بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
علي محمود طه المهندس شاعر مصري من أعلام الرومانسية العربية بجانب جبران خليل جبران والبياتي والسياب وأمل دنقل وأحمد زكي أبو شادي وقد قال عنه الأديب أحمد حسن الزيات إن الشاعر على محمود طه كان شابا منضور الطلعة مسجور العاطفة مسحور المخيلة لا يبصر غير الجمال ولا ينشد غير الحب ولا يحسب الوجود إلا قصيدة من الغزل السماوي ينشدها الدهر ويرقص عليها الفلك وكان شاعرنا علي محمود طه واحدا من أقطاب مدرسة أبوللو وهي إحدى المدارس الأدبية الهامة في الأدب العربي الحديث والتي أسسها في العقد الرابع من القرن العشرين الماضي الشاعر الكبير أحمد زكي أبو شادي المولود في عام 1892م وضمت شعراء الوجدان في مصر والوطن العربي وكان روادها بخلاف مؤسسها وشاعرنا الكبير علي محمود طه الشعراء إبراهيم ناجي وأبو القاسم الشابي وصالح جودت وصلاح أحمد إبراهيم وعلي العناني وكامل كيلاني ومحمد عبد المعطي الهمشري ومحمود عماد وجميلة العلايلى وقد سميت المجموعة بهذا الإسم نسبة إلى صحيفتهم التي كان إسمها أبوللو والتي أصدرها شعراؤها عام 1932م وهذا اللفظ أبوللو مأخوذ من أبوللون وحذفت النون للتخفيف وهو إله النور والفن والجمال عند الإغريق وكان إتخاذ هذا الاسم دلالة على التأثر بالثقافات الأجنبية عند رواد هذه الجماعة بما يوحي من زاوية خفيفة بإتساع مجالات ثقافتهم وإبداعهم وكان إتجاه هذه المدرسة هو الإتجاه الرومانسي والذى إتسم بوظائف أبوللون والتي تتصل بالتنمية الحضارية ومحبة الفلسفة وإقرار المبادئ الدينية والخلقية وقد ولد علي محمود طه في عام 1902م في مدينة المنصورة عاصمة محافظة الدقهلية وقضى معظم شبابه فيها وتعلم في الكتاب كسواه من أبناء جيله ثم إنتقل إلى المدرسة الإبتدائية ولما حصل علي شهادتها إنتقل إلى مدرسة الفنون والصناعات التطبيقية وتخرج منها عام 1924م مساعد مهندس معماري وعين في إدارة هندسة المباني بمدينة المنصورة ثم إتصل بعد ذلك ببعض رجال السياسة وعمل في سكرتارية مجلس النواب ثم صار في النهاية وكيلا لدار الكتب المصرية ليتفرغ للشعر والإبداع وكان الأدب يستهويه على الرغم من عدم دراسته للغة العربية دراسة كافية لكنه تمكن من تلافي ذلك بالحفظ والمتابعة والدراسة المتأنية لقواعد اللغة العربية في مدة قياسية بسبب فطنته وذكاءه ومما يذكر عن شاعرنا الكبير علي محمود طه أنه قد أحب في مطلع شبابه فتاة يونانية ثرية كانت تسكن في المنصورة ولكنه لم يوفق في هذا الحب ثم أحب بعد ذلك إمرأة ألمانية متزوجة ولكنه عاش ومات دون أن يتزوج وعرف مجالس واللهو والطرب وهذا ما أثر في شاعريته الفياضة بل كان شعره صدى لتجاربه في الحياة .
