بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
ويصا واصف باشا سياسي مصري وفدى من العهد الملكي وكان أول رئيس قبطي للبرلمان المصرى فى فترتين فى عهد الملك فؤاد الأول الأولي مابين يوم 20 مارس وحتي يوم 18 يوليو عام 1928م بعدما حل محل مصطفي النحاس باشا في رئاسة البرلمان بعدما تم تعيين هذا الأخير رئيسا للوزراء والثانية مابين يوم 11 يناير وحتي يوم 21 أكتوبر عام 1930م بعدما فاز حزب الوفد في الإنتخابات التي أدارتها وزارة عدلي يكن باشا الأخيرة وفاز فيها الوفد بالأغلبية وحتي صدور مرسوم بحل البرلمان من جانب حكومة إسماعيل صدقي باشا التي تولت حكم البلاد في شهر يونيو عام 1930م وكان ويصا واصف باشا معروفا بأنه رجل مثقف واسع الإطلاع مملوء حكمة وتبصر وإتزان حسبما وصفته الأديبة مي زيادة كما كان أيضا مؤيدا للآداب والفنون ورئيس شرف جماعة الخيال للفنون والتصوير والرسم والتي كان قد أسسها الفنان محمود مختار عام 1928م حيث كان للفن التشكيلي في هذه الفترة دورا كبيرا في تأييد حركة الكفاح الوطني من أجل الحرية والإستقلال وفي تأكيد الهوية المصرية ومما يذكر أن الأقباط قد بدأت طموحاتهم السياسية عندما أصبحت العائلات القبطية تشكل جزءا لا يتجزأ من طبقة كبار الملاك فى عهد والي مصر محمد سعيد باشا على حد قول الكاتب عادل منير فى كتابه الأقباط والبرلمان أصوات من زجاج وعندما نشأت الأحزاب السياسية فى مصر بداية من عام 1907م توزعت الإنتماءات السياسية للأقباط على مختلف هذه الأحزاب وبرزت أسماء قبطية شاركت فى صنع القرار السياسى وشاركت في العديد من الوزارات فكان منهم من شغل منصب رئيس الوزراء وهم نوبار باشا أول رئيس للنظار أي الوزراء في مصر وبطرس غالى باشا ويوسف وهبة باشا وكان منهم من شغل منصبا وزاريا مثل واصف بطرس غالي باشا ومرقص حنا باشا ويوسف سليمان باشا وويصا واصف باشا ومكرم عبيد باشا وإبراهيم فرج مسيحة باشا وصليب سامي باشا وغيرهم وكان منهم أيضا من تم إنتخابه عضوا في البرلمان مثل توفيق أندراوس باشا وفخرى بك عبدالنور وسينوت بك حنا وإستيفان باسيلي ويفسر ذلك الدكتور عبد الرحمن عبدالعال فى دراسة بالمركز القومى للبحوث عن مفهوم وقضايا المواطنة لدى الأقباط قائلا إن إنخراط الأقباط فى الأحزاب إنعكس على تواجدهم داخل الوزارة وداخل البرلمان وإن كانت نسبة المقاعد التى حصلوا عليها قد إختلفت من إنتخابات برلمانية إلى أخرى حسب تواجد حزب الوفد فى السلطة أو خارجها حيث كان من الثوابت التي سار عليها حزب الوفد دمج الأقباط في الحياة السياسية وإختيار العديد منهم كوزراء في حكوماته وأعضاء في برلمانه وتراوحت هذه النسبة فى أغلب الأحيان عندما كان الوفد في السلطة بين 8% إلي 10% من إجمالي عدد المقاعد فى برلمانات عام 1924م وعام 1926م وعام 1942م بينما تدنت إلى 2% فى الحالات التى كان الوفد فيها خارج السلطة كما حدث فى برلمانات عام 1931م في عهد وزارة إسماعيل صدقي باشا وعام 1938م في عهد وزارة محمد محمود باشا وعلي الرغم من حقيقة ما سجله هذا العهد الليبرالى من مشاركة سياسية نشطة للأقباط فإن تعمد القصر الملكى والأحزاب المتآلفة معه مناوئة حزب الوفد تسبب فى دفع فريق من الأقباط إلى الإنكفاء على الذات والعزوف عن المشاركة السياسية فى أواخر العهد الملكى .
