بقلم المهندس/ طارق بدراوى
موسوعة كنوز “أم الدنيا”
شارع هارون الرشيد هو أحد أشهر شوارع ضاحية مصر الجديدة التي تعد من أرقي ضواحي القاهرة وهو يمتد من نقطة تقاطعه مع شارع بيروت وهي نفس النقطة التي ينتهي عندها شارع الأهرام ويمتد متقاطعا مع العديد من الشوارع الجانبية منها شارع سيدى جابر وشارع طلخا وشارع إسماعيل رمزى وشارع ميدان الجامع وشارع المنصورة وشارع دمنهور وشارع الإمام علي وشارع سوهاج حتي ينتهي بتقاطعه مع شارع أبو بكر الصديق وشارع عمر بن الخطاب ومن أهم معالم هذا الشارع المنطقة المسماة بميدان الجامع ولا يختلف إثنان على أهمية هذا الميدان بالنسبة لسكان ضاحيتي مصر الجديدة ومدينة نصر في شراء جميع متطلباتهم ولذا فهو يطلق عليه بازار مصر الجديدة أو سوق مصر الجديدة وأيضا شبرا مصر الجديدة حيث أنه أشبه ما يكون بحي متكامل ملئ بكافة الإحتياجات الأساسية التي تلزم البيت المصري وتحتاجها الأسرة المصرية بشكل عام حيث أنه يضم أشهر محال البقالة والحلويات والعطارة والأدوات المنزلية والأدوات الصحية وخردوات النجارة والسباكة والكهرباء وأكبر محال الأثاث والنجف والبويات وأدوات التجميل والعطور والملابس الخارجية والداخلية والأدوات المدرسية مثل الشنط والأحذية والكتب والكراريس والكشاكيل وغيرها ومحال بيع زينات الحفلات وأعياد الميلاد كما ينتشر بالمنطقة بائعو الخضر والفاكهة الجائلون أو الذين يفترشون الأرصفة وفضلا عن ذلك فقد إكتسب ميدان الجامع شهرة واسعة نتيجة وجود محال الفضة والذهب والماس التي يذهب إليها كل عروسين يبحثان عن شراء الشبكة وغيرهم من راغبي شراء الذهب وهم من يبحثون عن ذوق مختلف ونقش لا مثيل له وليس الذهب بمفرده ولذا فإن الصوت الأكثر ترددا دائما في هذا الميدان هو صوت الزغرودة التي لا تشعر بغرابة أبدا عند سماعها في محال الذهب والفضة فهي زغرودة مهداة للعروسين بعد شراء الشبكة وقد تحتار عندما تذهب إلى ميدان الجامع لماذا أطلق عليه هذا الإسم وهل لأن في قلب الميدان جامع كبير يذهب إليه المصلون وربما القليل منهم فقط من يعرف إسمه وهو جامع جمال الدين الأفغاني أو أن المقصود بهذه التسمية أن هذا الميدان جامع لكل شئ من الإبرة للصاروخ .
