بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
سكة البادستان شارع صغير بدائرة قسم الجمالية بالقاهرة متفرع من شارع المشهد الحسيني المتفرع من شارع جوهر القائد الموازى لشارع الأزهر ويمتد حتي يتقاطع مع شارع المعز لدين الله الفاطمي وهو يعد جزء من سوق خان الخليلي الشهير الذى يأخذ شكل مربع مثلما وصفه المؤرخ الشهير تقي الدين المقريزى وحي الجمالية يعد من أقدم وأعرق أحياء القاهرة عاصمة مصر وهو يتمتع بشهرة تاريخية وعالمية لأنه يعتبر مجمع تراث القاهرة منذ بنائها منذ أكثر من ألف عام ويزخر بالكثير من الآثار التي لها تاريخ إسلامي فيكفي أنه يقع بالحي شارع المعز لدين الله الفاطمي الذي يحتوي على كثير من الآثار التي يأتي إليها السياح والذى يعد متحفا مفتوحا زاخر بعبق التاريخ ففيه الجامع الأزهر الشريف وجامع الحاكم بأمر الله وجامع الأقمر وجامع السلطان المؤيد شيخ وجامع السلطان الغورى وغيرها وفيه أسوار القاهرة وأبوابها مثل باب زويلة وباب الفتوح وباب النصر وغيرها وفيه المدارس الأيوبية والمملوكية وخان الخليلى والصاغة والنحاسين وهناك رأيان في سبب تسمية هذا الحي بالجمالية الرأى الأول يفيد بأن إسم الحي منسوب إلى الأمير بدر الدين الجمالي وزير الخليفة المستنصر بالله الفاطمي الذي بنى الأسوار ذات الأبواب الحجرية حول القاهرة بعد أن تهدمت أسوار جوهر الصقلي والرأى الثاني يفيد بأن أصل التسمية يعود إلى بناء الأمير جمال الدين الإستادار في العصر المملوكي الجركسي وتحديدا في عام 811 هجرية الموافق عام 1409م مدرسته الشهيرة المسماة المدرسة الجمالية والتي كانت من أعظم مدارس القاهرة في المنطقة المعروفة الآن بالجمالية رغم أن السلطان المملوكي فرج بن برقوق إستبدل إسمها من المدرسة الجمالية إلى المدرسة الناصرية إلا أن العامة ظلوا يسمون المنطقة بالإسم الأول لتلك المدرسة وهو الجمالية .
وسوق خان الخليلي يقصده السياح من كل أنحاء العالم وأيضا المصريون من أجل شراء الهدايا التذكارية حيث يتميز بوجود بازارات ومحلات وحوانيت ومعارض ومحلات للمصوغات ومطاعم ومقاهي شعبية وبيوت أثرية من العصرين المملوكي والعثماني وهو يعتبر من أقدم الأسواق في أنحاء المحروسة والشرق الأوسط ومايزال محتفظا بمعماره القديم منذُ عصر المماليك حيث لم يتأثر خان الخليلي بعوامل الزمن وظل ملهما للأدباء والفنانين ومحركا لخيالهم على الإبداع مثلما كتب أديب نوبل نجيب محفوظ روايته خان الخليلي من وحي أجواء الحي القديم واصفا إياه بأنه قد إستجد في الشارع الطويل عمارات مربعة القوائم تصل بينها ممرات جانبية تقاطع الشارع الأصلي وتزدحم جوانب الممرات والشارع نفسه بالحوانيت أي الدكاكين فهذا دكان للساعاتي وآخر للخطاط وأخر للشاي ورابع للسجاد وخامس للتحف وهكذا بينما تقع هنا وهناك مقاهي لا يزيد حجم الواحدة منها عن حجم الحانوت الصغير وقد جلس الصناع أمام الدكاكين يكبون على فنونهم في أناة وصبر وكانت تدور أحداث هذه الرواية بالكامل داخل سوق خان الخليلي وقد تم تحويلها بعد ذلك إلى فيلم سينمائي بطولة الفنانين الكبار عماد حمدي وحسن يوسف وتوفيق الدقن ومحمد رضا والفنانات سميرة أحمد وتحية كاريوكا وآمال زايد ومن إخراج المخرج الكبير الراحل عاطف سالم كما قام الكاتب الروائي المعاصر أسامة أنورعكاشة والتي تحولت العديد من رواياته إلي مسلسلات تليفزيونية شيقة بتأليف روايته الشهيرة أرابيسك والتي تحولت فعلا إلي مسلسل تليفزيوني عن حي خان الخليلي وسكانه وطبيعتهم وعاداتهم والمهن التي يعملون بها وكان من بطولة الفنانين الكبار صلاح السعدني وكرم مطاوع وحسن حسني وأبو بكر عزت وهشام سليم وشوقي شامخ والفنانات هدى سلطان ولوسي وسهير المرشدى وهالة صدقي وجيهان فاضل .
