بقلم الدكتور/ عادل عامر
أن الفساد ظاهرة اجتماعية غير أخلاقية، فهي لا تقتصر على مجتمع بحد ذاته، أو مرحلة تاريخية معينة لكن ما يجعله نسبياً هو مستوى النمو السياسي والاجتماعي والاقتصادي في بلد ما مقارنة ببلد آخر، وطبيعة شكل الحكم، وبالقدر الذي تسود فيه الشفافية وتتحقق المشاركة في صناعة القرار، ويوجد فيه نظام محاسبة صارم يستند فيه إلى علاقات تعاقدية بين الحاكم والمحكوم، تتراجع حالات الفساد.
ويلاحظ إن حجم الظاهرة اخذ في التفاقم إلى درجة أصبحت تهدد مجتمعات كثيرة بالجمود وربما بالانهيار، وتعتبر من المعوقات الرئيسة للنهضة وتحقيق التقدم، بالإضافة إلى ذلك فأن لهذه الظاهرة أثار سلبية تنعكس على المجتمعات،
لم تكن إدارة المالية المصرية فى حاجة للتفحص والتحليل والاستدراك مثلما هى عليه اليوم. فالتغيرات الجوهرية التى تحدث حاليا فى أولوياتها وتوجهاتها ــ وتحديدا فيما يتعلق ببنود الإنفاق العام ــ تحت شعار علاج عجز الموازنة، هى التى تكشف عن هذه الحاجة الملحة، وهى التى تسترعى التوقف مليا أمام مسبباتها وتداعياتها. كما أنه أمام أى تغيرات اقتصادية من النوع الجوهرى، فرضٌ علينا التفكر وإبداء الرأى فى جدواها وصلاحيتها لخطط الإنماء الاقتصادى لمصر.
وإذا كان أحد لا ينازعنا الرأى فى الضرورة القصوى لإصلاح اختلالات وتشوهات الإنفاق الحكومى، إذ ما أردنا دفعا منتظما لمحركات الإنماء الاقتصادى المصرى، لكنّ خلافا قد ينشب أثناء تقدير وترتيب أولويات هذا الإنفاق، أو يستعر عند الترجيح أو المفاضلة بين الإنفاق على فوائد الدين العام والأجور المدفوعة لموظفى الحكومة والدعم والتحويلات الاجتماعية بأنواعها المختلفة. ولا عجب فى هذا التنافس الشديد بين تلك البنود تحديدا؛ فهم الثلاثة الكبار فى نفقات الحكومة المصرية فى الأعوام الأخيرة.
يمكنك بسهولة أن تربط بين التغيرات العاصفة التى حدثت فى توجهات الإنفاق العام المصرى وبين تدشين سياسة «تعويم» الجنيه المصرى فى أواخر العام 2016. فلقد قلنا حينها إن الآثار التضخمية المتوقعة من هذا التعويم لن تقتصر على تنامى العجز فى ميزانية الأسر، ورأينا أنها ستتسبب كذلك فى اتساع عجز ميزانية الحكومة. ولكى يتلافى صانع السياسة المالية هذه النتيجة الحتمية، لم يكن أمامه سوى إدخال تعديلات جوهرية فى أولويات هذا الإنفاق، على النحو الذى سنحاول توضيحه فى الفقرات القادمة. ورغم أن سياسة التعويم مثلت العنوان الأبرز للسياسات الاقتصادية آنذاك، لكنها ليست وحدها المسئولة عن هذه التغيرات فى توجهات الإنفاق العام؛ إذ شاركتها المسئولية سياسات اقتصادية واجتماعية عديدة.
وكانت نقطة البداية فيما شهده الإنفاق العام المصرى من تغيرات جوهرية، أن عجزا مزمنا ومتفاقما فى الموازنة العامة لا يجوز أن يُترك دون علاج جذرى. وكان أن عقدت الحكومة العزم على التصدى لهذا الصداع المالى المزمن. بيد أن محدودية البدائل العلاجية، والإلحاح الشديد من جانب البعض على فاعلية نوع معين منها، أقنع صانع السياسات الاقتصادية بجدوى البرامج «النيوليبرالية» فى التصدى لعجز الموازنة العامة. وبيانات الحساب الختامى للموازنة المصرية آخر خمس سنوات شاهدة على هذا الاقتناع. فبينما كانت نفقات الأجور تبلغ حوالى 214 مليار جنيه فى العام المالى 2015/2016، إذ بها تصل بعد خمس سنوات لنحو 289 مليار جنيه فى العام المالى 2019/2020. وخلال هذه السنوات الخمس، ورغم التقلب الشديد فى نفقات الحكومة الموجه للدعم والمنح والمزايا الاجتماعية، فقد ارتفعت هذه النفقات من 201 مليار جنيه لتصل لنحو 229 مليار جنيه. كما وفى نفس الفترة، ارتفعت فوائد المديونية العامة من 243 مليار جنيه لتصبح 568 مليار جنيه.