وكان مولد ويصا واصف باشا في مدينة طهطا بصعيد مصر والتابعة حاليا لمحافظة سوهاج عام 1873م وبعد تخرجه من مدرسة الحقوق عمل بالمحاماة وبدأ مشواره الوطني بكتابة مقالات نارية أرسلها الي جريدة اللواء التي كان يصدرها الزعيم مصطفي كامل باشا ومن هنا بدأت علاقته بالحزب الوطني الذي أسسه مصطفي كامل باشا والذى إقترب منه ويصا واصف ومن خليفته محمد فريد باشا ويقول المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في هذا الشأن إن ويصا واصف قد تم إختياره في اللجنة الإدارية للحزب الوطني ضمن ثلآثين عضوا بارزا وبالتالي أصبح من قادة هذا الحزب إلي جانب الزعماء الكبار للحزب وبعد رحيل الزعيم مصطفي كامل باشا مؤسس الحزب في ريعان شبابه فتر بريق الحزب وإختلت موازينه وضعفت قبضة الزعيم الجديد محمد فريد ومن ثم ظهرت أجنحة متضاربة أبرزها جناح الشيخ عبد العزيز جاويش المتطرف دينيا والذى كان يدعو إلي الإرتباط بالباب العالي والخليفة العثماني وظهر جناح آخر ينادي بشعار مصر للمصريين يتزعمه أحمد لطفي السيد وأدي هذا الإنقسام إلي خروج عدد من العناصر الهامة من الحزب كان منهم ويصا واصف الذي إستقال من الحزب قرب أواخر عام 1908م بعد ستة أشهر فقط من رحيل الزعيم مصطفي كامل باشا وحدث حينذاك مالم يحمد عقباه فقد شعر الإنجليز بخطر الدعوة التي كان يتبناها كل من حزب الأمة والحزب الوطني إلي الإستقلال رافعين شعار مصر للمصريين فعمل كل من القصر والإنجليز علي بث الفتنة الطائفية بين المسلمين والاقباط وفي نفس الوقت قام أيضا كل من الدولة العثمانية التي يمثلها عبد العزيز جاويش والخديوى عباس حلمي الثاني الجالس علي عرش مصر بإشعال سعير نيران الفتنة وهنا تصدي ويصا واصف بشدة ضد هذه الفتنة المشتعلة ووقف مع العقلاء الذين كان علي رأسهم أحمد لطفي السيد لنزع فتيل الفتنة وإخماد صوت المؤتمر القبطي الذى إنعقد بأسيوط في يوم 6 مارس عام 1911م وللتصدي لمحاولات أخنوخ فانوس أحد أعيان أسيوط والذى كان الممول الأساسي لهذا المؤتمر لتكريس الطائفية وقاموا بتأكيد الدعوة إلي نبذ التيارات الطائفية والدعوة إلي الوحدة الوطنية وساعدهم في ذلك حينئذ مطران مدينة أسيوط وبفضل مجهوداتهم إنتهى المؤتمر بنتيجة أن حل المشاكل التي قد يعاني منها الأقباط لا يكون فى تمييزهم لكن فى مزيد من الإندماج في المجتمع وأن التوظيف لابد وأن يكون حسب الكفاءة والخبرة وأن التعليم المشترك أكثر فائدة وأن الإنتخابات بالإقتراع الحر العام هي الوسيلة التي تؤدى إلي إيجابية وفاعلية أكثر فى أداء الوظيفه النيابية من التمثيل النسبى وأن الحل الأمثل لآى مسألة بوجه عام يكفله الإندماج بين المسلمين والمسيحيين من منطلق قومى مما يؤدى إلي معالجة مشاكل الحياة ومن جانب آخر تصدى هؤلاء العقلاء أيضا للمؤتمر الإسلامي الذى عقد في نفس العام في مصر الجديدة والذى ترأسه مصطفي رياض باشا رئيس النظار الأسبق وتحملوا في سبيل ذلك إهانات من البعض وكان مما تعرض له ويصا واصف من إهانات أن لقبوه بيهوذا الإسخريوطي الذى خان المسيح عيسي عليه السلام لكنه تحمل تلك الإهانات هو ومن تصدوا للفتنة وتقبلوها بصدر رحب حيث كانت نظرتهم للمستقبل نظرة ثاقبة وصادقة .
