بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
الإمام محمد مصطفي المراغي عالم أزهري وقاض شرعي مصري شغل منصب شيخ الأزهر في الفترة من عام 1928م حتي إستقالته في عام 1930م وعاد مرة أخرى إلي نفس المنصب في عام 1935م وظل يشغله حتي وفاته في عام 1945م وقد شكل الإمام المراغى طوال حياته وأثناء توليه مناصبه الدينية حالة فريدة من نوعها فى الشموخ والإعتزاز بالرأى وبقدر وقيمة وقامة العلماء ورجال الدين وتصدى بكل حزم لكل محاولات الهدم والتهميش والتجميد للأزهر الشريف ورجاله فلم يهب يوما من الأيام حاكما أو سلطانا وكانت عقيدته الراسخة فى عقله ووجدانه ألا لا كلمة تعلو فوق كلمة رجل الدين ولم يسع فى يوم من الأيام إلى منصب أو جاه فقد كان همة الأكبر العلم وتطوير الأزهر وتنقية مناهجه وإخراجه من حالة الركود والتجميد التى حدثت له فى وقت كان التيار الغالب في البلاد يستهدف تحويل الدولة إلى دولة مدنية لا مكان فيها للدين علي غرار ما حدث في تركيا علي أيدى الزعيم مصطفي كمال أتاتورك وكان مولد الامام الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغى بمدينة المراغة بمحافظة سوهاج حاليا في يوم 9 مارس عام 1881م وكان نسبه الشريف ينتهي إلى الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما والسيدة فاطمة الزهراء بنت النبي محمد صلى الله وعليه وسلم وقد كان أبوه مصطفى المراغي على قسط من الثقافة والعلم كما كان يتمتع بسمعة طيبة ومنزلة كريمة في الوسط الذي يعيش فيه فدفع إبنه محمد إلى حفظ القرآن الكريم ولقنه نصيبا من المعارف الدينية والعامة ولما ظهرت نجابته أرسله أبوه إلى الأزهر ليكمل تعليمه فيه فتلقى العلوم على أيدى كبار مشايخه والذين كان في مقدمتهم الشيخ علي الصالحي الذى كان يعد من شباب علماء الأزهر الشريف المستنيرين المحققين ودرس عليه الإمام المراغي علوم اللغة العربية وتأثر بأسلوبه في التوضيح والبيان وكان الإمام المراغي أثناء دراسته بالأزهر الشريف معروفا بين أقرانه من الطلاب بالأخلاق الكريمة والحرص على مواصلة البحث والدراسة ووفرة التحصيل وكان له رفقة طيبة من طلاب الأزهر الشريف النابهين يواصلون قراءة الدروس والكتب المقررة قبل إلقاء المدرسين لها كما كانوا لا يكتفون بدراسة الكتب المقررة فقط بل كانوا أيضا يقبلون على كل مصادر العلوم والمعرفة ينهلون منها .
وأثناء دراسته بالأزهر إتصل الإمام المراغي بالشيخ الإمام محمد عبده وتفتحت على يديه مواهبه العقلية وتوطدت الصلة بينهما وتأثر بمنهجه السلوكي ودعوته الإصلاحية ومواقفه الوطنية ودراساته العلمية وكان إتصاله به بمثابة النقلة النوعية التي حددت مكانته العلمية ومستقبله في مدرسة الإحياء والتجديد والإصلاح فلقد تتلمذ على محاضراته في تفسير القرآن الكريم وتأثر بمنهجه في التوحيد وما يراه تنقية للعقائد الإسلامية من ترف المتكلمين القدامى وكذلك الحال في البلاغة واللغة العربية التي عرفت نقلة في أسلوب تقديمها في وقته وقد صار بعد ذلك الإمام المراغي أحد أهم أعلام مصر والعالم الإسلامي وأحد أهم من شكلوا قوانينها ومسارها التشريعى والفقهى والوطني وقد ساهم بمجهودات كبيرة ليتبوأ الأزهر مكانته رغم قلة كتبه وظل وثيق الصلة بالإمام محمد عبده حتي وفاته في عام 1905م