وبقدر بسيط من التأمل، وخلال الفترة المالية التى نحللها، يمكننا أن نخرج بثلاث ملاحظات أساسية حول التوجهات الراهنة للنفقات العامة المصرية، ولاسيما فى بنودها الثلاثة الكبار. وأولى هذه الملاحظات أن النمو الاسمى الذى شهده الإنفاق العام كان مائلا لصالح نفقات الفوائد وعلى حساب نفقات الأجور ونفقات الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية. وما يؤيد هذه الملاحظة، أنه خلال هذه السنوات الخمس تفوق معدل النمو الإجمالى لنفقات الفوائد على معدل نمو نفقات الأجور ونفقات الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية.
وثانى هذه الملاحظات أن النمو المتسارع فى نفقات الفوائد والنمو شبه المستقر فى نفقات الأجور، قابلهما نمو متباطئ تبعه تراجع سريع فى نفقات الدعم والمنح والتحويلات الاجتماعية خلال تلك الفترة.
أما ثالث هذه الملاحظات وأكثرها أهمية، أنه حال استبعاد أثر التضخم من القيم الاسمية للإنفاق العام المصرى، ستذهب المكاسب الحقيقية المترتبة على نمو هذا الإنفاق لصالح فئة مُقرضى الحكومة ودائنيها، وخصوصا من حائزى أذون وسندات الخزانة العامة. لكن فئتى موظفى الحكومة ومستحقى الدعم والتحويلات الاجتماعية، ورغم النمو الاسمى فى قيمة الإنفاق العام الموجه إليهما، فلم ترتق كثيرا مكانتهما الحقيقية بفعل هذه الزيادة الاسمية، وحافظا ــ بالكاد ــ على مكانتهما السابقة فى هيكل الإنفاق العام المصرى.
لا عجب إذن، والحال كذلك، أن ندّعى أننا أمام هزة فى العمق الاجتماعى المصرى. وحريٌ بنا كذلك، إزاء هذه الملاحظات الثلاث، أن نبصر التحيزات الاجتماعية التى تُفضى إليها السياسات المالية المتصالحة مع النيوليبرالية، وأن نعلم أنها تحيزات لا تنكرها أو تتبرأ منها النيوليبرالية؛ بل تشفعها بمبررات منقوصة وحجج واهية؛ وفوق ذلك، تدعى أن حدوثها هو مقدمة ضرورية وتكلفة بسيطة يتعين على المجتمع أن يتحملها راضيا طالما أراد علاجا ناجعا لاختلالات وتشوهات موازنته العامة. ولنا الآن أن نتساءل، إلى أى مدى يمكن الاتفاق مع هذه الادعاءات؟!
إننا، وعلى خلاف بيّن مع منطلقات النيوليبرالية، نعتقد بوجود أسباب اقتصادية واجتماعية دفعت لهذه التغيرات فى توجهات وأولويات الإنفاق العام المصرى خلال السنوات الخمس الماضية؛ كما نتوقع تداعيات مغايرة لها على أداء مصر الاقتصادى. فعن الأسباب الدافعة لهذه التغيرات، نرى أن الموازنة بين الحاضر والمستقبل، والمواءمة بين نوعية الإنفاق العام ومستحقيه، والمفاضلة بين قدرات التحمل الاجتماعى ومحركات النمو الاقتصادى، يمكنها أن تفسر ــ أو قل تبرر ــ هذه التغيرات. فصانعو السياسات المالية اهتدوا إلى أن الميل لصالح نفقات الفوائد كفيل بأن يقدم دعما آنيا وسريعا لحاضر الاقتصاد المصرى، حال توسعه فى خطط الاستدانة.
وظنا بأن دعم الحاضر الاقتصادى هو المدخل الصحيح لبناء المستقبل، اعتمدت السياسة الاقتصادية على النمو المحقق من هذه الاستدانة لتوازن وترجح بين الحاضر والمستقبل. ولعلنا نرى أن مواءمة السياسة الاقتصادية المصرية بين نوعية الإنفاق ووجهته تفسر جزءا من التحولات التى ذكرناها فى توجهات البنود الثلاثة الكبار فى النفقات العامة. فبينما يتسع النطاق العددى للمشمولين بنفقات الأجور والدعم والمزايا الاجتماعية من موظفى الحكومة وأرباب المعاشات والقابعين فى الطبقات الاجتماعية الفقيرة، يضيق نطاق مستحقى نفقات الفوائد ويتركز فى عدد محدود من مُقرضى الحكومة من المؤسسات والأفراد.