وفيما بعد كان لسعد زغلول باشا وقادة الوفد الأثر الكبير في أن يقوم الحزب ويستمر علي مبدأ الوطنية دون النظر الي دين المواطنين ورفعوا شعار الدين لله والوطن للجميع وحدث موقف رائع من ويصا واصف وفخري عبد النور وتوفيق أندراوس حيث ذهبوا إلي سعد زغلول باشا وطلبوا منه أن ينضموا إلي الوفد وكان لهذه المقابلة صدي قوى في قلب سعد زغلول باشا مرحبا ومشجعا لهذا الموقف ولقي طلبهم قبولا فوريا واصبح الوفد بإنضمام الأقباط إليه قوة قوية أمام كل من القصر والمستعمر الإنجليزي وأضحي حصن أمان للوطن كله دون التفرقة بين عنصريه من المسلمين والأقباط وبعد عودة الزعيم سعد زغلول باشا وصحبه من منفاهم في جزيرة مالطة سافر الوفد إلي باريس لعرض مشروع إستقلال مصر وضم الوفد ويصا واصف عضوا ومستشارا للوفد وقد كان بمثابة المتكلم الرسمي له ولما إنقسم الوفد كان ويصا واصف وحافظ عفيفي وواصف غالي في صف سعد زغلول باشا وكان لهم رأي واحد ضد القصر وتيار عدلي يكن باشا ورفاقه الذين كانوا متساهلين مع مطالب وشروط المستعمر الإنجليزي عكس ما كان يرمي إليه سعد باشا ورفاقه ولم يبق في صفه إلا عدد قليل من ضمنهم ويصا واصف وواصف غالي ومصطفي النحاس باشا وعلي ماهر باشا وسينوت بك حنا الذين كانوا معه حينذاك كالظل وحينما فشلت المفاوضات التي كان يجريها عدلي يكن باشا مع الإنجليز في لندن وعاد في أوائل شهر ديسمبر عام 1921م إلي مصر أصدر الإنجليز قرارا بنفي سعد زغلول باشا وعدد 5 من رفاقه إلي جزيرة سيشل وفي فجر يوم 24 يوليو عام 1922م إعتقل الإنجليز قيادات الوفد الجديدة بالقاهرة وكان علي رأسهم ويصا واصف باشا ومرقص حنا وحمد الباسل وواصف بطرس غالى وعلوى الجزار وجورج خياط ومراد الشريعى وكان ويصا واصف عند صدور الأمر بإعتقاله يترافع في إحدي القضايا وحينما إنتهك عسكر الإنجليز قاعة المحكمة أمر رئيس المحكمة وكان سويسريا بعدم المساس به كما ثار المحامون ضد هذا الإجراء لكن فور خروج ويصا من المحكمة تم القبض عليه وإقتادوه إلي قشلاق قصر النيل هو ورفاقه المقبوض عليهم رهن التقديم لمحاكمة عسكرية عاجلة بتهمة طبع منشورات تحض على كراهية وإحتقار الحكومة المصرية وكان كل دفاعهم محصورا في عبارة واحدة وهي أن قالوا للإنجليز لكم أن تحكموا علينا وليس لكم أن تحاكمونا وإن محكمتكم في الأساس غير مختصة بمحاكمتنا فإن كان هناك إجرام فوقوفنا لا يكون أمام المحاكم الإنجليزية بل أمام المحاكم المصرية فإذا حكمتم علينا فليس لنا إلا أن نقبل حكم القوة الغاشمة باسمين وبعد محاكمة سريعة صدر حكم المحكمة العسكرية على السبعة بالإعدام والذين لما جاءوا لهم بمنطوق الحكم ليتلى عليهم في محبسهم بثكنات قصر النيل صاحوا جميعا فلتحيا مصر .
