بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
شارع الشيخ قمر هو أحد الشوارع التي تتفرع من ميدان الجيش بالعباسية ويمتد حتي يمر بميدان السكاكيني بحي الظاهر بالقاهرة ثم يواصل مساره حتي ينتهي عند نقطة تلاقيه مع شارع بورسعيد وشارع رمسيس عند كوبرى غمرة وكان هذا الشارع في السابق يطلق عليه شارع بركة الشيخ قمر وهذه البركة كانت تسمي بركة قراجا وقد عرفت بهذا الإسم نسبة للأمير زين الدين قراجا التركماني أحد أمراء مصر في العصر المملوكي والذي أنعم عليه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون بها عام 717 هجرية وكانت تقع شرقي الخليج المصري شمال ميدان الظاهر بيبرس في المنطقة التي يشغلها الآن قصر السكاكيني وما حوله وكانت محاطة بالبساتين والحقول وعرفت في العصر العثماني بإسم بركة المجاورين كما عرفت في الوثائق العثمانية أيضا بإسم البركة الصغرى وأيضا بإسم بركة بغل الكروش وكانت هذه البركة إحدى البرك التي كانت تنتشر في القاهرة وتستمد مياهها من الخليج المصرى الذى كان يحيط بالقاهرة ويمدها بالمياه العذبة قبل ردمه في عام 1896م والتي كان منها أيضا بركة الفيل وبركة الأزبكية وبركة الرطلي وفي زمن الحملة الفرنسية وطبقا لوثائق تلك الحملة عرفت بإسم بركة الشيخ قمر وكانت تلك البرك تمتلئ بالمياه في زمن الفيضان وتنحسر عنها المياه في زمن التحاريق وكان البعض منها يزرع غالبا بالبرسيم الذى كان يستغل كغذاء لدواب القاهرة بينما يتحول البعض الآخر إلي مستنقعات تركد فيها المياه وتخرج منها روائح كريهة تزكم الأنوف وحدث أن جاء الشاب حبيب السكاكيني إلى مصر قادما من سوريا موطنه الأصلي وهو في سن مابين 16 سنة و17 سنة ليشغل وظيفة في شركة قناة السويس بمدينة بورسعيد الوليدة في هذه الفترة التي كان يجرى في أثنائها حفر القناة ومكث بهذه الوظيفة لمدة حوالي 4 سنوات وكان أجره الشهرى يتراوح بين ثلاثة وأربعة فرنكات فرنسية شهريا وبعدها قرر التحرك إلى العاصمة القاهرة من أجل الرزق وليس لأسباب صحية كما أشيع وكان ذلك تقريبا مابين عام 1862م وعام 1863م وهو العام الذى تولى في بدايته الخديوى إسماعيل حكم مصر .
وقد جذب هذا الشاب السورى إنتباه الخديوى إسماعيل لما قام بحل مشكلة عويصة إعترضت عملية حفر قناة السويس حيث إنتشرت الفئران والقوارض في منطقة القناة وتسببت في إتلاف العديد من المؤن الغذائية والمعدات فإقترح الشاب حبيب أن يتم تجميع عدة طرود من القطط الجائعة في أجولة وتصديرها علي ظهور الجمال إلي الأماكن التي كانت تنتشر فيها الفئران في منطقة مسار حفر قناة السويس مع تجويعها ثم إطلاقها فكانت النتيجة ممتازة حيث إلتهمت تلك القطط الجائعة جحافل الفئران والقوارض وبذلك تم حل مشكلة هذا الوباء الخطير وأدرك الخديوى إسماعيل مدى قدرات هذا الشاب السورى علي العمل السريع وإيجاد الحلول للمشاكل المستعصية في أسرع وقت ممكن وكان قد بدأ يعمل في نشاط المقاولات وحقق فيه نجاحا سريعا فقام الخديوى بتكليفه بردم البرك والمستنقعات التي كانت تنتشر في القاهرة ضمن مخططه لجعل القاهرة مدينة عصرية علي غرار المدن الأوروبية ووضع حبيب السكاكيني في إعتباره فرمان الباب العالي بجواز أن يتملك الأرض التي كانت تشغلها تلك البرك من يقوم بردمها ومن ثم قام حبيب السكاكيني بردم بركة الشيخ قمر كما عهد إليه الخديوى إسماعيل بالعمل في إستكمال بناء دار الأوبرا الخديوية وأصبح يعمل تحت يد المهندس المعمارى الإيطالي بيترو أفوسكاني فقام بتنظيم العمل علي أساس 3 ورديات في اليوم كل وردية 8 ساعات وبذلك إستمر العمل ليلا ونهارا لمدة الشهور الثلاثة التي كانت متبقية علي حفل الإفتتاح المتزامن مع إحتفالات إفتتاح قناة السويس للملاحة في شهر نوفمبر عام 1869م