جدير بالذكر أن جامع جمال الدين الأفغاني هو أول مسجد تم تأسيسه في ضاحية مصر الجديدة وكان يسمي جامع عباس ويطلق عليه حاليا إسم مسجد جمال الدين الأفغاني والذى يعد من أكبر وأشهر جوامع ضاحية مصر الجديدة وقد تأسست من خلاله جمعية خيرية قامت بتأسيس مستشفي خيرى لعلاج سكان الضاحية وما حولها وكان قد تم إفتتاحه عام 1911م في عهد الخديوى عباس حلمي الثاني وذلك بعد حوالي 6 سنوات من بدء تأسيس ضاحية مصر الجديدة في عام 1905م علي يد البارون إدوارد لويس جوزيف إمبان البلجيكي الجنسية الذى كانت أولي زياراته لمصر في أوائل عام 1904م فعشق مصر وصمم علي أن يقيم فيها باقي حياته وأن يدفن بها حتي لو وافته المنية خارج مصر كما قرر أن يؤسس مشروعا ضخما في البلد الذى أحبه ومن ثم تفاوض مع الحكومة المصرية في عام 1905م علي منحه حوالي 6 آلاف فدان شرق القاهرة في منطقة صحراء هليوبوليس لكي يؤسس عليها ضاحيته التي أطلق عليها مصر الجديدة وبالفعل وافقت الحكومة وبعد عام واحد فقط وفي عام 1906م كان يفتتح باكورة مشروعاته السكنية في هذه الضاحية وكان مخططها العام علي الطرازين الفرنسي والبلجيكي ويشتمل علي كافة الخدمات من مدارس بكافة مراحلها ومساجد وكنائس ومحال تجارية ونوادى رياضية وفروع لبنوك وفنادق تضمها شوارع واسعة وعلي أن تكون مبانيها من دور واحد فقط أو دورين ومدهونة باللون الأبيض وحولها حدائق كما أنه قام بتأسيس خط ترام للربط بين الضاحية الجديدة وبين وسط المدينة الأم وفضلا عن ذلك فقد أسس لنفسه قصرا يتميز بطراز فريد من نوعه حيث تم بناؤه علي غرار المعابد الهندوسية المنتشرة في جنوب شرق آسيا .
وجدير بالذكر أن جامع جمال الدين الأفغاني منسوب إلي محمد جمال الدين بن السيد صفتر الحسيني الأفغاني الأسد آبادي أحد أعلام التجديد في عصر النهضة العربية والإسلامية الحديثة والذى كان ميلاده عام 1839م في أسد آباد بأفغانستان وكان والده السيد صفتر من السادة الحسينية ويرتقي نسبه إلى الإمام علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضى الله عنه ومن هنا جاء التعريف عنه بالسيد جمال الدين الافغانی وهو يعتبر من أهم الشخصيات الأفغانية المؤثرة وقد ظهر للمرة الأولى شابا سواحا يجعل من الشرق كله وطنا له حيث قام بزيارة بلاد العرب ومصر وتركيا والهند وفارس كما زار العديد من عواصم دول أوروبا وقد تربى تربية دينية ليكون مسلما صوفيا لكن عرف عنه أنه كان من المسلمين الأصوليين وأنه كان متوافقا مع الأفكار التحررية التي وقفت حاجزا أمام سلطة الفكرة والشخص المنحازة للعاطفة الدينية وكانت لأسرته منزلة عالية في بلاد الأفغان لنسبها الشريف ولمقامها الإجتماعي والسياسي إذ كانت لها الإمارة والسيادة على جزء من البلاد الأفغانية تستقل بالحكم فيه إلى أن نزع الإمارة منها دوست محمد خان أمير الأفغان وقتئذ وأمر بنقل والد السيد جمال الدين وبعض أعمامه إلى مدينة كابول وإنتقل الأفغاني بإنتقال أبيه إليها وهو بعد في الثامنة من عمره فعني أبوه بتربيته وتعليمه على ما جرت به عادة الأمراء والعلماء في بلاده وكانت علامات الذكاء وقوة الفطرة وتوقد القريحة تبدو عليه منذ صباه فتعلم اللغة العربية واللغة الأفغانية وتلقى علوم الدين والتاريخ والمنطق والفلسفة والرياضيات وإستوفى حظه من هذه العلوم على أيدي أساتذة من أهل تلك البلاد على الطريقة المألوفة في الكتب الإسلامية المشهورة وإستكمل الغاية من دروسه في عام 1857م وهو بعد في الثامنة عشرة من عمره ثم سافر إلى الهند وأقام بها سنة وبضعة أشهر يدرس العلوم الحديثة على الطريقة الأوروبية وتعلم اللغة الإنجليزية وكان يتنقل من مدينة لأخرى لكي يتعرف علي أحوالها وعادات أهلها حيث كان بطبعه ميالا إلى الرحلات وإستطلاع أحوال الأمم والجماعات فنضج فكره وإتسعت مداركه وعرض له وهو في الهند أن يؤدي فريضة الحج فإغتنم هذه الفرصة وسافر إلي مكة المكرمة وأدى الفريضة .