وقام اللورد أدموند اللنبي المندوب السامي البريطاني في مصر حينذاك بتخفيف الحكم إلى السجن سبع سنوات وغرامة خمسة آلاف جنيه وفي وقت هذه المحاكمة قام محمد أبو شادى وكيل نقابة المحامين حينذاك بمجهود شاق إذ قام بجمع توقيعات جميع المحامين بالقطر المصرى على مذكرة تم رفعها للملك فؤاد الأول وطلب مقابلته وتم تشكيل لجنة للدفاع عن جميع المتهمين كما أرسل مجلس النقابة برقية الى النقيب السجين مرقص حنا قال فيها يا حضرة الزميل سجنت أو لم تسجن أنت نقيب المحامين ولقد زدت عندهم منزلة وعلوت قدرا بما تتحمله من الأذى والتضحية في سبيل أشرف وأنبل مقصد فالله يرعاك فى شدتك ويبارك فى إخلاصك وثباتك وبعد تخفيف الحكم ليكون بالسجن 7 سنوات تم حبس أعضاء الوفد السبعة في سجن قره ميدان وهو السجن الذي يسجن فيه القتلة والمجرمون واللصوص ونفذ عليهم نظام السجون وقد شعر اللورد اللنبي نفسه بأن هذا النظام فيه ظلم وقسوة وأنه يجب أن يستبدل السجن بمكان آخر وفي شهر مارس عام 1923م ومع تولي يحيي إبراهيم باشا رئاسة مجلس الوزراء فكر أولو الأمر في الإفراج عن المعتقلين والمنفيين وجاء هذا الخبر لأعضاء الوفد السبعة المسجونين فخشوا أن يكون هذا الإفراج بثمن وأن تدفع مصر هذا الثمن فأوصوا من جاءهم بالخبر بأنهم لا يقبلوا مطلقا أن يكون الإفراح عنهم بطريقة المساومة وأنهم لا يقبلون أى مساومة من أجل حريتهم فأبلغ هذا القول للوزارة وفي النهاية عرض عليهم أن يحصلوا على الإفراج في مقابل مبلغ من المال وإنتهى الأمر أخيرا بأن علمت أم المصريين السيدة الفضلى صفية هانم زغلول حرم الرئيس الجليل سعد زغلول باشا أن الإفراج موقوف على مبلغ من المال فلم يرضها أن يمكث أعضاء الوفد دقيقة واحدة في السجن إن كان الأمر موقوفًا على دفع المال ومن ثم أمرت بأن يدفع هذا المال فورا من جيبها الخاص حتى يفرج عن نواب الأمة أعضاء الوفد المصري ولكن أعضاء الوفد المسجونين أبوا عليها هذا الدفع وحينئذ تقدم الكثيرون وصمموا على الدفع والذى تم فعلا وتم في أثره الإفراج عنهم بعد حوالي ثمانية أشهر قضوها في السجن .
وفي برلمان عام 1926م فاز ويصا واصف باشا بعضوية مجلس النواب وتم إختيار سعد زغلول باشا رئيسا للمجلس ومصطفي النحاس باشا وكيلا له وبعد وفاة سعد زغلول باشا في يوم 23 أغسطس عام 1927م تم إختيار مصطفي النحاس باشا رئيسا للوفد ورئيسا للمجلس وحل محله ويصا واصف باشا في منصب الوكيل وبعد أشهر قليلة وفي شهر مارس عام 1928م تم تعيين النحاس باشا رئيسا لمجلس الوزراء ومن ثم ترك منصب رئيس مجلس النواب وأصبح ويصا واصف باشا رئيسا للمجلس حتي يوم 18 يوليو عام 1928م حيث قام محمد محمود باشا الذى تولي منصب رئيس مجلس الوزراء في شهر يونيو عام 1928م بإصدار مرسوم بحل المجلس وبعد سقوط وزارة محمد محمود باشا في شهر أكتوبر عام 1929م وتولي عدلي يكن باشا رئاسة الوزارة التي كانت إنتقالية لكي تدير الانتخابات البرلمانية التي أجريت في أواخر عام 1929م وفاز فيها الوفد بالأغلبية وبالتالي تولي مصطفي النحاس باشا منصب رئيس الوزراء وتولي ويصا واصف باشا رئاسة مجلس النواب مرة أخرى في يوم 11 يناير عام 1930م وفي ظل رئاسته للمجلس في هذه المرة وقع خلاف دستوري بين الملك فؤاد والنحاس باشا رئيس الوزراء وفي مجلس النواب طرح هذا الخلاف للمناقشة ووقف النائب عباس محمود العقاد يقول بصوته الجهوري يقول تسحق أكبر رأس في البلد إذا إعتدت على الدستور ولم يحاول رئيس البرلمان أن يمنع المناقشة أو ينتقل لجدول الأعمال كما هو المعتاد في مثل هذه المواقف أو أن ينصح العقاد بأن يخفف من وقع عباراته فأقال الملك فؤاد حكومة النحاس