وتم إنتهاء الأعمال المتبقية في دار الأوبرا في الوقت المناسب وتم إعدادها لتكون في إستقبال ضيوف مصر من الأباطرة والملوك والأمراء الذين دعاهم الخديوى إسماعيل لحضور الحفل الأسطورة الذى أقامه بمناسبة إفتتاح قناة السويس وبعد ذلك الإنجاز أصبح هذا الشاب السورى من المقاولين الأثرياء وأغدق عليه الخديوى وعهد إليه بالأعمال الكبيرة التي حقق منها ثروة طائلة وحصل على رتبة البكوية من السلطان العثماني عبد العزيز خان في تلك الفترة وبعدها بسنوات حصل علي رتبة البشوية كما منح من بابا روما اللقب الباباوي كونت تقديرا لمجهوداته فى خدمه طائفة الروم الكاثوليك التي كان ينتمي إليها حيث قام ببناء دار للأيتام وبشراء قصر يسمي قصر دى بيفور فى منطقة الفجالة وقام بإهدائه للطائفة كما قام ببناء مقابر خاصة لتلك الطائفة فى حى مصر القديمة وقد دفن بها حين وفاته عام 1923م ويتصدر ضريحه بها تمثال شخصي له صنع فى فرنسا .
حصل حبيب السكاكيني باشا علي مساحة كبيرة من أرض بركة الشيخ قمر التي قام بردمها بتسهيلات منحها له الخديوى إسماعيل كنوع من التكريم والتقدير له علي ردمه لتلك البركة ومجهوداته في إنهاء تشييد دار الأوبرا وتوجد حجة صادرة من محكمه مصر المختلطة مؤرخه بتاريخ يوم 10 من شهر يونيو عام 1880م تثبت ملكية الباشا لتلك الأرض والتي قام بتأهيلها كما قام برصف الشوارع التي تحيط بها من أجل بناء قصره ولكي يصبح هذا القصر نقطة مركزية تمتد من حوله ثمان شوارع كلها تؤدى إليه وبذلك أصبح موقع القصر موقعا متميزا فريدا وهذه الشوارع هي شارع حبيب السكاكيني وإمتداده وشارع الشيخ قمر وإمتداده وشارع إبن خلدون وإمتداده وشارع محمود فهمي المعمارى وإمتداده وبذلك أصبح موقع القصر موقعا متميزا فريدا وقد قام حبيب السكاكيني باشا ببناء قصره علي الطراز الإيطالي حيث كلف شركة إيطالية متخصصة بإنجاز هذا العمل الضخم على أن يكون نسخة من أحد القصور التي شاهدها في إيطاليا وأعجب به ووقع في غرامه وبذلك أصبح من أبرز المعالم التي تقع في مواجهة شارع الشيخ قمر قصر حبيب السكاكيني باشا والذى بني علي مساحة 2700 متر مربع تقريبا ويضم أكثر من 50 غرفة ويبلغ إرتفاعه 5 طوابق ويحتوى على أكثر من 400 نافذة وباب وحوالي 300 تمثال منها تمثال نصفى لحبيب السكاكيني باشا يوجد أعلى المدخل الرئيسي للقصر إلى جانب تمثال لفتاة يسمى تمثال درة التاج نجده يتكرر في أماكن كثيرة من القصر ومعظم هذه التماثيل من الرخام ويحيط بالقصر حديقة مساحتها صغيرة فصلته إلى حد ما عما حوله من مباني وفي الجزء الخلفي منها توجد نافورة أمامها تمثالان لأسدين من الجرانيت الأبيض كما يميز القصر القباب المخروطية البيزنطية الطراز التي تغطي الأبراج الأربعة المتواجدة بكل ركن من أركانه غير القبة الكبرى التي تغطي وسط الدور العلوى من القصر وبالطابق الأرضي منه توجد صالة رئيسية يؤدى إليها الباب الرئيسي للقصر وهو مصنوع من الخشب المزين بالحديد المشغول وأرضيتها من الرخام الإيطالي الفاخر مساحتها 6 في 10 متر وبها عدد 6 أبواب تؤدى إلى قاعات القصر المختلفة وهي قاعات الإستقبال والإحتفالات الرسمية والطعام وحوائط القاعات عليها براويز مرسومة بيد رسامين وفنانين إيطاليين والأسقف مزينة بالزخارف الزيتية أما الأدوار العلوية فهي عبارة عن حجرات النوم والمعيشة وخدماتها لأفراد أسرة السكاكيني باشا وبالقصر أيضا بدروم ينخفض عن سطح الأرض بحوالي متر واحد وبه عدد 3 قاعات متسعة وعدد 4 صالات ودورات مياه وغرفتان وكان مخصصا للخدم والمطابخ والمغاسل وخدمات القصر وللوصول إلى الأدوار العليا فذلك كان إما بإستخدام السلم الخشبى الذى يأخذ الشكل الحلزونى بعد الدور الثانى أو بإستخدام المصعد الكهربائي الموجود بالطابق الأول .
