أول مصرى يحصل على لقب سير من ملكة بريطانيا وكان يزهو بلقب سير ويرتدى دائما وشاح هذا اللقب الذى كان يقدمه على غيره فى الإحتفالات الرسمية وقد تملك محمد سلطان باشا أكثر من خمسين ألف فدان وعشرات القصور في مدن المنيا والقاهرة والإسكندرية وقد قام محمد سلطان باشا بتربية إبنه عمر أعظم تربية وشب في مهد العز والجاه فورث عن والده إسما كبيرا فكان إسمه في كل مشروع نافع مفيد في مقدمة الأسماء وكانت منزلته في كل عمل عمومي مقصد العاملين يهتز للحسنة إهتزاز كل كريم ويميل إلى الحسنة والإحسان ميل كل طيب العنصر ولما جاز سن الفتوة وجه همه إلى إدارة ثروته الواسعة وتدارك ميراث أبيه الكبير وحاول في الوقت نفسه أن يحسن من صورة أبيه التي شوهها بإنقلابه علي العرابيين وإنضمامه إلي الخديوى توفيق .
وكان عمر سلطان باشا عضوا في الجمعية الزراعية والتي كان الأمير حسين كامل قبل أن يصبح سلطانا وراء تأسيسها والتي تحولت بعد ذلك إلى وزارة الزراعة وكان عمر سلطان باشا عضوا أيضا في الجمعية الخيرية الإسلامية بمدينة المنيا وخلال عضويته فيهما برهن على كفاءة ومقدرة فائقة وسداد في الرأي وما من مشروع خيري عام يفيد مديريته ويجعلها في مصاف الأمم الراقية إلا ويكون الزعيم الأول فيه يساعده بمجهودات فكره وماله الفياض وفي الحقيقة لا يمكننا حصر أعمال هذا الفقيد الجليل ومآثره الخالدة ومجهوداته الفائقة وإهتمامه الشديد في طرق الإصلاح والعمران وتشهد مدينته المنيا علي العديد والعديد من مآثره الجليلة ناطقة له بالفضل والشكر والفخر والإعجاب ومما يذكر له بالإعجاب أيضا جمعه في داره الرحبة الفنية المشيدة بالقاهرة على أتقن الطرز العربية متحفا عربيا نفيسا جمع من الآثار ما يعود تاريخ بعضه إلى عهد الخلفاء الراشدين وعهد الأيوبيين والمماليك حتى عهد الأسرة المالكة وكان هذا المتحف مقصد العارفين بالفن والمغرمين بتاريخه فهو في الحقيقة كان قد جمع فيه كنزا ثمينا ومما إهتم به عمر سلطان باشا أيضا في حياته تأصيل الخيل العربية وتحسين نتاجها وقد إقتنى عددا كبيرا من الجياد المطهمة في مصر والمنيا وكان وهو في المنيا ينشط هذه الأعمال بإقامة السباقات ويدعو إليها الوجهاء والأعيان من القاهرة وغيرها من عواصم ومدن وقرى المديريات الأخرى .
