بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
واصف بطرس غالي باشا سياسي ووزير مصري قبطي شهير من العهد الملكي كان من أقطاب حزب الوفد وتقلد منصب وزير الخارجة 4 مرات في زمن كانت لا توجد فيه حساسية أو تفرقة بين عنصرى الأمة في كل نواحي الحياة فالكل مصريون شعارهم الذى رفعوه منذ ثورة عام 1919م هو الدين لله والوطن للجميع وفضلا عن ذلك فقد كانت له إسهامات أدبية كبرى وإعتبره الكثير من المؤرخين أحد كبار ملاك الأراضي في مديرية بني سويف بشمال صعيد مصر وهو ينتمي لعائلة مصرية قبطية كبيرة عمل الكثير من أفرادها في السلك الدبلوماسي كان منهم والده بطرس غالي باشا الذى تقلد منصب ناظر الخارجية في وزارة نوبار باشا في الفترة بين 15 أبريل عام 1894م وحتي يوم 12 نوفمبر عام 1895م ثم في النظارة التي تلتها وهي وزارة مصطفي فهمي باشا والتي إستمرت 13 سنة كاملة خلال الفترة من يوم 12 نوفمبر عام 1895م وحتي يوم 11 نوفمبر عام 1908م حيث تولي بعد ذلك منصب رئيس النظار خلال الفترة من يوم 11 نوفمبر عام 1908م وحتي إغتياله في يوم 21 فبراير عام 1910م وكان أيضا من ضمن أفراد الأسرة الذين عملوا في السلك الدبلوماسي الدكتور بطرس بطرس غالي وهو إبن شقيق واصف بطرس غالي باشا والذى شغل منصب وزير الدولة للشئون الخارجية في عهد الرئيس الراحل أنور السادات عدة مرات ثم تقلد منصب السكرتير العام لمنظمة الأمم المتحدة خلال الفترة من عام 1991م وعام 1995م وكان مولد واصف بطرس غالي بحي الفجالة بالقاهرة في يوم 14 أبريل عام 1878م وتعلم في مدرسة الجيزويت بالقاهرة واتقن اللغة الفرنسية التي كانت تعد لغة الصفوة حينذاك وحصل على ليسانس الحقوق من فرنسا عام 1904م وبعد عودته من باريس عمل بالمحاماة ولكنه بعد عامين تم تعيينه في قصر عابدين كمحرر لخاصة الخديوى عباس حلمي الثاني وظل في هذا المنصب حتي عام 1911م .
وخلال عمله بقصر عابدين إنصرف واصف بطرس غالي إلى مجال الأدب وترجمة بعض الأعمال الشعرية العربية إلى اللغة الفرنسية والتي كان يجيدها إجادة تامة تحدثا وكتابة وكان يعد من صفوة المصريين المتحدثين بها منها ديوان للشاعر العباسي الشهير البحترى وأصدرها في باريس في عام 1913م في كتاب بعنوان روضة الأزهار وكان قد تزوج من سيدة فرنسية تسمي لويز ماجوريل والتي كان لها أثر كبير في مسيرته الأدبية إذ قامت بتعريفه بالأدب الفرنسي وهو ماكان يطمح إليه واصف غالي ويتمناه وفضلا عن ذلك فقد قام بإلقاء العديد من المحاضرات في جامعة السوربون بباريس حول فضل العرب علي أوروبا وفيما بعد أقيم له حفل تكريم في فندق شبرد القديم عام 1914م حياه فيه الشاعر الكبير إسماعيل صبري بقصيدة رائعة وكان من مؤلفاته أيضا تقاليد الفروسية عند العرب وطُبع في عام 1919م بباريس وهو بحث فى نشأة الفروسية العربية وتطورها كان واصف غالي قد بدأ كتابته فى القاهرة فى عام 1914م وفرغ منه فى باريس عام 1916م غير أنه لم يتمكن من نشره قبل نهاية الحرب العالمية الأولى وعلاوة علي ذلك فقد كان له مؤلف آخر بإسم اللؤلؤ المنثور صدر عام 1919م بباريس أيضا وهو مجموعة من قصص الحكمة المستوحى من الكتب السماوية الثلاثة ومن المأثور الشعبى الشرقى وتجدر الإشارة هنا إلى أن هناك عملا أدبيا آخر باللغة الفرنسية أيضا لواصف غالى إكتشفه الباحث الأستاذ رؤوف كامل وهو رواية إسمها تيودورا السكندرية وهو مسرحية من ثلاثة فصول عثر كامل على نسخة منها فى مكتب بباريس متخصص فى كتابة الأعمال الدرامية والأدبية على الآلة الكاتبة وألحقها بكتابه واصف غالى كاتبا ومن الطريف أن هذا الكتاب نفسه مكتوب بالفرنسية وطبع عام 1960م بالقاهرة بمطابع المعهد الفرنسى للدراسات الشرقية وذلك بعد وفاة صاحبه بحوالي سنتين ويرجح أن يكون واصف غالي قد كتب هذه المسرحية فى عام 1919م .