وكان سوق خان الخليلي في الأصل مدافن للأسرة الفاطمية والتي عرفت بإسم تربة الزعفران وكان لهذه التربة رسوم وعوائد يحرص عليها كل الخلفاء الفاطميين من حيث زيارتها والتردد عليها وإنارتها والتصدق لها أيام فترة حكمهم لمصر وقد دفن بها هؤلاء الخلفاء بداية من الخليفة لمعز لدين الله وحتي الخليفة العاضد لدين الله آخر الخلفاء الفاطميين وذلك علاوة علي أن المعز لدين الله قد إستحضر معه إلي القاهرة وهو قادم من تونس عدد 3 توابيت بها رفات عدد الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه ودفنهم أيضا في تلك المقبرة في مقبرته وفي عام 1382م أي منذ حوالي 640 عاما تأسس هذا السوق علي أنقاض هذه المقابر وقد سمي بخان الخليلي نسبة لمؤسسه وهو أحد الأمراء المماليك كان يدعى جركس الخليلي وهو من المهاجرين الأوائل إلي مصر الذين وفدوا إليها من مدينة الخليل بالضفة الغربية بفلسطين المحتلة وسكنوا ومارسوا نشاطهم التجارى به وكان كبير التجار في عصر السلطان المملوكي برقوق عام 1400م وتروي الحكايات التاريخية إنه بعد مقتل الخليلي في دمشق أزال السلطان المملوكي قنصوه الغوري الخان في أوائل القرن السادس عشر الميلادى في عام 1511م وأقام مكانه حواصل ووكالات ودكاكين وحوانيت وربوع ووكالات للتجار يتم الوصول إليها من ثلاث بوابات وقد هدمت هذه الحواصل والحوانيت وأعيد بناء الخان بعد ذلك وإكتسب المكان طابع تاريخي محلى بآثار المماليك وهو الطابع الذى مايزال غالبا عليه حتي وقتنا الحاضر ومن يفد علي الخان في الوقت الحاضر سيرا علي الأقدام لابد أن يلفت نظره ما تبقى من مشربيات وأسبلة جميلة مشغولة واجهاتها بالنحاس وفيها أحواض الماء التي كانت تروي العطشان وعابر السبيل في الأزمنة الماضية ويحتاج زائر الحي إلى عبقرية أو حساسية خاصة في المرور داخل حاراته وأزقته الضيقة والتي تثير الدهشة والإعجاب نظرا لكيفية تنسيقها وتخطيطها بالإتقان والإبداع الذى نراه في هذا السوق فالأزقة متراصة كحبات عقد متداخلة كقوس قزح متعدد الألوان والأرض مبلطة بحجر بازلتي أسود لامع والسوق مسقوف بخشب متين تحدى الزمن وعوامل التعرية وظل صامدا لم يتلف بسببها والشمس تتسلل إلي داخل حوانيت ومتاجر عديدة تكون مع بعضها سلسلة متصلة ومترابطة يسلم أحدها الآخر ومليئة بالكنوز والتحف والقطع واللوحات الفنية النادرة والمصنوعة بمهارة فائقة وكل ذلك تجده وسط زحام أسطوري من البشر والمقاعد الخشبية التي رصها أصحاب المقاهي لجذب الرواد إلي السوق داخل الأزقة والحوارى ومما يذكر أن سوق خان الخليلي كان ضمن عدد 38 سوق كانت موزعة علي مناطق القاهرة خلال العصر المملوكي وبمجرد أن يدخل الزائر السوق يتناهى إلى سمعه عبارات الترحيب المصرية خفيفة الظل وكلمات أولاد البلد المرحبة تدعو الزائرات والزائرين للفرجة واللي مايشتري يتفرج ولو دخل زائر أحد الحوانيت فإن البائع يستقبله بعبارة مصر نورت فيرد الزائر الذي له خبرة بعالم القاهرة السحري ومفرداتها اللغوية مصر منورة بأهلها ويبدأ البائع في عرض ما لديه من بضائع ولا تفارقه إبتسامته وكلماته المتدفقة حول جودة بضاعته وأنها صنعت خصيصا لعشاق الفن اليدوي وحقا فإن تجار الخان خبراء في فن البيع وقد ورثوا التجارة والشطارة عن الأجداد ولهم ولع عجيب بالمساومة كما يتسمون بصبر وجلد على إقناع الزبون بما يعرضونه من بضائع وهم يعرضون الأصيل والمقلد من تلك البضائع ولكل منها سعره وزبائنه وهذه البضائع من كل صنف ولون .
