بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
قام الريحاني بتأسيس فرقته الخاصة وقام بتنظيمها بوصفه ممثلا ومديرا للفرقة وإنتقل إلى مسرح صغيرٍ سعة مائتي مقعد يقع في شارع بولاق وهو مسرح الرينيسانس الذي كان ملكا لِيوناني يدعى ديموكنكس والذى قرر أن يستثمر أمواله في الفرقة وقد وكل إليه الريحاني مهمة الإشراف على ميزانيَتها نظير حصوله على نسبة مرتفعة من الأرباح وإرتفع أجر الريحاني إلى 120 جنيها في الشهر وفي يوم 18 ديسمبر عام 1916م بدأت مرحلة جديدة من حياة الريحاني الفنية كممثل ومدير فرقة ففي هذا اليوم نشرت جريدة الأهرام إعلانًا مفاده أن الريحاني سيعرض رواية إبقى قابلني في تياترو الرينيسانس وأنَ هذه الرواية قابلة لِحضور الأسر والعائلات والسيدات لكونها عبارة عن تسلية بريئة لا أكثر وقد أدرك الجمهور مغزى عنوان المسرحية الأولى إبقى قابلني وهو فيما يبدو في ظاهره عديم المعنى إلا أنه كان المقصود منه السخرية والتهكم علنا علي روزاتي الذي كان يريد أن يمنع نجيب الريحاني من أداء شخصية كشكش بك بِدعوى أنه هو مبتكر وصاحب هذه الشخصية بحكم أنها ظهرت أولا في ملهي الأبيه دي روز الذى كان يملكه لكن المحكمة رفضت دعواه وعرضت مسرحية إبقى قابلني في شهر يناير عام 1917م ثم تلتها مسرحية كشكش بك في باريس في شهر فبراير عام 1917م وأحلام كشكش بك في شهر مارس عام 1917م ثم وداع كشكش بك ووصية كشكش بك في شهر أبريل عام 1917م وهنا إنتهى عقد الريحاني مع ِمسرح الرينيسانس بعد أن إستغرق عمله فيه أربعة أشهر وكان موسما على قدرٍ كبير من الأهمية في مسيرته الفنية لأن المسرحيات التي عرضت فيه غدت أكثر نضجا من مسرحيات ملهى الأبيه دي روز ولما كان الريحاني قد عمد إلى شغل مدة العرض كلها وكانت تبلغ ثلاث أو أربع ساعات في حين أنَّها في الأبيه دي روز كانت ساعة واحدة تعرض خلالها مسرحية قصيرة ومن ثم قام بتشجيع أمين صدقي على تأليف مسرحيات من فصلين بدلا من فصل واحد .
وعلى أثر نجاح الريحاني في عروض الكوميديا الفرانكوعربية التي قام بعرضها من خلال مسرح الرينيسانس ظهر مقلدون عديدون دأبوا على إبتكار شخصيات كوميدية محلية لكنهم كانوا يمثلون هذه الشخصيات على أي نحو في عروض منوعات قوامها الأُغنية والإستعراضات الراقصة بدلا من إدماجها في مسرحية كوميدية قصيرة مثلما كان يفعل الريحاني وسرعان ما تطور هذا اللون من التسلية إلى إستعراضٍ عرفه محمد تيمور رائد النقد المسرحي في ذلك الوقت بِقوله ليسَ الريفيو غير معرض الحوادث الهامة التي تجري في بلد منَ البلاد ينظر إليها المؤلف نظرة الهازئ أو الساخر ثم ينقلها إلى المسرح مشوهة تشويها وقد حظي الإستعراض بشعبية هائلة حتى أنه طغا خلال عام 1917م وحتي عام 1920م على مجالات الترفيه بالقاهرة وجرف الريحاني في تياره وترك بصمته على الكوميديا الفرانكوعربية حديثة النشأة وعلي الرغم من أن جورج أبيض وهو أكبر ممثل وصاحب أكبر مسرح في مصر في ذلك الوقت وكان يمثل بنجاح تراجيديات أوروبية باللغة العربية الفصحى فإنه إنقاد رغما عنه لهذه الموجة حيث قدم إستعراضا غنائيا بعنوان فيروز شاه كتبه أديب يدعى عبد الحليم دلاور وفي ملهى الكازينو دي باري كان علي الكسار يقلد الريحاني بنجاح كبير وكان هو من إبتكر شخصيَة رجل نوبي بربري يدعى عثمان عبد الباسط كان نموذجا لفئة الخدم وكان يماثل كشكش بك في نواح عديدة فهو بسيط وطيب لكنه ماكر مخادع وتقليدا لمسرحيات الريحاني فقد أطلق علي الكسار على إستعراضاته عناوين مماثلة لِعناوين مسرحيات نجيب الريحاني مثل البربري في باريس غير أن الريحاني كان أقدر على الفكاهة من الكسار وأرحب خيالا كما أن شخصية كشكش بك كانت تعد أكثر أهمية من شخصية عثمان عبد الباسط ومع ذلك لم يكن في إستطاعة الريحاني أن يصمد لمنافسة علي الكسار طيلة عمل فرقته بِمسرح الرينيسانس الذي لم تسمح إمكانياته الفنية بتقديم عروض فخمة ولم يتمكن الريحاني من ذلك إلا بعد إنتقاله إلى مسرح الإجيبسيانا الذي كان يفوق مسرح الرينيسانس إتساعا مع تدعيم فرقته بعناصر جديدة وجيدة وكان هذا المسرح في الأصل مقهى وكانت أرضه غير مكسوة بالبلاط كما كان سقفه مغطى بالخيش ورصت به في صفوف غير منتظمة مقاعد مصنوعة من قش رخيص وعندما إنتقل إليه الريحاني في شهر سبتمبر عام 1917م أسرع بتحويله إلى مسرح بدائي وكانت فرقته حينذاك قد بلغت درجة عالية من القوة والتماسك كما كان قد إنضم إليها ممثلون معروفون ومشهورون أمثال عبد اللطيف جمجوم وحسين رياض وإستيفان روستي الذي تخصص في دور الخواجة الأجنبي وكلود رينو في دور الشامي وعبد اللطيف المصري صاحب شخصية زعرب وحسن إبراهيم الذى تخصص في أداء أدوار نسائية وإفتتحت الفرقة موسمها في يوم 17 سپتمبر عام 1917م بمسرحية أكثر نضجا من المسرحيات السابقة وكانت بعنوان أم أحمد وكانت من تأليف أمين صدقي وتقع هذه المسرحية على عكس مسرحيات صدقي والريحاني التي سبقتها في ثلاثة فصول وقد روعي في تأليفها التسلسل المنطقي للأحداث ويحتوي كل فصل فيها على أغنيتين وتدور أحداثها حول كشكش بك الذي تخلى عن دوره التقليدي كعمدة لقريته لِيؤدي دور كاتب بسيط وقد أخرج الريحاني بعد هذه المسرحية ثلاث مسرحيات قصيرة هي على التوالي أُم بكير وحماتك بتحبك وحلق حوش .