ومما يذكر من مآثر واصف غالي أنه لما إغتيل رئيس النظار بطرس غالي باشا والده علي يد طالب الصيدلة إبراهيم ناصف الورداني في يوم 21 فبراير عام 1910م كان حريص أشد الحرص علي الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط إذ أعلن عقب هذا الحادث أنه حادث فردي ولأسباب سياسية وليس طائفية ولذلك شجب فكرة عقد مؤتمر قبطي عام 1911م والذي رفضه من قبل والده بطرس غالي باشا قبل إغتياله وكان كل من واصف غالي وسينوت حنا وويصا واصف من الذين حاصروا الفتنة التي كان من الممكن أن تنبثق من مؤتمر الأقباط بمدينة أسيوط بصعيد مصر الذى إنعقد في يوم 6 مارس عام 1911م وتمكنوا من التصدي لمحاولات أخنوخ فانوس أحد أعيان أسيوط والذى كان الممول الأساسي لهذا المؤتمر لتكريس الطائفية وقاموا معا بتأكيد الدعوة إلي نبذ التيارات الطائفية والدعوة إلي الوحدة الوطنية وساعدهم في ذلك حينئذ مطران مدينة أسيوط وبفضل مجهوداتهم إنتهى المؤتمر بنتيجة أن حل المشاكل التي قد يعاني منها الأقباط لا يكون فى تمييزهم لكن فى مزيد من الإندماج في المجتمع وأن التوظيف لابد وأن يكون حسب الكفاءة والخبرة وأن التعليم المشترك أكثر فائدة وأن الإنتخابات بالاقتراع الحر العام هي الوسيلة التي تؤدى إلي إيجابية وفاعلية أكثر فى أداء الوظيفه النيابية من التمثيل النسبى وأن الحل الأمثل لآى مسألة بوجه عام يكفله الإندماج بين المسلمين والمسيحيين من منطلق قومى مما يؤدى إلي معالجة مشاكل الحياة وبذلك تم نزع فتيل الفتنة التي كانت كفيلة بإشعال النار في البلاد والتسبب في حرب أهلية كان من شأنها أن تأكل الأخضر واليابس وتحمل الثلاثة المشار إليهم في سبيل ذلك إهانات من البعض وكان مما تعرضوا له من إهانات أن لقبوهم بيهوذا الإسخريوطي الذى خان المسيح سيدنا عيسي عليه السلام لكنهم تحملوا تلك الإهانات وتقبلوها بصدر رحب حيث كانت نظرتهم للمستقبل نظرة ثاقبة وصادقة .