باشا وكلف إسماعيل صدقي باشا ثعلب السياسة المصرية في يوم 19 يونيو عام 1930م بتشكيل الوزارة الجديدة وشرع في التنكيل السياسي بخصومه وعلى رأسهم النحاس وأعوانه من الوفديين وحاولت تلك الحكومة ضم ويصا واصف إليها لكنه رفض رفضا قاطعا فعادت الحكومة تطلب منه أن يضع حدا لمثل هذه المناقشات الساخنة التي تطال شخصيات مهمة في البلد والتي أدت لإقالة وزارة النحاس باشا فأبى وأصر على رفضه فأصدر الملك فؤاد مرسوما ملكيا بتعطيل الحياة البرلمانية إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا فإنفجرت المظاهرات في أماكن عديدة من القاهرة العاصمة وسارعت بريطانيا بإرسال بارجتين عسكريتين إلى شواطئ الإسكندرية وسرعان ما دفع صدقي باشا بقوات الأمن لقمع هذه المظاهرات ثم أغلق كل الشوارع المؤدية إلى البرلمان وأغلق أبواب البرلمان بالسلاسل فإذا بمصطفى النحاس باشا يقتحم الحصار بسيارته وفي أثره نواب البرلمان حتى وصلوا لمبني البرلمان وقرر جميعهم تكسير السلاسل وإقتحام البرلمان بالقوة ولكن مصطفى النحاس باشا رفض بحزم وقال هذا ليس من صلاحياتنا وإنما من صلاحيات رئيس البرلمان فهو وحده صاحب الحق في أن يقوم بهذا العمل وصاحب الحق في أن يأمر الحراس بفعل هذا فتقدم رئيس مجلس النواب آنذاك ويصا واصف وأمر الحراس بتحطيم السلاسل وفتح الأبواب فنفذوا أمره ومضى الموكب إلى داخل البرلمان يتقدمهم ويصا واصف وكانت مظاهرة رائعة وتحدث فيها مصطفى النحاس بإعتباره نائبا عن دائرة سمنود فما كان من إسماعيل صدقي باشا إلا أن إستصدر مرسوما بحل مجلس النواب إلى أن تجرى إنتخابات لا يكون للوفد فيها الأغلبية ولتستمر حكومة صدقي باشا حتى يوم 4 يناير عام 1933م وليعود ويصا واصف إلى العمل بالمحاماة أمام المحاكم المختلطة ولم يعمر طويلا بعد ذلك حيث توفي في عام 1931م عن عمر يناهز 58 عاما ومضى المشيعون لجثمانه يهتفون في الجنازة قائلين لن ننساك يا ويصا لن ننساك يا محطم السلاسل وبرحيله خسرت مصر رجلا وطنيا محبا لبلده حريصا علي تماسك شعبها بعنصريه حيث كانت الوطنية المصرية في حياته حتي النخاع فكلما كان يرزق بمولود كان يطلق عليه إسم مصري صميم فكان أبناؤه رمسيس وأوزوريس وأوريس وإيزيس وسيروس .
ولا يفوتنا هنا أن نذكر صفحة من تاريخ الصراع الحزبي في مصر حيث كان ويصا واصف باشا واحدا من أبطالها الثلاثة مع الزعيم مصطفي النحاس باشا وجعفر بك فحرى في القضية الشهيرة المعروفة بقضية الأمير أحمد سيف الدين شقيق الأميرة شويكار والدة زوجة محمود فخرى باشا شقيق جعفر بك فخرى والذى كان قد أطلق الرصاص في عام 1898م علي الأمير فؤاد قبل أن يصبح سلطانا ثم ملكا وتم القبض عليه ومحاكمته ومكث في السجن سنتين ثم تم الحجر عليه وعلي أملاكه وإيداعه في مصحة بإنجلترا في عام 1900م وحاولت شقيقته الأميرة شويكار وأمه الأميرة نجوان إخراجه منها دون جدوى حتي تمكنتا من تهريبه إلي إسطنبول وكان قد تم توكيل الثلاثة المذكورين بصفتهم محامين مقابل 117 ألف جنيه أتعاب فى حالة الحصول على قرار رفع الحجر عن الأمير أحمد سيف الدين وعشرة آلاف جنيه فى حالة تقدير نفقة تصل إلى 22 ألف جنيه له وبدأت أولى الجولات أمام مجلس البلاط يوم 30 مارس عام 1927م وفي يوم 23 أغسطس عام 1927م توفي الزعيم سعد زغلول باشا وبعد حوالي شهر واحد فقط وفي يوم 22 سبتمبر عام 1927م إنتخب حزب الوفد مصطفى النحاس باشا رئيسا للحزب خلفا لسعد زغلول باشا بعد فوزه علي منافسه محمد فتح الله بركات باشا وليخلفه أيضا في رئاسة مجلس النواب حتي شهر مارس عام 1928م حيث شكل مصطفي النحاس باشا وزارته الأولى يوم 17 مارس عام 1928م والتي إستمرت حوالي 