وظل من بعده سائرا على نهجه في التطوير والتجديد والإصلاح وقد حمل من بعده راية الإصلاح والتجديد والتطوير فى الأزهر الشريف بعد حالة الجمود والتشدد التي إنتابته خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادى والتي كان من أمثلتها حينما طلب الخديوى إسماعيل من علماء الأزهر أن يقوموا بصياغة مبادئ الشريعة الإسلامية صياغة عصرية حتى لا يضطر إلى الأخذ كليا بالقوانين الأوروبية وكان حينذاك يتعرض لضغوط شديدة فى هذا الإطار خاصة مع إنفتاحه الكبير على أوروبا وتفاقم أزمة الديون وحدث أن خذله علماء الأزهر فلم يكونوا جاهزين لذلك فقهيا وقانونيا ومن ثم إضطر إلي أن يلجأ إلي محمد قدرى باشا أحد رجال القانون والمترجمين النبهاء في تاريخ مصر والذى لم يكن أزهريا ولكنه أنجز مهمته علي أكمل وجه وتمكن من تقنين مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان بوضع عدد ثلاثة كتب ما يزال إسمه مقرونا بها وهي مرشد الحيران في المعاملات والأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية وقانون العدل والإنصاف في القضاء على مشكلات الأوقاف وما تزال هذه الكتب حتي وقتنا الحاضر هي المرجع الرئيسي في بيان الأحكام الفقهية والشرعية الخاصة بالمذهب الحنفي .
وفي يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول عام 1322 هجرية الموافق يوم 26 من شهر مايو عام 1904م تقدم الإمام المراغي لإمتحان العالِمية وكان الشيخ محمد عبده هو الذي يمتحنه فلاحظ أنه مريض فلما إنتهى الإمتحان قال له لاحظت أنك محموم ولكنك كنت فوق الإجازة وظهرت النتيجة وكان المراغي أول زملائه في النجاح وقد دعاه الشيخ محمد عبده إلى منزله تكريما له وجدير بالذكر أن درجة العالمية هي المعادلة لدرجة الدكتوراة التى تمنحها الجامعات المصرية والعالمية وكان عمر الإمام المراغي حينذاك لم يكمل 24 عاما وهى سن مبكرة بالنسبة لعلماء الأزهر الشريف بالمقارنة بمن حصل عليها من أقرأنه على مر العصور فكان بحق خليفة الإمام محمد عبده الذى تنبأ له فى حياته بهذا المستقبل لما لمسه فيه من نبوغ منذ أن كان دارسا بالأزهر الشريف وبعد الحصول علي شهادة العالمية عين الإمام المراغي مدرسا بالأزهر ولكنه لم يمكث بتلك الوظيفة إلا شهور قليلة حيث نظرا لنبوغه وتفوقه فقد رشحه أستاذه الشيخ محمد عبده لكي يعمل قاضيا فى مدينة دنقلة بشمال السودان وعلي الرغم من قصر المدة التي قام فيها بالتدريس بالأزهر إلا أنه لفت إليه الأنظار ببراعته في الشرح والبيان حى جذب إليه حشود عديدة من الطلاب وبعد فترة إنتقل الإمام المراغي من دنقلة إلي مديرية العاصمة السودانية الخرطوم وفي هذه الفترة وحتي وفاة استاذه الإمام محمد عبده في شهر يوليو عام 1905م كان الإمام المراغي دائم الإتصال به حيث تبادلا رسائل قيمة في الشئون الدينية والوطنية وظل الإمام المراغي وفيا لأستاذه في حياته وبعد مماته وإستمر الإمام المراغي يؤدى عمله بالسودان حتى عام 1907م حينما قرر الإستقالة والعودة إلى مصر بعد أن إختلف مع قاضى القضاة حول طريقة إختيار المفتشين بالمحاكم الشرعية فى السودان كما إعترض على الراتب الهزيل الذى كان يخصص للقاضى الشرعى المصرى وهو أربعة عشر جنيها مقارنة براتب القاضى الإنجليزى الذى كان يبلغ خمسين جنيها .