ومن الناحية التاريخية فقد كان حادث إغتيال بطرس غالي باشا بالفعل حادثا سياسيا حيث كانت القوى الوطنية في مصر حينذاك قد إعتبرت أنه خائن للقضايا المصرية وذلك من خلال بعض التصرفات والقرارات التي كان بطرس غالي باشا مسؤولا عنها حيث أنه بصفتهِ كان ناظر الخارجية قد صاغ ووقع على إتفاقية الحكم الثنائي الإنجليزي المصري للسودان عام 1899م وكانت الخطوة الأولى نحو تقسيم السودان حيث دخل الإنجليز السودان على حساب مصر وبالإضافة إلي ذلك لعب بطرس غالي باشا في عام 1906م دورا كبيرا في حادثة دنشواي والتي كانت من المحطات الهامة في تاريخ الإنجليز في مصر حيث كان عدد من ضباط الجيش الإنجليزي في شهر يونيو عام 1906م قد خرجوا لإصطياد الحمام في قرية دنشواي بالمنوفية فأصيبت إحدى السيدات بعيار ناري فقتلت في التو واللحظة وإحترق أحد الأماكن التي يتم فيها تخزين القمح فإستشاط أهالي القرية غضبا وهاجموا هؤلاء الإنجليز ففر البعض وتوفي أحدهم من تأثير ضربة شمس فعقد الإنجليز محاكمة لعدد من أهالي القرية ورأس هذه المحكمة بطرس غالي باشا بإعتباره قائما بأعمال نظارة الحقانية وقضت بالإعدام شنقا لأربعة من الأهالي وبالأشغال الشاقة مددا مختلفة لعدد آخر وبالجلد خمسين جلدة على آخرين وتم تنفيذ الأحكام بعد محاكمة إستمرت ثلاثة أيام فقط وأمام الأهالي وبعد ذلك وبعد أن أصبح بطرس غالي باشا رئيس نظار مصر وافق على مشروع تمديد إمتياز شركة قناة السويس 40 عاماً إضافية من عام 1968م إلى عام 2008م نظير 4 ملايين جنيه تدفع على أربعة أقساط. وتمكن محمد فريد باشا رئيس الحزب الوطني من الحصول على نسخة من هذا المشروع في شهر أكتوبر عام 1909م ونشرها في جريدة اللواء وطالبت اللجنة الإدارية للحزب الوطني بعرض المشروع على الجمعية العمومية فإضطر الخديوى عباس حلمي الثاني تحت الضغط إلى دعوة الجمعية التي رفضت المشروع ومن ثم قام الصيدلي الشاب إبراهيم ناصف الورداني عضو الحزب الوطني بإغتياله وعندما ألقي القبض عليه أقر أنه قتل بطرس غالي باشا لأنه خائن للوطن وأنه غير نادم على فعلته وأصر على أقواله تلك في المحكمة التي حكمت عليه بالإعدام وتم تنفيذ الحكم بالفعل .
وبعد إنتهاء الحرب العالمية الأولي في عام 1918م وبداية تكوين حزب الوفد المصرى كان واصف غالي أول قبطي يتضم له ورحب به الزعيم سعد زغلول باشا ترحيبا حارا وقال واصف غالي حينذاك تأكيدا علي مبدأ الحفاظ علي الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط إننا لن نتحرر ولن نجبر العالم على إحترامنا وإحترام إرادتنا إلا إذا إتحدنا وأصبحنا أمة واحدة حينئذ ستخطب ودنا كل الدول الكبرى وشارك واصف غالي في ثورة عام 1919م إلي جانب قيادات الوفد وبعد القبض علي سعد زغلول باشا وعدد 5 من رفاقه ونفيهم إلي جزيرة سيشل بالمحيط الهندى في شهر ديسمبر عام 1921م تقدمت قيادات الوفد الذين لم يتم القبض عليهم وقامت بمواصلة الكفاح والنضال ضد الإنجليز والسراى وفي فجر يوم 24 يوليو عام 1922م إعتقل الإنجليز هذه القيادات وكان علي رأسهم واصف بطرس غالى وويصا واصف ومرقص حنا وحمد الباسل وعلوى الجزار وجورج خياط ومراد الشريعى وإقتادوهم إلي قشلاق قصر النيل رهن التقديم لمحاكمة عسكرية عاجلة بتهمة طبع منشورات تحض على كراهية وإحتقار الحكومة المصرية وكان كل دفاعهم محصورا في عبارة واحدة وهي أن قالوا للإنجليز لكم أن تحكموا علينا وليس لكم أن تحاكمونا وإن محكمتكم في الأساس غير مختصة بمحاكمتنا فإن كان هناك إجرام فوقوفنا لا يكون أمام المحاكم الإنجليزية بل أمام المحاكم المصرية فإذا حكمتم علينا فليس لنا إلا أن نقبل حكم القوة الغاشمة باسمين وبعد محاكمة سريعة صدر حكم المحكمة العسكرية على السبعة بالإعدام والذين لما جاءوا لهم بمنطوق الحكم ليتلى عليهم في محبسهم بثكنات قصر النيل صاحوا جميعا فلتحيا مصر وقام اللورد أدموند اللنبي المندوب السامي البريطاني في مصر حينذاك بتخفيف الحكم إلى السجن سبع سنوات وغرامة خمسة آلاف جنيه وفي وقت هذه المحاكمة قام محمد أبو شادى وكيل نقابة المحامين حينذاك بمجهود شاق إذ قام بجمع توقيعات جميع المحامين بالقطر المصرى على مذكرة تم رفعها للملك فؤاد الأول وطلب مقابلته وتم تشكيل لجنة للدفاع عن جميع المتهمين كما أرسل مجلس النقابة برقية الى نقيب المحامين السجين مرقص حنا قال فيها يا حضرة الزميل سجنت أو لم تسجن أنت نقيب المحامين ولقد زدت عندهم منزلة وعلوت قدرا بما تتحمله من الأذى والضرر والتضحية في سبيل أشرف وأنبل مقصد فالله يرعاك فى شدتك ويبارك فى إخلاصك وتضحياتك وثباتك .