وعلى الرغم من أن مسرحيات الريحاني حينذاك لم تكن أقل نضجا من الطائفة الأولى إلا أنها لم تصمد لِمنافسة إستعراضات الكسار وفي شهر ديسمبر عام 1917م هبط الإحتياطي المالي للريحاني إلى خمسين جنيها فأجرى بعض التغييرات على إدارة الفرقة مما مكنه من السيطرة عليها ماليا وفنيا حيث إستبعد ديموكنكس من إدارة الفرقة وبذلك إستطاع أن يشرف على 70% من الإيرادات وثانيا وجد الريحاني أن الوقت قد حان لإجراء تحسينات فنية فإذا كان الجمهور لم يستطع أن يتذوق ما طرأ على كوميدياته من تطور فنيٍ فليتجه بكل مواهبه إلى تقديم إستعراضات فنية رفيعة وكان الريحاني قد شاهد أحد إستعراضات الكسار في الملهى فداخلته الثقة بِقدرته على إنتاج إستعراضات ذات موضوعات جادة ومضمون مصري وعربي ومشرقي تكون أرفع بِكثير من أعمال الكسار وضم إلى فرقته مجموعة من الراقصات والمغنيات الأوروبيات وإستعان بِأوركسترا موسيقية كبيرة حتي يتسنى له تقديم إستعراضات فخمة وزود المسرح بالتصميمات اللازمة كما طلب من أمين صدقي كتابة إستعراض جديد يحمل عنوان حمار وحلاوة ومن غير المعروف متى بدأ عرض هذه المسرحية لكن يرجح أن ذلك كان في أوائل شهر يناير عام 1918م وقد حققت هذه المسرحية نجاحا هائلا فإستمر عرضها أربعة أشهر وبلغت أرباح الريحاني وحده في الشهر الأول 400 جنيه وسرت إشاعة تقول إن الريحاني قد كون ثروةً ضخمة حتى أنه إشترى ضيعة أسماها حمار وحلاوة على أثر نجاح مسرحيته التي تحمل نفس الإسم وطلب أمين صدقي من الريحاني منحه نسبة من الأرباح لكن الريحاني رفض فإستقال صدقي من مسرح الإجيبسيانا وألف مع الكسَار فرقة مسرحية وإستأجرا مسرح الماجستيك لِحسابهما الخاص وقد خلف صدقي في الإجيبسيانا شاعر ومدرس شاب ظل مرتبطا بالريحاني طيلة حياته يدعى بديع خيري ما لبث أن أصبح صاحب الفضل في نجاح إستعراضات الريحاني التالية بِأزجاله الوطنية ولم يكن ما حبب للريحاني أزجال خيري هو موضوعها المصري فحسب بل راقت له وطنيتها المتدفقة في وقت كانت فيه الحرب العالمية الأولى قد وضعت أوزارها وأخذت تزداد في مصر مشاعر الكراهية للإستعمار البريطاني ووجد خيري في الوقت نفسه في صحبة الريحاني فُرصةً للعمل المثمر والتقدير المادي ولإستخدام مواهبه كسلاح في خدمة النضال السياسي وقد نجح أول إستعراض كتب خيري أغانيه وهو على كيفك حتى أن عرضه إستمر شهرين ونصف الشهر وحقق أرباحا قدرها ثلاثة آلاف من الجنيهات وكان الريحاني سعيدا بجهود خيري فرفع راتبه إلى ثلاثين جنيها وكان هناك كاتب آخر هو حسين شفيق المصري يعالج حبكة المسرحية في حين يتولى تلحينها الموسيقار الشامي كميل شامبير وقد بث خيري في أزجاله النكتة المصرية التي كان الريحاني شغوفًا بإظهارها وبعد أن قرر شامبير الإنسحاب من الفرقة أغرى الريحاني موسيقار شاب موهوب هو فنان الشعب سيد درويش بِترك فرقة جورج أبيض مقابل أربعين جنيها في الشهر بدلا من الثمانية عشر جنيها التي كان يتقاضاها من أبيض وخلال هذه الفترة عرضت للريحاني عدة مسرحيَّات هي على التوالي مصر في عام 1918م / 1920م وقولوا له التي عرضت في شهر مايو عام 1919م وتلاها بمسرحية إش في شهر يونيو عام 1919م وولو في شهر يوليو عام 1919م ورن في شهر ديسمبر عام 1919م وفشر في شهر يناير عام 1920م وفي تلك الفترة بلغ مسرح الإجيبسيانا أوج مجده وقد بلغت أرباح الريحاني حتى نهاية السنة الأولى 28 ألف جنيه .
وفي هذه المرحلة الفاصلة في تاريخ مصر كان وقود نجاح إستعراضات الريحاني هو الإضطرابات السياسية التي عصفت بِمصر وسائر البلدان العربية المشرقية عقب سقوط الدولة العثمانية وإعلان فرنسا وبريطانيا رغبتهما في إقتسام الولايات والأراضي العثمانية السابقة وما نجم عن ذلك من ردود فعل شعبية غاضبة ورافضة لِلمقررات الأوروبية وللهيمنة الإستعماريةَ على بلادها ومن ذلك ثورة عام 1919م في مصر التي ساهم خيري والريحاني وسائر المسرحيين في مصر بإذكاء روحها من خلال الإستعراضات التي كانت تقام على المسارح وقام كل من بديع خيري والريحاني خصوصا بِتخصيصها بوظيفتها في إثارة الكراهية ضد الإستعمار ومع بداية عام 1920م خمدت الإضطرابات السياسية التي كانت تغذي الإستعراضات وأخذ الجمهور يتطلع إلى شكل من أشكال الأوبريت بحيث يكون أرقى من هذا المستوى وقد تبين للريحاني بعد أن سآم اللون الإستعراضي بِسبب شكله غير الدرامي والقيود التي فرضها على موهبته في الكوميديا أن الأوبريت بِفصولها الثلاثة وبنائها الدرامي المنطقي هي أنسب شكل فني من ِشأنه أن يتيح له فُرصا أفضل لِلعناية بالفكرة والشخصية والحوار في خلال المشاهد التي تتخللها أغانيه ولذلك كان الريحاني يريد أن يعالج الأوبريت بهذا الأُسلوب الذي يعطي الأولوية لِلعناصر الكوميدية على العناصر الموسيقية وقد كانت جميع أوبريتات الريحاني تقريبا تعتمد على روايات من ألف ليلة وليلة وإستطاع بذلك أن يحقق عن طريق حبكاتها نموذجا راقيا من الكوميديا الخالية من الفارس وهنا بدأت مرحلة الكوميديا الناضجة عند الريحاني فقد تخلى عن شخصية كشكش بك والشخصيات النمطية وتقنية الكوميديا الفرانكوعربية وإستخدم بدلا منها شخصيات واقعية حتي لقد تحول إهتمام الريحاني بشكل ظاهر إلى الإستعانة بنماذج من عامة الشعب كالإسكافي والترزي والموسيقار ونماذج أخرى من الطبقة العاملة وإلى معالجة قضايا هامة أيضا وفي تلك الفترة كان جمهور المسرح يمر بِتحول تدريجيٍ وذلك أن رواد فترة الملاهي من الأجانب وأثرياء الحرب أفسحوا المجال لطبقة متوسطة صاعدة من الموظفين والطلبة والمهنيين المتعلمين الذين إزداد إقبالهم على المسرح كما أخذت الروح الوطنية والقومية تتغلغل بين الناس بعد تفتت الدولة العثمانية وإنفصال الولايات العثمانية السابقة إلى عدة دول مستقلَة فكان رواد المسرح لأول مرة يرغبون في أن يخاطبهم المسرح كمصريين وقد عبر عن آمال الجمهور في تلك الفترة طائفة جديدة من نقاد المسرح الذين شغلتهم قضية مشتركة هي النهوض بالمسرح الحديث وكان هؤلاء يتوقون إلى تحرير المسرح من الترجمة والإقتباس عن المسرح الفرنسي الكلاسيكي وإلى إنتاج مسرحيات تصور الحياة المصرية والعربية والمشرقية تصويرا صادقا أمينا وتهدف إلى ترقية الأخلاق وقد كان لهذه الأفكار تأثير قوي على الريحاني لهذا أخذت أوبريتاته تتجاوز مرحلة فارسات كشكش بك لكي تعبر عن مضمونٍ أخلاقي ساذج لكنه لا يتسم أبدا بالنفاق .