ولم يعمر عمر سلطان باشا طويلا فقد إختطفه الموت سريعا وهو في ريعان الشباب في عام 1917م عن عمر يناهز 37 عاما ولبست المنيا كلها الحداد على فقدها رجلها العظيم المغفور له وغص بندرها بالعمد والمشايخ والتجار والأعيان الوافدين من جميع بلدانها إليه للتعزية والإشتراك في تشييع الجنازة وجاءت القطارات الخاصة من القاهرة مكتظة بالعظماء والأعيان والأصدقاء الوافدين لهذا الغرض نفسه وتفضل السلطان حسين كامل رحمه الله وأسكنه فسيح جناته فأناب عنه في تشييع الجنازة حضرة صاحب العزة محمود بك نصرت مدير المنيا وقتئذ وفي حضور المأتم حضرة عباس بك الدرة الأمين الثاني في الديوان العالي في ذلك العهد وأمره بإبلاغ آل الفقيد أرق عبارات التعزية هذا وقد شيعت جنازة الفقيد في إحتفال مهيب جدا تحيط بالنعش عساكر البوليس السواري والبيادة وتتقدمه الموسيقى الأميرية بأنغامها المحزنة وأرسلت السلطة العسكرية فرقة من جنودها البريطانيين للإشتراك في تحية الراحل العظيم وسار في الجنازة وجوه وذوات وعمد وموظفو مديرية المنيا والجهات المجاورة ووصل إلى المنيا لفيف من كبار أفراد عائلة سلطان باشا منهم سعادة شعراوي باشا وأسرة الفقيد علي بك إسماعيل ومحمد بك إبراهيم وفؤاد بك سلطان وتوفيق بك إسماعيل وغيرهم وأغلق التجار حوانيتهم ووضعوا شعار الحداد عليها وقد نحرت الذبائح الكثيرة ووزعت الصدقات على الفقراء والمساكين الذين نكبوا في أكبر المحسنين وعاد القوم بعد دفن الفقيد الكبير والحزن يفتت الأكباد علىيه والذي فقدت به البلاد المصرية ركنا قويا وقد أوقفت المدرسة الأميرية حفلتها السنوية للألعاب الرياضية وكذا جميع الحفلات الرسمية والأفراح في عموم المديرية حدادا على فقيد البلاد الكريم ومما يذكر أن الفقيد العظيم كان الإبن الذكر الوحيد لأبويه فكان عماد بيت محوط بإكرام الأمة وإجلالها لأن الأمة تتوق إلى صون كرامة بيوتها القديمة وعظمائها الذين خلفوا إسما وجاها ومات وهو لم يتعد عمره الخامسة والثلاثين عاما وترك طفلين صغيرين بنت وصبي لم تكد تحل عنهما التمائم رزء جلل في بيت كبير زال شبابه بزوال صاحبه وأقفرت رحابه إلى أن شب نجله فأعاد إلى ذلك البيت الكبير عظمته وجلاله .
تم دفن عمر سلطان باشا في المنطقة المعروفة حاليا بإسم زاوية سلطان والتي تقع علي الضفة الشرقية للنيل في مواجهة مدينة المنيا وذلك في المقبرة التي تضم جميع أفراد عائلة محمد سلطان باشا ومنهم غير عمر سلطان باشا زوجته وعمته نائلة هانم سلطان والدة الفنان جميل راتب ونور الهدى محمد سلطان وهي المعروفة بإسم هدى شعراوى رائدة الحركة النسائية ومحررة المرأة المصرية وهى كريمة محمد سلطان باشا وشقيقة عمر سلطان باشا وزوجة الثائر المعروف على شعراوى باشا أحد أعضاء الوفد المصرى مع الزعيم سعد زغلول باشا والذى أخذت منه إسمها المعروفة به والتي توفيت في يوم 12 ديسمبر عام 1947م وقد تم بناء هذه المقبرة عام 1860م علي الطراز الإسلامي وبأيدٍ فرنسية وعلى مساحة 1750 مترا مربعا منحوتة فى الصخور والجبال ويتوسطها فناء واسع محاط بساتر خشبى يضم بين جنباته الكثير من الشخصيات الهامة ويأتي إليها عادة أفراد من عائلة محمد سلطان باشا مرة كل 15 يوما لزيارتها كما تأتي إليها أيضا وفود أجنبية وسائحون وبعض كبار ومشاهير السياسة والفن والرياضة من مختلف محافظات الجمهورية لمشاهدة تلك المنطقة التي تحولت إلى مزار شعبي ليشاهدوا هذا الصرح العظيم وفي عام 2016م زارت لجنة تابعة لهيئة الآثار الإسلامية بالمنيا هذه المقبرة وقامت بمعاينتها لدراسة تسجيلها كأثر إسلامي وكتبت هذه اللجنة في تقريرها إن هذه المقبرة تعد مجموعة أثرية تستحق التسجيل ضمن الآثار وأنها تضم قباب ضريحية وتراكيب دفن وشواهد قبور ومباني مدنية عبارة عن سلاملك وحرملك للإقامة ومخازن وبئر للمياه وتلك المباني من الحجر والطوب الأحمر كما أن المقبرة تشمل نقوش وزخارف إسلامية رائعة الجمال وأنها مستعملة منذ عام 1301 هجرية الموافق عام 1884م وأنها تعتبر مجموعة معمارية فريدة من نوعها . |