وقام علي محمود طه بإصدار ديوانه الأول وكان إسمه الملاح التائه في عام 1934م وكان عمره 32 عاما فكان بداية لشهرته الواسعة وقد نشر بعد هذا الديوان قصائده في صحف عديدة والذى يجب ملاحظته في ديوانه الأول هو تأثره الواضح بالشعراء الرومانسيين الفرنسيين لا سيما شاعرهم لامارتين وإلى جانب تلك القصائد التي شملها الديوان التي تعبر عن فلسفة رومانسية غالبة كانت أيضا هناك قصائده التي إستوحاها من مشاهد صباه حول مدينته المنصورة وبحيرة المنزلة والتي كانت من أمتع قصائد الديوان وأبرزها وفي هذا الديوان تتبدى وحشة الشاعر وخوفه من المجهول ورغبته الشديدة في إغتنام الفرصة والفوز بملذات الحياة قبل فوات الأوان وكان من أهم قصائد هذه المجموعة قصيدة ميلاد شاعر التي إفتتح بها المجموعة وقصيدة الملاح التائه وقصيدة البحيرة للشاعر الفرنسي الرومانسي لامارتين والتي قام بترجمتها وإختتم بها هذا الديوان وهي قصيدة رومانسية وكانت الترجمة الشعرية رومانسية هي الأخرى وهي على النظام المقطعي الذي إشتهرت به جماعة أبوللو وليس ذلك فحسب وإنما يتجلى للقارئ أن تصوير العاطفة في هذه القصيدة كان أكثر وضوحا منها في قصائد أخرى لهذا الشاعر وكان مما قاله في هذا الديوان :-
أيها الملاح قم وإطو الشراعا لم نـطو لجـة الليـل سـراعـا
جــدف الآن بنـا فـي هينة وجـهة الشاطـئ سيرا وإتبـاعـا
فـغدا يا صـاحبـي تـأخـذنـا مـوجـة الأيـام قـذفـا وإنـدفـاعـا
عبثا تقفو خطا الماضي الذي خلت أن البحر واراه إبتلاعا
لم يكـن غير أويقات هوى وقفت عن دورة الدهر إنقطاعا
فتمهل تسعد الـروح بما وهمـت أو تطـرب النفـس سـماعا
وقد أتيح لعلي محمود طه بعد ذلك في عام 1938م فرصة قضاء الصيف في السياحة في قارة أوروبا وهناك إستمتع بمباهج الرحلة في البحر مما كان له أثره في صقل ذوقه الفني بما تقع عليه عيناه من مناظر جميلة فكان التغني بالجمال أوضح في شعره من تصوير العواطف وكان الذوق فيه أغلب من الثقافة وكان إنسجام الأنغام الموسيقية أظهر لديه من إهتمامه بالتعبير ومن جانب آخر فقد ثار الشاعر على محمود طه على وحدة القافية ووحدة البحر مؤكدا على الوحدة النفسية للقصيدة ولذا فقد كان يسعى أن تكون القصيدة بمثابة فكرة أو صورة أو عاطفة يفيض بها القلب في صيغة متسقة من اللفظ تخاطب النفس وتصل إلى أعماقها من غير حاجة إلى كلفة ومشقة وفي زيارته لمدينة فينيسيا الإيطالية خلال رحلته المشار إليها كتب قصيدة الجندول حيث كان من حسن حظه في وقت زيارته لفينيسيا أن كان أهلها يحيون ليالي الكرنفال الذى تشتهر به هذه المدينة والذى يحتفل الفينسيون به أروع إحتفال فينطلقون جماعات كل منها في جندول مزدان بالمصابيح الملونة وضفائر الورد ويمرون في قنوات المدينة العائمة بين قصورها التاريخية وجسورها الرائعة وهم يمرحون ويغنون في أزيائهم التنكرية الملونة الرائعة فأوحى هذا الجو الفاتن إليه بهذه القصيدة التي نظمها تخليدا لهذه الزيارة وكانت هذه القصيدة سببا رئيسيا في زيادة شهرته حينما غناها الفنان محمد عبد الوهاب وأصبحت كلماتها متداولة علي ألسنة العامة ومضى كثيرون ينشدون في الطرقات المقطع الذى كرره عبد الوهاب حينما غناها وهو أنا من ضيع في الأوهام عمره وكان مما قاله في هذه القصيدة :-
أيـن مـن عينيّ هـاتيك المجـالي يا عروس البحر يا حلم الخيــــال
أيـن عشاقـك سمـار الليالــــــي أين من واديك يا مـهد الجمــــــال
