بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
الدكتور مصطفي كمال محمود حسين والمعروف بإسم مصطفي محمود طبيب وفيلسوف وكاتب مصري قام بتأليف 89 كتاب منها الكتب العلمية والدينية والفلسفية والإجتماعية والسياسية إضافة إلى الحكايات والروايات والمسرحيات وقصص الرحلات ويتميز أسلوبه بالجاذبية مع العمق والبساطة وفضلا عن ذلك فقد قام بتقديم أكثر من 400 حلقة من برنامج العلم والإيمان وهو البرنامج التليفزيوني الأسبوعي الشهير الذى كان يذاع من خلال القناة الأولي بالتليفزيون المصرى وصار من أشهر البرامج وأوسعها إنتشارا على الإطلاق لسنوات طوال ومايزال الجميع يذكرونه ويذكرون موعده مساء كل يوم إثنين الساعة التاسعة والنصف بعد نشرة الأخبار ومقدمة الناي الحزينة في البرنامج وإفتتاحية الدكتور مصطفى محمود أهلا بكم وكان ينتظره المصريون في ذلك التوقيت أسبوعيا ليأخذهم في رحلة نحو عظمة الكون وإبداع الخالق ويتجول معهم في رحلة نورانية وروحانية نحو الصفاء والنقاء والتأمل والتدبر والتفكير في عظمة الله الخالق العظيم وملكوته وقد تم وصف هذا البرنامج بأنه كان نتاج إرهاصات كثيرة من الفلسفة والطب والأدب وقبل كل ذلك البحث عن الله والتفكر في حقيقة الحياة والموت وكان ميلاد الدكتور مصطفي محمود في يوم 27 ديسمبر عام 1921م ونشأ بقرية ميت الكرما بمحافظة المنوفية بجوار مسجد المحطة الذي يعد أحد مزارات الصوفية الشهيرة في مصر مما ترك أثره الواضح على أفكاره وتوجهاته وكان متفوقا في دراسته ويجادل أساتذته حتى ضربه مدرس اللغة العربية يوما ما فغضب وإنقطع عن الدراسة لمدة ثلاث سنوات إلى أن ترك المدرس المدرسة فعاد لمواصلة الدراسة وفي هذه المرحلة من حياته أنشأ في منزل والده معملا صغيرا يصنع فيه الصابون والمبيدات الحشرية ليقتل بها الحشرات ثم يقوم بتشريحها وإلتحق بعد ذلك بكلية طب القصر العيني وأثناء دراسته بها إشتهر بلقب المشرحجي لبقائه لفترات طويلة في المشرحة أمام جثث الموتى مما كان له أثر بالغ أثر كثيرا في أفكاره وتأملاته حول الموت وخروج الروح من الجسد ويحكي في مذكراته التي نشرت بعض الصحف المصرية بعضا منها أنه أثناء دراسته بكلية الطب عشق العزف على الناي ويقول لقد شاء القدر أن أتعرف على عبد العزيز الكمنجاتي والراقصة فتحية سوست وكانا أصحاب فرقة لإحياء الأفراح والطهور وإتفقا معه علي أن ينضم لفرقتهما وأنه وافق حينذاك دون مقابل مادي وهذا ما أثار دهشتهما لكنه قال لهما أنا أهوى العزف فقط ولا أنوي إحترافه ويضيف قائلا لقد إنزعجت والدتي من عشقي للناي خاصة بعد تكرار مجئ الأسطى عبد العزيز لمنزل العائلة ولسانه يردد لها عبارة واحدة يختلف فيها إسم المكان الذي يشير إليه لحضور مصطفي للحفل سواء في درب البغالة أو في الأنفوشي أو في السيدة ولذلك كانت الوالدة تعنفه بشده وتغضب لما يقوم به إبنها حيث كانت هي المسؤولة عته وولية أمره بعد وفاة والده عام 1939م وفي النهاية تخرج مصطفي محمود من كلية طب القصر العيني عام 1953م وتخصص في مجال الأمراض الصدرية لكنه سرعان ما هجر مهنة الطب بعد حوالي 7 سنوات من ممارستها وتفرغ للتأليف والكتابة بداية من عام 1960م وكان قبل ذلك التاريخ قد قام بكتابة بعض المقالات بمجلة روز اليوسف وفي بداية الستينيات من القرن العشرين الماضي أصدر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قرارا بعدم الجمع بين وظيفتين فقرر مصطفي محمود إعتزال مهنة الطب والتفرغ للعمل في التأليف والصحافة .
