بقلم المهندس/ طارق بدراوي
موسوعة" كنوز أم الدنيا"
شارع هيبوقراط هو أحد شوارع حي الأزاريطة بمدينة الإسكندرية العاصمة الثانية لمصر والذى يمتد من نقطة تقاطعه مع شارع عمر لطفي الذى يعد من أهم وأطول شوارع المدينة العريقة وحتي ينتهي بتقاطعه مع شارع الشهيد حسني حماد الموازى لحدائق الشلالات الشهيرة التي يعود تاريخها إلي عصر البطالمة خلفاء الإسكندر الأكبر مؤسس المدينة وحي الأزاريطة أحد أقدم وأهم وأرقى أحياء مدينة الإسكندرية ويقع في منتصفها تقريبا ويتميز بمبانيه ذات الطابع اليوناني والروماني القديم الذى يميز مدينة الإسكندرية بوجه عام ويميز هذا الحي بوجه خاص وكانت الأزاريطة في عصر البطالمة هي الإمتداد الطبيعي للحي الملكي والذى يسمي البركيون والذى كان ضمن المخطط الأصلي للمدينة الذى وضعه المهندس اليوناني دينوقراطيس مخطط المدينة بأمر من الإسكندر الأكبر عام 331 ق.م والذى ضم مكتبة الإسكندرية القديمة والمجمع العلمي والذى كان يسمي الموسيون وهما الصرحان العظيمان اللذان تأسسا في عصر البطالمة وظلا يبثان ويشعان نور العلم إلى جميع أنحاء العالم حتي عام 272م إلي أن أحرق الإمبراطور الروماني أوريليان الحي بأكمله بما فيه من منشآت ومعابد ومقابر ملكية ويضم هذا الحي أيضا لسان صغير يمتد داخل البحر المتوسط يسمي حاليا السلسلة كان يسمي رأس لوكياس ويقال إن هذا المكان كان يتواجد به قصر الملكة كليوباترا السابعة والذى يوجد علي رأسه حاليا تمثال الأشرعة البيضاء الذى نحته المثال المصرى الشهير فتحي محمود عام 1962م كما شهد هذا الحي العريق قصة القائد الروماني مارك أنطونيو والملكة كليوباترا السابعة آخر ملوك البطالمة وقصة إنتحارها في عام 30 ق.م بعد هزيمتهما علي يد القائد الروماني أوكتافيوس والذى صار فيما بعد الإمبراطور أغسطس قيصر في معركة أكتيوم البحرية أمام سواحل الإسكندرية عام 31 ق.م حيث فضلت الإنتحار علي أن تؤخذ كأسيرة حرب وتساق إلي روما عاصمة الدولة الرومانية .
وفي عصر محمد علي باشا تم إنشاء مجلس يسمي مجلس الأورناطو كانت مهمته النهوض بمدينة الإسكندرية وإعادة تخطيطها ووضع لوائح البناء بها فكان مما أعيد تخطيطه منطقة الأزاريطة ولم تكن قد سميت بعد بهذا الإسم وبعد فترة ومع إنتشار وباء الكوليرا فكر محمد علي باشا في إنشاء نظام الحجر الصحي المعمول به في أوروبا فجمع قناصل الدول الأجنبية وشكل منهم لجنة وأصدر بعد ذلك قرارا بإنشاء أول محجر صحي يقع بجانب الميناء الشرقي الذى ترسو به سفن الجاليات الأوروبية والأجنبية عموما وقد أطلق عليه إسم لازاريت Lazarette نسبة إلي أول محجر صحي تم بناؤه في فرنسا في جزيرة سانت مارى دو نازاريه حيث كان يفد إلى فرنسا القادمون من بلاد أخرى فأقاموا هذا المحجر كنوع من الوقاية والرعاية الصحية وكان هذا المحجر الصحي في المنطقة التي أطلق عليها الأزاريطة فيما بعد حيث تم تحريف كلمة لازاريت إلى الأزاريطة وحاليا تم إقامة المستشفي الأميرى التابع لجامعة الإسكندرية مكان هذا المحجر الصحي وكلمة لازاريت ذات أصل لاتيني ومعناها Ladre أى الأبرص أو المجذوم حيث كان الرومان يبالغون في طريقة التعامل مع المجذومين فكانوا يضعونهم في الحجر الصحي طوال حياتهم وقد إشتهر حي الأزاريطة بأنه حي كوزموبوليتاني حيث كان يسكنها خليط من الجاليات الأجنبية المختلفة وبالأخص اليونانيين الذين كانوا يمثلون غالبية سكان الحي وكانوا يعملون بالتجارة والبقالة وبعض الحرف وكانت هناك منطقة بالحي تسمي المربع اليوناني تضم المدرسة اليونانية التي تسمي سالفاجو والملجأ اليوناني المسمي مانا وكان هناك نادى يسمي بالنادى اليوناني يقع علي ناصية شارع سوتر وهو من أهم شوارع الحي كانت تجتمع به الجالية اليونانية وكان مشهورا بموسيقاه الصاخبة التي كان يتردد صداها في جميع شوارع الحي وبعد ثورة يوليو عام 1952م وهجرتهم خارج الإسكندرية تحولت محالهم إلي ورش للحرفيين وأشهرها ورش إصلاح ودهان السيارات ومتاجر لقطع غيارها وخاصة في الجزء الجنوبي من الحي خلف ترام الرمل حيث كان الجزء الشمالي مابين الكورنيش والترام مخصصا للفيلات والقصور والعمارات السكنية والمدارس ودور العبادة والنوادى .