وترك الإمام المراغي السودان وعاد إلى مصر وفي يوم الثاني من شهر شعبان عام 1325هجرية الموافق يوم التاسع من شهر سبتمبر عام 1907م عين مفتشا للدروس الدينية بديوان عموم وزارة الأوقاف ولكنه لحبه الشديد للبحث والدراسة عاد إلى التدريس بالأزهر مع إحتفاظه بوظيفته في الأوقاف لكنه لم يبق طويلا بعد أن زاره سلاطين باشا وكيل حكومة السودان يطلب منه تولى منصب قاضى القضاة بالسودان فوافق المراغى على شرط أن يصدر قرار تعيينه من خديوى مصر عباس حلمي الثاني بوصفه حاكم مصرى مسلم فكان له ما أراد وبالفعل صدر أمر بتعيينه قاضي القضاة بالسودان في يوم 4 من شهر رجب عام 1326هجرية الموافق يوم 1 من شهر أغسطس عام 1908م على الرغم من أن السياسة الإنجليزية كانت تخطط لقطع كل صلة تربط السودان بمصر ولما أرادت حكومة السودان تعديل لائحة المحاكم الشرعية بالسودان تمسك الشيخ الإمام بأن يكون من سلطته أن يختار للقضاة الآراء الفقهية التي يحكمون بها ورفض السكرتير القضائي بالسودان قبول هذا وأصر الإمام المراغي على رأيه وإحتكما إلى الحاكم العام للسودان فنصر الإمام على خصمه ونفذ له ما أراد ولقد كتب حاكم السودان حينذاك إلى وزارة الخارجية الإنجليزية قائلا إن الإمام المراغي يعد من دهاة العالم وكان الإمام المراغي يعمل على ترقية القضاء بالسودان ولذا فقد أشرف على القسم الشرعي من كلية جوردون وزوده بأساتذة أجلاء من العلماء المصريين الممتازين من الأزهر الشريف ومن كلية دار العلوم وبهذا نهض بالقضاة وكرامة القضاء ومما يذكر للإمام المراغي أثناء توليه منصب قاضي القضاة بالسودان موقفه مع الملك جورج الخامس ملك بريطانيا العظمى حينما كان في عام 1910م فى طريقة إلى الهند لتتويجه إمبراطورا عليها ورست باخرته بميناء سواكن علي البحر الأحمر شرقي السودان وكان منصب قاضى القضاة بمثابة أعلي شخصية إسلامية بالبلاد وكانت المراسم البريطانية تقضى بأن يقف الشيخ المراغى مع زعماء طائفتى المهدية والميرغنى زعماء السودان على رصيف الميناء وأن يصعد الحاكم الإنجليزى وقائد الحامية البريطانية إلى الباخرة لتحية الملك ولما رفض الإمام ذلك إضطرت الخارجية البريطانية إلى تعديل هذه المراسم وقررت أن يكون الشيخ المراغى على رأس مستقبلى الملك على ظهر الباخرة أسوة بالحاكم البريطانى وحين صعد إلى الباخرة طلب منه أن ينحنى وهو يسلم على ملك بريطانيا عند دخوله عليه لتحيته فرفض وقال المسلم لا ينحنى إلا لله سبحانه وتعالى فلما سأل الملك عن سبب عدم دخول الشيخ المراغي لتحيته وعرف السبب طلب إستقباله دون أن يضطر للإنحناء عند تحيته كما سبق وطلب منه وقدم له الملك هدية ساعة جيب مرصعه بالأحجار الكريمة وقد ظل الإمام المراغي يشغل منصب قاضي القضاة بالسودان حتي عام الثورة المصرية 1919م .