وقد تنقل وعاش الافغاني بعد ذلك في العديد من البلاد منها تركيا ومصر وإنجلترا وفرنسا وإيران وكان بحق فيلسوفا فكان إن أفتى أحدا فى الفقه ففتواه فيها من أدلة الشرع بمقدار ما فيها من أدلة المنطق وعلل الفلسفة لذلك كانت تقوم عليه ثائرة التقليديين فى الآستانة عاصمة الخلافة العثمانية والأزهر الشريف في مصر وفى إشتغاله بالسياسة والإصلاح كان فيلسوفا عمليا يجاهر بآرائه ومعتقداته ويبنى مدينته الفاضلة على أساس العدل والتسامح والوئام بين جميع الملل والنحل والأديان واللغات فلا فرق بين دين سماوي وآخر وضعي فالكل إخوة فى الإنسانية طالما أنهم يعيشون بكرامة ومساواة وعلاوة علي ذلك فقد كان الأفغاني يتحلى بشمائل أصحاب النفوس الكبيرة لذلك إنجذب له من الساسة والعامة والنخبة ما لا يمكن إجتماعهم إلا حول شخصه ولذا فقد عاش الأفغاني للإصلاح الكبير فى الشرق فذهب بفلسفته الجديدة هذه إلى كل مكانٍ فوضع بذرة وأحدث دويا ورج الأرض رجا وأوجد له تربةً وتلامذة فما وطئ أرضا إلا فتح له الله فيها من القلوب والعقول والأرواح ما جعل أفكاره تمشى على الأرض بعد أنْ كانت تحيا خيالا فى رأسه وقد تأثر به الإمام محمد عبده وكان خليفته فى مشروعه الإصلاحى النهضوى الشامل وهو الذى أخذ منه الفكرة فطورها وأضاف إليها من الأناة والحلم ووسائل التربية والتعليم ما جعلها تستحكم وتشتد وتؤتى ثمارها وخيراتها ولولا الافغاني لكان محمد عبده فقيهاً مثل غيره وما أكثرهم أو لصار أيضا أديبا عاديا أو مفكرا تقليدياً لكنه بعد إندماجه الروحى مع الافغاني الذى أخذ منه الفكرة قام بتغيير بعض آراء الأفغانى وأفكاره واصبح منهجه هو الإصلاح المنبثق من ثورة الأفغاني ورؤيته وإعتداله وبمعني آخر لولا محمد عبده لَما تطورت أفكار الأفغاني وواكبت الأحداث والمستجدات فكلاهما فيلسوف وكلاهما فقيه بيد أنَ مزية الأفغاني أنه ثائر بالفلسفة والعلوم العصرية حتى يحرك هذه الشعوب الهامدة وأما صاحبه محمد عبده فمزيته أنه فيلسوف فقيه أديب أدرك من واقعه المعيشي بعد هزيمة عرابى في عام 1882م أن طريق النهضة لا بد أن يسير وفق برنامج مدروس عماده التربية وأساسه التعليم وليس الثورة والعنف فما أكثر الثورات ولكن ما أفظع النتائج لغياب النخبة التى تحمل على سواعدها أعباء تحقيق التقدم والإزدهار .