وتعد مسرحية العشرة الطيبة التي مثِلت في شهر مارس عام 1920م باكورة إنتاج الريحاني في المرحلة الجديدة وكان قد كلف الناقد والكاتب المسرحي المعروف محمد تيمور بترجمتها عن مسرحية فرنسية بِعنوان اللحية الزرقاء ثم عهد إلى بديع خيري بكتابة أزجالها وإلى سيد درويش بتلحين موسيقاها وأسند إلى عزيز عيد إخراجها وكون الريحاني فرقةً جديدةً من كل من روز اليوسف ومحمد رضا وزكي مراد ومنسَى فهمي ومختار عثمان وإستيفان روستي وبرلنت حلمي ونازلي مزراحي كما إستأجر مسرح كازينو دي باري لمدة سنة بِمبلغ ألف جنيه وإشترى مجموعة فخمة جديدة من الملابس والمهمات والأثاث ولم تنجح العشرة الطيبة برغم ما توفَّر لها من مزايا فقد إنزلق الريحاني وزملاؤه إلى فخ سياسي عندما سخروا من الأتراك في ذلك الوقت بالذات بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالميَة الأولى وبعد أن تجلَى أن البريطانيين كانوا في عام 1920م أكبر عقبة في سبيل إستقلال مصر وأنهم يفعلون الأمر نفسه في فلسطين والعراق إذ فرضوا إحتلالًا على تلك البلاد كما في مصر كما كانت الأفكار في مصر ما زالت تحن وتعطف على الدولة العثمانية التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة حينذاك ولما تضافر عامل الإحتلال البريطاني لمصر مع كون البريطانيين أقوى عامل في هزيمة العثمانيين إنحازت عواطف الشعب المصري إلى تركيا ولم تعد السخرية من الأتراك أمرا مقبولا لِذلك إستغلَ خصوم الريحاني الموقف وراحوا ينشرون الخبر بأنه دسيسة بريطانية وأن القصد من عرضه لرواية العشرة الطيبة هو تجسيم مساوئ العثمانيين في عين المصريين وتقريب البريطانيين لقلوبهم ولم تكن تمر ليلة إلَّا ويقف في إحدى مقاصير كازينو دي باري أثناء عرض المسرحية أو في فترة الإستراحة خطيب ينادي بالويل والثبور وعظائم الأُمور ويهتف بسقوط الريحاني وكثيرا ما كان يقف بين المتفرجين بعض العقلاء والمتنورين فيردون على تلك التهم ويهدؤون من روع الهاتفين .
وقد تركت هذه الأحداث أسوأ الأثر في نفسية الريحاني فقرر الإبتعاد عن الجمهور المصري قليلا وفي بداية الموسم الشتوي لعام1920م جمع الريحاني أعضاء فرقته القديمة وشرع في تقديم مسرحيات كشكش بك الأولى في جولة في بعض الأقطار العربية وكان يأمل من وراء هذه الرحلة رفع معنوياته بالإضافة إلى تحقيق ربح مادي لكنه تبين بعد وصوله إلى الشام أنه لن يحقق أهدافه فقد كان لدى الشوام في لبنان ودمشق نسخة من كشكش بك هو كاشكاش الذي كان يمثِل دوره أمين عطا الله الذي لعب دور الشيخ ينسون مع الريحاني في المسرحيات الإستعراضية سابقا ولم يكن أمين عطا الله قد سطا على إبتكار الريحاني فقط بل إنه إنتحل أيضا مسرحياته وكان تمثيل عطا الله لشخصية كشكش بك موجها لِلجمهور الشامي فهو يتحدث بِلهجة لبنانية تارة ودمشقية تارة أُخرى ويرتدي الملابس المألوفة لدى الشوام بدل زي العمدة الريفي المصري لهذا لم يلق كشكش بك الريحاني إستجابةً أو قبولا لدى الشوام بل إنهم إتهموا الريحاني بتقليد أمين عطا الله وعلي الرغم من ذلك فقد حققت رحلة الريحاني إلى الشام نتيجة طيبة في جانب آخر ذلك أنه إلتقى في مدينة زحلة البقاعية في لُبنان بإمرأة جميلة تدعى بديعة مصابني أغراها بالإنضمام إلى فرقته وإتخذها صديقة ثم زوجة له فيما بعد وإصطحبها إلى مصر ولم يكن الحظ حليف الريحاني بعد عودته إلى مصر في أوائل عام 1921م فقد رفع عليه ديموكنكس صاحب مسرح الإجيبسيانا اليوناني دعوى قضائية يطالبه فيها بِتعويض عن الخسائر التي لحقته بِسبب غياب فرقته عن المسرح وإستغرق نظر الدعوى شهرين وصدر الحكم في النهاية لِصالح الريحاني وإضطر الريحاني حينذاك إلي تقديم المسرحيات الفرانكوعربية في الفترة الباقية من الموسم كما قدم بضع حفلات من أوبريت العشرة الطيبة وخلال عام 1921م أخرج الريحاني ميلودراما من أعنف ما شهد المسرح المصري بعنوان ريا وسكينة وتناولت هذه المسرحيةَ قصة عصابة القتل التي إكتشفت في العام نفسه بمدينة الإسكندرية وكانت تتزعمها ريا وسكينة علي همام اللتان كانتا تستدرجان النساء إلى وكرهما حيث تسرقان حليهن ثم تقومان بقتلهن بالتعاون مع زوجيهما حسب الله سعيد مرعي زوج ريا ومحمد عبد العال زوج سكينة ويروي الريحاني أنه قام بإخراج هذه المسرحية بعد أن أصبحت ريا وسكينة حديث الناس أجمعين وبِسبب ميوله الطبيعية للدراما وقد نجحت تلك المسرحية نجاحا باهرا بحيث يقول الريحاني أنه كان يسمع النحيب والبكاء صادرين من الناس عند العرض لكن على الرغم من ذلك تعرض الريحاني لمشكلة ملحة خلال تلك الفترة فقد إنخفض دخله كثيرا حتى إضطر في أوائل عام 1922م إلى توقيع عقد مع إحدى شركات السجائر لِتمويل فرقته لمدة ثلاثة أشهر نظير إستغلال إسمه في الإعلانات وظل الريحاني يقدم عروضه من شهر مارس إلى شهر مايو عام 1922م علي مسرح كونكورديا بالإسكندرية وفي تلك الفترة أخذ إسم بديعة مصابني يتردد مع إسم الريحاني