وعندما بدأت ثورة الشعب في مصر في شهر مارس عام 1919م وإشتدت ووصلت أخبارها إلي السودان إلتف المصريون بالسودان حول الشيخ الإمام المراغي فقاد جموعهم في مظاهرة كبيرة وأخذ يجمع التوقيعات لتأييد زعامة سعد زغلول باشا وأصحابه والإقرار بأنهم وكلاء الأمة المصرية وكتبت عنه صحيفة التايمز وهي صحيفة بريطانية مشهورة أبعدوا هذا الرجل فإنه أخطر على بلادنا وحياتنا من ويلات الحرب وقد تسبب نشاطه الوطني في ثورة حكام السودان الإنجليز ضده وإقترح بعضهم سجنه وإقترح بعضهم نفيه لكن السكرتير القضائي رأى في ذلك خطرا وأن هذا الإجراء لو تم تنفيذه سيتسبب في حالة غضب شديد من جانب الأهالي مما سيؤدى إلي إثارة المتاعب والقلاقل لهم ورأى أن يمنحه أجازة عاجلة لأجل غير مسمي وبهذا عاد إلى مصر دون أن تلحقه أي إساءة أو يناله أي ضرر وبذلك إنتهت فترة عمله بالسودان وبعودته تولي عدة مناصب قضائية هامة ففي يوم 9 أكتوبر عام 1919م تولي منصب رئيس التفتيش الشرعي بوزارة الحقانية وبعد حوالي 9 شهور وفي يوم 21 يوليو عام 1920م تولي منصب رئيس محكمة مصر الكلية الشرعية ثم في يوم 27 يناير عام 1921م تولي منصب عضو المحكمة العليا الشرعية ثم أصبح رئيسا لها في يوم 11 ديسمبر عام 1923م وظل في هذا المنصب حتي عام 1928م وخلال توليه هذه المناصب القضائية الكبرى قام بعدة إصلاحات هامة حيث أمر بتشكيل لجنة لتنظيم الأحوال الشخصية برئاسته ووجه اللجنة إلى عدم التقيد بمذهب الإمام أبي حنيفة إذا وجد في غيره ما يناسب المصلحة العامة للمجتمع وكان القضاة قبل ذلك مقيدين بمذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة فجعلهم يقتبسون من المذاهب الأخرى ومن آراء المجتهدين بما يناسب الزمان والمكان وبهذا إستطاع أن يقوم بإصلاحات عديدة في محيط الأسرة الإسلامية فأصدر في شهر يوليو عام 1920م قانون الأحوال الشخصية ومما يذكر عن الإمام المراغي أثناء توليه منصب رئيس المحكمة الشرعية العليا انه كان ذات يوم قادما من حلوان مقر إقامته مستقلا قطار حلوان ونزل فى محطة باب اللوق ليتوجه إلى المحكمة وكان في ذلك اليوم سيصدر حكما فى قضية عرفت وقتها بقضية هنرى السكاكيني وفوجئ عند خروجه من محطة باب اللوق بشخص من أتباع السكاكيني يعترض طريقه ويلقى عليه بماء النار فأصيب بحروق شديدة بالرقبة ولكنة تحامل على نفسه قبل أن يتوجه للمستشفى للعلاج وأصر على أن يتوجه للمحكمة ليصدر الحكم فى تلك القضية ورغم ما لحق به من أذى وضرر من جانب أحد أتباع السكاكينى إلا أن حكمه في هذه القضية لم يتأثر بما أصابه من إعتداء مما يجعله يحكم ضده وأصدر حكمه بالبراءة وقد تركت هذه الحادثة على رقبة الامام تشوهات كانت تسبب له حرجا كبيرا لذلك صمم لنفسه جلبابا بياقة عالية لتخفى أثار الحروق التي أصابته وليصبح بعدها هذا الجلباب هو الزى الرسمى لمشايخ الأزهر الشريف حتي يومنا هذا . وكانت النقلة الكبرى في حياة الإمام المراغي في يوم التاسع من شهر ذي الحجة عام 1346هجرية الموافق يوم 28 من شهر مايو عام 1928م حينما صدر قرار بتولية الشيخ الإمام محمد مصطفى المراغي مشيخة