وينسب شارع هارون الرشيد إلي الخليفة العباسي الخامس أبو جعفر هارون بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي القرشي والذى ولد في مدينة الرى ببلاد فارس عام 149 هجرية الموافق عام 766م وتوفي في مدينة طوس وهي مدينة مشهد شمالي إيران حاليا في عام 193 هـجرية الموافق عام 809م وقد بويع بالخلافة ليلة الجمعة التي توفي فيها أخوه موسى الهادي عام 170 هجرية الموافق عام 788م وكان عمره آنذاك 22 سنة وأمه هي الخيزران بنت عطاء وهو يعتبر من أشهر الخلفاء العباسيين وأكثرهم ذكرا حتى في المصادر الأجنبية كالحوليات الألمانية في عهد الإمبراطور شارلمان التي ذكرته بإسم آرون والحوليات اليابانية والصينية التي ذكرته بإسم آلون أما المصادر العربية فقد أفاضت الكلام عنه لدرجة أن أخباره قد إمتزجت فيها حقائق التاريخ بخيال القصص ولا سيما كتاب ألف ليلة وليلة التي صورته بالخليفة المسرف في الترف والملذات وأنه لا يعرف إلا اللهو وشرب الخمور ومراقصة الغانيات والواقع كان عكس ذلك تماما حيث أنه كان من خيرة وأنبل الخلفاء وأحشم الملوك فقد كان يحج عاما ويغزو عاما وذكر أنه كان يصلي في خلافته في كل يوم مائة ركعة إلى أن مات ويتصدق بألف وكان أيضا صاحب شجاعة ورأى وكان أبيض طويلا جميلا وسيما ذا فصاحة وعلم وبصر بأعباء الخلافة وله نظر جيد في الأدب والفقة وكان يحب العلماء ويعظم حرمات الدين ويبغض الجدال والكلام ويبكي على نفسه ولهوه وذنوبه لا سيما إذا وعظ وقد تم فتح الكثير من البلدان في زمنه وإتسعت رقعة الإسلام وإستتب الأمن وعم الرخاء وكثر الخير بما لا نظير له ثم إن هذا الخليفة كان حسن السيرة والسريرة كذلك كان يصور بصورة الخليفة الحذر الذي يبث عيونه وجواسيسه بين الناس ليعرف أمورهم وأحوالهم بل كان أحيانا يطوف بنفسه متنكرا في الأسواق والمجالس ليعرف ما يقال فيها والواقع هذه الصورة المتباينة للرشيد ما هي إلا إنعكاس للعصر الذي عاش فيه بمحاسنه ومساوئه وهو العصر العباسي الأول أو العصر الذهبي للإسلام .
وقد تميز عصر هارون الرشيد بالحضارة والعلوم والإزدهار الثقافي والديني وأصبحت بغداد عاصمته مركزا للمعرفة والثقافة والتجارة وبدأ في تأسيس المكتبة الأسطورية المسماة ببيت الحكمة بها وزودها بأعداد كبيرة من الكتب والمؤلفات من مختلف بقاع الأرض وكانت تضم غرفًا عديدة تمتد بينها أروقة طويلة وخصصت بعضها للكتب وبعضها للمحاضرات وبعضها الآخر للناسخين والمترجمين والمجلدين كما تمت في عهده أول ترجمة إلى العربية لأشهر كتاب علمي عرف في التاريخ وهو كتاب الأصول في الهندسة والعدد لإقليدس وأيضا تطورت العلوم في عهده خصوصا الفيزياء الفلكية والتقنية وإبتكرت عدد من الإختراعات كالساعة المائية وأنشئ في عهده أول مصنع للورق ببغداد عام 177 هجرية الموافق عام 795م صار سوق الوراقين لاحقا الذي يضم مئات الحوانيت التي تبيع السلع الورقية الفاخرة مفخرة عاصمة العباسيين وكان ورق بغداد يقدر تقديرا عاليا في المنطقة حتى أن بعض المصادر البيزنطية تسمي الورق بصحف بغداد في ربط مباشر بينه وبين مدينة بغداد وعلاوة علي ذلك إهتم هارون الرشيد بالإصلاحات الداخلية فبنى المساجد الكبيرة والقصور الفخمة وفي عهده إستعملت القناديل لأول مرة في إضاءة الطرقات والمساجد وإعتنى بالزراعة فبنت حكومته الجسور والقناطر الكبيرة وحفرت الترع والجداول الموصلة بين الأنهار وأسس ديوانا خاصا للإشراف على تنفيذ تلك الأعمال الإصلاحية وكان من أعماله أيضا تشجيع التبادل التجاري بين الولايات وحراسة طرق التجارة بين المدن وشيد مدينة الواقفة قرب مدينة الرقة على ضفاف نهر الفرات لتكون مقرًا صيفيا لحكمه وأنشأ أكبر مستشفى في عصره سماها بإسمه مستشفى الرشيد في بغداد ضمت في كادرها أمهر الأطباء وتولى إدارتها كل من يوحنا بن ماسويه وجبريل بن بختيشوع وكانا من كبار أطباء عصرهما وكانت أشهر مستشفى في العالم القديم خلال فترة العصور الوسطي .