3 أشهر حتي يوم 25 يونيو عام 1928م وليخلفه ويصا واصف باشا في رئاسة مجلس النواب ولم ينس مصطفي النحاس باشا وهو الرجل العف النزيه في غمرة مشاغله أن يرسل خطابا إلى شوكت بك وكيل الأميرتين نجوان وشويكار يبلغه فيه بتنحيه عن المشاركة في الدفاع عن الأمير أحمد سيف الدين وذلك نظرا لأن القانون يحظر أن يقوم الوزراء ورئيسهم بأعمال خاصة خلال توليهم مناصبهم ورد عليه شوكت بك بخطاب شكر على ما بذله من مجهود أثناء الفترة التي تولى فيها الدفاع عن الأمير أما ويصا واصف باشا الذى أصبح رئيسا لمجلس النواب فلم يكن هناك أي مانع قانوني لإستمراره في الدفاع عن الأمير وفي مساء يوم سقوط وزارة النحاس باشا خرجت الصحف التى تصدر فى المساء ثم الصحف التي صدرت في صباح اليوم التالى وهي صحف الإتحاد والأخبار والسياسة بمانشيتات عريضة ساخنة في هجوم شرس علي حزب الوفد وقياداته كان منها فضائح برلمانية خطيرة رئيس مجلس الوزراء مصطفي النحاس باشا ورئيس مجلس النواب ويصا واصف باشا يستخدمان السلطتين التنفيذية والتشريعية لمصالحهما الذاتية وتحت هذه المانشيتات نشرت صورة لعقد أتعاب المحامين الثلاثة بعد سرقته من منزل جعفر بك فخرى بمدينة الإسكندرية قبل ثلاثة أشهر ونصف وتقدم مصطفي النحاس باشا للنيابة ببلاغ يتهم هذه الصحف بسبه وقذفه لأنها وصفته هو وزميليه بالمجرمين بالفطرة وبالخسة والنذالة .
وعلي الرغم من أن النيابة قد حفظت التحقيق إلا أنها أحالت المحامين الثلاثة إلى مجلس تأديب المحامين لإرتكابهم عشرة إتهامات من بينها المبالغة فى الأتعاب وعدم قطع النحاس باشا صلته بالقضية بعد رئاسته للحكومة ومواصلة ويصا واصف مرافعته فيها رغم تركه الإشتغال بالمحاماة بعد إنتخابه رئيسا لمجلس النواب وأنهم قبلوا الدعوى دون التثبت من ظروفها مستغلين نفوذهم السياسى وأمام مجلس تأديب المحامين دارت واحدة من أكثر المعارك القانونية ضراوة فند فيها خمسة من ألمع وأشهر المحامين هم نجيب الغرابلى ومحمود بسيونى وكامل صدقى وحسن صبرى ومكرم عبيد كل الإتهامات وكان دفاع مكرم عبيد فى 156 صفحة بالغة الروعة وجاء فيه ليس للسياسة ضمير فى أى بلد من بلاد الله أما فى مصر فليس للسياسة عقل أيضا وأنهى مرافعته قائلا إجتمعت فى هذه القضية كل عناصر الظلام بل وعناصر الإجرام فمن سرقة إلى تزوير إلى شهادة الزور إلى شراء الذمم إلى الدس والتلفيق وكنا فى كل ذلك مجنيا علينا لا جناة فقولوا كلمتكم حاسمة فاصلة فإن شعاعا واحدا من نوركم يكفى لتبديد كثيف الظلام وكلمة واحدة من عدالتكم أنفذ إلى الباطل من حد السهام وفي يوم 7 فبراير عام 1929م قضى مجلس التأديب بأن التهم التى أسندت إلى النحاس باشا وويصا واصف باشا وجعفر بك فخرى خالية من كل أساس وأثبت فى أسباب الحكم تزييف عبارات الترجمة العربية التى نشرت فى الصحف لبعض وثائق القضية المحررة بالتركية وتصيد الشهود ليشهدوا زورا لمصلحة الإتهام ضد مصطفي النحاس باشا وزميليه وفي حقيقة الأمر كانت هذه القضية جزء من محاولات إغتيال الزعيم مصطفي النحاس باشا سياسيا وقد لحقها فيما بعد عدد 7 محاولات لتصفيته جسديا ونجا منها جميعا بفضل الله تعالي وحول هذه القضية يقول المؤرخ عبد الرحمن بك الرافعى الخصم السياسى للوفد إن الحكومة فى ذلك الوقت عرضت عليه أن يتولى المرافعة عن النيابة فإعتذر لأنه كان يرى أن التهمة لا أساس لها من الصحة وعموما فإن هذه القضية تعطينا فكرة عن الصراعات السياسية والحزبية فى تلك المرحلة من تاريخ مصر وطبيعتها وكيفية محاولة الإغتيال المعنوى وهى المحاولات التى قد تنجح أحيانا كما نجحت مع بعض الشخصيات في كل عصر منذ القدم وحتي عصرنا الحالي .