موكب العيد وعيد الكرنفـــــال وسري الجندول في عرض القـنال
بين كأس يتشهى الكــرم خمـــره وحبيب يتمني الكـــأس ثغــــــره
إلتقـــت عينــي بــه أول مــــرة فعرفت الحــب مــن أول نظــــــرة
وفي عام 1940م أصدر ديوانه الثاني ليالي الملاح التائه والذي ضمنه قصيدة الجندول التي إفتتح بها المجموعة وقصيدة مصرع الربان وقصيدة التمثال التي إستلهم فيها الشاعر أسطورة بيجماليون ولكن الشاعر إستطاع أن ينقلها من مجالها الكلاسيكي الأسطوريّ إلى شاعريته الرومانسية فإذا كان الأمل الإنساني متحققا في مضمون الأسطورة وكان في هذه القصيدة محطما لغلبة الزمن وسطوته ولذلك تعلق الشاعر بالعذاب المبدع كما جاء في خاتمة هذه القصيدة :-
صاح بالشمسِ لا يرعك عذابي فإسكبي النارَ في دمي وأريقي
نـاركِ المشتهاة أنـدى علـى القلـبِ وأحنى منَ الفـؤادِ الشَفِيـقِ
فـخـذي الـجســم حـفـنـةً مـن ذي الـروح شـعـلـةً مـن حــريـقِ
جـن قلبي فمـا يـرى دمـه القـاني عـلى خنجـرِ القضاءِ الَرقِيـقِ
وفي عام 1941م أصدر علي محمود طه كتابه النثري أرواح شاردة وهو من النثر الخفيف الإيقاعي وفي عام 1942 أصدر ديوانه الثالث أرواح وأشباح وهو عمل يعتمد على بعض الأعلام الأسطورية وهو يقيم فيما بينها حوارات مختلفة ليبدو العمل في موضوع واحد وإن كان متعدد العناوين الجزئية وفي عام 1943م أصدر علي محمود طه ديوان زهر وخمر وتصدرته قصيدة ليالي كيلوباترا التي غناها الفنان محمد عبد الوهاب والتي كان من أبياتها :-
كليوباترا أى حلم من لياليكِ الحسانِ طاف بالموجِ فغنى وتغنى الشاطئانِ
وهـفـا كـل فـؤاد وشــدا كـل لـسـانِ هــذه فـاتنـةُ الدنيـا وحسنـاء الـزمـانِ
بعِثت فى زورق مستلهم من كـل فن مـرحِ المـجدافِ يختال بحوراء تغني
وفي عام 1944م أصدر مسرحية شعرية إسمها أغنية الرياح الأربع وهي مسرحية غنائية وفي عام 1945م صدر له ديوانه الشوق العائد وفي عام 1947م أصدر ديوانه الأخير شرق وغرب وفيه القصائد ذات شقين الأول ما يتصل بالغرب بما فيه من فنون وإبداعات وصلات الشاعر بالغرب ورحلاته إليه أما الشق الثاني فهو بعنوان أصوات من الشرق ويشمل قصائد عن قضية فلسطين وبعض القضايا الأخرى ويمكننا القول إن شاعرنا علي محمود طه قد تأثر بشعراء الرمزية أمثال الشاعرين الفرنسيين الكبيرين شارل بودلير والفريد دي ڤيني والشاعر الإنجليزى بيرسي شـِيلي ولم يكن علي محمود طه شاعرا رومانسيا خالصا كما هي الحالة عند الشاعر أبي القاسم الشابي ففي شعره تصوير حسي لملذات الحياة وملاهيها وما فيها من رقص ولهو وغناء وألفاظه ذات رنين صاخب وإيقاعاته كلاسيكية وإن حاول أن ينوع في هندستها وبعض موضوعاته كلاسيكي في حين أن موضوعاته الأخرى رومانسية ولذلك تقلب شاعرنا علي محمود طه بين الشعر الكلاسيكي والشعر الرومانسي وتتجلي النزعة الكلاسيكية في أعمال هذا الشاعر الكبير في موضوعات محددة مثلما رأينا في قصائد الرثاء التي رثا فيها كل من موسيقار الشعب سيد درويش وشاعر النيل حافظ إبراهيم وأمير الشعراء أحمد بك شوقي ورئيس الوزراء عدلي يكن باشا والشاعر محمد عبد المعطي الهمشري وصاحب جريدة الأهرام جبرائيل تقلا باشا والأديب شكيب أرسلان وغيرهم بينما تجلت نزعة الرومانسية في الغناء للمرأة والطبيعة ومصر والوطن العربي ومشاهد الطبيعة الخلابة في مصر وأوروبا كما تتجلى في أنظمة إيقاعاته التي شارك بها جماعة أبوللو وجماعة المهجر في النظام المقطعي كما هي