وعلاوة علي ما سبق ففي عهد الخليفة هارون الرشيد كانت لا تزال هناك بعض الفتن التي كان قد أثارتها طائفة الخوارج أثناء القتال الذي جرى بين الإمام علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ما بين عام 35 هجرية وعام 40 هجرية وإستمر خروج هذه الطائفة على خلفاء بني أمية وبني العباس لكنهم لم يكونوا بالخطورة التي كانوا عليها في العصور السابقة أثناء عصر الرشيد لذلك سهل عليه القضاء على ثوراتهم وكانت أول ثورة قام بها الخوارج تحت قيادة الفضل بن سعيد الحروري لكنه قتل بعد فترة وجيزة من خروجه ثم الصحصح الخارجي بالجزيرة الفراتية فتصدى له والي الجزيرة لكنه إنهزم أمامه وسار الصحصح إلى الموصل فقاومه عسكر المدينة لكنهم لم يتمكنوا منه وعاد إلى الجزيرة فأرسل له الرشيد جيشا فقتله وقضى على ثورته وفي عام 178 هجرية الموافق عام 794م خرج الوليد بن طريف التغلبي بالجزيرة فدخل إلى أرمينية وحاصر مدينة خلاط عشرين يوما فإفتدوا منه أنفسهم بثلاثين ألف دينار ثم سار إلى أذربيجان ثم إلى أرض حلوان وأرض السواد ثم عبر إلى غرب دجلة وقصد مدينة بلد وإفتدى أهلها منه بمائة ألف دينار وبقي في أرض الجزيرة فأرسل إليه الرشيد قائده يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني الذي واجه الوليد وإنتصر عليه وقضى على ثورته وإنتهت الأزمة بمقتل الوليد وفي عام 179 هجرية الموافق عام 795م خرج حمزة بن أترك السجستاني وعظم أمره عندما عاث فسادا في بادغيس بإقليم خراسان فتصدى له عيسى بن علي بن عيسى وقتل الكثير من أعوانه وهرب حمزة إلى كابول وفي عام 191 هجرية الموافق عام 807م خرج ثروان بن سيف في سواد العراق فتصدى له طوق بن مالك مما أدى إلى فرار ثروان وبعد ذلك لم يعد له من أثر يذكر وفضلا عن هذه الثورات ظهرت أيضا حركات إستقلالية في دولة الخلافة بغرض الإستقلال عنها وتكوين دويلات منفصلة فتصدى لها هارون الرشيد وقضى عليها ففي عام 178 هجرية الموافق عام 794م قامت طائفة من قيس وقضاعة على والي مصر فقاتلوه فبعث لهم الرشيد هرثمة بن أعين فقاتلهم حتى أذعنوا له الطاعة وأدوا ما عليهم من الخراج كذلك أخمد هرثمة فتنة قامت في إقليم أفريقية في بلاد المغرب العربي بقيادة عبدويه الأنباري وكان الفضل فيها يعود ليحيى البرمكي وزير الرشيد الذي كاتب عبدويه ووعده الأمان إن استجاب له فإستسلم عبدويه ووفى له يحيى بالأمان .