وفي نهاية مقالنا هذا لا يفوتنا أن نذكر أن ويصا واصف باشا كان والدا للفنان وللمهندس المعمارى المعروف رمسيس ويصا واصف والذى ولد في يوم 9 نوفمبر عام 1911م وحصل على دبلوم الفن من أكاديمية الفنون في باريس عام 1935م وعاد بعدها إلى مصر ليبدأ عمله الأكاديمي كأستاذ للفنون وتاريخ العمارة في أكاديمية الفنون الجميلة في القاهرة وقد إشتهر بلقب أبو العمارة القبطية في مصر وأيضا بأبو النسيج القبطي وأصبح شبه متخصص في عمارة الكنائس متأثرا بنماذجها الأثرية الرائعة فى أديرة وادي النطرون وأديرة أخميم ونقادة في تصميماته للكنائس التي قام ببنائها وهي الكنيسة المشيخية في عام 1940م وكنيسة السيدة العذراء مريم والقديس يوسف بسموحة في عام 1952م والدير الكاثوليكي بالفجالة في عام 1958م ودير الآباء الدومنيكان بالعباسية في عام 1959م وكنسية السيدة العذراء مريم بالزمالك في عام 1960م وبطريركية الأقباط الكاثوليك بمصر القديمة عام 1962م ومطرانية الجيزة بشارع مراد وكنيسة مارجرجس بطرة وكنيسة القديس مارجرجس بأبي قير بالإسكندرية وفضلا عن ذلك قام بتصميم متحف محمود مختار وعدد من بنايات وسط القاهرة وعلاوة علي ذلك ففي عام 1952م إشترى أرضا بقرية الحرانية وأنشأ مركزه للفنون فيها بمعاونة شقيق زوجته المهندس بديع حبيب جورجى وصمم مبانى المركز على الطراز القبطى الذى يدعم التهوية الطبيعية والإستفادة من ضوء النهار وكل شئ في هذا المركز يتم بالأساليب القديمة فالنسج يتم صنعه يدويا على الأنوال الخشبية وحتى الخيوط المستخدمة فى النسيج يتم صبغها فى المركز بالأصباغ الطبيعية المستخرجة من النباتات التى يتم زراعتها فى أرض المركز بعد جلب الفنان رمسيس بذورها من فرنسا وسويسرا والتي تنتج نباتات تعطى اللون البرتقالى والأصفر وتسمي ريزدن كما أحضر نبات النيلة الزرقاء وأنتج منه اللون الأزرق الداكن وهى نفس الأصباغ المستخدمة فى المنسوجات القبطية القديمة وضم المركز أيضا فنون يدوية أخرى كالخزف والفخار والباتيك وهو فن تلوين الأقمشة بالشمع الساخن والأصباغ وفي عام 1955م أسس رمسيس بيت الفن في الحرانية وأقام معارض السجاد للحائط من إنتاج مركزه في كل من القاهرة والإسكندرية وأيضا في مختلف دول أوروبا وأنشأ أيضا مدارس وورش عمل في المنصورية والحرانية وغيرهما . |