وبعد تخفيف الحكم ليكون بالسجن 7 سنوات تم حبس أعضاء الوفد السبعة في سجن قره ميدان وهو السجن الذي يسجن فيه القتلة والمجرمون واللصوص ونفذ عليهم نظام السجون وقد شعر اللورد اللنبي نفسه بأن هذا النظام فيه ظلم وقسوة وأنه يجب أن يستبدل السجن بمكان آخر وفي شهر مارس عام 1923م ومع تولي يحيي إبراهيم باشا رئاسة مجلس الوزراء فكر أولو الأمر في الإفراج عن المعتقلين والمنفيين وجاء هذا الخبر لأعضاء الوفد السبعة المسجونين فخشوا أن يكون هذا الإفراج بثمن وأن تدفع مصر هذا الثمن فأوصوا من جاءهم بالخبر بأنهم لا يقبلوا مطلقا أن يكون الإفراج عنهم بطريقة المساومة وأنهم لا يقبلون أى مساومة من أجل حريتهم فأبلغ هذا القول للوزارة وفي النهاية عرض عليهم أن يحصلوا على الإفراج في مقابل مبلغ من المال وإنتهى الأمر أخيرا بأن علمت أم المصريين السيدة الفضلى صفية هانم زغلول حرم الزعيم سعد زغلول باشا أن الإفراج موقوف على مبلغ من المال فلم يرضها أن يمكث أعضاء الوفد دقيقة واحدة في السجن إن كان الأمر موقوفًا على دفع المال ومن ثم أمرت بأن يدفع هذا المال فورا من جيبها الخاص حتى يفرج عن نواب الأمة أعضاء الوفد المصري ولكن أعضاء الوفد المسجونين أبوا عليها هذا الدفع وحينئذ تقدم الكثيرون وصمموا على الدفع والذى تم فعلا وتم في أثره الإفراج عنهم بعد حوالي ثمانية أشهر قضوها في السجن وبعد صدور تصريح 28 فبراير عام 1928م والذى بموجبه تم رفع الحماية البريطانية عن مصر ومنحها إستقلالها أرادت بريطانيا أن تحتفظ بحق الدفاع عن الأجانب والأقليات رفض الأقباط وعلي رأسهم واصف غالي هذا الأمر وإعتبر ذلك تدخلا في الشئون المصرية الداخلية كما رفضوا أيضا مسألة التمثيل النسبي في البرلمان وفي أول وزارة تم تشكيلها بعد صدور دستور عام 1923م وهي الوزارة الشعبية التي كان علي رأسها الزعيم سعد زغلول باشا تم إختيار واصف غالي وزيرا للخارجية وتم منحه رتبة البشوية وقد تقلدت هذه الوزارة حكم مصر من شهر يناير حتي شهر نوفمبر عام 1924م وخلال هذه الفترة القصيرة إستطاع واصف غالي باشا أن يعيد تأسيس الخارجية المصرية بصورة أكثر عصرية ورسخ في اعمالها قيما وتقاليد ما زالت إحدى سمات وزارة الخارجية المصرية حتي وقتنا الحاضر ولكن هذه الوزارة إضطرت لتقديم إستقالتها علي أثر إغتيال السردار السير لي ستاك حاكم عام السودان ورفض الوزارة لمطالب الحكومة البريطانية التي طالبت بخروج جميع أفراد الجيش المصرى والموظفين المصريين من السودان وبعدم الإعتراض علي أى إجراءات أو رغبات تراها الحكومة البريطانية مناسبة وكافية لحماية الأجانب والمصالح الأجنبية في مصر .