ويشتمل الخان علي الحرف التقليدية والتراثية ومئات العمال والحرفيين الذين يمتهنون الحرف والصناعات اليدوية التقليدية مثل السجاد والسبح والكريستال وصناعة أوراق البردي التي تحمل كلمات اللغة الهيروغليفية والقطع الاثرية الفرعونية المقلدة بحرفية ودقة شديدة مرورا بصناعة الحلي الذهبية والفضية والإكسسوارات والمصنوعات الجلدية والأعشاب الطبيعية والعطور والبخور والأباجورات المصنوعة من الزجاج المعشق والزجاج البلدي والنارجيلة وهي الشيشة العربي والتي أصبحت من أشهر منتجات خان الخليلي علاوة علي التمائم الفرعونية والأيقونات المنقوش عليها قصائد غزلية ونقوش باللون الأزرق تحكي في إختزال مدهش أجمل حكاية عشق في التاريخ وهي حكاية إيزيس وأوزوريس التي يقبل عليها السياح الأجانب بصفة خاصة وفضلا عن ذلك توجد بالخان متاجر متخصصة في بيع المسابح المصنوع بعضها من بذر الزيتون والبلاستيك وتسمى نور الصباح وبعضها الآخر مصنوع من بعض الأحجار الكريمة مثل الفيروز والمرجان والكهرمان واليسر ومنها أيضا مايصنع من خشب الصندل كما يوجد في خان الخليلي مكان مخصص للمصنوعات الجلدية والنحاسية والإكسسوارات التاريخية كالسيوف والخوذات النحاسية والأحزمة وتتراوح أسعار هذه المنتجات حسب أحجامها وفخامتها .
ولا يمكننا أن نتحدث عن سكة البادستان وسوق خان الخليلي دون أن نتحدث عن جامع الإمام الحسين رضي الله عنه وأرضاه والذى بني لأول مرة في عهد الفاطميين سنة 549 هجرية الموافق عام 1154م تحت إشراف الوزير الفاطمي الصالح طلائع بن رزيك الذى كان وزيرا للخليفة الفاطمي الفائز ثم الخليفة العاضد آخر خلفاء الدولة الفاطمية وهو يضم عدد 3 أبواب مبنية بالرخام الأبيض تطل على خان الخليلي وبابا آخر بجوار القبة ويعرف بالباب الأخضر وقد سمي المسجد بهذا الإسم نظرا لإعتقاد البعض بوجود رأس الإمام الحسين مدفونا به إذ تحكي بعض الروايات أنه مع بداية الحروب الصليبية في القرن الثاني عشر الميلادى خاف حاكم مصر الخليفة الفاطمي الفائز على الرأس الشريف من الأذى الذي قد يلحق بها في مكانها الأول في مدينة عسقلان بفلسطين فأرسل يطلب قدوم الرأس إلى مصر وحمل الرأس الشريف إلى مصر ودفن في مكانه الحالي وأقيم المسجد عليه تكريما للإمام الحسين بن علي رضي الله عنه وأرضاه وقد أجريت دراسة أكاديمية حول هذا الموضوع مفادها التأكيد علي أن موضع الرأس بالقاهرة حيث نقل الفاطميون في عام 548 هجرية الموافق عام 1153م رأس الحسين بن علي بن أبي طالب والتي كانت مدفونة في مدينة عسقلان بفلسطين خوفا عليها من الفرنجة الصليبيين ودفنوها داخل قصر الحكم الفاطمي في قبة الديلم التي يؤدي إليها باب الديلم وهو باب القصر الفاطمي الكبير الجنوبي وهناك رواية محلية بين المصريين ليس لها مصدر معتمد سوى حكايات الناس وكتب المتصوفة مفادها أن الرأس جاءت مع زوجة الحسين عنهشاه زنان بنت يزدجرد الثالث آخر حكام دولة الفرس الذى سقطت دولته