بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
حارة حوش قدم مصرية عتيقة وضيقة من أشهر الحوارى التي تتفرع من شارع المعز لدين الله الفاطمي بمنطقة الغورية بحي الدرب الأحمر وهذه المنطقة بشوارعها وحواريها وأزقتها تعتبر حقيقة كنز أثري ومتحف أثرى مفتوح يحمل بين طياته صفحات من تاريخ مصر الذي إمتد بسحره عبر سنوات طويلة وتتميز هذه المنطقة بأنها مفعمة بعبق التاريخ المملوكى والعثماني حيث تحتضن أروقتها وأزقتها الضيقة آثارا مملوكية وعثمانية رائعة مازالت محتفظة بتفاصيلها ورونقها والإسم الحقيقي لهذه الحارة هو خشقدم وقد سميت بذلك نسبة لأحد سلاطين دولة المماليك البرجية وهو الملك الظاهر أبو سعيد سيف الدين خشقدم الناصرى المؤيدي ولقبه الناصرى فنسبة للتاجر الذى جلبه لمصر الخواجة ناصر الدين وأما المؤيدى فنسبة لأستاذه السلطان المؤيد شيخ وقد تقلد حكم مصر لمدة 6 سنوات تقريبا ما بين عام 1461م وعام 1467م وخشقدم تعنى بالتركية قدم السعد أو الخير وقد بدأ هذا السلطان حياته جمدارا أى مسئولا عن إلباس السلطان ثم تدرج فى المناصب حتى أصبح أتابكا أى قائدا للجيش فى عهد السلطان إينال ثم تولى السلطنة بعد خلع الملك المؤيد أبى الفتح شهاب الدين أحمد وقد ساد عهده الهدوء حيث كان سياسيا يتسم بالذكاء فلم يشهد حكمه مشكلات سوى مع بعض الشراكسة والعربان الذين كانوا يشنون غارات على القرى وينهبون المصريين وحتى الحجاج وهم ذاهبون في طريقهم إلي مكة المكرمة لأداء فريضة الحج ولم يعكر صفو هذه الحياة الهادئة سوى أنه كان متكبرا وكان يتخذ قرارات متسرعة وغير مدروسة وكان يتبع سياسة التمييز بين المصريين عبر منع إستعمال الأقباط فى الدواوين وإلزامهم بلبس معين وكان الولاء له مقدما على الكفاءة وهو ما يبدو جليا فى سرعة عزله لرجال الدولة الأكفاء خاصة القضاة وإستبدالهم بقليلى الخبرة والكفاءة لكي يضمن ولاءهم وطاعتهم وكان يحاول أن يرضيهم ويتركهم يفعلون ما يريدونه فكانوا ينتهكون القوانين ويظلمون عامة الشعب كما أنه إنفرد بالقرار وحدد إقامة الخليفة العباسى المستنجد بالله يوسف وجميع هذه الأعمال لا ترفع مكانة صاحبها لموقع مميز بين صفحات التاريخ إلا أن حادثا قدريا أدخل خشقدم التاريخ من أوسع أبوابه حينما صادف تجربته لبعض المدافع وقت الإفطار فى أثناء شهر رمضان فظن الناس أنه تنبيه لهم ومن بعدها صارت تقليدا رمضانيا وقيل إن المدفع أطلق عليه الحاجة فاطمة نسبة لزوجة السلطان خشقدم .
ومن أهم معالم حارة حوش قدم منزل شهبندر التجار أى كبير التجار جمال الدين الذهبى حيث كان لكافة التجار رئيس أو كبير يطلق عليه هذا اللقب نسبة إلى الكلمة الفارسية التي تتكون من مقطعين الأول شاه وهو لقب من ألقاب ملوك الفرس ومعناه رئيس والثاني بندر ومعناه مرسي السفن على الشاطئ أو الميناء وهو الإسم الذى يطلق حاليا على البلد الكبير الذي يتبعه بعض القرى في التقسيمات الإدارية للدولة كما أن لقب شهبندر يستخدم في الشئون الخارجية للدلالة على سفير الدولة في الخارج والمسئول عن الدفاع عن حقوقها ورعاية مصالحها التجارية وفي الشئون الداخلية معناه رئيس التجار والمتحدث بإسمهم وكان جمال الدين الذهبي إبن الخواجة ناصر الدين والذى إشتهر بإسم إبن جرباس والملقب بالذهبي لكثرة إمتلاكه للنقود الذهبية ذا مكانة هامة وبارزة ومتميزة في نواحي الحياة الإقتصادية والإجتماعية في عصره وقد تقلد الذهبي منصب شهبندر التجار لسنوات طوال وكان له بحكم وظيفته دور ومكانة هامة فقد كان مسئولا عن الفصل في المنازعات التي تنشب بين التجار والإشراف على السوق المصرية وكان صاحب كلمة مسموعة لدى التجار ورجال الحكم على حد السواء حيث كان للتجار شأن رفيع بين طبقات المجتمع المصري فهم في الطبقة الثانية مباشرة بعد السلاطين والأمراء ورجال الدولة وقد تمتعت هذه الطبقة في العصر المملوكي ومن بعده في العصر العثماني بثقة كبيرة لدى الحكام والسلاطين وكان منهم ندماء للسلاطين يجلسون معهم ويطلعون على بواطن الأمور ويمثلونهم في الدول الأخرى ويؤتمنون على أسرار الممالك التي يدخلونها وكانت هذه الطبقة هي المصدر الأساسي الذي يمد الدولة بالمال في وقت الأزمات .