الحالة في قصائده الشاعر الكئيب وقبلة وقلبي والله والشعر وعاصفة في جمجمة وحانة الشعراء ومن ذلك أيضا الرباعيات التي إشتهر بنظمها كقصيدته كأس الخيام وزهراتي كما أننا نجد له قصائد مناسبات أخرى في الملك فاروق وأسرته وفي ذكرى وفاة محمد علي باشا الكبير وله أيضا قصائد قومية كثيرة تكشف عمق إلتصاقه بوطنه وحبه له كان منها قصيدة في المجاهد المغربي عبد الكريم الخطابي وفي القائد السورى يوسف العظمة شهيد معركة ميسلون بعد أن حققت سوريا الجلاء في عام 1946م وكان من جميل ما قاله في ذلك بيتان يخاطب فيهما يوسف العظمة :-
قُم لـحظةً وإنـظر دمشـقَ وقـل لـها عـاد الـكمي مع النفيرِ الصـادِحِ
ودعاكِ يا بنت الـعروبةِ فإنهضي وإستقبلي الفجر الجديد وصافحي
وفي صيف عام 1949م أُصيب علي محمود طه بشلل نصفّي مفاجئ فدخل المستشفى في القاهرة ولما أخبره الطبيب أنه يستطيع العودة إلى بيته إرتدى ملابسه وحاول الخروج ولكن منيته عاجلته قبل أن يتخطّى باب المستشفى وهو في قمة عطائه وقمة شبابه وكان ذلك في يوم 17 نوفمبر عام 1949م وتم نقل جثمانه إلي المنصورة حيث دفن بمقابر أسرته هناك وكان مما قاله عنه معاصروه ما ذكره الشاعر صلاح عبد الصبور في كتابه على مشارف الخمسين إذ يقول قابلت الناقد أنور المعداوي في أحد المقاهي وقلت له أريد أن أجلس إلى علي محمود طه فقال لي أنور إنه لا يأتي إلى هذا المقهى ولكنه يجلس في محل جروپي بميدان سليمان باشا وذهبت إلى جروبي عدة مرات وإختلست النظر حتى رأيته كانت هيئته ليست هيئة شاعر ولكنها هيئة عين من الأعيان وخفت رهبة المكان فخرجت دون أن ألقاه ويرى الدكتور سمير سرحان والدكتور محمد عناني إن المفتاح لشعر علي محمود طه هو فكرة الفردية الرومانسية والحرية التي لا تتأتى بطبيعة الحال إلا بتوافر الموارد المادية التي تحرر الفرد من الحاجة ولا تشعره بضغوطها بحيث لم يستطع أن يرى سوى الجمال وأن يخصص قراءاته في الآداب الأوروبية للمشكلات الشعرية التي شغلت الرومانسية عن الإنسان والوجود والفن وما يرتبط بذلك كله من إعمال للخيال الذي هو سلاح الرومانسية الماضي ولقد كان علي محمود طه أول من ثاروا على وحدة القافية ووحدة البحر مؤكدا على الوحدة النفسية للقصيدة حيث كان يسعى كما يقول الأديب الدكتور محمد حسين هيكل باشا في كتابه ثورة الأدب إلي أن تكون القصيدة بمثابة فكرة أو صورة أو عاطفة يفيض بها القلب في صيغة متسقة من اللفظ تخاطب النفس وتصل إلى أعماقها من غير حاجة إلى كلفة ومشقة وكان الشاعر على محمود طه في شعره ينشد للإنسان ويسعى للسلم والحرية رافعا من قيمة الجمال كقيمة إنسانية عليا وغير ما قاله عنه معاصروه فقد تم تأليف بعض الكتب عن شاعرنا علي محمود طه منها كتاب الناقد أنور المعداوي علي محمود طه الشاعر والإنسان وكتاب السيد تقي الدين علي محمود طه حياته وشعره وكتاب محمد رضوان الملاح التائه علي محمود طه وفضلا عن ذلك فتكريما لذكراه فقد تم إطلاق إسمه علي الشارع الذى كان يوجد به منزله بمدينة المنصورة كما كان يتم إدراح أجزاء من بعض قصائده في كتب النصوص والبلاغة المقررة علي سنين المرحلة الثانوية وأخيرا لا يفوتنا أن نذكر أن شاعرنا الكبير علي محمود طه قد ترك أثرا كبيرا على الشعراء الذين جاءوا بعده فقد كتب في جميع الأغراض التي شكلت ميدانا لغيره من الشعراء كالغزل والرثاء والمدح والفلسفة والحكمة والتأمل بالإضافة إلي تنوع قوافيه وفنونه . |