وعند إنتهاء العقد قرر الريحاني القيام بِرحلة أُخرى إلى الشام يراوده نفس الأمل في تنمية إيراداته وشجعه على ذلك عدم توافر مسرح يعمل به بالقاهرة ذلك أن ديموكنكس صاحب البرنتانيا وهو الإسم الجديد لِمسرح الإجيبسيانا كان قد قرر تأجير مسرحه لِلفرق المسرحية الأجنبية ولم يسمح للريحاني بالعمل به إلا في الفترات التي تتخلل العروض الصيفيَة فلم يكن أمام الريحاني من خيارٍ سوى أن يقوم بِرحلة إلى الشام وكان في ذلك الوقت في أمس الحاجة إلى نسيان صدمة من أقسى صدمات عمره وهي إختفاء أخيه الأصغر فجأة دون أن يعثر له على أثر وهو الأمر الذى ظل يتذكره حزينا طيلة عمره وفضلا عن ذلك فقد توفيت أُمه في نفس الفترة تقريبا وبالطبع زاد ذلك من أحزانه .
ولم تؤد هذه الرحلة إلى نتيجة أفضل مما أتاحته الرحلة الأولى فقد ظلت المتاعب تؤرقه وساءت حالته المادية من جديد مما جعله يفكر في إعتزال المسرح حتى علم أن ممثلا شابا يدعى يوسف وهبي قد عاد لتوه من إيطاليا حيث درس التمثيل وشرع في تكوين فرقة جديدة يتبع فيها أُسلوبا مسرحيا جديدا هو الميلودراما وأن الجمهور قد بدأ يقبل علي هذا النوع من الأسلوب المسرحي ولم يكن مخرج فرقة يوسف وهبي الجديدة سوى عزيز عيد فقرر الريحاني حينذاك على الفور أن يعود إلى مصر وأن يواجه هذه المشكلة الوشيكة وكانت أول مشكلة صادفت الريحاني بعد عودته إلى القاهرة في شهر يناير عام 1923م هي العثور على نص وذات يوم حدثت مفاجأة مدهشة إذ قدم له بديع خيري أوبريت مقتبسة من قصة علاء الدين والمصباح السحري وأخبر الريحاني بِأنه كتبها بالإشتراك مع شقيقه أي شقيق الريحاني منذ بضعة شهور وأنه كان مترددا في عرضها عليه وعندما طالعها الأخير وجد أنها حائزة لِإمكانيات العرض بِرغم مشاهدها الخمسة والثلاثين وقام هو وخيري بمعالجتها في صورة أفضل وعندئذ تبين للريحاني أن خيري يتمتع بمقدرة فذة في تصوير الحياة المصرية وصياغة اللهجات المحلية وأضاف الريحاني إلى هذه الموهبة موهبته في رسم الشخصيات وكتابة الحوار فضلا عن خفة ظله وتقنياته وأفكاره المبتكرة وبهذا أصبح بإمكان الريحاني الشروع في خلق كوميديا مصرية صميمة ونجحت المسرحية سالفة الذكر بمجرد عرضها وأحب الجمهور بديعة مصابني كما أثنى على مناظر المسرحية وملابس الممثلين الرائعة وعلى طابعها العربي وعندما ظهر الريحاني على خشبة المسرح في ليلة الإفتتاح إستقبله الجمهور بعاصفة من التصفيق الحاد وفي يوم 24 مايو عام 1923م أخرج الريحاني أوبريت جديدة تحمل عنوان الشاطر حسن وكانت هي الأُخرى مقتبسة عن ألف ليلة وليلة وفي يوم 4 فبراير عام 1924م قدم الريحاني أوبريت جديدة هي البرنسيس التي تقترب أكثر من الكوميديا الخالصة برغم ما فيها من شوائب ميلودرامية وكانت هذه الأوبريت غير مقتبسة من ألف ليلة وليلة إنما كانت تقع أحداثها في صالة غرفة إستقبال عصرية في القاهرة وتمثل شخصياتها الواقعية قطاعا من البرجوازية الكبيرة والصغيرة كما تناولت قصتها الخيانة وأهمية المال لِتحقيق السعادة الزوجية وعكست تلك المسرحية بما تضمنته من عواطف حارة ومغزى أخلاقي إهتمام الريحاني البالغ بمسائل الثراء والزواج والخيانة التي كان مصدرها جوانب معينة من حياته الخاصة في ذلك الوقت إذ يذكر في مذكراته أنه مر بصدمة شخصية قاسية خلال عام 1923م فسرها إبن شقيقه بديع الريحاني بأنها صدمة إكتشاف خيانة بديعة مصابني حيث هجرته وإنتقلت للإقامة مع صديق ثرى لها وفي شهر فبراير عام 1924م أخرج الريحاني أوبريتين جديدتين هما أيام العز والفلوس ثمَ مجلس الأُنس في شهر أبريل عام 1924م وكانت الأوبريت الأخيرة في تلك السنة هي لو كنت ملك ثم إنتهى عقد الريحاني مع مسرح برنتانيا في شهر يوليو عام 1924م ذلك أن خلافا دب بين الريحاني والحاج حفني مدير المسرح فرفض الأخير على أثره تجديد العقد بل إنه أخذ يطالبه بِدفع أُجور الحفلات النهارية التي كان الريحاني قد وافق على سدادها حتي لو ألغيت هذه الحفلات لِعدم إقبال الجمهور عليها ولما لم يكن الريحاني قادرا على سداد المبلغ المطلوب وقدره 720 جنيها فقد إضطر إلى ترك ديكوراته وملابسه وقد أدت هذه الظروف بالريحاني إلى حالة نفسية سيئة مما جعله يفكر في ِالقيام بِرحلة جديدة كما إعتاد أن يفعل في مثل هذا الموقف متطلعا من وراء رحلته إلى تحقيق أهداف ترفيهية ومادية وكان قد علم أن دول قارة أمريكا الجنوبية تضم جالية عربية ضخمة وأنها سوف ترحب بقدوم فرقة عربية كفرقته وقبل أن يبحر الريحاني إتخذ قرارا آخر يفوق الأول أهمية وهو أن يتزوج بديعة مصابني وكانت عندما أبدى رغبته في إتمام الزواج منها تقيم مع صديقها الثري في مسكنه فتوجه إليها وطلب منها أن تنصرف معه ليتزوجها ووافقت بديعة لكنها كما تروي في مذكراتها كانت تعد هذه الزيجة تنطوي على تضحية من جانبها لأنها سوف تحرمها من الحياة الرغدة التي كان يوفرها لها صديقها من أجل حياة بوهيمية غير مستقرة ستعيشها كزوجة للريحاني .