وفي شهر مارس عام 1928م وفي عهد وزارة النحاس باشا الأولي وكانت وزارة إئتلافية ما بين حزب الوفد وحزب الأحرار الدستوريين عاد واصف بطرس غالي باشا ليتقلد منصب وزير الخارجية مرة أخرى وفي عهد هذه الوزارة حدث خلاف حاد مع الحكومة البريطانية حول قانون الإجتماعات العامة كانت وزارة الخارجية طرفا فيه ولم تعمر هذه الوزارة طويلا حيث أقالها الملك فؤاد في شهر يونيو عام 1928م بعد أن قدم الوزراء الأربعة الدستوريون المشاركون في الوزارة إستقالاتهم ومن ثم تصدع الإئتلاف وكان ذلك سببا في إتخاذ الوفد قرارا بعدم الإشتراك في أي وزارة إئتلافية فيما بعد وهو التقليد الذى سار عليه الوفد حتي قيام ثورة يوليو عام 1952م وكلف الملك فؤاد محمد محمود باشا رئيس حزب الأحرار الدستوريين بتشكيل الوزارة الجديدة وفي عام 1930م وبعد الإنتخابات التي أدارتها حكومة عدلي يكن باشا الإنتقالية عاد الوفد للحكم في يوم 1 يناير عام 1930م وعاد واصف بطرس غالي باشا إلي منصبه كوزير للخارجية وفي هذه الفترة أجريت مفاوضات بين الحكومة المصرية والحكومة البريطانية شارك فيها واصف بطرس غالي باشا بصفته وزيرا للخارجية وهي المفاوضات التي سميت بمفاوضات النحاس هندرسون والتي فشلت نتيجة تمسك بريطانيا بضرورة فصل السودان عن مصر فكان أن قطع النحاس باشا المفاوضات وقال قولته المشهورة تقطع يدى ولا تنفصل السودان عن مصر وإلى جانب ذلك وضع الملك فؤاد الكثير من العوائق والعراقيل أمام تلك الوزارة وإمتنع عن توقيع المراسيم التي ترفعها الوزارة إليه فوجدت الوزارة نفسها عاجزة عن فعل أى شئ وإنتهى الأمر بأن قدمت الوزارة الوفدية إستقالتها في يوم 19 يونيو عام 1930م وكلف الملك فؤاد الداهية إسماعيل صدقي باشا بتشكيل الوزارة الجديدة والذى تفنن في التنكيل بالقيادات الوفدية وبكل الموالين للوفد بما فيهم النحاس باشا شخصيا حيث تم تخفيض معاشه إلى النصف تقريبا وأصبح 67 جنيها بدلا من 135 جنيها وهذا المعاش كان كل ما يحصل عليه وليس لديه مورد سواه .
وفي شهر مايو عام 1936م عاد الوفد للحكم بعد الانتخابات التي أجريت في أواخر عهد الملك فؤاد الأول وعاد واصف بطرس غالي باشا وزيرا للخارجية وقد تولت الحكومة حينذاك عقد سلسلة من المفاوضات الشاقة مع بريطانيا بدأت بقصر الزعفران بالقاهرة وإنتقلت في بعض جولاتها إلى لندن وشهد قصر أنطونيادس بالإسكندرية جانبا منها وشاركت فيها جميع الأحزاب المصرية فيما عدا الحزب الوطني الذى كان شعاره لا مفاوضة إلا بعد الجلاء وقاد فريق المفاوضات من الجانب المصرى حينذاك مصطفي النحاس باشا رئيس الوزراء وواصف بطرس غالي باشا وزير الخارجية ومن الجانب البريطاني السير أنتوني إيدن وزير الخارجية والسير مايلز لامبسون المندوب السامي البريطاني في مصر وقد إنتهت تلك المفاوضات بتوقيع المعاهدة المصرية البريطانية يوم 26 أغسطس عام 1936م بالعاصمة البريطانية لندن والتي إصطلح على تسميتها بمعاهدة عام 1936م وكانت هذه المعاهدة لا تحقق كل المطلوب والمأمول بالنسبة لمصر ولكنها كانت بلا شك نقلة كبيرة حققت كثير من الإيجابيات التي كانت تطالب بها مصر والتي دارت حولها المفاوضات بين الجانبين المصرى والبريطاني طوال 14 عاما منذ صدور تصريح 28 فبراير عام 1922م وحتي توقيع تلك المعاهدة وقال النحاس باشا والذى أطلقوا عليه أبو المعاهدة أحيانا ومهندسها أحيانا أخرى ما معناه إن ماحققته المعاهدة التي قمت بتوقيعها ليس كل ماكنت أريده وأتمناه ولكنه ما إستطعت الحصول عليه .