وما دامت المصالح المركزة تعلو على المصالح المتفرقة، فيمكن للمواءمة الاجتماعية بين بنود الإنفاق العام أن تنجح فى تضييق العجز المالى بقدر معقول من الضغوط الاجتماعية. وبنجاح هذه المواءمة، وباعتقادها فى نمو قدرات التحمل لدى شرائح المجتمع، ما انفكت السياسة الاقتصادية تؤمن بأن محركات النمو الاقتصادى تتسارع بالميل لصالح نفقات الفوائد؛ فقناعتها الراسخة أن هذه النفقات ترفع من قدرة الطبقات الاجتماعية العليا على الاستثمار والتشغيل فى الاقتصاد.
وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع هذه التفسيرات أو المبررات، نرى أنها مبنية على افتراض محل شك. حيث تفترض هذه التفسيرات ضمنا وجود درجة عالية ومستدامة من الكفاءة فى جميع بنود الإنفاق العام المصرى، وهو افتراض تنفيه شواهد من الواقع.
يبدو جليا الآن أن اختلاف توجهات الإنفاق العام المصرى الظاهرة فى ثلاثته الكبار، سيترك من الآثار والتداعيات ما يؤثر فى خريطة المستقبل الاقتصادى والاجتماعى المصرى. وهذه التداعيات لها ثلاثة أبعاد، اجتماعية واستثمارية وتمويلية. فبعدها الاجتماعى والتوزيعى يحدث لكون التغيرات الحالية فى أولويات الإنفاق العام المصرى ترفع من توقعات التضخم، وبما يفضى لآثار توزيعية غير مرغوبة فى أحيان كثيرة، أو قد يعمق من التحيز الاجتماعى للسياسات المالية مستقبلا. ونحن نقر أن التضخم الذى كان نتاجا لهذه التغيرات فى السياسات المالية،
من الممكن أن يصير سببا إضافيا للمزيد منها فى المستقبل، أو حتى للحاجة لتعويم جديد فى قيمة الجنيه. ولتجنب الوقوع فى «مصيدة التضخم» تلك، نرى أن الوقت قد حان لتهذيب السياسات المالية لتقلل من ميلها لصالح نفقات الفوائد، ولتتصالح مع الأهداف الاجتماعية للإنفاق العام. ويحدث هذا التصالح بأن تستهدف هذه السياسات بدقة مستحقى النفقات الاجتماعية، وأن تعلو بكفاءة الإنفاق العام، وأن تقضى على مظاهر الهدر فى نفقات الدعم والتحويلات الاجتماعية.
وبالتأمل فى البعد التشغيلى والاستثمارى لتداعيات التغير فى أولويات الإنفاق العام المصرى، سنكتشف أنه مشروط بسلامة توقعاتها حول قدرتها فى دعم محركات النمو الاقتصادى، ومرهون بقدرة الموازنة العامة أن تستمر وتتوسع فى تمويل الاستثمارات العامة فى البنية الأساسية التى تشهد حاليا طفرة لا تخطئها الأعين. كما أن ضخامة الاستثمارات المنفذة حاليا فى البنى التحتية والفوقية المصرية، يفيدها ويعززها التركيز على البنية الأساسية الصناعية.
إذ للأخيرة دور حاسم فى تعميق الصناعة المصرية وفى توطين فنون الإنتاج التى يتطلع إليها الاقتصاد المصرى. على أن البعد الثالث فى هذه التداعيات يدور حول مؤشرات الاستدامة فى الموازنة العامة المصرية. فإن لم تتمكن الإيرادات العامة المصرية من مواكبة وتغطية هذه التغيرات فى أولويات الإنفاق العام بمرونة عالية، وإن لم تقدر على ضبط الحاجة للاقتراض المستقبلى لتمويل الإنفاق العام؛ فهذا كفيل بحد ذاته لأن ندعو لإعادة النظر فى جدوى وصلاحية هذه التغيرات برمتها.
إن الاستدراك الذى ندعو إليه صانع السياسة المالية هنا لا يعنى أننا من أدعياء الانتقاد الدائم لكل تغير يحدث فى أولويات سياساتنا الاقتصادية. كما لا نحبذ التحفظ المستمر على كل تعديل يحدث فى أسلوب إدارة دفة النشاط الاقتصادى المصرى.
فمن دون شك، من هذه السياسات ما هو ملائم لمستقبلنا التنموى ومنها ما دون ذلك. وبين هذه وتلك، يجب أن تظل بوصلتنا الثابتة هى المصلحة التنموية للاقتصاد المصرى، ويستمر هدفنا الواضح أن تُحْفظ مواردنا المالية النادرة من الهدر والتبذير. فهذا هو مربط الفرس! |