في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان قد تم أسرها وأهداها الخليفة عمر بن الخطاب إلي الإمام الحسين حيث تزوجها وأنجب منها الإمام علي زين العابدين وهي الملقبة في مصر بأم الغلام والتي فرت من كربلاء على فرس بعد مقتل الإمام الحسين زوجها هو ومعظم أهل بيته ونفر كثير من أصحابه ومؤيديه علي يد جيش تابع ليزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثاني خلفاء الدولة الأموية في شهر المحرم عام 61 هجرية والغلام المقصود هنا هو الإمام علي زين العابدين إبنها من الإمام الحسين وهو الوحيد من أبناء الإمام الحسين الذى نجا من مذبحة كربلاء وكان صغيرا في ذلك الوقت ولذلك سمي بالغلام وسميت أمه بأم الغلام وهو يعد الإمام الرابع من أئمة الشيعة الإثني عشر بعد الإمام علي بن أبي طالب وإبنيه الإمامين الحسن والحسين ويعد نسله هو النسل الوحيد الباقي المنتمي لآل بيت الرسول صلي الله عليه وسلم حتي يوم القيامة وقد تجدد بناء مسجد الإمام الحسين للمرة الأولي في أيام والي مصر عباس باشا الأول في منتصف القرن التاسع عشر الميلادى وتم تجديده مرة أخرى أيام فترة حكم الخديوي إسماعيل ومرة ثالثة في عهد الخديوى عباس حلمي الثاني في أوائل القرن العشرين الماضي وبعد عمليات التجديد هذه لم يبق في هذا المسجد أى آثار من العهد الفاطمي إلا الباب الأخضر فقط والواقع قرب قبة الضريح كما أنه من الجدير بالذكر أن المهندس الإسلامى الشهير عبد الرحمن كتخدا قد قام في عام 1185 هجرية الموافق عام 1771م ببناء القبة والجزء العلوي من مئذنة الباب الأخضر وفى عام 1311 هجرية الموافق عام 1893م في عهد الخديوى عباس حلمي الثاني تم إنشاء حجرة صغيرة داخل المسجد لكي تضم بعض الآثار النبوية مثل سيف رسول الله صلى الله علية وسلم وخصلة من شعره وقد تم زيادة مساحة المسجد بعد ذلك لأكثر من النصف وأضيف له مبنى مكون من دورين وكذلك دورة مياه مستقلة عن المسجد وفى عام 1965م أهدت طائفة البهرة الشيعية الهندية مقصورة من الفضة المرصعة بصفوف من الماس للمسجد لكي تحيط بالضريح ويشتمل مبنى مسجد الإمام الحسين على خمسة صفوف من العقود المحمولة على أعمدة رخامية ومحرابه بني من قطع صغيرة من القيشاني الملون بدلا من الرخام وهو مصنوع عام 1303 هجرية الموافق عام 1886م في عهد الخديوى توفيق وبجانبه منبر من الخشب يجاوره بابان يؤديان إلى القبة وثالث يؤدي إلى حجرة الآثار النبوية المشار إليها سابقا والمسجد مبني بالحجر الأحمر على الطراز القوطي أما منارته التي تقع في الركن الغربي القبلي فهي من عمل أبى القاسم السكري عام 633 هجرية الموافق عام 1235م وهي حافلة بالزخارف الأيوبية وقد بنيت على نمط مشابه لنمط وطراز المآذن العثمانية فهي أسطوانية الشكل ولها دورتان يفصل بينهما مقرنصات رائعة الشكل وتنتهي برأس مخروطية رشيقة وللمسجد ثلاثة أبواب من الجهة الغربية وباب من الجهة القبلية وباب من الجهة البحرية يؤدي إلى صحن به مكان الوضوء .
|