وقد حددت بنود تلك المعاهدة عدد القوات البريطانية في مصر بحيث لايزيد عن 10 آلاف جندى وضابط بالإضافة إلي عدد 400 طيار مع ما يلزمهم من موظفين لازمين للقيام بالأعمال الإدارية والفنية وذلك وقت السلم فقط أما في وقت الحرب فلبريطانيا الحق في زيادتهم حسب ما تمليه ظروف الحرب بالإضافة إلي إنتقال القوات البريطانية من المدن المصرية إلي منطقة قناة السويس وذلك بعد أن تقوم مصر بإعداد وتجهيز ثكناتهم بمنطقة القناة وفقا لأحدث النظم مع بقاء القوات البريطانية في الإسكندرية لمدة 8 سنوات من تاريخ سريان المعاهدة وبقاء القوات البريطانية في السودان دون أى قيد أو شرط مع السماح بعودة قوات من الجيش المصرى إلى السودان والإعتراف لمصر بالإدارة المشتركة والحكم الثنائي للسودان مع بريطانيا وكذلك تظل القوة الجوية البريطانية في منطقة القناة ومن حقها التحليق بطائراتها في السماء المصرية ونفس الحق للطائرات المصرية وأنه في حالة قيام الحرب بين بريطانيا وأى طرف آخر تلتزم الحكومة المصرية بتقديم كل التسهيلات والمساعدات والعون للقوات البريطانية والتي يكون من حقها إستخدام الطرق والمطارات والموانئ المصرية وحددت مدة المعاهدة 20 سنة وبعدها يبحث الطرفان فيما إذا كان وجود القوات البريطانية ضروريا في مصر أم لا حيث أنه من المفترض أنه خلال هذه السنوات العشرين سيتم زيادة عدد ضباط وجنود الجيش المصرى تدريجيا وستتواجد في مصر خلالها بعثة عسكرية بريطانية مهمتها تدريب الجيش المصرى تدريبا عاليا حديثا وكذلك تسليحه بأحدث الأسلحة العصرية بحيث يكون بعدها قادرا علي الدفاع عن قناة السويس بمفرده وإذا ماحدث خلاف بين الطرفين يتم عرضه علي منظمة عصبة الأمم التي كانت قائمة حينذاك وذلك قبل إنشاء منظمة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945م .
وتم تصديق البرلمان المصرى علي هذه المعاهدة في يوم 22 ديسمبر عام 1936م حيث وافق أغلبية النواب عليها وعلي بنودها وبذلك أصبحت سارية المفعول وتم تسجيلها في سجلات عصبة الأمم الخاصة بالمعاهدات الدولية يوم 6 يناير عام 1937م وفي شهر أبريل من نفس العام 1937م تم الإتفاق بين مصر والدول الأجنبية علي عقد مؤتمر في مدينة مونتيروه في سويسرا للنظر في أمر الإمتيازات الأجنبية في مصر وتم الإتفاق في هذا المؤتمر بين مصر وتلك الدول علي إلغائها وكان لواصف بطرس غالي باشا دور كبير في الوصول إلي هذا الإتفاق وفي شهر مايو من نفس العام 1937م تم تقديم طلب من مصر للحصول على عضوية عصبة الأمم وعرض الأمر في إجتماع للدول الأعضاء تم عقده في مدينة جنيف بسويسرا ووافقت تلك الدول بالإجماع علي الطلب ونم إنضمام مصر إلي عصبة الأمم رسميا يوم 29 يوليو عام 1937م وكان واصف غالى باشا أول مصرى إرتفع صوته رسميا بالدفاع عن فلسطين فى عصبة الأمم وذلك عندما ترأس الوفد المصرى خلال الدورة الأولى لعصبة الأمم التى إنعقدت فى شهر سبتمبر عام 1937م وقد تركز إهتمام وفد مصر خلال تلك الدورة حول القضية الفلسطينية التى كانت تمر بإحدى مراحلها الحرجة بعد