وبالإضافة إلي كل ما سبق فقد ظهرت بعض الفتن في عام 176 هجرية الموافق عام 792م في الشام بين القبائل المضرية واليمانية ودامت المعارك بينهما دهرا طويلا فأرسل الرشيد جيشا أنهى تلك الفتنة عام 177 هجرية الموافق عام 793م وفي عام 185 هجرية الموافق عام 801م خرج أبو الخصيب وهيب بن عبد الله النسائي وإحتل أبيورد وطوس ونيسابور ببلاد فارس ثم هزم في مرو عاصمة خراسان وخرج إليه علي بن عيسى بن ماهان وواجهه وقضى عليه في عام 186 هجرية الموافق عام 802م ومن جانب آخر فقد كانت علاقة الرشيد بالإمبراطورية البيزنطية علاقة حرب وعداء كما كانت على عهد أبيه الخليفة موسي الهادى وجده الخليفة أبو جعفر المنصور ولقد واصل هارون الرشيد إستكمال تحصينات ثغوره المتاخمة للدولة البيزنطية وأقام منطقة جديدة بين شمال الجزيرة وشمال بلاد الشام أطلق عليها إسم منطقة العواصم وجعل قاعدتها مدينة منبج في شمال شرق حلب ورتب فيها جيشا دائما كذلك إهتم بمنطقة الثغور الشامية التي على الحدود بين آسيا الصغرى وسوريا فعمر فيها طرسوس وأضنة وعين زربه كما أقام فيها حصونا جديدة مثل حصن الهارونية بين مرعش وعين زربه وولى عليها إبنه الثالث أبا القاسم الملقب بالمؤتمن كذلك إهتم هارون الرشيد بتقوية الجيش العباسي حتى صار من أقوى جيوش العالم في ذلك الوقت ثم وجه الحملات المتكررة على المواقع البيزنطية في آسيا الصغرى والتي كانت تهدد الحدود الشمالية للدولة العباسية .
وكان من الأحداث الشهيرة التي وقعت بين الدولة العباسية والدولة البيزنطية ما حدث بين هارون الرشيد والإمبراطور البيزنطي نقفور الأول وكان لهارون الرشيد قبل الخلافة شهرة كبيرة في أوساط البيزنطيين تعود إلى حروبهِ ضد الروم فلما ولي الخلافة إستمرت الحروب بينهما وأصبحت تقوم كل عام تقريبا وإضطرت دولة الروم أمام ضربات الرشيد المتلاحقة إلى طلب الهدنة والمصالحة فعقدت إيريني ملكة الروم صلحا مع الرشيد مقابل دفع الجزية السنوية له وذلك في عام 181 هجرية الموافق عام 797م وظلت المعاهدة سارية حتى نقضها إمبراطور الروم نقفور الأول الذي خلف إيريني في عام 186 هجرية الموافق عام 802م وكتب إلى هارون الرشيد رسالة وقحة قال فيها من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب أما بعد فإن الملكة إيريني التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ يقصد القلعة في الشطرنج وأقامت نفسها مقام البَيدق أي الجندي في الشطرنج فحملت إليك من أموالها ما كان يجب أن تحمل أمثالها إليها لكن ذلك ضعف النساء وحمقهن فإذا قرأت كتابي فأعد إلينا ما حصلته من قبل من أموالها وإفتد نفسك بما يقع به المبادرة لك وإلا فالسيف بيننا وبينك فلما قرأ هارون الرشيد هذه الرسالة غضب غضبا شديدا ورد عليها برسالة مماثلة قال فيها من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم والجواب ما تراه دون ما تسمعه والسلام وخرج هارون الرشيد على رأس جيش كبير بلغ تعداده 135 ألفا سوى الأتباع والمتطوعين وتوغل في آسيا الصغرى حتى وصل هرقلة عاصمة كورة بيثينيا فحاصرها وإستولى عليها عنوة عام 190 هجرية الموافق عام 806 م وأعقب ذلك توجيه حملات متلاحقة بقيادة كبار قواده أمثال داود بن عيسى وشراحيل بن معن بن زائدة ويزيد بن مخلد هزمت جيوش البيزنطيين ودمرت حصونهم وإضطر الإمبراطور نقفور الأول أن يتناسى خطابه وأن يعترف بهزيمته ويتعهد بدفع الجزية من جديد وفي ذلك يقول الطبري وبعث نقفور إلى الرشيد بالخراج والجزية عن رأسه وولي عهده وبطانته وسائر أهل بلده خمسين ألف دينار منها عن رأسه أربعة دنانير وعن رأس إبنه بدينارين كما تعهد بأن لا يعيد ترميم الحصون التي دمرها الرشيد ويبدو أن الضربات القوية التي وجهها الرشيد إلى الدولة البيزنطية كانت عنيفة وحاسمة وساحقة بدليل أنها لم تحاول الإستفادة بعد ذلك من الفتنة التي دبت بين إبني الرشيد محمد الأمين وعبد الله المأمون في إستعادة ما فقدته في عهد أبيهما هارون الرشيد .