ويعود تاريخ البيت المشار إليه للعصر العثمانى وقد تم بناؤه في عام 1047 هجرية الموافق عام 1637م أى خلال العصر العثماني وهو أحد البيوت الأثرية القديمة بمدينة القاهرة ويعد بيت جمال الدين الذهبي من المنشآت الأثرية المهمة في مصر حيث يمتلئ بالنقوش والزخارف الإسلامية الجميلة كما أن تخطيطه العام وتناسق أجزائه وتوزيعها حول الصحن الذى يتوسطه يدل على البراعة التي يتمتع بها المهندس الذي أنشأه وقد تم بناؤه علي الطراز المعماري الذي يراعي التقاليد الإسلامية والتي كان من أهمها ألا يرى الداخل إلي المنزل حجرات الحريم ولهذا البيت ثلاث واجهات حجرية ويؤدي مدخله إلي الصحن الذي يتوسطه والذى توجد به نافورة مياه أو فسقية من الرخام ليستمتع سكانه فى كل فصل من فصول السنة بمزاياه الخاصة وهو مكون من دورين الدور الأرضي وكان يستخدم كمخازن وحجرات للحراسة كما كان يوجد به بالجهة القبلية إيوانان جانبيان يتوسطهما دورقاعة مربعة ذات أرضية منخفضة فرشت بقطع ملونة من الرخام وتمت تغطيتها بقبة صغيرة من الخشب وكتب إسم صاحب البيت وتاريخ إنشائه على طراز سقف المقعد وفى الجهة الشرقية توجد قاعة كبرى ذات إيوانين أيضا وأسفل جدرانها مكسو بوزرة جميلة من الرخام الدقيق الصنع المختلف الألوان وبها جزء على هيئة محراب وبصدرها مشربية لطيفة مطلة على الشارع تحجب الجالس خلفها عن نظر الجالس بالقاعة وتعلوهـا شبابيك صغيرة من الجص المحلى بقطع من الزجاج الملون وسقف هذه القاعة محلي بدهانات مموهة بالذهـب كما يوجد بالجهة البحرية من البيت إيوان ذو مشربيات وذلك بالإضافة إلي أن هناك أربعة أبواب تفتح علي الصحن ويصعد منها إلي الدور العلوى من المنزل والذي تطل جميع حجراته علي الصحن من خلال نوافذ أمامها مشربيات من خشب الخرط رائعة الشكل تتيح إضاءة طبيعية لهذه الحجرات ويشمل هذا الدور السلاملك وهي غرف إستقبال الضيوف من الرجال وكان يعقد فيها الذهبي الكثير من الجلسات المهمة والصفقات التجارية الكبيرة التي أنعشت الإقتصاد المصري في ذلك الوقت وعاد نفعها على بقية الشعب والحرملك وهي غرف إستقبال الضيوف من النساء والحمام الرئيسي المكون من ثلاث أقسام كما يحتوى المنزل على فناء آخر أصغر بالجهة الشرقية .