وفي هذه المرحلة من حياته وبداية من أوائل الستينيات من القرن العشرين الماضي كان قد تزايد التيار المادي وظهرت الوجودية ولم يكن مصطفى محمود بعيدا عن ذلك التيار الذي أحاطه بقوة حيث يقول عن ذلك إن الأمر إحتاج منه حوالي 30 عاما من الغرق في الكتب وآلاف الليالي من الخلوة والتأمل مع النفس وتقليب الفكر على كل وجه لكي يقطع الطرق الشائكة من الله والإنسان إلى لغز الحياة والموت إلى ما كان يكتبه فيما بعد على درب اليقين وكانت هذه السنوات وتلك الليالي والأيام مابين عام 1940م وعام 1970م خليط من المعاناة والشك والنفي والإثبات وقرأ وقتها عن البوذية والبراهمية والزرداشتية ومارس تصوف الهندوس القائم علي وحدة الوجود حيث الخالق هو المخلوق والرب هو الكون في حد ذاته في هذا التصوف وهو الطاقة الباطنة في جميع المخلوقات ومن الثابت أنه في فترة شكه لم يلحد فهو لم ينف وجود الله بشكل مطلق ولكنه كان عاجزا عن إدراكه وكان عاجزا عن التعرف على التصور الصحيح لله هل هو الأقانيم الثلاثة كما في المسيحية حيث أن الله هو إله واحد لكن في ثلاثة أشخاص أو أقانيم الأب والإبن يسوع والروح القدس وهذه الأقانيم الثلاثة مستقلة ولكنها واحدة في المادة والجوهر والطبيعة أم أن الله هو يهوه وهو إسم الله المذكور في التوراة وفي العهد القديم وفي الكتاب المقدس أم ماذا وبلا شك فقد صهرته هذه التجربة بقوة وصنعت منه مفكرا دينيا خلاقا وجدير بالذكر أن مصطفى محمود لم يكن هو أول من دخل في هذه التجربة فقد فعلها الجاحظ قبل ذلك كما فعلها حجة الإسلام أبو حامد الغزالي تلك المحنة الروحية التي يمر بها كل مفكر باحث عن الحقيقة وإن كان الغزالي ظل في محنته 6 أشهر فان مصطفى محمود قضى فيها 30 عاما أنهاها بأروع كتبه وأعمقها والتي تناولت تجربته الخاصة ورحلته الطويلة ما بين الشك واليقين والتي كان أولها رحلتي من الشك إلى الإيمان وأصدره في عام 1970م وعرض من خلاله العديد من المواضيع والتساؤلات الفكرية والمتعلقة بخلق الإنسان والجسد والعقل ويتحدث بشكل تفصيلي عن رحلته الطويلة من الشك وصولا إلى الإيمان وفيما بعد وفي عام 1986م أصدر كتاب حوار مع صديقي الملحد رد فيه على أسئلة الملحدين حول الدين الإسلامي وعن تساؤلات مادية قد يطرحها العقل البشري في فترة ما وجاء هذا الكتاب في صورة محاورة فكرية بين الدكتور مصطفى محمود وصديق خيالي ملحد يطرح عليه الأسئلة الإلحادية المعروفة مثل هل الله موجود ومن خلق الله ويقوم الدكتور مصطفى محمود بالإجابة العلمية بشكل منطقي على هذه الأسئلة وفضلا عن هذه الكتب فقد أصدر العديد من الكتب الأخرى منها التوراة ولغز الموت ولغز الحياة وغيرها من الكتب شديدة العمق في هذه المنطقة الشائكة ومثلما كان الإمام الغزالي كان الدكتور مصطفى محمود فقد حكي الغزالي عن الإلهام الباطنى الذي أنقذه بينما صاحبنا إعتمد على الفطرة حيث الله فطرة في كل بشري وبديهة لا تنكر وهو يقترب في تلك النظرية كثيرا من نظرية الوعي الكوني للعقاد وكان بعد ذلك أن إشترى قطعة أرض تقع في منطقة المهندسين بالجيزة في شارع جامعة الدول العربية في الميدان الذى تم إطلاق إسمه عليه وذلك من عائد روايته المستحيل التى قام بنشرها في عام 1960م وأنشأ علي هذه الأرض مسجدا أصبح من أشهر المساجد في مصر فيما بعد .