وقد توفي السكاكيني باشا عام 1923م في عهد الملك فؤادالأول ولم يكن هناك لحبيب السكاكيني باشا من زوجته هنريت التي توفيت قبله بسنوات عديدة وتحديدا في عام 1902م سوى إبنه الوحيد هنري المولود في القاهرة عام 1890م والذي أجاد اللغتين التركية والفرنسية بطلاقة إلي جانب اللغة العربية وقد حصل على الجنسية الفرنسية للإستفادة من الإمتيازات التي كان يتمتع بها الأجانب في مصر حينذاك والإبن هنري كما جاء في سجلات دراسة هجرة الشوام إلى مصر لمسعود ضاهر قد حصل على درجة الدكتوراة في الحقوق من جامعة باريس عام 1915م في حياة والده وهو في سن 25 عاما بعد أن نال الماجستير في تاريخ مصر القديمة عام 1911م وهو لم يزل في الحادية والعشرين من عمره وقد عاش الإبن هنرى وأسرته في القصر حتي عام 1952م وبعدها قام ورثة القصر بالتبرع به إلي وزارة الصحة حيث كان أحدهم طبيبا وتم إستخدامه لفترة كمتحف للتثقيف الصحي ثم تم نقل معروضات المتحف إلى مكان آخر إلى أن جاء عام 1987م حيث تم تسجيل القصر كأثر في هيئة الآثار المصرية وكان القصر إلي وقت قريب مفتوح للزوار ويفد إليه الكثير من طلبة كليات الفنون الجميلة والتطبيقية حيث يتجولون داخله لدراسة التماثيل والزخارف التي تملأ القصر وللأسف فإن حالة القصر الحالية لاتسر عدو أو حبيب ويشكو القصر الفخم المنيف من الإهمال الشديد شأنه شأن العديد من القصور الأثرية الهامة التي لامثيل لها في العالم كله مثل قصر الزعفران بالعباسية والذى تشغله إدارة جامعة عين شمس وقصر الأمير يوسف كمال بالمطرية وقصر الأمير سعيد باشا حليم بشارع شامبليون بوسط القاهرة وقصر الأمير عمر طوسون بشبرا وقصر الكسان باشا بأسيوط وقصر الشناوى بالمنصورة وغيرها حيث نجد أن القصر حاليا فى حالة يندى لها الجبين حيث ضرب الإهمال كل مكان به إلي جانب ظهور شروخ وتصدعات فى جميع حوائط وأسقف القصر والتماثيل التي كانت تزينه إما أنها قد إختفت أو تهشمت أو فى أحسن الأحوال تعلوها الأتربة تبكى حزنا على أمجاد القصر وأيامه وعليه فالقصر يحتاج إلي ترميم وإصلاح شامل ولكن للأسف الشديد يقف التمويل اللازم لذلك حائلا حاليا دون تحقيق هذا الهدف خاصة أنه في السنوات الأخيرة ومع إنحسار حركة السياحة الوافدة إلي البلاد في الست سنوات الأخيرة قلت إيرادات وزارة الآثار بشكل كبير مما أدى إلي توقف العديد من مشاريع إصلاح وترميم العديد من المنشآت والمعالم والمناطق الأثرية في أنحاء عديد ة من محافظات مصر .
|