تقرير لجنة بيل الملكية وهو التقرير الذى تضمن الإقتراح بتقسيم فلسطين بين اليهود والعرب وقد حدد واصف غالى باشا موقف بلاده برفض قبول التقسيم ولخص الأسباب التى تدعو إلى هذا الموقف علي أساس أن التقسيم ينافى حقوق العرب الطبيعية المقدسة ويتنافى والعهد الذى قطعته بريطانيا للشريف حسين فى بداية الحرب كما أنه لا يحل مسألة السلام فى فلسطين ولا يحل المشكلة اليهودية العالمية حبث أنه ينشئ دولة على أساس الدين من أقوام مختلفى الجنسية والدول لا تقوم على أساس وحدة الدين وإنما تقوم على أساس وحدة جنسية وأن الرأى العام العربى المسلم والمسيحى لا يقبل نزع الأماكن المقدسة من أيدى العرب وفضلا عن ذلك فهو يخلق دويلات مصطنعة غير صالحة للحياة بين الدول ثم إن وعد بلفور الممنوح لليهود غير موجب ولا ملزم لبريطانيا طالما العرب لا يقبلونه وأخيرا فإن مصر لا تأمن قيام دولة يهودية مصطنعة من خليط جنسيات مختلفة بجوارها وعلي حدودها وإقترح الوفد المصرى حلا مؤداه أن تعقد بريطانيا معاهدة مع فلسطين تكفل لها إستقلالها على غرار المعاهدات التى عقدتها بريطانيا مع غيرها من الأقطار العربية وبحيث تضمن المعاهدة لبريطانيا مصالحها وللأقلية اليهودية أيضاً مصالحها ويتم تحديد الهجرة اليهودية إلى فلسطين بنسبة معينة فى هذه المعاهدة وأيضا يتم تحديد حق اليهود فى إمتلاك الأراضى في فلسطين .
وفي يوم 30 ديسمبر عام 1937م أقال الملك فاروق حكومة الوفد وكانت هذه هي المرة الأولي في عهد الملك فاروق التي يتم فيها إقالة الوزارة الأمر الذى تكرر بعد ذلك عدة مرات طوال فترة حكمه مما كان له آثار وأبعاد سيئة للغاية أدت في النهاية إلى فقدانه عرش مصر وإنتهاء حكم أسرة محمد علي باشا للأبد وفي أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين الماضي إنتقل واصف بطرس غالي باشا مع زوجته الفرنسية للإقامة في فرنسا ويحدث أن تحتل المانيا فرنسا في عام 1940م وتستولي علي العاصمة الفرنسية باريس وتنتقل الحكومة الفرنسية إلي مدينة فيشي والتي كانت موالية للألمان وينتقل واصف باشا للإقامة فيها ثم ينتقل منها إلي جنيف بسويسرا وبعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية يعود مرة أخرى إلي مصر ويعتزل السياسة والعمل العام لمدة 5 سنوات وفي عام 1950م وبعد فوز الوفد في الانتخابات التي أجريت حينذاك تم تعيينه عضوا في مجلس الشيوخ حتي قيام ثورة يوليو عام 1952م وأيضا تعيينه كعضو مجلس إدارة في شركة قناة السويس ولكنه يستقيل منها أيضا نتيجة إعتراضه وإحتجاجه علي موقف فرنسا من مصر وبقيام ثورة يوليو عام 1952م يتوارى واصف باشا عن الأنظار ويعتزل العمل العام نهائيا إلي أن يتوفاه الله في باريس في يوم 10 يناير عام 1958م عن عمر يناهز 80 عاما بعد أن قدم لبلاده خدمات جليلة كفيلة بتخليد إسمه عبر الزمان وكانت وصيته أن يدفن فى الكنيسة البطرسية بمصر وتم تنفيذ وصيته وحضر جنازته الدكتور محمود فوزى وزير خارجية مصر حينذاك وعدد كبير من الساسة وكبار رجال الدولة والمسؤولين التنفيذيين .