وهذا المسجد من الحجم المتوسط من حيث المساحة وقد إكتسب أهميته من كم التبرعات المالية والعينية التي يقدمها للفقراء إضافة إلى العيادة الملحقة بالمسجد والتي تقدم الخدمات الطبية بأسعار في متناول الجميع وعلى درجة عالية من الكفاءة وتضم أيضا مركز أشعة متكامل يقوم بإجراء الأشعات العادية والأشعة المقطعية والرنين المغناطيسي وكذلك مشروع الطعام الخيري المسمى بمائدة الرحمن والتي تقدم الطعام إلى عابرى السبيل والفقراء في شهر رمضان المعظم ويضم المسجد أيضا ثلاث مراكز طبية ومستشفي تهتم بعلاج ذوي الدخل المحدود ويقصدها الكثير من أبناء مصر نظرا لسمعتها الطبية الجيدة وهي تقوم بعمل قوافل طبية تتكون من 16 طبيبا كما تتفرع من المسجد الجمعية الفلكية بمسجد محمود الشهيرة والتي تضم أربعة مراصد فلكية ومتحف للجيولوجيا وتضم هذه الجمعية أساتذة يلقون دروسا في علوم الفلك والفضاء ويضم المتحف مجموعة من الصخور الجرانيتية والفراشات المحنطة بأشكالها المتنوعة وبعض الكائنات البحرية ويشتهر المسجد أيضا بتنظيـم إحتفاليات سنوية في المناسبات الدينية الرئيسية مثل رأس السنة الهجرية والمولد النبوي الشريف يحضرها شيوخ من كبار علماء الأزهر الشريف وقيادات محلية مثل محافظ الجيزة وأعضاء المجلس المحلى والتنفبذي كما ينظم المسجد ساحات واسعة لأداء صلاة العيدين تتسع للآلاف الذين يفدون من مناطق مختلفة لحضور الصلاة ويشارك في الخطب شيوخ من وزارة الأوقاف وكان من أشهر أئمة المسجد الشيخ أحمد الشبراوي وفضيلة الشيخ الراحل شاكر الحربي وفضيلة الشيخ سيد كساب والشيخ عيد حسن أبو عشرة والشيخ محمود الدميري والشيخ رجب صابر والشيخ خالد الجارحي والشيخ أحمد عبدالعال الدومى ومن خطباء المسجد بصلاة الجمعة الشيخ أحمد الشبراوي وفضيلة الأستاذ الدكتور محمد قاسم المنسى أستاذ الشريعة بجامعة القاهرة وفضيلة الأستاذ الدكتور صلاح زيدان عميد كلية الشريعة سابقا وفضيلة الأستاذ الدكتور محمد عبده الأستاذ بجامعة الأزهر كما يستضيف المسجد عدد من المشايخ والأساتذة المتخصصين لإلقاء دروس دورية بالمسجد ومنهم الأستاذ الدكتور عادل هندي المدرس المساعد بكلية الدعوة بجامعة الأزهر الشريف ومسؤول الإستشارات بمؤسسة الإسلام اليوم وفضيلة الشيخ فكري حسن إسماعيل وهو من كبار علماء الأزهر الشريف ووكيل وزارة الأوقاف سابقا وفضيلة الشيخ أحمد ربيع إمام وخطيب في وزارة الأوقاف المصرية وفضيلة الشيخ حمادة طنطاوي مسئول الإرشاد الديني بوزارة الأوقاف .