الأزهر الشريف فأقبل بعزيمة قوية على النهوض بالأزهر ليتبوأ المكانة الجديرة به في تاريخ النهضة الإسلامية فألَف لجانا برئاسته لدراسة قوانين الأزهر ومناهج الدراسة فيه وعَمِلَ على تنقيح هذه القوانين والمناهج وإهتم بالدراسات العليا وإقترح إنشاء ثلاث كليات عليا تتخصص الأولى في دراسة العلوم العربية والثانية في علوم الشريعة والثالثة في أصول الدين وكانت له آمال كبيرة يسعى لتحقيقها في تطوير الأزهر ولكن العقبات وقفت في وجهه وحالت بينه وبين تحقيق الأهداف التي ينشدها فإستقال من منصبه في يوم العاشر من شهر أكتوبر عام 1929م ويذكر المعاصرون لهذه الأحداث أن السبب في تمسك الشيخ الإمام المراغي برأيه وإصراره على الإستقالة هو أنه أراد أن تطلق يده في إدارة الأزهر على أن يختار معاونيه ولكن الملك فؤاد الأول كان يريد السيطرة على جميع شئون الأزهر فرفض كل الرفض أن يمنح الإمام هذه السلطة مما دفعه إلي تقديم إستقالته والإصرار عليها والتي قبلت في أوائل عام 1930م وصدر مرسوم ملكي بتعيين الشيخ محمد الأحمدي الظواهري شيخا للأزهر ولما إستقال الإمام المراغي لم يخلد إلى الراحة والسكون بل قضى أكثر من خمس سنوات عاكفا في بيته على البحث والدراسة ومراجعة آراء المصلحين من قبله وبخاصة أستاذه الإمام الشيخ محمد عبده كما راجع الأسس التي وضعها للإصلاح في عهد مشيخته للأزهر وما تم تحقيقه منها في عهد الظواهري وما لم يتم وما ينبغي تعديله منها في ضوء دراساته العميقة للنهوض بالأزهر حتى إتضحت أمامه الصورة وبرزت معالمها ولذا لما عاد إلي منصب شيخ الأزهر مرة أخرى في عام 1935م مؤيدا من آلاف العلماء والطلبة ومؤيدا من الحكومة ومؤيدا من الرأي العام باشر تنفيذ ما إستقر عليه رأيه من وجوه الإصلاح فأصدر القانون رقم 26 لسنة 1936م والذى ألغى به القانونين الخاصين بالأزهر الصادرين في سنة 1923م وفي سنة 1930م وهذا القانون الأخير كان قد أصدره الشيخ الظواهري وأكمل ما بدأه من إصلاح في فترته الأولى مع بعض التعديلات وقد حدد في القانون الجديد مهمة الأزهر وأنه هو المعهد العلمي الإسلامي الأكبر وأن الغرض منه العمل على حفظ الشريعة الغراء أصولها وفروعها واللغة العربية وعلى نشرهما وتخريج علماء موكل إليهم تعليم علوم الدين واللغة في مختلف المعاهد والمدارس مع توليتهم الوظائف الشرعية في الدولة وكان هذا القانون يرتكز علي عدة أسس أهمها أن التعليم في الأزهر يتم علي أربع مراحل وهي المرحلة الإبتدائية ومدتها أربع سنوات والمرحلة الثانوية ومدتها خمس سنوات ومرحلة الكليات وهي تشمل عدد ثلاث كليات هي كلية الشريعة وكلية أصول الدين وكلية اللغة العربية ومدة الدراسة بكل منها أربع سنوات ثم تأتي مرحلة العالمية في هذه الكليات الثلاثة كما قام الإمام أيضا بإصدار القانون المعروف بإسم قانون الوصيىة الواجبة والذى ينص علي أنه إذا توفي شخص قبل أبيه وكان له أولاد فإنهم يرثون في تركة جدهم عند وفاته النصيب الشرعي الذى كان سيرثه أبوهم لو كان علي قيد الحياة وذلك في حدود ثلث التركة وهو ما يبيح الشرع الحنيف الوصية به لغير الورثة الشرعيين .