وبالفعل في يوم 11 سبتمبر عام 1924م تم زواج الريحاني وبديعة وفي أواخر عام 1924م أبحر الريحاني وزوجته إلى البرازيل وبصحبته بعض أعضاء فرقته على ظهر السفينة غاريبالدي وكانت مفاجأة سارة للريحاني إذ إكتشف أنَه معروف للشِوام في ساو پاولو وغيرها من المدن البرازيلية بل وجد لديهم نسخهم المحلية من كشكش بك أيضا حيث كان في البرازيل جورج إستاتي السوريّ الأصل يمثل مسرحيات الريحاني القديمة وقد أطلق على نفسه كشكش البرازيلي وفي الأرجنتين كان يوجد كشكش آخر يمثله جبران الطرابلسي أما كشكش بك الحقيقي وعروسه فقد إستقبلا بحفاوة في ريودي جانيرو بالبرازيل وفي مونتڤيديو بأوروجواى ومثلت الفرقة في هاتين المدينتين فُصولا من أوبريتات المواسم الماضية وفي أثناء عودة الريحاني وعروسه توقفا في باريس حيث أمضيا أسبوعين أنفقا خلالهما معظم أرباحهما وعاد الريحاني وبديعة إلي مصر في يوم 25 أكتوبر عام 1925م بعد حوالي سنة من مغادرتها وكان في إنتظارهما بِميناء الإسكندرية أمين صدقي الذي كتب لِلريحاني مسرحيات الأبيه دي روز حيث كان صدقي قد إختلف مع الكسَار وأبدى رغبته في معاودة نشاطه مع الريحاني ووافق الريحاني علي ذلك لأن بديع خيري الذي كان مختصا بكتابة مسرحيات فرقة الريحاني كان منشغلًا حينذاك بتأليف أوبريتات الكسار فإشترك الريحاني مع صدقي في تكوين فرقة للأوبريت مقرها دار التمثيل العربي وترجم صدقي أوبريتتين فرنسيتين شائعتين بباريس هما الليل والنهار التي إقتبسها بإسم قنصل الوز وعرضت في شهر ديسمبر عام 1925م وأيام كلاريت الثمانية والعشرين والتي إقتبسها بِعنوان مراتي في الجهادية وعرضت بعد فترة قصيرة من عرض الأولى وفي ليلة إفتتاح قنصل الوِز إستقبل الجمهور الريحاني إستقبالا حارا ولم يدم التعاون بين نجيب الريحاني وأمين صدقي طويلا فقد إنفصلا مرة أخرى بعد شهرين في شهر فبرابر عام 1926م وفي نفس الفترة دب خلاف شديد بين نجيب الريحاني وزوجته بديعة مصابني وإنفصل عنها دون طلاق وذهب كل منهما إلى حال سبيله وإفتتحت بديعة صالتها الخاصَة التي كانت تقع في مواجهة كوبرى الجلاء والتي لاقت نجاحا كبيرا وكانت قد إشتهرت في ذلك الحين كمغنية وراقصة أما الريحاني فقد مضى في طريق مغاير تماما وفي تلك الفترة تضاءلت تلك الشعبية التي كان يتمتع بها في مرحلة الإستعراض عندما كان يعمل في الميدان بلا منافسة تقريبا وأصبح يتقاسم جمهور المسرح مع الفرق الأخرى وإضطرّ أيضا إلى الدخول في منافسة شرسة مع يوسف وهبي الذي أدخل عن طريق الميلودراما إتجاها وأُسلوبا جديدين في المسرح المصري منذ أن بدأ يقدمها على المسرح في عام 1923م وسرعان ما أصبحت الميلودراما أكثر الألوان شعبيةً في المسرح المصري منذ منتصف فترة العشرينيات من القرن العشرين الماضي ولمع إسم يوسف وهبي كأشهر ممثلي تلك الفترة بلا منازع ولما لم تصمد أوبريتات الريحاني أمام منافسة ميلودرامات وهبي فقد قرر أن يلقى وهبي على أرضه وأن يتجه إلي الميلودراما .
وفي واقع الأمر لم يقم الريحاني بِنشاط منتظم بين عام 1926م وعام 1931م حيث تاه فجأة خط النمو المطرد لأعماله وسط جو مشحون بالإضطراب الفني والمتاعب المادية والأزمات العاطفية وقرر الريحاني وقتها أن يهجر الكوميديا إلى الميلودراما بعد أن أخذت تشق طريقها بنجاح متزايد منذ أن تبناها يوسف وهبي وكانت هي الأُخرى قد ظهرت في أعقاب الثورة الوطنية في وقت بدأ المصريون فيه يدركون معنى المساواة الإجتماعية ومنذ أن هبطت الميلودراما بالإنفعالات والأحداث إلى مستوى الإنسان العادي فقد صادفت إستجابة فوريةً في نفوس الجماهير فلأَول مرة في تاريخ المسرح الجاد في مصر تشاهد الطبقة المتوسطة صورتها في مسرحيات إجتماعية معاصرة وكان يوسف وهبي هو أول من قدم للجمهور المصري أول دراما إجتماعية باللهجة العامية وقد أثنى الناس على وهبي في كل مكان لا سيما في الأماكن التي كان أهل الفن يترددون عليها كمقهى فينكس بِشارع عماد الدين حيث كان الريحاني يمضي أوقاته بعد إنفصاله عن أمين صدقي وفي الوقت نفسه كان يفكر في إتخاذ قرار بِشأن مستقبله الفني إذ لم تكن له فرقة بعد أن حل فرقته قبل سفره إلى بلاد قارة أمريكا الجنوبية ولا بطلة بعد أن تركته بديعة لتعمل في صالتها ولا مؤلف لإنشغال خيري في كتابة أوبريتات الكسار ولا مسرح لأن برنتانيا كانت تشغله حينذاك المطربة الشهيرة سلطانة الطرب منيرة المهدية وكان الريحاني ما زال يطمح في أن يصبح ممثلا تراجيديا خاصة بعد نجاحه في مسرحية ريا وسكينة ويبدو أن نجاح وهبي زاده إصرارا على هذا الأمر وذات يوم بينما كان الريحاني جالسا بالمقهى سالف الذكر بلغتهُ أنباء بِأن نجوم فرقة وهبي قد إختلفوا مع صاحبها وإنسحبوا منها ووجدها الريحاني فرصة ثمينة فبادر بإقتناصها وتعاقد معهم جميعا وقرر لهم أُجورا أعلى من أُجورهم السابقة وإستطاع بذلك تكوين فرقة من أقدر ممثلي الميلودراما وكان على رأسهم روز اليوسف وعزيزة أمير ومنسي فهمي وسيرينا إبراهيم وحسن البارودي وحسين رياض وأحمد علام أما بالنسبة للمسرح فقد كانت هناك صالة خالية مجاورة لمسرح رمسيس الخاص بيوسف وهبي وملحقة بمقهى إسمه راديوم والذى إستأجره الريحاني وحوله خلال شهرين إلى مسرح أنيق وزينه بزينات بديعة وأطلق عليه مسرح الريحاني وبقيت أمام الريحاني خطوة أخيرة هي الإستعداد لِتقديم مسرحيات مناسبة فوقع إختياره على ست مسرحيات أوروبية مشهورة وعهد إلى بعض المترجمين بمهمة نقلها إلى العربية الفصحى كما كلف أنطون يزبك بتأليف مسرحيتين .