وينسب شارع هيبوقراط إلي هيبوقراطيس باليونانية أو أبقراط الثاني وهو المعروف لنا بإسم أبقراط والذى لقبه العرب بأبو الطب ثم شاع تلقيبه بهذا اللقب في العالم حتى لا يكاد ينازعه على هذا اللقب أحد ممن سبقوه أو لحقوه إعترافًا بإسهاماته في المجال الطبي ونظرا لتأسيسه أول مدرسة طبية عملية عرفت لاحقا باسم مدرسة أبقراط الطبية والتي كانت مدرسة فكرية أحدثت ثورة في الطب اليوناني القديم مما أدى إلي أن أصبح الطب ذا نظام متميز عن المجالات الأخرى التي إرتبطت بهِ تقليديا مثل علم الفلسفة وعلم السيمياء الذى يبحث في مجال دراسة الطقوس والتقاليد التي تمارس من أجل التواصل مع الوجوديات التي لا يمكن إستيعابها في العالم المادي مثل الآلهة ليعرف بعدها مهنة قائمة بذاتها كما هو اليوم كما أن أبقراط هو صاحب القسم المشهور بإسمه الذي يجعل لممارسة الطب أخلاقيات مهنية ينبغي العمل بمقتضاها ومراعاتها وهو يعد من أبرز الشخصيات في تاريخ الطب عبر التاريخ وكان سابع الأطباء العظام في تاريخ اليونان وهو يعتبر أول مصلح للطب وتنسب له نحو ستين رسالة تشكل ما يسمى بمجموعة أبقراط ويعتقد العلماء أنه من غير المعقول أن تكون هذه الرسائل جميعها من تأليفه أو نتاج مدرسته إذ أنها تستغرق الحقبة الزمنية من وفاته حتى عام 250م أي نحو سبعمائة وخمسين عاما وكان منهجه فيها تجريبيا غالبا وتفسيره للمرض فسيولوجياً نفسيا وينكر فيها أن يكون الصرع مرضا مقدسا كما كان ذائعا ويصفه بأنه ككل الأمراض له أسباب عضوية وكان مولد أبقراط علي الأرجح في عام 460 ق.م في جزيرة كوس اليونانية وهي من مجموعة جزر الدوديكانيسيا التي تقع في بحر إيجة وتقول بعض المصادر إنه درس لدى عدد من أطباء اليونان القدامي منهم هيروديكوس وجورجياس وديموقريطوس بينما مصادر أخرى تقول إنه درس الطب على يد والده وجده .