وفي حقبة التسعينيات من القرن العشرين الماضي تمركزت جهود مصطفى محمود حول توضيح خطر الصهيونية ووظف لها فضلا عن مقالاته عدد 9 كتب أصدرها خلال هذه الحقبة تضمنت أطروحاته الفلسفية تجاه جذور الخطر وحاضره ومستقبله وتبعاته ولعل هذا المجهود الفكري من جانب مصطفى محمود هو ما دفع أسرته وعدد من متتبعي سيرته لإتهام إسرائيل بالوقوف وراء منع صاحب برنامج العلم والإيمان من إستكمال برنامجه الشهير بالتليفزيون المصري فضلا عن حظر مقالاته في الصحف ففي كتابه إسرائيل البداية والنهاية يقول مصطفى محمود إن إسرائيل تتصرف وكأنها تتعامل مع أصفار وتتوسع وكأنها تمرح في فراغ وهذا الغياب للموقف العربي سوف تكون له عواقب وخيمة مستقبلا وأمام هذا التهاون أو الهوان العربي كان ضروريا أن يحذر المفكر المصري من تبعات السلام الذي يسعى إليه الكيان الصهيوني ففي كتابه على حافة الإنتحار رأى أن إسرائيل ليست لديها نية جادة للسلام بقدر ما هي راغبة في تطويع وقبول من الطرف العربي لسلام من طرف واحد ويستدل مصطفي محمود على رأيه بأن تل أبيب بقياداتها السياسية وزعاماتها الدينية تزرع المزيد من الكراهية ضد العرب كما أن آلتها العسكرية تتوسع بإستمرار على حساب شعب فلسطين فضلا عن أنها ما زالت تطور أسلحتها الذرية والبيولوجية والكيميائية وتضعها على حدود مصر ولا تدخر جهدا في المساهمة في تدمير الإقتصاد المصري لذلك طالب الكاتب بأن تعي الدول العربية ما يحاك لها من قبل الإستيطان الصهيوني وأن تحذر في تعاملها مع السلام الذي يطلب منها اللحاق به وهو ما يحتاج الإستقلال العسكري والإقتصادي ويؤكد ويزيد مصطفى محمود من التحذير في كتابه إسرائيل النازية ولغة المحرقة قائلا إنظروا إليهم كيف يتفاوضون مع العرب ويحسِبون نصيبهم من الأرض بالمتر والسنتيمتر ونصيبهم من الماء فوق الأرض وتحت الأرض وفي جوف الأرض ويريدون الحفر في الماضي والحفر في الحاضر والحفر في دماغنا ولا نهاية لمطالبهم ولخص صاحب العلم والإيمان رؤيته للسلام بين العرب مع الكيان الصهيوني بأنه عقد إذعان أكثر منه عقد إتفاق وتراضي وبأنه طريق مرصوف بالجحيم وبالإضافة إلي كل ما سبق فقد تطرق مصطفي محمود عبر سلسلة الكتب التي تناولت الخطر الإسرائيلي إلى كثير من الخطط الصهيونية ومنها تشويه الإسلام عبر إستخدام ودعم من سماهم إسلاميين متطرفين لتدمير الحضارة الإسلامية من الداخل داعيا في ذلك إلى ضرورة أن يتعامل المسلمون مع المعطيات الجديدة للعصر ونقد الموروث القديم وأضاف إن إسرائيل تخطط للتحكم في منابع النيل عن طريق السيطرة على منطقة البحيرات الكبرى في منابع النيل وإثارة الحروب والفتن الطائفية والعنصرية بين نصارى الجنوب ومسلمي الشمال في السودان المنكوب بالتآمر من كل بلاد الجوار الأفريقي بالإضافة لعلاقات إسرائيل بأثيوبيا وأريتريا وتسليحها للإثنين وإمدادهما بالمعدات العسكرية وكل هذه الأمور أمور لها مقابل وفي نفس الوقت فإن إسرائيل تراقب بإستمرار بوابة البحر الأحمر ودول القرن الأفريقي وجزر البحر الأحمر حيث تعتبرها محطات إستراتيجية وقد قام نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك في منتصف تسعينيات القرن الماضي بمنع مقالات الدكتور مصطفي محمود من النشر .