وفي شهر يونيو عام 1926م أعلن الريحاني عن مشروعه الجديد لكن هذه الأنباء قوبلت بإزدراء وتشكك وتساءل أحد الكتاب بإستهزاء هل يطمع كشكش بك في أن يبكينا كما أضحكنا طوال هذه السنوات وأعرب آخر عن إرتيابه في مقدرة الريحاني على تمثيل الأدوار الجادة معتبرا أن سبب نجاحه طيلة هذه الفترة كان الفكاهة والكوميديا أما الأدوار الجادة فلا دليل على نجاحه فيها إلا من خلال مسرحية ريا وسكينة وعلى الرغم من هذه البداية غير المشجعة فقد إفتتح الريحاني مشروعه الجرئ في أول شهر نوڤمبر عام 1926م بِمسرحية المتمردة لپيير فروندي وترجمة فؤاد سليم وكانت الفكرة الأساسية في هذه المسرحية هي حكمة الشاعر البريطاني روديارد كپلينج القائلة بأن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبدا وتدور أحداث المسرحية في بيئة من الأرستقراطية الباريسية المعاصرة حول غرام عنيف بين سيدة فرنسية تدعى فابيين قامت بدورها روز اليُوسُف وبين أمير مراكشي يدعى فاضل قام بدوره الريحاني وكيف يصطدم غرامهما بطباع كل منهما حيث الطباع الفرنسية المتحررة والمراكشية العربية والإسلامية المحافظة وقد أكدت ليلة الإفتتاح صدق المخاوف التي كانت تراود البعض فقد إستقبل معظم الجمهور مشروع الريحاني الجديد بتشكك مع أن أحد النقاد الفنيين المتعاطفين مع الريحاني والمتحمسين لإنتاجه الجديد ذكر في مقالة له أن الجمهور قد تاثر بدور الريحاني وأن الأخير إستطاع أن يبعث في نفسهم شيئا من الوجوم والحزن الهادئ على الرغم من أن بضعة حركات بدرت منه لا إراديا دون قصد وبحكم العادة إستحضرت إبتسامة بريئة على وجوه الحاضرين ومع ذلك فإن هناك رواية أُخرى عن هذا العرض تقول بأن الجمهور كان يسخر ويستهزأ علنا ويطلق الضحكات بلا مبرر وقد تألم الريحاني أشد الألم من مسلك الجمهور حتي أنه أخذ يبكي بكاءا مرا في حجرة الملابس ومما زاد الموقف حرجا أن الفكرة الأساسية من المسرحية قد أسئ فهمها حين حسب البعض من الجمهور أنها تسخر من مظاهر الحياة الشرقية كما إنتقدها البعض الآخر لوجود عيوب في الإخراج وفي الأدوار الثانوية ولم يتجاوز إيراد المسرحية في أسبوعها الأول 42 جنيها .
ولم يكن العرض الثاني أحسن حالا من الأول وهو ميلودراما شعرية للوريس ماترلينك بِعنوان مونافانا من ترجمة إبراهيم المصري ويبدو أن إختيار المسرحية كان موفقا فقد أحسن المترجم نقل لغتها الرقيقة البليغة إلى العربية الفصحى وجاءت أحداثها العنيفة المحبوكة مناسبة لميلودراما تخاطب الجمهور غير أن هذه المسرحية لم تفز أيضا بِإعجاب الجمهور وقد صرح النقاد بأن الريحاني إرتكب أخطاء في الإخراج وفي العرض التالي قدم الريحاني مسرحية بِعنوان الجنة التي عرضت من يوم 12 إلى يوم 25 من شهر نوڤمبر عام 1926م ثم أتبعها بِمسرحية كوميدية دراماتيكية بِعنوان اللصوص ولم يؤد عرض هذه المسرحية إلى تحسن يذكر على موقف الفرقة وهبطت الإيرادات بِشدة مما إضطر الريحاني إلى خفض مرتبات الممثلين بنسبة 20% ولم تقبل الممثلة الأولى بالفرقة روز اليوسف هذا الإجراء وبادرت بِشن أولى حملاتها العديدة على الريحاني في صحيفتها وأخيرا إضطر الريحاني إلى وضع حد لمشروعه وحل فرقته في يوم 29 نوفمبر عام 1926م بعد أربعة أسابيع فقط من الإفتتاح وخرج الريحاني من هذه التجربة مفلسا وإضطر إلى إقتراض مبالغ كبيرة ليتمكن من إخراج برامج جديدة لم يكن يستطيع تمويلها وجاء في مذكراته أنه كان مدينا بِأربعة آلاف ومائة جنيه لثمانية وعشرين شخصا عندما حل فرقته وكان قد أنفق نصف المبلغ في تغطية نفقات الإخراج وحده وهناك عوامل أُخرى أدت إلى فشل هذه التجربة وهي ضعف إدارته للفرقة فبعد مرور عدة أيام على الإفتتاح إنسحب بعض الممثلين والممثلات وعادوا إلى فرقة يوسف وهبي وفي ليلة الإفتتاح إرتفع الستار بعد الموعد المحدد بساعة لِأن روز اليوسف كانت معتلة المزاج ولا ترغب في الظهور على المسرح كما هدد ممثل آخر بِترك الفرقة نهائيا وعلاوة علي ذلك قوبلت الكثير من الحفلات بالصخب والوجوم وكان المشاهدون يقاطعون العرض بالصياح والضجيج والصفير وكانت التذاكر تباع مرتين كذلك لم يكن الإداريون متعاونين تعاونا كافيا مع الريحاني وقد فسر البعض ما حدث بأنه كان مؤامرة دبرها يوسف بك وهبي الذي كان يخشى منافسة الريحاني له لكن كان الإحتمال الأكبر لفشل تلك المسرحيات هو إعتياد الجمهور على الأدوار الكوميدية للريحاني ومن ثم لم يتقبله في الأدوار الجادة .