وبعد ان تعلم أبقراط الطب ولما رأى أن العلوم الطبية آخذة في الإنقراض بإنقراض أعلامها ونوابغها رأى أن الوسيلة الناجحة لحفظها هو إذاعتها في سائر أرجاء العالم وتسهيل تناولها على الناس أجمعين لتصل إلى النفوس المستعدة للنبوغ فيها وقال في ذلك إن الجود بالخير يجب أن يكون على كل أحد يستحقه قريبا كان أو بعيدا ومن ثم بدأ في تعليم علوم الطب إلى عدد من الطلاب وكان يأخذ الميثاق منهم في أن يراعوا حقوق الطب وأن لا يعلموا أحد إلا بعد أخذ العهد والميثاق عليه وعرف هذا العهد فيما بعد بقَسم أبقراط ومما يذكر أن مهنة الطب قبل أبقراط كانت مهنةً تورث من الآباء إلى الأبناء ومن ثم الأحفاد وهكذا وفي نفس الوقت بدأ يدون ما تعلمه وما يقوم بتدريسه في كتب ومخطوطات ودون بعضها بطريقة رمزية وبعضها بطريقة الإيجاز والشرح وتقول بعض المصادر إنه ألف ما بين ثلاثين وستين كتابا ومنها كتاب الأجنة وكتاب الماء والهواء والبلدان وكتاب طبيعة الإنسان وكتاب الفصول وغيرها ويعود الفضل إليه في أنه كان أول من فصل الطب عن الفلسفة والخرافات الدينية التي كانت سائدة في عصره بأن إله الشفاء إسكليبيوس هو الوحيد القادر على الشفاء وكان أول من طرح فكرة تناول الدواء لعلاج الأمراض بالإضافة لطرحه فكرة أهمية النظام الغذائي السليم والتمارين الرياضية لصحة جسم الإنسان ولقد إستطاع أن يترك للبشرية إرثا ضخما من العلوم التي كانت سابقة لعصره وقد تم جمع إرثه الطبي حوالي في القرن الثالث قبل الميلاد ومن ثم أصبح هذا الإرث مرجعا رئيسيا للأطباء في الغرب والشرق وتقول بعض المصادر إن مجموعة الوثائق التي يطلق عليها كوربوس هيبوقراطوم والتي تضم أكثر من ستين كتابا وتحتوي محاضرات وأبحاث وموضوعات متعلقة بعلم التشريح وعلم وظائف الأعضاء وعلوم طبية أخرى والصيدلة والتغذية وأخلاقيات مهنة الطب هي كل ما أنتجه أبقراط خلال فترة حياته .
وكان من نظريات أبقراط في الطب نظرية السوائل الأربعة وهي تتحدث عن السوائل الموجودة في جسم الإنسان كصفراء الكبد والسوداء التي يفرزها الكبد والدم والبلغم وهذه السوائل هي الي تحدد الصحة الجسدية والعقلية للإنسان ولم تخل هذه النظرية من تأثير الفلسفة كما تكلم أبقراط عن نقل المرض بالعدوى مثل الجرب والرمد والسل وشرح الغدة النكافية وحمى النفاس والإلتهاب الرئوي والصرع وفسر سبب تقيح الجروح كما كان له دور في تأكيد نظافة اليدين والنظافة الشخصية بوجه عام وغرفة العمليات وأدواتها كما شرح عددا من الأمراض سميت بإسمه مثل الأصابع الأبقراطية وهو عبارة عن تشوه بالأصابع والسحنة الأبقراطية وفضلا عن ذلك فقد عرف أبقراط بفحصه الدقيق للمريض بالجس وسؤاله عن أكله وفحص المكان الذي يعيش فيه ووضع أبقراط قانونا أخلاقيا قديما وأوجب على الأطباء التقيد فيه وأصبح هذا القانون فيما بعد يعرف بقَسم أبقراط المعتمد في كليات الطب بصورته المحدثة بأن يطلب من خريجي كليات الطب قراءة القَسم كعهد للتمسك بالقيم الأخلاقية أثناء ممارسة مهنة الطب وجدير بالذكر أن تعليم علوم الطب كان قبل زمن أبقراط شفهيا وإن تم تدوينه فإنه كان يدون على شكل ألغاز لا أحد يعرف معناها سوى من يمارس المهنة إلا أن أبقراط كان أول من دون كتب الطب بعيدا عن الرمزية والألغاز ولذا فقد تحدثت المدارس الطبية القديمة عن أن أبقراط يعد مصدرا لعقائدهم العلمية والأخلاقية ومن ثم إستخدم إرث أبقراط كمرجع رئيسي في جميع أنحاء أوروبا بالإضافة لإستخدام كتبه كأحد المراجع المهمة خلال فترة الحضارة الإسلامية حيث تم ترجمة عدد من الكتب التي تحمل إسمه إلي اللغة العربية في العصر العباسي منها كتاب عهد أبقراط بتفسير جالينوس وكتاب الفصول بتفسير جالينوس وكتاب تقدمة المعرفة بتفسير جالينوس وكتاب الأمراض الحادة بتفسير جالينوس وهو خمس مقالات وكتاب الكسر بتفسير جالينوس وكتاب إبيديميا ونقله إلى العربية عيسى بن يحيى وكتاب الأخلاط بتفسير جالينوس والذى نقله إلى العربية عيسى بن يحيى أيضا وكتاب قاطيطيون بتفسير جالينوس وكتاب الماء والهواء بتفسير جالينوس وكتاب طبيعة الإنسان بتفسير جالينوس كما ورد في دائرة المعارف الإسلامية إنه لم يكتف علماء المشرق بترجمة مؤلفات هذا الطبيب اليوناني العظيم ولكنهم أضافوا إليها شروحا وتفاسير وفسروا وشرحوا كتابيه تقدمة المعرفة والفصول كذلك كتب ثابت بن قرة موجزا متميزا شارحا لكتاب أبقراط عن الماء والهواء والبلدان وألف الفيلسوف الكندي كتاب الطب الأبقراطي عن منهج أبقراط في الطب ولكل ما سبق فقد ظل أبقراط إلى يومنا هذا نموذجا يحتذى به للجوانب الأخلاقية والإنسانية في ممارسة مهنة الطب .