وفضلا عن هذا القانون كان من الأعمال الجليلة التي قام بها الإمام المراغي إنشاء لجنة الفتوى حيث قام بتشكيل لجنة من كبار العلماء في يوم 12 من شهر جمادى الأولى عام 1354 هجرية الموافق يوم 11 من شهر أغسطس عام 1935م تتكون من رئيس وأحد عشر عضوا منهم ثلاثة من فقهاء الأحناف وثلاثة من المالكية وثلاثة من الشافعية وإثنان من الحنابلة وكانت مهمة هذه اللجنة أن تجيب عن الأسئلة التي تتلقاها من الأفراد والهيئات وفقا لمذهب معين إذا طلب السائل ذلك أو وفق ما تقضي به القواعد المستمدة من الكتاب والسنة والإجماع أو القياس الصحيح إذا لم يقيدها السائل بمذهب خاص مراعية بذلك ما هو أرفق بحال السائل إذا قوي الدليل على مراعاته كما أصدر قرارا بإنشاء قسم الوعظ والإرشاد بهدف نشر الثقافة الإسلامية في الأقاليم وذلك إلي جانب تطويره وتحديثه لجماعة كبار العلماء والتي كان قد أسسها في عام 1911م الإمام سليم البشري شيخ الجامع الأزهر حينذاك وكانت تتكون من ثلاثين عالما من صفوة علماء الأزهر ليتفرغ كل منهم لإلقاء محاضرات علمية عميقة بحسب تخصصه في العلوم المختلفة وكان يحضر هذه المحاضرات لفيف من العلماء والباحثين فلما جاء الإمام المراغي غير إسمها إلى جماعة كبار العلماء وإشترط في أعضائها إلى جانب الشروط القديمة أن يكون العضو فيها من العلماء الذين أسهموا في الثقافة الدينية وأن يقدم كل منهم رسالة علمية تتسم بالإبتكار والتجديد وجعل أعضاءها ثلاثين عضوا وقصر عضويتها علي العلماء المتميزين أولي الكفاءات العلمية والأخلاق السامية حتى أصبحت أكبر هيئة دينية في العالم الإسلامي وقد حل محلها الآن مجمع البحوث الإسلامية وعلاوة علي ما سبق فقد رأى قبيل وفاته أن ينشئ إدارة خاصة للبحوث والثقافة الإسلامية تختص بالنشر والترجمة والعلاقات الإسلامية والبعوث العلمية والدعاة فصدر قرار بإنشائها في شهر يوليو عام 1945م وبالإضافة إلي كل ما سبق كان للإمام المراغي بعض المؤلفات منها كتاب تفسير جزء تبارك وقد ألفه ليكمل به تفسير الإمام محمد عبده جزء عم ومخطوط الأولياء والمحجورون وهو محفوظ بمكتبة الأزهر وقد نال به عضوية هيئة كبار العلماء وهو بحث فقهي في موضوع الحجر على السفهاء والذين يتولون أمورهم بعد الحجر وذلك إلي جانب بحث في وجوب ترجمة القرآن الكريم طبع عام 1936م .
ولا بفوتنا هنا أن نذكر أنه بعد وفاة الملك فؤاد الأول في يوم 28 أبريل عام 1936م كان ولي عهده الأمير فاروق لم يبلغ سن الرشد وهو 18 عاما طبقا لدستور عام 1923م المعمول به في البلاد ومن ثم تم تكوين مجلس وصاية عليه كان يرأسه أبرز الطامعين في الحكم وقتها الأمير محمد علي توفيق نجل الخديوى توفيق بالإضافة إلي شريف صبرى باشا شقيق الملكة نازلي وخال الملك فاروق وعزيز عزت باشا أول سفير لمصر في المملكة المتحدة وخوفا من أن يدبر الأمير محمد علي توفيق مؤامرة مع الإنجليز حيث كان حليفا لهم ومتعاطفا معهم للإستيلاء علي عرش مصر لجأت الملكة نازلي إلي الإمام المراغي وإستطاعت أن تستصدر منه فتوى بأن يتسلم إبنها فاروق حكم البلاد عندما يبلغ سن 18 عاما بالتقويم الهجرى وليس الميلادى وذلك طبقا للدستور وبذلك تسلم الملك فاروق حكم البلاد في يوم 29 يوليو عام 1937م وهو اليوم الذى بلغ فيه 18 عاما بالتقويم الهجرى وقد إرتبط الملك فاروق بالإمام المراغي منذ ذلك اليوم بعلاقة إحترام وتقدير لقيمة وقامة رجل الأزهر وكثيرا ما إستمع الملك فاروق إلى رأيه وكان يحضر مجالسه العلمية وينصره على بعض