ومن جانب آخر لم تكن صحيفة روز اليوسف التي كانت بطلة الفرقة تمتلكها تقدر هذه الظروف فإنهالت هجماتها على الريحاني وأخذت تعدد مساوئه وتبالغ في ذكر أخطائه وقد أدت هذه الحملات وما صاحبها من خيبة الأمل بِسبب فشل الريحاني في محاولته مع الميلودراما إلى تحطيم معنوياته وتبديد أحلامه ومنذ ذلك الوقت تحول أُسلوب الريحاني المثالي المجدد الذي كان يتبعه في المراحل المبكرة من مسيرته الفنية إلى التهكم المرير وفي الأعوام التالية كان إهتمامه منصبا على سداد ديونه فكرس نشاطه لإخراج مسرحيات مربحة لكنها كانت مهمة شاقة في ذلك الوقت بسبب ظروف المسرح الصعبة آنذاك ففي أواخر عقد العشرينيات أخذ النشاط المسرحي يتقهقر بِصورة خطيرة فقد بدأ الجمهور يفقد إهتمامه بالمسرح لإنصرافه إلى مجالات أخرى للتسلية ففقد يوسف بك وهبي مثلا نسبةً كبيرة من جمهوره على أثر الزيارات المتتابعة للفرق الأجنبية ومن جانب آخر ففي عام 1925م كانت قد قامت أول محاولة منظمة لإنتاج فيلم مصرى وأبدى الجمهور تحمسه لِلأفلام الصامتة كفيلم ليلى وقد صادفت الأفلام الأميريكية أيضا التي كان قد بدأ عرضها في دور السينما إقبالا جماهيريا وإجتذبت هي والأفلام المصرية نسبةً كبيرة من جمهور المسرح كذلك أقبل الجمهور على عروض الصالات الموسيقية لما كانت توفره للمتفرج من متعة سهلة متنوعة فصالة بديعة مصابني على سبيل المثال كانت تقدم للحضور مقاطع تمثيلية وغنائية وعروض رقص شرقي وغناء شرقي وموسيقى التخت فكانت بهذا أشد روعة من عروض المسرح الكوميدي لِهذا أقدم الريحاني عندما عاد إلى الكوميديا على حشد العناصر الموسيقية في مسرحياته ولم تكن هذه المسرحيات في بداية الأمر تختلف كثيرا عن مسرحيات الأبيه دي روز القصيرة حيث كانت تدور حول كشكش بك وسائر الشخصيات النمطية المألوفة وكانت تعالج نفس الموضوعات وتستخدم نفس التقنيات وأخذ الريحاني يتنقل دونما هدف فني محدد من إستعراضات كشكش بك إلى أوبريتات من ألف ليلة وليلة إلي فارسات فرنسية مقتبسة لكن خط النمو بزغ مرة أخرى في أواخر هذه الفترة عندما إتجه الريحاني إلى تصوير مجتمع المدينة بِمزيد من الواقعية والنقد اللاذع وعاد الريحاني إلى مسرحيات كشكش بك في أول الموسم الجديد 1926م / 1927م وكون فرقة مسرحية جديدة ضم إليها طائفة من ألمع وأشهر ممثلي الفارس أمثال عبد الفتاح القصري وحسين إبراهيم والفريد حداد وجبران نعوم وعبد النبي محمد ومحمد التوني وسيد مصطفى ومحمد كمال المصري الذي إشتهر بإسم شرفنطح كذلك إستعان الريحاني براقصة يونانية جميلة تسمى كيكي وإتفق مع صاحبة ملهى كازينو دي باري وكان إسمها مارسيل لانجلوا لتمده بفرقة راقصات أوروبيات ثم شرع الريحاني في الإشتراك مع بديع خيري في إعداد مسرحيات جديدة تدل على دراسة نفسية للجمهور والتعرف على النواحي التي تنال إعجابه وتبلغ موضع الرضا منه .
وفي أول شهر فبراير عام 1927م إفتتحت الفرقة الجديدة موسمها بإستعراض فرانكوعربي بِعنوان ليلة جنان الذي تلاه إستعراض بإسم مملكة الحب في يوم 7 مارس عام 1927م ثم الحظوظ في يوم 17 أبريل عام 1927م وقد أحسن الجمهور إستقبال هذه المسرحيات وعلى الرغم من إرتفاع أثمان التذاكر فإن المسرح كان يمتلئ بالمشاهدين في كل ليلة وكان معظمهم من الأوروبيين والمصريين الأثرياء ليس فقط من أجل مشاهدة كشكش بك الذي كان لا يزال محتفظا بِشعبيته بل لِيستمتعوا أيضا بِمشاهدة العروض الراقصة وعقب إنتهاء الموسم قام الريحاني وفرقته برحلة إلى بعض المصايف لكن وفاة الزعيم سعد زغلول باشا في شهر أغسطس عام 1927م جعل الكثيرين يعودون إلى القاهرة للمشاركة في تشييع جنازته وقد تمكن الريحاني من مواصلة عروضه الصيفية إلا أن إيراداته إستمرت في الهبوط وفي شهر نوفمبر عام 1927م قدم له أمين صدقي فارس كوميدي بِعنوان يوم القيامة لِيفتتح بها الموسم الشتوي لكن الريحاني إضطر إلى إستبداله بمسرحية قديمة حتى يتمكن هو وخيري من كتابة مسرحية جديدة جاءت بعنوان عشان بوسة والتي عرضت في يوم 3 ديسمبر عام 1927م وحققت نجاحا عظيما وقد تلتها مسرحيتان من لون الفارس هما آه من النسوان التي عرضت خلال شهر فبراير عام 1928م وإبقى إغمزني التي عرضت في شهر أبريل عام 1928م وبعد إنتهاء هذا الموسم وبرغم ما حل بالريحاني من إرهاق فإنه لم يستطع البقاء فترة الصيف بلا عمل كونه كان في أشد الحاجة إلى المال وسرعان ما إنتقل بفرقته إلى مسرح مكشوف بالجيزة وهو مسرح الفانتازيو حيث كان يوجد مقهى يستطيع فيه المتفرجون مشاهدة مسرحياته الطويلة بسعر رخيص كما يستطيعون أيضا في أثناء الإستراحة الرقص على أنغام فرقة الجاز ولم تكن هذه الظروف لِتجعل من الفانتازيو مسرحا مثاليا إلَا أنها ساهمت في إنجاح هذه المسرحيات وفي منتصف شهر يوليو عام 1928م إنتهى عقد الريحاني مع مسرح الفانتازيو فتعاقد مع مسرح صيفي