ولا يفوتنا هنا أن نذكر نبذة عن الكنيسة البطرسية بالقاهرة والتي تحتفظ العائلة البطرسية فيها بأرشيفها والعديد من مقتنياتها وهذا الأرشيف يكشف لنا العديد من ملامح تاريخ مصر المعاصر وفيه نقرأ تفاصيل عن دور بطرس غالى باشا فى العديد من القضايا الوطنية السياسية سواء حينما كان ناظرا أو رئيسا للنظار وحتي إغتياله ليتم تشييد هذه الكنيسة لكى تضم رفاته وهي من تصميم المهندس المعمارى الإيطالي أنطونيو لاشياك صاحب تصميمات العديد من القصور الملكية والمباني العامة في مصر وتشغل هذه الكنيسة مساحة مستطيلة الشكل تبلغ أبعادها 28 مترا طولا في 17 مترا عرضا وقد قسمت بواسطة صفين من الأعمدة الرخامية كل صف منها يتكون من خمسة أعمدة تحمل ستة عقود نصف دائرية إلى ثلاثة أروقة غطيت بأسقف جمالونية من الخشب المغطى بالقراميد ويتم الوصول إلى الكنيسة بواسطة سبعة أبواب بابان فى كل من الضلع الشمالى والجنوبى للكنيسة وثلاثة أبواب بالضلع الغربى وتتكون هذه الكنيسة من طابقين الطابق الأول تحت مستوى سطح الأرض ويشتمل على مساحة خصصت كأضرحة لأفراد العائلة البطرسية والطابق الثانى عبارة عن مصلى الكنيسة والهيكل ومذبحين المذبح الأول خصص للمعمودية والمذبح الثانى خصص للسيدة مريم العذراء ويتقدم مبنى الكنيسة صحن سماوى محاط بثلاثة أروقة والتى يفتح رواقها الجنوبى على صحن خلفى يؤدى إلى ملحقات الكنيسة التى تشتمل على مقر جمعية الآثار القبطية وقاعة الست صفا التذكارية والمتحف والحديقة ومأوى خدام الكنيسة والنادى وقاعة ميريت بطرس غالى التذكارية ولهذه الكنيسة أربع واجهات ثلاث منها تطل على المقر البابوى بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية وهى الواجهات الشمالية والشرقية والغربية أم الواجهة الجنوبية وبها المدخل الرئيسى فتطل على شارع رمسيس بالإضافة إلى برجى الأجراس اللذين يحتلان الركنين الشمالى والجنوبى من الواجهة الشرقية وتطل الكنيسة على الصحن السماوى بواجهة حجرية قوام تشكيلها المعمارى مدخل معقود بعقد حدودى يتقدمه سقيفة غطيت بسقف جمالونى الشكل محمولة على عمودين مربعى الشكل ويتوسطها باب مستطيل الشكل يفتح على الرواق الأوسط للكنيسة ويكتنف هذا المدخل بابان جانبيان يؤديان إلى الرواقين الشمالى والجنوبى وتنتهى الواجهة من أعلى بطنف محمول على كوابيل حجرية تعلوه نافذة من نوع القمريات الإسلامية تحتل المساحة المثلثة الشكل التى تنتهى بها الواجهة ويؤدى هذا المدخل إلى داخل الكنيسة وبالتحديد إلى الرواق الأوسط وقد قسمت الكنيسة كما سبق أن أشرنا إلى ثلاثة أروقة بواسطة صفين من العقود التى يعلوها صف آخر من العقود المتراكبة التى إستخدمت لرفع سقف الرواق الأوسط عن سقف الرواقين الجانبيين وقد غشيت تلك العقود بنوافذ زجاجية ملونة وينتهى الرواق الأوسط للكنيسة بسلم له إحدى وعشرون درجة ينتهى بباب يؤدى إلى ضريح بطرس غالى باشا وهو يقع تحت الهياكل ويوجد على جانبى السلم جداران مكسوان بالرخام الملون يعلوهما حاجزان من المرمر الأبيض إرتفاعهما ثمانون سنتيمتراً تقريبا نقشت عليهما صلبان وكتب فوق باب الضريح باللغتين العربية والفرنسية تاريخ ميلاد ووفاة بطرس غالى باشا وقد حليت واجهاته الثلاث وجانباه بصلبان من الرخام الملون ونقش على الجدارين الشمالى والجنوبى للضريح بالعربية والفرنسية آخر كلمات تلفظ بها بطرس غالى باشا قبل وفاته وهي يعلم الله أنى ما أتيت أمرا يضر بلادى كما يوجد بالجانب الأيمن للسلم المؤدى للضريح سلم من أربع درجات يؤدى إلى الهيكل كما يشتمل هذا الطابق على مجموعة من مقابر العائلة يبلغ عددها حوالى 15 قبرا وفى الجهة الشمالية من الضريح يوجد تمثال نصفى لبطرس غالى باشا من الحجر وللكنيسة برجان للأجراس مربعة الشكل تنتهى من أعلى بنهاية هرمية يعلو قمتها صليب .
|