وإلي جانب هذا البيت فقد شيد جمال الدين الذهبي علي مقربة من شارع المعز لدين الله وفي شارع صغير وضيق يسمي شارع المقاصيص وكالة تعرف بإسمه أيضا أنشأها أيضا عام 1637م أى في نفس العام الذى أنشأ فيه بيته وكانت هذه الوكالة مركزا لتجارة الأقمشة والفلفل والسكر وكانت هذه الوكالة ليست من الوكالات الكبيرة الحجم وكانت تتكون من دورين فقط وملحق بها سبيل وكتاب وجدير بالذكر أن جمال الدين الذهبي كان مشهورا بكرمه وإحسانه علي الفقراء والمحتاجين وعندما أحس بدنو أجله أكثر من عمل الخير وإخراج الصدقات كما قام بوقف الوكالة وجميع أملاكه للصرف من ريعها على السبيل والكتاب الملحقين بالوكالة بهدف تعليم القراءة لأيتام المسلمين ولم يعرف تاريخ وفاته بالتحديد وإن كان يرجح آن وفاته كانت في أواخر القرن الحادى عشر الهجرى الموافق أواخر القرن السابع عشر الميلادى كما يذكر المؤرخون أيضا أن جمال الدين الذهبي قد شيد أيضا ربع وهو المبني الذى كان ينقسم إلي عدد من الحجرات التي تعد لإقامة المغتربين من التجار عند قدومهم إلي القاهرة من باقي أنحاء مصر أو من خارجها لعرض تجارتهم ولكنه إندثر مع الزمن ولم يعد له وجود حاليا وعلي الرغم من الأهمية التاريخية والأثرية لهذا البيت حيث أنه بنيان فريد في تشييده وزخارفه وما يمثله صاحبه جمال الدين الذهبي كواحد من رموز عصره إلا أن المنزل عاني طويلا من شبح الإهمال فكانت الأتربة والقمامة تملأ جنباته وقلما يقصده الزوار ولذلك كان يحتاج إلى عمليات إصلاح وترميم من أجل وضعه على الخريطة السياحية حتى يتحول إلى قبلة للسائحين ومقصدا لزوار المنطقة الأثرية التي يقع بها هذا وقد تم إدراج المنزل ضمن خطة المجلس الأعلي للآثار والخاصة يإصلاح وترميم العديد من هذه الآثار كما أُجريت له أعمال ترميم لأساساته للحفاظ عليه من الأخطار والتي كانت تسببها له المياه الجوفية وتم حقن التربة وأساسات المنزل من داخله وخارجه كما أنه في عام 2012م كانت قد وافقت اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية والقبطية على تخصيص منزل جمال الدين الذهبى كمقر مؤقت لنقابة الأثريين تحت التأسيس لحين إستكمال الإجراءات القانونية الخاصة بالنقابة وإختيار مقر دائم لها كما صدرت التعليمات من وزير الآثار إلى جميع الإدارت الخاصة بشؤون العاملين بالمجلس الأعلى للآثار على مستوى الجمهورية لإعداد قاعدة البيانات الخاصة بالأثريين تمهيدا لإعداد جداول الإنتخابات العامة وإعداد الملف النهائي لرفعه إلى الجهات المختصة من أجل الموافقة على إشهار النقابة .
ومن معالم حارة حوش قدم أيضا جامع الفكهانى أو جامع الأفخر وبناه فى الأصل الخليفة الفاطمى الظافر بنصر الله أبو منصور إسماعيل بن الحافظ لدين الله عام 543 هجرية الموافق عام 1148م وبنى بأسفله حوانيت فكان من الجوامع المعلقة وقرر به دروسا لتحفيظ القرآن الكريم يقوم عليها فقهاء ومعلمين وفي أواخر القرن التاسع الهجري الموافق للقرن الخامس عشر الميلادي إهتم الأمير المملوكي يشبك بن مهدى أحد أمراء السلطان الأشرف قايبتاى بترميم الجامع وزخرفته وأزال من حوله المباني التي كانت تحجبه وفي عام 1148 هجرية الموافق عام 1736م كان هذا الجامع قد أوشك على التهدم فقام الأمير أحمد كتخدا مستحفظان الخربوطلي بهدمه وأعاد بناءه من جديد إلى أن آل أمره للشيخ عثمان شلبى شيخ طائفة العقادين فأعاد بناءه وأنشأ بجواره سبيلا لسقيا المارة كصدقة جارية وكتابا لتعليم وتحفيظ القرآن الكريم والحديث فضلا عن سوق ووكالة لتجارة الفاكهة ومنها جاءت تسميته الحالية وقد تبقى من الجامع الأصلي مصاريع البابين الغربي والشرقي وكان عليها حشوات محفورة بزخارف نباتية تعرضت للتلف الشديد وقامت لجنة حفظ الآثار العربية بترميمها عام 1919م كما تبقى من الجامع الأصلي مداميك من الحجر تعلو الباب الغربي كتب عليها بالخط الكوفي لا إله الا الله محمد رسول الله وغطيت أرضيات الجامع بالرخام وأعمدته تتميز بالبساطة فلا توجد بها نقوش ولا وزرات رخامية وتدخل أشعة الشمس ساحة المسجد من النوافذ التي تعلوها أسقف خشبية منقوشة بزخارف إسلامية ومئذنة الجامع الحالية تقع على يسار بابه الرئيسي وهي أسطوانية ومكونة من حطتين تفصل بينهما شرفة دائرية مقرنصة وتعلوها قمة مدببة على الطراز العثماني وكانت مئذنة الجامع الأصلية قد سقطت على أثر الزلزال الذي ضرب القاهرة عام 702 هجرية الموافق عام 1302م وأخيرا ففى العصر الحديث أصبحت حارة حوش قدم مقصد الأدباء والشعراء والفنانين ومنها إنطلق الثنائى الشهير شاعر العامية أحمد فؤاد نجم والملحن والمغنى صاحب الصوت الشجى الشيخ إمام عيسى .
|