وفي مجال العلاقات الخارجية فقد إشتهرت شخصية الخليفة هارون الرشيد في أوروبا نتيجة لعلاقاته الودية مع إمبراطور الدولة الرومانية الغربية المقدسة شارلمان وتم تبادل السفارات والبعثات الدبلوماسية المتنوعة بينهما كما وردت في الحوليات الملكية الكارولنجية في المدة بين عام 797م وعام 806م حيث أرسل شارلمان ثلاث سفارات مختلفة إلى البلاط العباسي في بغداد وفي المقابل أرسل الرشيد بعثتين تجاريتين على الأقل إلى أوروبا ففي عام 801 م وصلت أولى البعثات العباسية إلى بيزا بشمال إيطاليا تبعتها سفارة ثانية إلى آخن بالمانيا حاليا ولا شك أن المصالح السياسية كانت وراء هذا التفاهم الودي بين الملكين فقد أراد شارلمان من وراء هذا الحلف أن يضعف من نفوذ إمبراطور الدولة البيزنطية الشرقية ومن جانب آخر إستغل هارون الرشيد هذا الحلف ضد أعدائه البيزنطيين والأمويين في بلاد الأندلس على حد السواء وكانت تلك البعثات المتبادلة بين الملكين مرفقة عادة بالهدايا الوافرة الثمينة وقد إختار شارلمان المنتجات القيمة من أقمشة ملكية فاخرة وأرسلها مع سفرائه إلى الرشيد حيث أراد شارلمان توسيع صادرات الأقمشة من فرنسا إلى أراضي الدولة العباسية وبالتالي تعزيز التجارة في مملكته ورد عليها الرشيد بأن أرسل إلى شارلمان عطورًا وأقمشة وفيلا ولوحة شطرنج وساعة مائية كما عرض عليه الخليفة أن يكون حاميا للأماكن المسيحية المقدسة في بيت المقدس وأخيرا وعلي الجانب الشخصي فقد ولد لهارون الرشيد عشرة أبناء وإثنتا عشر بنتا وكان أشهر هؤلاء الأبناء محمد الأمين من زوجته زبيدة وعبد الله المأمون من جارية فارسية إسمها مراجل واللذان توليا الخلافة من بعده علي التوالي وذلك بالإضافة إلي القاسم بن الرشيد والملقب بالمؤتمن وأبو إسحاق محمد المعتصم بالله والذى تولي الخلافة أيضا بعد شقيقيه محمد الأمين وعبد الله المأمون وفي عام 193 هجرية الموافق عام 809م مرض الرشيد مرضا عضالا وإشتدت العلة به وهو في طريقه إلى خراسان للقضاء على ثورة رافع بن الليث وتوفي بمدينة طوس وهي مشهد الحالية في شمال شرق إيران ودفن بها وكان عمره 43 عاما وبعد أن ظل خليفة لمدة حوالي 21 عاما .
|