وبخلاف كتب الدكتور مصطفي محمود عن إسرائيل فبالعودة إلي الوراء قليلا نجده قد تعرض لأزمات فكرية عديدة كان أولها عندما قدم للمحاكمة بسبب كتابه الله والإنسان والذى تم نشره في عام 1955م في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والذى طلب بنفسه تقديمه للمحاكمة بناءا على طلب الأزهر بإعتبار أن هذا الكتاب يمثل قضية كفر إلا أن المحكمة إكتفت بمصادرة الكتاب وبسبب هذا الكتاب إتهم مصطفى محمود بالإلحاد وهو ما نفاه لاحقا مع إعترافه بأنه لم يستطع إدراك حقيقة الإيمان من قبل حيث كان في تلك المرحلة من حياته في رحلة البحث عن الله والتي بدأها بدراسة الديانات المختلفة مرورا بالأديان السماوية الثلاثة والتي كان الإسلام آخرها وبعد وفاة الرئيس عبد الناصر وتولي الرئيس السادات حكم مصر عام 1970م أبلغه الرئيس السادات أنه معجب بالكتاب وقرر طبعه مرة أخرى وجدير بالذكر أن الدكتور مصطفي محمود كان صديقا شخصيا للرئيس السادات ولم يحزن على أحد مثلما حزن على مصرعه وقال في ذلك كيف لمسلمين أن يقتلوا رجلا رد مظالم كثيرة وأتى بالنصر وساعد الجماعات الإسلامية ومع ذلك قتلوه بأيديهم وكان من الأزمات الفكرية أيضا التي تعرض لها مصطفي محمود في أواخر التسعينيات من القرن العشرين الماضي وتحديدا في عام 1999م بعد نشره لكتاب الشفاعة والمقصود بها شفاعة رسول الإسلام محمد صلي الله عليه وسلم في إخراج عصاة المسلمين من النار وإدخالهم الجنة عندما قال إن الشفاعة الحقيقية غير التي يروج لها علماء الحديث وأن الشفاعة بمفهومها المعروف أشبه بنوع من الواسطة وأن الإتكال على شفاعة النبى محمد صلي الله عليه وسلم وعدم العمل والإجتهاد علي أساس أنها تعنى تغييرا لحكم الله في هؤلاء المذنبين وأن الله الأرحم بعبيده والأعلم بما يستحقونه وقتها هوجم الرجل بألسنة حادة وصدر 14 كتابا للرد عليه على رأسها كتاب الدكتور محمد فؤاد شاكر أستاذ الشريعة الإسلامية ووجه إليه الإتهام بأنه مجرد طبيب لا علاقة له بالعلم الدينى وفي لحظة حوله مهاجموه إلى مارق خارج عن القطيع وقد حاول أن ينتصر لفكره وأن يصمد أمام التيار الذي يريد رأسه إلا أنه هزم في النهاية ولم يتعامل حينذاك مع الموضوع بحيادية إلا الدكتور نصر فريد واصل مفتي الديار المصرية في ذلك الوقت عندما قال عنه إن الدكتور مصطفى محمود رجل علم وفضل ومشهود له بالفصاحة والفهم وسعة الإطلاع والغيرة على الإسلام فما أكثر المواقف التي أشهر قلمه فيها للدفاع عن الإسلام والمسلمين والذود عن حياض الدين وكم عمل على تنقية الشريعة الإسلامية من الشوائب التي علِقت بها وشهدت له المحافل التي صال فيها وجال دفاعا عن الدين الإسلامي وفي حقيقة الأمر إن مصطفى محمود لم ينكر الشفاعة أصلا وكان رأيه يتلخص في أن الشفاعة مقيدة أو غيبية إلى أقصى حد وأن الإعتماد على الشفاعة لن يؤدى إلا إلى التكاسل عن نصرة الدين والتحلى بالعزيمة والإرادة في الفوز بدخول الجنة والإتكال على الشفاعة وهو ما يجب الحذر منه ومن المثير للدهشة أنه بني رأيه على أساس آراء علماء كبار ناقشوا هذا الموضوع قبله بحوالي 100 عام كان على رأسهم الإمام محمد عبده لكنهم حملوه الخطيئة وحده .