الأحزاب المناوئة له وهناك مقولة غير صحيحة متداولة بين الكثير من الناس وللأسف يرددونها دون تدبر أو تفكير وهي أنه لما طلَّق الملك فاروق زوجته الأولى الملكة فريدة أراد الملك إصدار فتوى شرعية تمنعها من الزواج بعده وحاول حمل الإمام بكل الوسائل على إصدار هذه الفتوى فرفض وكان الشيخ الإمام المراغي مريضا بمستشفى المواساة بالإسكندرية وزاره الملك وعقب مشادة عنيفة بينهما بسبب إصرار الإمام على عدم إصدار هذه الفتوى للملك ساءت صحة الشيخ وتدهورت حتى لقي ربه ليلة الأربعاء 14 من شهر رمضان عام 1364هجرية الموافق 22 من شهر أغسطس عام 1945م وإذا ما فكرنا في تلك المقولة بعقولنا فسوف ندرك أن الحقيقة أنه من المستحيل أن تكون هذه المقولة صحيحة فالملك فاروق طلق زوجته الأولي الملكة فريدة في يوم 19 نوفمبر عام 1948م أي بعد وفاة الإمام المراغي بأكثر من 3 سنوات فكيف له أن يطلب منه الفتوى المشار إليها في السطور السابقة وقد إنتقل الإمام إلي رحمة الله وحقيقة ما حدث هو أنه حين مرض الشيخ ودخل مستشفى المواساة بالإسكندرية وتبين له أثناء وجوده بالمستشفى أن الممرضات اللاتى يعملن بالمستشفى يذهبن مساءا إلى السراى الملكية للمشاركة فى سهرات وحفلات يقيمها الملك إستاء وطلب من الدكتور النقيب مدير المستشفى أن يبلغ الملك حين يلقاه بأن المراغى لا يرضى أن يقابل وجه الله وهو إمام لك وكتب إستقالته وأرسلها للملك فاروق الذى منع نشرها وحفظها فى طى الكتمان ألى أن توفى الشيخ ولقى ربه فى التاريخ المشار إليه في السطور السابقة وكانت في يده لحظة الوفاة قصاصات لتفسير القرآن الكريم وقد أقيمت عليه صلاه الغائب فى المساجد الكبرى في مصر وبشتى عواصم العالم الإسلامي وتكريما له أطلق إسمه علي الشارع الذى كان يسكن به بضاحية حلوان جنوبي القاهرة .
وفي النهاية فإنه جدير بالذكر أن نذكر بعض اعلام عائلة المراغي ومنهم الشيخ أحمد مصطفى المراغى الأخ الأكبر للإمام الشيخ محمد مصطفي المراغى والذى كان يعد أيضا مرجعا فقهيا كان يلجأ إليه الامام فى أمور كثيرة حيث كان أستاذا بكلية دار العلوم ورئيس قسم الشر يعة بها وكان له العديد من المؤلفات الهامة وأهمها تفسير المراغى الذى إنتشر بشكل كبير وتتم دراسته بالجامعات والمعاهد الدينية العليا بدول شرق أسيا ومنها ماليزيا وإندونيسيا وغيرهما ويأتى العديد من الباحثين بالدراسات العليا من هذه الدول ومن مصر أيضا لزيارة منزل الأسرة بحلوان لتحقيق سيرته الذاتية ومنهجه فى تفسير القرآن الكريم وقد توفى الشيخ احمد المراغى في عام 1952م وقد إتبعه أيضا الإمام الشيخ محمد متولى الشعراوى وتتلمذ على يده فى كلية دار العلوم وإتبع منهجه فى التفسير ومن ثم أخرج العديد من المؤلفات فى أصول البلاغة والنحو والصرف بجانب كونه أستاذا للفقه والشريعة مما مكنه من إكتشاف مكنون الإعجاز اللغوى فى القرآن الكريم وكان من أعلام عائلة المراغي أيضا المستشار أحمد مدحت المراغي وهو إبن مصطفي المراغي الشقيق الأصغر للإمام والذى تقلد العديد من المناصب فى السلك القضائى فى مصر وفى دولة سلطنة عمان حيث عمل مستشارا قانونيا لمجلس الوزراء هناك وبعد عودته شغل منصب وكيل وزارة العدل ثم أمينا عاما لمجلس القضاء الأعلى ثم رئيسا لمحكمة النقض ورئيسا لمجلس القضاء الأعلى كما ينسب له الفضل فى تنقيح وتحديث الموسوعة الفقهية القانونية الشهيرة موسوعة السنهورى فى القانون المدنى وهى أكبر وأضخم الموسوعات القانونية والتس صدرت منها عدة طبعات . |