ولايفوتنا هنا أن نذكر النص الأساسي لقسم أبقراط وهو أقسم بأبولو الطبيب وأسقلبيوس وهيجيا وباناسيا وجميع الآلهة والآلهات وأشهدها جميعا علي أن أبر بهذا القسم وأفي بهذا العهد بقدر ماتسمح به قواي وقدرتي وأقسم أني سأضع معلمي في الطب في منزلة أبوي وأن أشركه في مالي الذي أعيش به وأن أقوم بأوده إن إحتاج إلى ذلك وأن أعد أبناءه إخوة لي فإذا رغبوا في تعلم الطب علمتهم إياه من دون أجر أو إلزام بشرط وأن ألقن أبنائي وأبناء أستاذي والتلاميذ الذين إرتبطوا بالإلتزام وبالقسم بحسب قانون الطب الإرشادات والدروس الشفهية وسائر المعلومات الأخرى وألا ألقنها أحدا سواهم وأقسم أن أستخدم العلاج لمنفعة المرضى بحسب مقدرتي وحكمتي وأن أمتنع في إستخدامه عن فعل أي أذى أو ظلم وألا أعطي أحدا سما إذا طلب إلي أن أفعل ذلك وألا أشير بفعله وألا أضع لإمرأة فرزجة تسقط جنينها وأن أقضي حياتي وأمارس فني في النقاوة والطهر وألا أشق مثانة فيها حصيات بل أتخلى عن ذلك لمن يحترف هذا العمل وألا أدخل منزلا إلا لمنفعة المرضى وأن أتحرز عن كل إساءة مقصودة أو أذى متعمد وأن أمتنع بوجه خاص عن إغواء أي إمرأة أو فتى سواء أكان من الأحرار أم الأرقاء وألا أتحدث بما لايجوز إفشاؤه مما أرى أو أسمع في أثناء علاج المرضى أو في أى أوقات أخرى معتبرا أن الكتمان واجب علي فإذا ألزمت نفسي بإطاعة هذا القسم ولم أحنث به فإني أرجو أن أنعم بحياتي وبمهنتي وأن أبقى دوما وأبدا محمودا بين الناس جميعا أما إذا نقضت هذا العهد وحنثت بقسمي فليحل بي نقيض ما رجوت وقد توفى ابقراط أبو الطب علي الأرجح عام 377 ق.م بعد أن وضع أساس الطب وهو أسمى علوم الدنيا هذا وتحتفل اليونان بلده ومسقط رأسه بيوم أبقراط في يوم 19 سبتمبر من كل عام وقد أعلن هذا اليوم أيضا في عام 2003م يوم عالمي لأبقراط أبو الطب ونختم مقالنا ببعض الحكم التي جاءت علي لسان ابقراط منها :-
-- محاربة الشهوة أيسر من معالجة العلة . -- كل مرض معروف السبب موجود له الشفاء . -- ليس معي من فضيلة العلم إلا علمي بأني لست بعالم . -- الطب قياس وتجربة وإنما نأكل لنعيش لانعيش لنأكل . -- إن الناس إعتنوا في حال الصحة بأغذية السباع فأمرضتهم فلما إعتنوا بأغذية الطير صحوا .
|