ومن جانب آخر فمن الجانب الفني والأدبي فقد كتب الدكتور مصطفي محمود مجموعة من الأشكال الأدبية ما بين الرواية والمسرح والقصص القصيرة وقصص الخيال العلمي وتجسدت في عدد من الروايات مثل المستحيل وشلة الأنس والعنكبوت وغيرها وقد طرح مصطفى محمود رواية المستحيل عام 1960م وكانت تحكي عن مهندس شاب يكتشف فجأة أن حياته مزيفة وكل شئ فيها مفروض عليه دون أن تكون له يد في إختياره بدءا من زوجته ربة المنزل التي لا هم لها سوى البيت والأولاد ويتعرف على جارة له هي الأخرى تعيش مأساة من نوع آخر حيث تضطر للزواج من زوج شقيقتها المتوفاة تحت ضغط أسرتها لتلاحقها ذكريات شقيقتها في كل جدران المنزل ومما يزيد ألمها رغبة زوجها في جعلها صورة طبق الأصل من شقيقتها وقد تحولت هذه الرواية لفيلم سينمائي بنفس الإسم عام 1965م ولعب بطولته كل من كمال الشناوي وحسين كمال ونادية لطفي ووضع له السيناريو يوسف فرنسيس أما رواية شلة الأنس فكانت عبارة عن مجموعة قصصية صدرت عام 1962م تبرز شخصيات واقعية شعبية تجتمع كل يوم وقت العصاري يدخنون المعسل والجوزة ويتحدثون في الفن والإختراعات وقد تحولت إلى فيلم سينمائي يحمل نفس الإسم في عام 1976م ولعب بطولة الفيلم كل من نور الشريف وعزت العلايلي ونيللي وهدى سلطان وآخرين أما رواية العنكبوت وهي من أشهر رواياته فقد صدرت عام 1965م أيضا وهي رواية فلسفية لا تخلو من لمسة خيال علمي وهي تناقش فكرة مصير الروح وإرتباطها بالإنسان وماذا يحدث له بعد الموت وقد تم تقديم هذه الرواية في مسلسل عام 1973م ولعب بطولته كل من عزت العلايلي ومحمود المليجي ومديحة كامل وآخرين وفي عام 1965م كتب الدكتور مصطفي محمود أيضا قصة فيلم العنب المر وكانت البطولة لأحمد مظهر ولبنى عبد العزيز وفي عام 1968م كتب الحوار الخاص بفيلم نار الحب الذي لعبت بطولته سعاد حسني وحسن يوسف وقد أصدرت قناة الجزيرة الوثائقية عنهُ فيلم وثائقي يدور عن حياتهِ بإسم العالم والإيمان من جزئين وقد عرض بعد وفاته بحوالي 4 أعوام في عام 2013م وتحدث في جزئين عن حياته وعن مسيرتهِ العلمية وكتاباته ومؤلفاته ومعاركه الفكرية وتأثيره في محيطهِ العربي والإسلامي ومرحلة الشك التي مر بها فكريا قبل أن يحسمها إلى الأبد وسلط الفيلم أيضا الضوء على الضغوط التي مارستها الجماعات الصهوينية على جريدة الأهرام لوقف مقالاته وكيف وصلت الضغوط إلى حد مخاطبة الدكتور أسامة الباز المستشار السياسي للرئيس حسني مبارك للأهرام بهذا الصدد ويتناول الفيلم أيضا مقالات الشفاعة التي كتبها في أيامهِ الأخيرة وأثارت عليهِ الكثير من ردود الفعل التي وصل بعضها لدرجة الحملات الإعلامية وتجربته الفريدة في تقديم برنامجه الشهير العلم والإيمان ويستعرض أيضا المتحف الذي أسسه كنادي للعلماء ونشاطه الخيري الكبير في جمعية مسجد مصطفي محمود .
وفي عام 2003م أصيب الدكتور مصطفي محمود بجلطة وأعلن إعتزاله الكتابة وكانت وفاته في الساعة السابعة والنصف من صباح يوم السبت 31 أكتوبر عام 2009م بعد رحلة علاج إستمرت عدة شهور عن عمر يناهز 88 عاما وقد شيعت الجنازة من مسجده بحي المهندسين ولم يحضرها أي من المشاهير أو المسؤولين ولم تتحدث عنها وسائل الإعلام إلا قليلا مما أدى إلى إحباط أسرته ويذكر أن الإعلامي وائل الإبراشي قام بالتعقيب وقتها على التجاهل الرسمي للراحل قائلا إن مصطفى محمود كان يمثل خطرا على إسرائيل لأنه كان الوحيد الذي يرد على إدعاءاتها من خلال قراءته المتأنية في العقائد والتاريخ والعلوم وهو ما تسبب في حرج شديد للمسؤولين في الدولة مما قد يفسر تخليهم عنه في محنة مرضه وحتى لحظة وفاته وعن الحياة الشخصية للدكتور مصطفي محمود فقد تزوج في عام 1961م من فتاة تصغره بحوالي 15 عاما وقال عنها في مذكراته إنها كانت نصفه الآخر الذي لازمه قرابة 10 سنوات وكان أكثر ما يؤرق حياتهما أنها كانت غيورة جدا وقد إنتهى زواجهما بالطلاق عام 1973م وكان قد رزق منها بإبنة تسمي أمل وإبن يسمي أدهم ثم تزوج مرة أخرى في عام 1983م من السيدة زينب حمدي وإنتهى هذا الزواج أيضا بالطلاق بعد 4 سنوات في عام 1987م وقد كشفت بعد وفاته عن تفاصيل جانب من حياته لم يكن معروفا للعامة حيث كان الدكتور مصطفي محمود عاشقا للغناء وكانت تربطه علاقة قوية مع المطرب وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب وقالت عنه أيضا إن الكثيرين لا يعلمون أنه كان يمتلك حنجرة ذهبية ويتمتع بصوت جميل وكان دائما يدندن على العود الذى يمتلكه وفى أول لقاء بينهما أهدى لها أغنية الحبيب المجهول كما أنه كان يتمتع دائما بروح الشباب رغم أن فارق العمر بينهما كان 25 عاما إلا أنها لم تشعر بفارق السن أبدا .