بالإسكندرية وفي أثناء إقامته بها توسط أصدقاؤه لِإعادة العلاقة بينه وبين بديعة مصابني فقبل كونه كان واثقا من أن وجود بديعة بفرقته سيكون خير سند له ذلك أن كيكي لم تكن قادرة على شغل الفراغ الذي تركته بديعة ومن ثم كان الريحاني في أشد الحاجة إلى بطلة لفرقته ولا شك في أنه كان لا يزال يحب بديعة وفي المسرحية التالية حاملة عنوان ياسمينة التي أخرجها في نهاية عام 1928م ظهرت معه بديعة كزوجة وفية مخلصة وحققت المسرحية نجاحا عظيما وأثنى عليها النقاد نظرا لِتعاون الريحاني مع بديعة ولِروعة ملابسها وتصاميمها وفي ذلك الوقت صرح الريحاني بأن لديه ما يكفيه من أوبريتات لفترة من الزمن وإستطاع إقناع بديعة بأن تمثل في كوميديا خفيفة بِعنوان أنا وأنت التي أخرجها في شهر يناير عام 1929م وفي الشهر التالي فبراير عام 1929م مثلت الفرقة بعد إنتهاء عرض أنا وأنت مسرحية أكثر أهمية بعنوان علشان سواد عنيها وكانت تتناول موضوعا أخلاقيا في إطار هزلي ولم تظهر فيها شخصية كشكش بك لكن الريحاني عاد مرة أُخرى في عرضه التالي في شهر مايو عام 1929م إلى كوميديا كشكش بك وكان عبارة عن إستعراض مسرحي بعنوان مصر في عام 1929م إستوحاه من الأحداث التي وقعت في دولة أفغانستان في نفس السنة وسلط فيه الأضواء بقوة على موضوع التفرنج والتشبه بدول العالم الغربي عندما طرد ملكها أمان الله خان لمحاولته فرنجة البلاد وتغيير هويتها .
وإختتم الريحاني موسمه بالمسرحية المشار إليها وبها أيضا إنقطعت علاقة بديعة بِفرقة الريحاني حيث دب الخلاف بينهما مرة أخرى وعادت بديعة إلى صالتها ولما كان طلاقهما مستحيل لأنهما يدينان بالمسيحية الكاثوليكية فقد إنفصلا مدنيا وظلا منفصلين منذ ذلك التاريخ وقد ضاعف هذا الموقف من إحساس الريحاني بِالمرارة غير أنه تمكن من سداد ديونه القديمة وفي موسم الصيف تشعب نشاطه بين مسرح الفانتازيو المكشوف والإسكندرية وفي نهاية الصيف أُصيب بإرهاق شديد فقرر القيام بِأجازة صغيرة قبل بداية الموسم الجديد وإضطر معها إلى إقتراض ثلاثين جنيها وجاءت بعد الأجازة المسرحية الجديدة وهي أوبريت نجمة الصباح كما لو كانت تحديا لبديعة ويقول الريحاني في مذكراته إنه قرر إخراج الأوبريت الجديدة لأن البعض نصحهُ بالإكثار من العناصر الموسيقية في مسرحياته وربما أراد الريحاني أن يبرهن لبديعة أنه يستطيع العمل بدونها ولم تكن المطربة التي إستعان بها وإسمها هدى قصبجي قادرة على منافسة بديعة برغم جمالها وخفة ظلها وكان دورها شبيها بدور بديعة في الأوبريتات السابقة وفي الموسمين التاليين عاد الريحاني وهو ممتلئ حماسا إلى إخراج الفارسات والإستعراضات وقد عرضت أولها في شهر ديسمبر عام 1929م وهي فارس بِعنوان إتبحبح ويقول الريحاني في مذكراته إنها أول إقتباس له عن الفرنسية وفي شهر فبراير عام 1930م أتبعها الريحاني بِأوبريت ليلة نغنغة ثم بإستعراضٍ كتب بتعجل بعنوان القاهرة باريس نيويورك الذي عرض في شهر مارس عام 1930م وقد فقد نصا هاتين المسرحيتين وذكر الريحاني ما يفيد بأن ضياعهما لا يمثل خسارة تذكر كونهما كانتا من أتفه الإبتكارات البشرية على حد قوله وفي شهر مايو عام 1930م إنتهى الموسم المسرحي الشتوى فإصطحب الريحاني فرقته في رحلة إلى سوريا ولبنان وفلسطين لكنه لم يظفر من رحلته بما كان يحلم به من نجاح مادي فقد ظل أمين عطا الله يحتكر شعبية كشكش بك في البلاد الشامية ولهذا إستقبل الريحاني هناك بفتور وفي نفس الوقت إستطاع متعهد العروض هناك أن ينصب عليه وأن يختلس نسبة كبيرة من الأرباح ومن أجل ذلك وافق الريحاني على تمثيل فيلم عن كشكش بك بعد عودته إلى القاهرة في شهر سبتمبر عام 1930م كان بعنوان صاحب السعادة كشكش بك الذي إرتجله الريحاني إرتجالا وخلال الموسم الشتوى 1930م / 1931م أخرج الريحاني ثلاث فارسات مضحكة أولها أموت في كده وقد عرضت في يوم 6 نوفمبر عام 1930م وكانت الثانية بإسم عباسية وعرضت في يوم 22 نوفمبر عام 1930م اما الثالثة فكانت بإسم حاجة حلوة وعرضت في شهر فبراير عام 1931م وفي تلك المرحلة أصبح مفهوم فارسات الريحاني وتقنياتها أشد عمقا عنه في فارسات المرحلة المبكرة حيث تفوقت على تلك الأخيرة في تصويرها الواقعي للشخصيات كما إشتملت على قسمات أكثر وضوحا من الكوميديا الحقيقية ويحتمل أن السبب وراء ذلك كانت تجارب الريحاني المريرة خلال حياته وإحساسه بالألم والخيبة أكثر من مرة فعكس هذا الأمر في مسرحياته حتى أصبحت الفارسات المتشائمة عنده ضربا من ضروب الهروب النفسي من آلام الأزمات المتتالية التي تعرض لها خلال حياته وخلال مسيرته الفنية وأصبحت السخرية وروح التهكم وليس المرح تسيطران علي فنه المسرحي وإستطاع أن يستغل مرارا هذا النوع من المسرحيات الذي يسهل فيه النجاح التجاري حتى قيل إنه عند هذه النقطة كانت رؤياه الكوميدية كفنان تزداد نضجا . |