وفي النهاية لابد وأن نذكر أن الدكتور مصطفي محمود كثيرا ما إتهم بأن أفكاره وآراءه السياسية متضاربة إلى حد التناقض إلا أنه كان لا يرى ذلك ويؤكد أنه ليس في موضع إتهام وأن إعترافه في كل شجاعة أدبية بأنه كان على غير صواب في بعض مراحل حياته هو درب من دروب الشجاعة الأدبية والقدرة على نقد الذات وهذا شئ يفتقر إليه الكثيرون ممن يصابون بالتعالي والغرور مما يصل بهم إلى عدم القدرة على الإعتراف بأخطائهم وقد إعترف الدكتور مصطفي محمود في مذكراته أيضا أنه قد تناول الخمر قائلا إنه فعل ذلك مع أصدقائه على سبيل التجربة لأنه كان فى ذلك الوقت فى مرحلة الشك وتجربة الأشياء وشعر بعد تناول الخمر أنها ليس لها أي طعم أو مذاق بل كانت تثقل جسده ومن هنا كره الخمور ولم يذقها بعد ذلك مطلقا ويروى مصطفى محمود أيضا أنه من الطريف أنه عندما عرض على مسؤولي التليفزيون المصرى مشروع برنامج العلم والإيمان وافق المسؤولون وقاموا برصد مبلغ 30 جنيه للحلقة وبذلك فشل المشروع منذ بدايته إلا أن أحد رجال الأعمال علم بالموضوع فأنتج البرنامج على نفقته الخاصة وليصبح من أشهر البرامج التليفزيونية وأوسعها إنتشارا على الإطلاق ولا يفوتنا أن نذكر أيضا أن روايته رجل تحت الصفر قد حازت جائزة الدولة لعام 1970م وتتحدث هذه الرواية عن قصة خيال علمي يحمل القارئ على جناح سرعة زمنية إلى مستقبل يتجاوز الألفية الثانية حيث مستقبل تتغير فيه الملامح فكما يتجاوز الكاتب بخياله حدود زمان نعرفه يتجاوز حدود معالم إنسان نعيشه في رحلة خيالية يعود منها القارئ وهو منبهر مستغرب ومتفاجئ إلا أنه مسرور أنه لن يعيش إلى تلك المرحلة الزمنية الخارجة عن الزمان والمكان وبتاريخ يوم الإثنين 2 يونيو عام 2008م وقبل وفاته بعام وعدة شهور كتب الشاعر فيصل أكرم مقالا في الإصدار الأسبوعي لصحيفة الجزيرة الثقافية بعنوان ذاكرة إسمها لغز الحياة ذاكرة إسمها مصطفى محمود وطالب الصحيفة بإصدار ملف خاص عن مصطفى محمود تكريما له وبالفعل أصدرت الصحيفة في تاريخ يوم الإثنين 7 يوليو عام 2008م العدد الخاص من الجزيرة الثقافية وكان يتحدث من الغلاف إلى الغلاف عن مصطفى محمود وضم الملف كتابات لثلاثين مثقفا عربيا منهم الدكتورغازي القصيبي والدكتور زغلول النجار والدكتور إبراهيم عوض وغيرهم من الأدباء والكتاب والأكاديميين بالإضافة إلى الشاعر فيصل أكرم الذي أعد الملف كاملا وقدمه بصورة إستثنائية كما ضم العدد الخاص صورا خاصة وكلمة بخط يد مصطفى محمود وأخرى بخط إبنته أمل . |